المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كقولك: فلان مقرٌّ على نفسه بكذا شاهدٌ عليها.   ‌ ‌85 - {ثُمَّ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: كقولك: فلان مقرٌّ على نفسه بكذا شاهدٌ عليها.   ‌ ‌85 - {ثُمَّ

كقولك: فلان مقرٌّ على نفسه بكذا شاهدٌ عليها.

‌85

- {ثُمَّ أَنْتُمْ} مبتدأ {هَؤُلَاءِ} ؛ خبرٌ، أي: ثم بعد ذلك الإقرار والشهادة، أنتم أيها المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم! هؤلاء المشاهدون، الحاضرون، الناقضون، الذين يخالفون ما أخذه الله تعالى عليهم في التوراة، فتقتلون أنفسكم وأهل دينكم مع المشركين إلى آخر الآية؛ يعني: أنكم - أيُّها المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم قومٌ آخرون غير أولئك المقرّين الذين هم أسلافكم، وكأنّهم قالوا: كيف نحن، فقيل لهم: إنّكم {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} ؛ أي: أهل دينكم مع حلفائكم من المشركين؛ أي: تقتلون الفريق الجارين مجرى أنفسكم باتحادكم في الدين، وهذا وما بعده من الإخراج، والمظاهرة، والمفاداة بيانٌ لقوله:{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} ؛ لأنّ معنى قوله: {أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} أنّكم على حالة أسلافكم من نقض الميثاق، وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين؛ أي: ثمّ أنتم الذين تقتلون أنفسكم

إلخ.

وقيل: {أَنْتُمْ} مبتدأ، و {هَؤُلَاءِ} منادى، حذف منه حرف النداء، وجملة {تَقْتُلُونَ} وما بعده خبرٌ له، والمعنى عليه، ثُمَّ بعد إقرار أسلافكم الميثاق، وشهادتكم على أسلافكم بقبول الميثاق، أنتم - يا هؤلاء المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم تقتلون أنفسكم؛ أي: أهل دينكم مع المشركين، أي: ثُمَّ أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق تنقضون العهد، فتقتلون أنفسكم؛ أي: يقتل بعضكم بعضًا، كما كان يفعل مَن قبلكم، مع أنّكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم، ومن أمثلة ذلك: أنَّ بني قينقاع من اليهود كانوا حلفاء الأوس، وأعداءً لإخوانهم في الدين بني قريظة، كما كان بنو النضير حلفاء الخزرج، وكان الأوس والخزرج قبل الإِسلام أعداء يقتتلون، ومع كلٍّ حلفاؤه، وهذا ما نعاه الله على اليهود بقوله:{تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} كما سيأتي بسط هذه القصة عن السدّي.

وقرأ الجمهور {تَقْتُلُونَ} مخففًا من قَتَلَ الثلاثي. وقرأ الحسن {تُقَتِّلونَ} مشدَّدًا من قَتَّل الرباعيِّ، هكذا في بعض التفاسير، وفي تفسير المهدويّ: إنّها قراءة أبي نَهِيْك، قال: والزهريِّ والحسنِ {تُقَتِّلونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ} من قتَّلَ؛ يعني: مشدّدًا. والله أعلم بصواب ذلك.

ص: 63

{وَتُخْرِجُونَ} أنتم - أيها المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم {فَرِيقًا} وطائفةً {مِنْكُمْ} أي: من أهل دينكم مساعدين للمشركين {مِنْ دِيَارِهِمْ} ؛ أي: من ديار أولئك الفريق وأوطانهم، غير مراعين لميثاق الله سبحانه عليكم في التوراة، وقوله:{تَظَاهَرُونَ} وتتعاونون بحلفائكم من المشركين، {عَلَيْهِمْ} أي: على إخراج أولئك الفريق من ديارهم، حالٌ من فاعل {تُخْرِجُونَ} أو من مفعوله مبيِّنةٌ لكيفية الإخراج، رافعةٌ لتوهُّم اختصاص الحرمة بالإخراج بطريق الأصالة والاستقلال، دون المظاهرة والمساعدة للغير، والمعنى: تُقوون ظُهوركَم بالمشركين للغلبة عليه، وقوله:{بِالْإِثْمِ} حال من فاعل {تَظَاهَرُونَ} ؛ أي: حال كونكم ملتبسين بالإثم، وهو الفعل الذي يستحقُّ فاعله الذمَّ واللَّوم، {و} ملتبسين بـ {العدوان}؛ أي: بالتجاوز للحد في الظلم. وفي "النهر": الإثم: ما يستحق متعاطيه الذمَّ، أو ما تنفر منه النَّفس، ولا يطمئن إليه القلب، كالقتل ظلمًا. والعدوان: مجاوزة الحدِّ في الظلم، كالإخراج من الديار، وأخذ الأموال، وسبْي الذراريِّ. وقرأ عاصمٌ، وحمزة، والكسائي:{تَظَاهَرُونَ} بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء، وأصله: تتظاهرون، فحذفت إحدى التاءين وهي عندنا الثانية، لا الأولى خلافًا لهشامٍ، إذ زعم أنَّ المحذوف هي التي للمضارعة الدالَّة في مثلِ هذا المثال على الخطاب، وكثيرًا جاء في القرآن، حذف التاء، وقال الشاعر:

