الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سهامه" فالأوّل: هو العالم غير العامل، والثاني: هو العالم العامل الذي يُؤثِّر كلامه في القلوِب، وتُنْتِج كلمته ثمراتِ الحكمَة، والعبرةَ، والفكرةَ.
ومعنى الآية (1): أيْ: إنّه حين جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكتابٍ مصدِّقٍ للتوراة التي بين أيديهم بما فيه من أصول التوحيد، وقواعد التشريع، وروائع الحكم والمواعظ، وأخبار الأمم الغابرة، نبذ فريقٌ من اليهود كتابهم وهو التوراة؛ لأنّهم حين كفروا بالرسول المصدِّق لما معهم، فقد نبذوا التوراة التي فيها أنَّ محمد رسول الله، وأهملوها إهمالًا تامًّا كأنَّهم لا يعلمون أنها من عند الله تعالى، وقد جعل تركهم إيَّاها، وإنكارهم لها إلقاءً لها وراء الظهر؛ لأنَّ من يلقي الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكَّره.
فعلى العاقل (2): أن يسارع إلى الامتثال خوفًا مِنْ بطشِ يدِ ذي الجلال، ويقال: الندامةُ أربعٌ: ندامةُ يومٍ: وهي أنْ يَخْرُج الرجلُ من منزله قبل أن يتغدَّى، وندامةُ سنة: وهي تَرْكُ الزراعة في وقتها، وندامةُ عُمْر: وهو أن يتزوَّج امرأة غير موافقة، وندامةُ الأبَدِ: وهي أن يترك أَمْرَ الله، ومجرَّدُ قراءة الكتاب بِترْياقِ الظاهر لا يدفع سُمَّ الباطن، فلا بدّ من العمل بما علم، كما أنَّ من كان ينظر إلى كُتُب الطبّ، وكان مريضًا، فما دام لم يباشر العلاج لا يفيد نظره بالأدوية، وكان خُلقه صلى الله عليه وسلم: القرآن؛ يعني: يعملُ بأوامره، وينتهي عن نواهيه. وقال السدي (3) لمَّا جاءهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم خاصموه بالتوراة، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها، وأخذوا بكتابِ آصفِ بن بَرْخِيَا، وسِحْر هاروت وماروت، فلم يوافق ذلك القرآن، كما قال تعالى:
102
- {وَاتَّبَعُوا} معطوف على نَبَذ؛ أي: ولمَّا جاءهم كتاب مِنْ عند الله، نبذ فريق من أهل الكتاب كتاب الله وراءَ ظهورهم واتَّبعوا؛ أي: واتبع أولئك الفريق؛ يعني: علماءَهم وأحبارَهم {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} ؛ أي: تَلَتْهُ الشياطين وقرأَتْهُ، والإتيان (4) بصيغة المضارع في تَتْلُوا؛
(1) المراغي.
(2)
روح البيان.
(3)
المراح.
(4)
روح البيان.
لحكاية الحال الماضية، والمراد بالاتِّباع: التوغُّل والتمحُّض فيه، والإقبالُ عليه بالكلّية. وقرأ الحسن (1)، والضحَّاك:{الشياطون} بالرفع بالواو وهو شاذٌّ، قاسه على قول - العرب: بستان فلانٍ حوله بساتون، رواه الأصمعي، قالوا: والصحيح: أنَّ هذا لحنٌ فاحشٌ، وقال أبو البقاء: شبَّه فيه الياء قبل النون بياء جمع الصحيح، وهو قريبٌ من الغلط، وقال السَّجَاوَنْدِيُّ: خَطَّأَهُ الخَازَرَبَجِيُّ.
أي: واتَّبعوا ما كانت الشياطين تتلوه وتقرؤه {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} بن داود عليهما السلام؛ أي: في عهده وزمان ملكه من السحر، وتكذيبه على سليمان، والكلام على حذف مضاف، وعَلَى بمعنى: في، وكانت الشياطين دفنتهُ تحت كرسيه لمَّا نُزِع ملكه، فلم يشعر بذلك سليمان، فلمَّا مات استخرجوه، وقالوا للناس: إنّما مَلككم سليمان بهذا، فتعلَّموه، وأقبلوا على تعلُّمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشَتْ الملامةُ على سليمان، فلم تزل هذه حالَهم حتى بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عليه براءةَ سليمان، فقال: وما كفر سليمان الخ.
