الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير وأوجه القراءة
106
- ولمَّا حرَّم الله سبحانه وتعالى قولهم: {رَاعِنَا} بعد حلِّه، وكان ذلك من باب النسخ، قال:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} بغير عطف؛ لشدّة ارتباطه بما قبله. و {مَا} شرطية جازمة لننسخ، منتصبةٌ به على المفعولية؛ أي: أي شيء {نَنْسَخْ} ! ومحلُّ قوله: {مِنْ آيَةٍ} النَّصب تمييزًا لما الشرطيَّة، والنسخ في اللُّغة: الإزالة والنقل، يقال: نسخت الريح الأثر؛ أي: أزالته، ونسخت الشمس الظلَّ إذا أزالته، ونسخت الكتاب؛ أي: نقلته من نسخةٍ.
واصطلاحًا: بيان انتهاء حكم التعبُّد بتلاوة الآية، وقراءتها، أو انتهاء التعبُّد بالحكم المستفاد منها، أو بهما جميعًا.
فالأوَّل: أعني: نسخ التلاوة دون الحكم، كآية الرجم، كما روي أنَّ مما يتلى عليكم في كتاب الله (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتةَ) فهو منسوخ التلاوة دون الحكم، ومعنى النسخ في مثلها: انتهاء التكليف بقراءتها عند نسخ تلاوتها، وهذا القسم قليلٌ، وهو المراد بقوله:{أَوْ نُنْسِهَا} .
والثاني: أعني: نسخ الحكم دون التلاوة، فكآية عدّة الوفاة بالحول، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نسخت بأربعة أشهر وعشرًا، المذكور في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} إلى غير ذلك من الأمثلة، كالآيات التي نسخت بآية السيف، وكمصابرة الواحد لعشرة في القتال، نسخت بمصابرة الواحد للاثنين، فهو منسوخ الحكم دون التلاوة، وهو المعروف الكثير من النسخ في القرآن، فتكون الآية الناسخة والمنسوخة ثابتتين في التلاوة، إلّا أنَّ المنسوخة لا يعمل بها، ومعنى النسخ في مثلها: بيان انتهاء التكليف بالحكم المستفاد منها عند نزول الآية المتأخِّرة عنها، وحسن بقاء التلاوة مع نسخ الحكم ورفعه؛ ليبقى حصول الثواب بقراءتها، فإنّ القرآن كما يتلى لحفظ حكمه لتيسير العمل به، يتلى أيضًا؛ لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه.
والثالث: أعني: نسخ الحكم والتلاوة جميعًا، فكما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت:(كان مما يتلى في كتاب الله {عَشْرُ رضعات يُحَرِّمْنَ} ثُمَّ نسخ بـ {ـخمسُ رضعاتٍ يُحرّمن}) فهو منسوخ الحكم والتلاوة جميعًا، ومعنى النسخ في مثلها: بيان انتهاء التكليف بقراءتها وبالحكم المستفاد منها عند نسخها.
وهذان القسمان هما المذكوران بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} فدخل تحت قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قسمان من أقسام النسخ، وهما: نسخ الحكم واللفظ معًا، أو الحكم فقط، وتحت قوله:{أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ} قسمٌ واحد، وهو نسخ اللفظ دون الحكم. قال القرطبي: الجمهور على أنَّ النسخ إنّما هو مختصٌّ بالأوامر، والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ؛ لاستحالة الكذب على الله تعالى.
والمعنى: أيَّ شيء من الآيات ننسخ ونرفع حكمها مع بقاء لفظها؟ كآية عدّة الوفاة بالحول بآية أربعة أشهر وعشرة أيام، أو ننسخ ونرفع لفظها وحكمها جميعًا، كنسخ عشر رضعات بخمس رضعات {أو ننسأها}؛ أي: نؤخِّر ونبق حكمها مع رفع تلاوتها، كآية الرجم؛ لأنّه إمّا من النَّسيء إنْ قرأنا بفتح النون والسين، أو من الإنساء إن قرأنا بضمّ النون وكسر السين، وكلاهما بمعنى التأخير، والمراد: تأخير حكمها وإبقاؤه مع نسخ تلاوتها، أو تأخيرها في اللوح المحفوظ عن الإنزال إلى وقتٍ أراد الله سبحانه إنزالها فيه، وفي "الروح" قوله:{أَوْ نُنْسِهَا} ؛ أي: نذهبها عن قلوبكم، فإنساء الآية إذهابها من القلوب، كما روي إنَّ قومًا من الصحابة قاموا ليلةً ليقرؤوا سورةً، فلم يذكروا منها إلّا البسملة، فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم:"تلك سورةٌ رفعت بتلاوتها وأحكامها"{نَأْتِ} ؛ أي: نرسل جبريل {بِخَيْرٍ} أي: بآيةٍ هي خيرٌ وأسهل على العباد؛ أي: من المنسوخة؛ أي: نرسله (1) بما هو أنفع لكم، وأسهل عليكم، وأكثر لأجوركم، وليس معناه: أنَّ آيةً خيرٌ من آية؛ لأنَّ كلام الله تعالى واحدٌ، وكلُّه
(1) الخازن.