تَعاطسون جميعًا حولَ دارِكُمُ

فكلُّكُمْ يا بني حمدانَ مزكومُ

يريد تتعاطسون. وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء؛ أي: بإدغام التاء في الظاء. وقرأ أبو حيوة {تُظَاهِرُونَ} بضمّ التاء، وكسر الهاء. وقرأ مجاهدٌ، وقتادة باختلافٍ عنهما {تَظَّهَّرُوْنَ} بفتح التاء والظاء والهاء مشدّدين دون ألف، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ بعضهم:{تتظاهرون} على الأصل، فهذه خمس قراءات، ومعناها كُلِّها: التعاون والتناصر {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ} ؛ أي: وإن أتاكم هؤلاء الفريق الذين تظاهرون على إخراجهم، وجاءُوكم، ووقعوا في أيديكم حال كونهم {أُسَارَى} أي: مأسورين في يد حلفائكم المشركين، معنى إتيانهم لهم: وقوعهم في يد حلفائهم المشركين الأوس، أو الخزرج، فيتمكَّنون من افتدائهم منهم

ص: 64

بالمال، والأسارى: جمع أسرى بفتح الهمزة وسكون السين، والأسرى: جمع أسير، فالأسارى بضمّ الهمزة والقصر: جمع الجمع، كما ذكره أبو النجا في "حاشيته على متن الأجرُّوميَّة".

والأسير: من أُخذ قهرًا، فهو فعيل بمعنى مفعول من الأسر بمعنى الشدِّ والإيثاق، كما سيأتي بسط الكلام فيه في مبحث اللغة. وقرأ الجمهور (1){أُسَارَى} بضمّ الهمزة بوزن فعالى. وقرأ حمزة أسرى بفتح الهمزة بوزن فَعْلَى، وقوله:{تُفَادُوهُمْ} جواب إن الشرطيّة؛ أي: تخرجوهم من الأسر بأعطاء الفداء، والمفاداة تجري بين الفادي وبين قابل الفداء. وقرأ عاصم (2)، ونافع، والكسائي {تُفَادُوهُمْ} بضمّ التاء وفتح الفاء، من فادى الرباعي. وقرأ الباقون {تَفْدُوهُم} بفتح التاء وسكون الفاء من فدى، ومعنى تفادوهم: تفدوهم إذ المفاعلة تكون من اثنين ومن واحدٍ، ففاعل بمعنى فعل المجرد وهو أحد معانيه وقيل: معنى فادى بادل أسيرًا بأسير، ومعنى فدى: دفع الفداء، ويشهد للأوّل قول العباس:(فادَيْتَ نَفسي وفاديت عقيلًا) ومعلوم أنّه ما بادل أسيرًا بأسير. وقيل: معنى تفدوهم بالصلح، وتفادوهم بالعنف. وقيل. تفادوهم: تطلبوا الفدية من الأسير، الذي في أيديكم من أعدائكم، ومنه قوله:

قِفِي فَادِي أَسِيْرَكِ إنَّ قَوْمِي

وَقَوْمَكِ ما أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا

وتفدوهم: تعطوا فديتهم. وقال أبو عليّ: معنى تفادوهم في اللغة: تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئًا، وفاديت نفسي؛ أي: أطلقتها بعد أن دفعت شيئًا، وفادى وفدى يتعدَّيان إلى مفعولين، الثاني بحرف جرّ وهو هنا محذوف، تقديره: تفادوهم به؛ أي: بالمال، ذكره في "البحر".

والمعنى: أي وإن يقع ذلك الفريق الذي تخرجونه من دياره وقت الحرب حال كونه أسيرًا في يد حلفائكم المشركين، تُخلِّصونه من الأسر بدفع مال الفداء

(1) البحر.

(2)

البحر المحيط.

ص: 65

عنهم، وقوله:{وَهُوَ} مبتدأ؛ أي: الشأن {مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} متعلّق (1) بقوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} وما بينهما اعتراضٌ، والضمير للشأن، كما ذكرنا في الحلِّ، أو مبهمٌ يفسِّره إخراجهم، أو راجعٌ إلى ما دلَّ عليه {وَتُخْرِجُونَ} من المصدر، وإخراجهم بدلٌ منه، أو عطف بيان، وقال في "الروح"{هُوَ} مبتدأ {مُحَرَّمٌ} فيه ضمير قائم مقام الفاعل وقع خبرًا عن {إِخْرَاجُهُمْ} ، والجملة خبر لضمير الشأن. اهـ.