قال السديُّ (2): كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت، وغيره، ويأتون الكهنة ويُخلِّطون بما سمعوا في كُلِّ كلمة سبعين كذبةً، ويخبرونهم بها، فاكتتبت الناس ذلك، وفشا في بني إسرائيل: أنَّ الجنّ تعلم الغيب، وبعث سليمان في الناس، وجمع تلك الكتب، وجعلها في صندوق، ودفنه تحت كرسيه، وقال: لا أسمع أحدًا يقول: إنّ الشيطان يعلم الغيب إلّا ضرَبْتُ عنقهَ، فلما مات سليمان، وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أَمْرَ سليمان، ودَفْنَه الكُتبَ، وخَلفَ من بعدهم خلفٌ تمثَّل الشيطان على صورة إنسان، فأتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلُّكم على كنزٍ تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم، قال: تحت الكرسي، وذهب معهم، فأراهم المكان، وقام ناحيةً، فقالوا: ادْنُ، قال: لا ولكني ها هنا، فإِنْ لم تجدوه، فاقتلوني، وذلك أنَّه
(1) البحر المحيط.
(2)
روح البيان.
لم يكن أحدٌ من الشياطين يَدْنُو من الكرسي إلّا احترق، فحفروا، وأخرجوا تلك الكتب، قال الشيطان: إنّ سليمان كان يضبط الجنَّ، والإنس، والشياطين، والطير بهذه، ثمّ - طار الشيطان، وفشا في الناس أنَّ سليمان كان ساحرًا، وأخذ بنو إسرائيل تلك الكُتب، فلذا أكثر ما يُوجَدُ السحرُ في اليهود، فلمَّا جاء محمد صلى الله عليه وسلم بَرَّأَ الله سليمان عليه السلام من ذلك، وأنزل عُذْر سليمان، بقوله واتبعوا ما تتلوا الشياطين في زمن ملك سليمان {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بالسحر وعمله؛ يعني: لم يكن ساحرًا؛ لأنَّ الساحر كافرٌ، والتعرُّض لكونه كفرًا؛ للمبالغة في إظهار نزاهته عليه السلام، وكذب باهتيه بذلك.
أي: ما كتب سليمان السحر، وما عمل به؛ لأنّ عمل السحر كفر في شريعته، وأمّا في شريعتنا (1)، فإن اعتقد فاعله حِل استعماله كَفَر، وإلّا فلا، وأمّا تعلّمه، فإن كان ليعمل به فحرام، أو ليتوقّاه فمباح أولًا، ولا، فمكروه، والسحرُ (2): كُلُّ ما دَقَّ ولَطُفَ، يقال: سحره إذا أبدى له أمرًا يَدِقُّ عليه، ويَخْفَى. وعرَّفه ابنُ العربي (3): بأنّه كلام مؤلَّف يُعظَّم به غير الله، وتُنْسَب له المقادير، فعليه فهو كفر، حتى في شَرْعِنا {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} باستعمال السحر، وتعليمِه، وتدوينِه، وِإمّا بتكفيرهم سليمانَ به، ويحتمل كفرهم بغير ذلك، واستعمالُ لكن هنا حَسَنٌ؛ لأنّها بين نفي وإثبات. وقرىء {وَلَكِنَّ} بالتشديد، فيجب إعمالها، وهي قراءة نافع، وعاصم، وابن كثير، وأبي عمرو. وقرىء بتخفيفِ النون، ورفعِ ما بعدها بالابتداء والخبر، وهي قراءة ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وإذا خُففت، فهل يجوز إعمالُها؟ مسألةُ خلافٍ: الجمهورُ على المنع، وقال الكسائي، والفراء: الاختيارُ التشديد إذا كان قبلها واو، والتخفيف إذا لم يكن معها واو؛ ذلك لأنّها مخفّفة تكون عاطفة، ولا تحتاجُ إلى واو كبَلْ، وإذا كانت قبلها واوٌ لم تشبه بل؛ لأنَّ بل لا تدخل عليها الواو،
(1) المراح.