خيرٌ، فلا يتفاضل بعض الآيات على بعض في أنفسها من حيث إنّه كلام الله تعالى، ووحيه، وكتابه، بل التفاضل فيها إنّما هو بحَسَب ما يحصل منها للعباد، والخيريَّة: إمَّا في السُّهولة، كنسخ وجوب مصابرة الواحد لعشرة، بوجوب مصابرته لاثنين، أو في كثرة الأجر، كنسخ التخيير بين الصوم والفدية، بتعيين الصوم، فالأول من النسخ بالبدل الأخفِّ، والثاني من النسخ بالبدل الأثقل {أَوْ} نرسله بـ {مِثْلِهَا}؛ أي: بمثل المنسوخة في النفع، والثواب، والعمل، وذلك كنسخ وجوب استقبال صخرة بيت المقدس، بوجوب استقبال الكعبة، فهما متساويان في الأجر.
والمعنى: إنّ كُلَّ آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة، والمصلحة من إزالة لفظها، أو حكمها، أو كليهما معًا إلى بدلٍ، أو إلى غير بدل، كما في إنسائها، وإذهابها عن القلوب بالكلية، كما روي عن قومٍ من الصحابة {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}؛ أي: نوح إليك غيرها مما هو خيرٌ للعباد، بحسب الحال من الذاهبة، أو ممَّا هو مثلها في النفع والثواب. فكلُّ ما نسخ إلى أيسر، فهو أسهل في العمل، وما نسخ إلى الأشقّ، فهو في الثواب أكثر، أمَّا الأول: فكنسخ الاعتداد بحولٍ، ونقله إلى الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، وأمَّا الثاني: فكنسخ ترك القتال بإيجابه، وقد يكون النسخ بمثل الأول لا أخفَّ ولا أشقَّ، كنسخ التوجُّه إلى بيت المقدس، بالتوجه إلى الكعبة، وهذا الحكم غير مختصٍّ بنسخ الآية التامَّة فما فوقها، بل جارٍ فيما دونها أيضًا، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب.
واعلم: أنَّ الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخًا تجوّزًا في الإسناد، بناءً على أنَّ النسخ يقع به، والمنسوخ هو الحكم المزال، والمنسوخ عنه: هو المُتعبِّدُ بالعبادةِ المُزالَةِ وهو المكلَّف، والحكمة (1) في النسخ: أنّ الطبيبَ المباشرَ لإصلاح البدن، يُغيِّر الأغذية، والأدوية، بحسب اختلاف الأمزجة، والأزمنة، كذلك الأنبياء المباشرون لإصلاح النفوس، يغيِّرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقيَّة التي هي للنفوس بمنزلة العقاقير، والأغذية
(1) روح البيان.
للأبدان، فإنَّ أغذية النفوس، وأدويتها: هي الأعمال الشرعية، والأخلاق المرضية، فيغيِّرها الشارع على حسب تغيُّر مصالحها، فكما أنَّ الشَّهْدَ يكون دواءً للبدن في وقتٍ، ثمّ قد يكون داءً في وقتٍ آخر، كذلك الأعمال قد تكون مصلحةً في وقت، ومفسدة في وقت آخر، وخلاصة (1) المعنى: ما نغير حكم آيةٍ، أو نُنْسِيْكَهُ، إلّا أتينا بما هو خيرٌ منه لمصلحة العباد بكثرة الثواب، أو بمثله فيه.
قال الأستاذ الإمام: والمعنى الصحيح الذي يَلْتَئِمُ مع السياق: أنَّ الآية هنا ما يؤيّد الله تعالى به الأنبياء، من الدلائل على نبوتهم؛ أي: ما ننسخ من آية نقيمها دليلًا على نبوّة نبيّ من الأنبياء؛ أي: نزيلها، ونترك تأييد نبيٍّ آخر بها، أو ننسها الناس؛ لطول العهد بمن جاء بها، فإنَّا بما لنا من القدرة الكاملة، والتصرّف في الملك؛ نأت بخير منها في قوّة الإقناع، وإثبات النبوة، أو بمثلها في ذلك، ومن كان هذا شأنه في قدرته، وسعة ملكه، فلا يتقيَّدُ بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه. اهـ. وقد سبقه إلى مثله محيي الدين ابن العربي في "تفسيره". وقرأ الجمهور (2) {مَا نَنْسَخْ} من نسخ الثلاثي بمعنى: أزال. وقرأت طائفة، وابن عامر من السبعة {ما نُنسِخ} بضمّ النون الأولى من أنسخ الرباعي، وهو بمعنى: نسخ الثلاثي.
وقرأ عُمر وابن عباس، والنخعيُّ، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، ومن السبعة ابن كثير، وأبو عمرو {أو نَنْسَأْهَا} بفتح نون المضارعة والسين، وسكون الهمزة. وقرأ طائفة كذلك، إلّا أنّه بغير همز، وذكر أبو عبيد البكريُّ في كتاب "اللَّالي" ذلك، عن سعد بن أبي وقاص، وأراه وَهِمَ، وكذا قال ابن عطية، قال: وقرأ سعد بن أبي وقاص: {تَنْسَاها} بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز، وهي قراءة الحسن، وابن يعمر، وقرأت فرقة كذلك، إلّا أنهم همَّزوا. وقرأ أبو حيوة كذلك، إلّا أنّه ضمَّ التاء. وقرأ سعيدٌ كذلك، إلّا أنه بغير همز، وقرأ باقي السبعة {نُنْسِها} بضمّ النون وكسر السين من غير همزت، وقرأ
(1) المراغي.
(2)
البحر المحيط.