والمعنى (2): أي وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم، والحال أنَّ الشأن محرَّم عليكم إخراجهم من ديارهم أوّل مرّةٍ، وذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى، أخذ على بني إسرائيل في التوراة أربعة عهودٍ: ترك القتل؛ أي: أن لا يقتل بعضهم بعضًا، وترك الإخراج؛ أي: لا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم، وترك المظاهرة على أهل دينهم مع أعدائهم، وفك أسراهم من أيدي أعدائهم، وأيما عبدٍ، أو أمةٍ، وجدتموه من بني إسرائيل، فاشتروه، وأعتِقوه، فأَعْرَضوا عن الكلِّ إلّا الفداء.

وكان النضير (3)، وقريظة أخوين، كالأوس والخزرج، فافترقوا، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة، فكان كُلُّ فريق يقاتل مع حلفائه، فإذا غلبوا خرَّبوا ديارهم، وأخرجوهم من ديارهم، ثُم إذا أُسِرَ رجلٌ من الفريقين فدوه، كما لو أُسِرَ واحدٌ من النضير، ووقع في يد الأوس، افتدته قريظة منهم بالمال، وهكذا يقال في عكس ذلك، وكانت الأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنّةً ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامةً، ولا كتابًا، ولا حلالًا، ولا حرامًا، يُعيِّرون قريظة والنضير، ويقولون لهم: كيف تقاتلونهم أوَّلًا ثم تفادونهم؟ فيقولون: أُمِرْنَا أن نفديهم، وحُرِّم علينا قتالهم، ولكن نستحي أن تُذَلَّ حلفاؤنا، فذمَّهم الله تعالى بقوله:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ} ما في {الْكِتَابِ} والتوراة، وتصدِّقونه، وتمتثلونه وهو

(1) البيضاوي.

(2)

العمدة.

(3)

المراح.

ص: 66

المفاداة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ما فيه، وتجحدونه ولا تمتثلونه، وهو ترك القتل، والإخراج، والمظاهرة، والذي في الكتاب فعل جميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، فهم فعلوا الواجب الذي هو المفاداة، ولم يتركوا المحرَّم الذي هو القتل، والإخراج، والمظاهرة، وذلك منتهى ما يكون من الحماقة، فإنَّ الإيمان لا يتجزأ، والغرض من ذلك؛ التوبيخ لهم؛ لأنّهم جمعوا بين الكفر والإيمان، والكفرُ ببعض آيات الله كفرٌ بالكتاب كِلّه، فلهذا عقب ذلك بقوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ

} إلخ.

والهمزة في قوله (1): {أَفَتُؤْمِنُونَ} للاستفهام التوبيخي المضمَّن للإنكار، داخلةٌ على محذوف يستدعيه المقام، والفاء عاطفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أتفعلون ذلك، فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ، مع أنَّ قضيَّة الإيمان، الإيمان بالباقي؛ لكون الكل من عند الله تعالى داخلًا في الميثاق، فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض {فَمَا جَزَاءُ} نفي؛ أي: ليس جزاء {مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ} ؛ أي: الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان بالبعض {مِنْكُمْ} يا معشر اليهود: حالٌ من فاعل يفعل، {إِلَّا خِزْيٌ} استثناءٌ (2) مفرع وقع خبرًا للمبتدأ؛ أي: ذُلٌّ وهوانٌ مع الفضيحة، وهو قتل بني قريظة، وأسرهم، وإجلاء بني النضير إلى أذرعات، وأريحا من الشام، وقيل: هو أخذ الجزية {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} صفة خزي، ولعلَّ بيان جزائهم بطريق القصر على ما ذكر؛ لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب، وإظهار أنَّه لا أثر له أصلًا مع الكفر بالبعض {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: ويوم تقام فيه الأجزية، وهو عبارةٌ عن زمانٍ مُمْتَدٍّ إلى أن يفصل بين العباد، ويدخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النار النار، {يُرَدُّونَ}؛ أي: يرجعون، والردُّ: الرَّجع بعد الأخذ {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} وهو التعذيب في جهنّم، وهو أشدُّ من خزيهم في الدنيا، وأشدُّ من كل عذاب كان قبله، فإنَّه ينقطع وهذا لا ينقطع، وفي الحديث:"فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة"، وإنّما كان أشدَّ؛ لما أنَّ معصيتهم كانت أشدَّ المعاصي.

(1) روح البيان.

(2)

روح البيان.

ص: 67