(2)
الفتوحات.
(3)
الصاوي.
فإذا كانت لكن مشدَّدةً عملت عمل إن، ولم تكن عاطفة. انتهى الكلام. أي: ولكنَّ الشياطين من الإنس والجنِ الذين نسَبَوُا إلى سليمان عليه السلام، ما انتحلوه من السحر، وكتبوه، ودوَّنوه، وعلَّموه الناس، هم الذين كفروا حالة كون الشياطين {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} إِغواءً لهم، وإِضلالًا؛ أي: يقصدون بتحليمهم إياه إضلالهم عن طريق الحق، فعلَّموهم حتى فشا أمر السحر بين الناس وكَثُر.
واعلم: أَنَّهُ (1) قد جاء ذِكْرُ السحر في القرآن في مواضع كثيرة، ولا سيما في قصَص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداعٌ، وتخييلٌ للأعين، حتى ترى ما ليس بكائنٍ كائنًا، كما قال تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وقال في آية أخرى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} والآية نصٌّ صريح على أنَّ السحر يُعلَّم، ويُلقَّن، والتاريخ يؤيِّد هذا.
والسحر (2): إمَّا حيلةٌ وشعوذةٌ، وإما صناعةٌ، وعلمٌ خفيٌّ يعرفه بعض الناس، ويجهله الكثير منهم، ومن ثَمَّ يسمُّون العمل به سحرًا؛ لخفاء سببه عليهم، وقد روى المؤرِّخون: أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحِبَال والعِصي بصُوَر الحيَّاتِ والثَّعابِين، حتى خُيِّل إلى الناس أنَّها تَسْعى. وقد اعتاد الذين اتخذوه صناعةً للمعاش، أن يتكلَّموا بأسماءٍ غريبةٍ، وألفاظ مبهمةٍ اشتهر بين الناس أنها من أسماءِ الشياطين، وملوكِ الجن، لِيوهموُهم أنَّ الجنَّ يَسْتَجِيبون دُعاءهم، ويُسخرِّون لهم، وهذا هو منشأ اعتقاد العامَّة أنَّ السحر عملٌ يستعان عليه بالشياطينِ، وأرواحِ الكواكب، ولمثل هذا تأثيرٌ في إثارة الوهم دلَّت التجربة على وجوده، وهو يُغْنِي مُنتحِلَ السحر عن توجيهِ هِمتِه، وتأثير إرادته فيمن يُعملُ له السحرُ، وسيأتي بَسْطهُ أواخرَ هذه الآيات {و} حالة كونهم يعلِّمونهم أيضًا {ما أنزل على الملكين} فهو معطوف على السحر؛ أي:(3) ويُعلِّمُون الناسَ
(1) المراغي.
(2)
المراغي.
(3)
الواحدي.
الأمر الذي أنزل على الملكين؛ أي: ما أُلْهِمَ الملكان، وقُذِفَ في قلوبهما من علم التفرقة، وهو رُقيْةٌ وليس بسحر، قال "المراغي": وظاهر الآية يدلُّ - على أنَّ ما أنزل على الملكين غَيْرُ السحر، لكنه من جنسه، وقد أُلهماه، واهتديا إليه بلا أستاذٍ، ولا معلِّمٍ، وقد يُسمَّى مثل هذا وحيًا، كما في قوله تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} .
