الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصاروا مستحقين غضبًا مترادفًا، ولعنةً إثر لعنةٍ لعله: بما اقترفوا من كُفْر على كُفْر، فإنّهم كفروا بنبي الحق، وبغوا عليه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:(الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلها، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الأوّل بعبادتهم العجل، والثاني: بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الأوّل بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني: بمحمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن {وَلِلْكَافِرِينَ}؛ أي: ولهم، والإظهار (1) في مقام الإضمار؛ للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم {عَذَابٌ مُهِينٌ} ؛ أي: ذو إهانة وإذلالٍ؛ أَيْ: وللجاحدين بنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كُلِّهم {عَذَابٌ} شديدٌ {مُهِينٌ} ؛ أي: مُذِلٌّ لهم؛ أي: ذو إهانة وإذلال لهم، ولا يوصف بذلك إلّا عذاب الكافرين؛ لأن كفرهم سببه التكبُّر والحسد، فقوبلوا بالإهانة والصغار، وأمّا ما يقع للعصاة في الدنيا من المصائب، وفي الآخرة من دخول النار، فهو تطهيرٌ لهم.
ودلَّت الآية على أنَّ عذاب المؤمنين تأديبٌ وتطهيرٌ، وعذاب الكافرين إهانةٌ وإذلالٌ، وأنّ المراتب الدُّنيويَّة والأخرويَّة كُلَّها من فيض الله وفضله، فليس لأحدٍ أن يعترض عليه، ويحسده على الألطاف الإلهيَّة، فإنَّ الكمالات، مثل: النبوّة والولاية، ليست من الأمور الاكتسابيَّة التي يصل إليها العبد بجهد كثير، وكمال اهتمامٍ.
والمعنى: أي (2) ولهم بسبب كفرهم عذابٌ يصحبه إهانةٌ وإذلالٌ في الدنيا والآخرة، أمّا في الدنيا فيما يصيبهم من الخزي، والنكال، وسوء الحال، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم، وأمّا في الآخرة فبخلودهم في جهنَّم وبئس المصير. ثمَّ ذكر ما يكون منهم لدى الحوار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
91
- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} ؛ أي: وإذا قال المسلمون لليهود الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وما حولها، ومعنى اللام: الإنهاء، والتبليغ. وإسناد {قِيلَ} إلى {آمِنُوا} إسنادٌ له إلى لفظه، كأنّه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول، كقولك: أُلِّف (ضَرَبَ) من
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
ثلاثة أحرف {آمِنُوا} وصدِّقوا {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ؛ أي: بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، أو بكُلِّ ما أنزل الله من الكتب الإلهيّة جميعًا {قَالُوا}؛ أي: قالت اليهود في جواب هذا القيل: {نُؤْمِنُ} ؛ أي: نستمر على الإيمان {بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعنون به التوارة، وما أنزل على أنبياء بني إسرائيل لتقرير حكمها، ويدسُّون فيه، أنَّ ما عدا ذلك غير منزل عليهم، وأسندوا الإنزال على أنفسهم؛ لأنّ المنزَّل على نبيٍّ، منزلٌ على أُمّته معنًى؛ لأنّه يلزمهم؛ أي: نؤمن ونصدِّق بما أنزل على أنبيائنا من التوراة، وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شريعة موسى عليه السلام؛ أي: يكفينا الإيمان به دون غيره {و} هم {يكفرون بما وراءه} ؛ أي: سوى ما أنزل عليهم؛ أي: بما بعد ما أنزل عليهم من الإنجيل والقرآن {وَهُوَ} ؛ أي: والحال أنَّ ما وراء التوراة؛ أي: أنّ ما أنزل عليهم من القرآن {الحق} أي: الصدق الثابت من الله تعالى؛ أي: المعروف بالحقيقةِ، الحَقِيقُ بأن يُخَصَّ به اسمُ الحق على الإطلاق حال كونه {مُصَدِّقًا} وموافقًا في التوحيد {لِمَا مَعَهُمْ} من التوراة غير مخالف له حالٌ مؤكّدةٌ من الحق، والعامل فيها ما في الحق من معنى الفعل، وصاحب الحال ضميرٌ دَلَّ عليه الكلام: أي: أُحِقُّه مصدّقًا؟ أي: حال كونه موافقًا لما معهم، وفيه ردٌّ لمقالتهم؛ لأنّهم إذا كفروا بما يوافق التوراة، فقد كفروا بها فلا يصحّ دعواهم الإيمان بالتوراة.
ثمَّ اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادِّعَائهم الإيمانَ بالتوراة (1)، والتوراة لا تسوِّغ قتل نبي بقوله:{قُلْ} لهم يا محمد! تبكيتًا لهم من جهة الله تعالى، ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم؛ أي: إلزامًا وبيانًا لكفرهم بالتوراة التي ادَّعوا الإيمان بها، إذا كان إيمانكم بالتوراة صحيحًا {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} أي فلم قتلتم أنبياء الله {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل نزول القرآن، كزكريَّا ويحيى {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بالتوراة حقًّا، فإنَّ في التوراة تحريمَ القتل بغير حقّ، فأيُّ كتاب جوَّز لكم قتلهم؟ والمعنى: أنّهم لو آمنوا بالتوراة لما قتلوا الأنبياء، فآلَ أمْرُهُم إلى كفرهم بجميع ما أنزل الله تعالى، لا بالبعض فقط كما ادَّعوه.
(1) روح البيان.