وقيل: معطوفٌ على تتلو الشياطين، والمعنى عليه، وكما اتَّبع رؤساء اليهود السحر، كذلك اتَّبعوا ما أنزل على الملكين، وقرىء في الشواذ المَلِكينِ بكسر اللام، قيل: هما رجلان ساحران كانا ببابل، وقيل: عِلْجَان، والقراءة (1) المشهورة بفتح اللام، وهما ملكان من الملائكة، وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو الأسود الدؤلي، والضحَّاك، وابن أبزي المَلِكين بكسر اللام، فقال ابن عباس: هما رجلان ساحران ببابل، واعلم أنَّ الملكيَنِ أنزلا لتعليم السحر امتحانًا من الله تعالى للناس، هل يتعلَّمونه أم لا؟ كما امتحن قوم طالوت بالشرب من النهر، فمَنْ تعلَّمه منهم وعَمِلَ به كان كافرًا، ومن تَجنَّبه أو تعلَّمه لا يعمل به، ولكن ليتوقَّاه كان مؤمنًا، كما قيل:
عَرَفْتُ الشَرَّ لا للشَّرِّ ولكن لِتوَقِّيه
وهذا كما إذا أتى عرَّافًا فسأله عن شيء؛ لِيَمْتَحِن حالَه؛ ويختبر باطنَ ما عنده، وعنده ما يَميِّزُ بهِ صدقُه من كذبه، فهذا جائزٌ. قال الإِمام فخر الدين الرازيُّ: كانت الحكمة في إنزالهما: أنَّ السَّحرة كانوا يسترقُون السمعَ من الشياطين، ويُلقون ما سمعوا بين الخلق، وكانوا بسببِ ذلك يُثْبِتُون لأنفسهم الوَحْي النازلَ، على الأنبياء، فأَنْزلَهما إلى الأرضِ ليعلِّما الناسَ كيفيةَ السحر، ليظهر بذلك الفَرْقُ بين لام الله، وكلام السحرة؛ لئلا يغترَّ الناس بالسحر؛ لأنَّ السحرةَ كثرُوا في ذلك الزمن، واستنبطوا أبوابًا - غريبةً من السحر، وكانوا يدَّعون النبوة، فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلِّما الناس أبواب السحر، حتّى يتمكنوا
(1) البحر المحيط.
من معارضة أولئك الكذَّابين، وإظهار أمرهم على الناس.
{بِبَابِلَ} الباء (1) بمعنى في، وهي متعلقةٌ بأنزل، أو بمحذوف وقع حالًا من الملكين، وهي: بابل العراق، أو بابل أرض الكوفة، ومنع الصرف للعجمة والعلمية، وأحسن ما قيل في تسميتها ببابل: أنَّ نوحًا عليه السلام، لمَّا هبط إلى أسفل الجوديِّ، بَنَى قريةً وسمَّاها ثمانين، فأصبح ذات يوم، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربيُّ، وكان لا يفهم بعضهم من بعض. كذا في "تفسير القرطبي"، واختصت بابل بالإنزال؛ لأنّها كانت أكثر البلاد سحرًا {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} عطف بيان للملكين؛ لأنَّهما علمان لملكين نَزَلا من السماء، كما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، ومُنع صرفهما للعلمية والعجمية، وما روي في قصتهما من أنَّها شربا الخمر، وسفكا الدم، وزنيا، وقتلا نفسًا، وسجدا للصنم، فَمِمَّا لا تعويل عليه؛ لأنَّ مداره رِوايةُ اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلَّة النقل والعقل.
يقول الفقير: قد تصَفَّحْتُ كتبَ أرباب الخبر والبيان، وأصحاب الشهود والعيان، فوُجدتُ عامَّتَها مشحونةً بذكر ما جرى من قصتهما، وكيف يجوز الاتِّفاق من الجمِّ الغفير على ما مداره - روايةُ اليهود، خُصوصًا في مثل هذا الأمر الهائل، فأقول: وَصْفُ الملائكِةِ بأنَّهم لا يعصون، ولا يستكبرون، يسبِّحون الليل والنهار، لا يفتُرون، ويفعلون ما يؤمرون، دليلُ تصوُّرِ العصيان منهم، ولولا ذلك لما مدحوا به، إذ لا يُمْدَح أحدٌ على الممتنع، لكن طاعتهم طبعٌ، وعصيانهم تكلُّفٌ، على عكس حال البشر، كما في "التيسير"، فهذا يقتضي جوازُ الوقوع مع أنَّ فيما روي في سبب نزولهما ما يزيل الإشكال قطعًا، وهو أنَّهم لمَّا عيَّروا بني آدم بقلّة الأعمال، وكثرة الذنوب في زمن إدريس عليه السلام، قال الله تعالى:(لو أنزلتكم إلى الأرض وركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم لفعلتم مثل ما فعلوا)، فقالوا: سبحانك ربَّنا، ما كان ينبغي لنا أن نعصيك، قال الله تعالى:
(1) روح البيان.
فاختاروا ملكين من خياركم أَهْبِطْهمُا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة، وأعبدهم، فأُهِبْطا بالتركيب البشريِّ، فحكما بين الناس، وافتتنا بامرأةٍ تسمَّى بالعربية الزهرة، وبالفارسية: مِيْذَخْتَ، فطَلَباها وامتنعت إلّا أن يعبدا صنمًا، ويَشْرَبا خمرًا، ويقتلا نفسًا، ففعلا ما فعلا، فخافا على أمرهما، فعلَّماها ما تَصْعَدُ به إلى السماء، وما تنزلُ به، فصعدت ونَسِيَتْ ما تنزلُ به، فمُسخت بالكوكب المضيء في السماء الثانية، وأنَّهما تشفعا بإدريس عليه السلام إلى الله تعالى، فخيَّرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا؛ لأنَّه مؤقَّتٌ وعذاب الآخرة مؤبَّدٌ، فهما في بئر بابل مُعلَّقان فيه بشُعورهما إلى يوم القيامة، قال مجاهد: مُلىءَ الجُبُّ نارًا فجُعلا فيه، وقيل: معلَّقان بأرجلهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا أربع أصابع، فهما يعذَّبان بالعطش، وهذا الذي رُوي فيهما ليس ببعيدٍ، إذْ ليس مجرَّدُ هُبوط الملك ممَّا يقتضي العِصْيانَ، وذلك ظاهرٌ، وإلَّا لظهر من جبريل، وغيره، ألا ترى أنَّ إبليس له الشهوة والذريَّة مع أنّه كان من الملائكة على أحدِ القولين؛ لأنّها ممَّا حدثَتْ بعد أن مُحي من ديوانهم، فيجوز أن تَحْدُث الشهوة في هاروت وماروت، بعد أن أهبطا إلى الأرضِ؛ لاستلزام التركيب البشريِّ ذلك، وقد قال في "آكام المرجان": إنّ الله تعالى باين بَيْنَ الملائكة، والجنِّ، والإنس في الصورة، والأشكال، فإنْ قلَبَ الله الملك إلى صورة الإنسان ظاهرًا وباطنًا، خرج عن كونه ملكًا، وكذلك لو قلب الشيطان إلى بِنْيةِ الإنسان، خرج بذلك عن كونه شيطانًا.
وفي الحديث: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الدُّنيا، فوالذي نفسي بيده، إنَّها لأَسْحَرُ من هاروت وماروت" قال العلماء: إنّما كانت الدنيا أسحر منهما؛ لأنّها تدعوك إلى التَّحارص عليها، والتَّنافس فيها، والجمع لها، والمنع حتى تُفرِّق بينك وبين طاعة الله تعالى، وتُفرِّق بينك وبين رؤية الحق ورعايته، وسحر الدنيا محبتها، وتلذُّذك بشهواتها، وتمنِّيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"حُبُّك الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ" أَرَادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ من الحُبِّ ما يعمي عن طريق الحقّ والرَّشدِ، ويُصِمُّكَ عن استماع الحق، وإنَّ الرجل إذا غلب الحُبُّ على قلبه، ولم يكن له رادعٌ من عقلٍ، أو ديْنٍ أصمَّهُ حُبُّه عن
العدل، وأعماه عن الرشد، أو يعمي العين عن النظر إلى مساويه، ويُصِمُّ الأذن عن استماع العذل فيه، أو يعمي، ويُصِمُّ عن الآخرة، وفائدته: النَّهي عن حُبِّ ما لا ينبغي الإغراق في حُبِّه، ثُمَّ في هذه (1) القصة إشارةٌ إلى أنّه لا يجوز الاعتماد إلّا على فضل الله سبحانه وتعالى ورحمته، فإنَّ العصمة من آثار حفظ الله تعالى. {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} قرأ الجمهور بالتشديد من علَّم المُضعَّف، وقرأ طلحة بن مصرِّف:{وما يُعْلِمَان} من أعلم، وقالت طائفةٌ: بالتضعيف وبالهمزة بمعنًى واحدٍ ذكره في "البحر"؛ أي: وما يُعلِّم الملَكان أحدًا من الناس السحر، فمن (2) مزيدةٌ في المفعول به؛ لإفادة تَأْكيد الاستغراقِ الذي يفيده أحدٌ، والمعنى: ولكن الشياطين كفروا يعلِّمون الناس ما أنزل على الملكين، ويحملونهم على العمل به؛ إغواءً وإضلالًا، والحال أنَّ الملكين ما يُعلِّمان ما أنزل عليهما من السحر أحدًا من طالبيه {حَتَّى} يَنْصَحاه أوَّلًا، ويَنْهَيَاه عن العمل به، والكفر بسببه، و {يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} وابتلاءٌ من الله تعالى، فمن عمل بما تعلَّم مِنَّا، واعتقد حقيته كفر، ومن توقَّي عن العمل به، أو اتخذه ذريعةً للاتقاء عن الاغترار بمثله بقي على الإيمان، والفتنةُ: الاختبارُ والامتحانُ، يقال: فتنت الذهب، كالبَليَّةِ، والمعصيةِ، والقتل، والعذاب، وغير ذلك من الأفعال الكريهة، وقد تكون الفتنة في الدين مثل الارتداد والمعاصي، وإكراه الغير على المعاصي، وأُفردت الفتنةُ مع تعدُّد الملكين؛ لكونها مصدرًا، وحَمْلُها عليهما؛ مُوَاطأةٌ للمبالغةِ، كأنَّهما نفس الفتنة، والقَصْرُ؛ لبيان أنّه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأنٌ سِواهُ؛ لينصرف الناس عن تعلُّمه {فَلَا تَكْفُرْ} بتعلُّمِه، واعتقادِ حقيته مع أنّه ليس بباطلٍ شرعًا، وجوازِ العمل به، ويقولان ذلك سَبْع مراتٍ، فإن أبى إلّا التعلُّم علَّماه.
أي: فلا تتعلَّم السحر (3)، ولا تعمل به؛ لأنَّ عمله كفرٌ باللهِ؛ أي: لا يصفان السحر لأحدٍ حتى يبذلا - النصيحةَ له أوَّلًا، فيقولا لَهُ: هذا الذي نَصِفُه
(1) روح البيان.
(2)
روح البيان.
(3)
عمدة التفاسير.
لك، وإن كان الغرض منه أن يتميَّز به الفرقُ بين السحر والمعجزة، ولكنَّه يمكنك أن تتوصَّل به إلى المفاسد والمعاصي. فإيَّاك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نُهِيت عنه، أو تتوصَّل به إلى شيء من الأغراض العاجلة.
وفي هذا (1) إيماءٌ إلى أنَّ تعلُّم السحر، وكُلِّ ما لا يجوز اتباعه، والعمل به ليس محظورًا، وإنّما الذي يحظر ويمنع هو العمل به فحَسْبُ. وإنما كانا يقولان ذلك إِبْقاءً على حسن اعتقاد الناس فيهما، إذ كانا يقولان: إنّهما ملكان، كما نسمع الآن من الدجالين يحترفون مثل ذلك، لمن يعلِّمونهم الكتابة للحبِّ، والبغض، نوصيك بأن لا تكتب هذا لجلب امرأةٍ إلى حبِّ غير زوجها، ولا تكتب لأحد زوجين أن يبغض الآخر، بل تجعل ذلك للمصلحة العامَّة، كالحُبِّ بين الزوجين، والتفريق بين عاشقين فاسقين، وهذا منهم إيهامٌ بأنَّ علومهم إلهِيَّةٌ، وقرأ الجمهور {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} بفتح التاء، وهما بدلٌ من الملكين، وتكون الفتحة علامةً للجر؛ لأنّهما ممنوعان من الصرف لما مرَّ. وقرأ الحسن، والزهريُّ:{هاروتُ وماروتُ} بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هما هاروت وماروت {فَيَتَعَلَّمُونَ} عطف (2) على الجملة المنفيَّة، فإنّها في قوَّة المثبتة، كأنّه قيل: يعلِّمانهم بعد قولهما، إنما نحن فتنة
…
الخ، والضمير لأحد حملًا على المعنى، والمراد به: السحرة؛ أي: فالنَّاس يتعلَّمون {مِنْهُمَا} ؛ أي: من الملكين، أو من السحرِ، والمنزَّلِ على الملكين، أو من الفتنة والكفر؛ أي: فيأتي السحرة من الناس الملكين، فيتعلَّمون من الملكين {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} ، أي: بسببهِ واستعمالهِ {بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ؛ أي: يتعلَّمون منهما من علم السحر ما يكون سببًا في التفريق بين الزوجين ببغض كل واحدٍ منهما إلى الآخر، فبعد أن كانت المودَّة، والمحبة بينهما، يُصبح الشقاق، والفراق، والخِلاف بينهما، عند ما فعلوا من السحر، كالتَّمويه، والتَّخييل، والنَّفث في العقد، ونحو ذلك ممَّا يُحدث الله عنده البغضاء، والنشوز، والخلافَ بين الزوجين، ابتلاءً من الله تعالى؛ لأنَّ
(1) المراغي.
(2)
روح البيان.
السحر هو المؤثِّر في ذلك، بل بحَسَب جري العادة الإلهية، من خلق المسببَّات عقيب حصول الأسباب العاديَّة ابتلاءً منه تعالى، كما يدل عليه قوله سبحانه الآتي:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} تعالى، قوله:{وَزَوْجِهِ} ظاهره أنه يريد امرأة الرجل، وقيل: الزوج هنا: الأقارب والإخوان، وهم الصنف الملائم للإنسان، ومنه:{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} ذكره في "البحر".
قال السدي (1): كانا يقولان لمن جاءهما: إنّما نحن فتنة فلا تكفر، فإن أبى أن يرجع قالا له: ائت الرَّماد فَبُلْ فيه، فإذا بال فيه خرج نورٌ يَسْطَعُ إلى السماء، وهو الإيمان، والمعرفةُ، وينزل شيءٌ أسود شِبهُ الدُّخان، فيدخل في أذنيه، ومسامعه، وهو الكفر، وغضبُ الله، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك، علَّماه ما يفرِّق به بين المرء وزوجه، ويقدر الساحر على أكثر ممَّا أخبر الله عنه من التفريق؛ لأنَّ ذلك خُرِّج على الأغلب. قيل: يُؤخذ الرجلُ عن المرأة بالسحر لا يقدر على الجماع. قال في نصابِ الاحتساب: إنَّ الرجل إذا لم يَقْدِر على مجامعة أهله، وأطاق ما سواها، فإنّ - المُبْتلى بذلك يأخذ حُزْمَة قصبات، ويطلب فأسًا ذا فقارين، ويضعه في وسط تلك الحزمة، ثم يؤجِّجُ نارًا في تلك الحزمة، حتى إذا أُحمي الفأس استخرجه من النار، وبال على حدّه، يبرأ بإذن الله تعالى. انتهى.
والآية (2) لا ترشد إلى حقيقة ما يتعلَّمُونه من السحر أمؤثرٌ بطبعه، أو بسببٍ خفيٍّ، أو بخارقٍ من خوارق العادات، أم غير مؤثّر؟ كما أنَّها لم تُبيِّن نوعَ ما يتعلَّمونه، أتمائمٌ وكتابةٌ هو، أم تلاوةُ رُقًى وعزائمَ، أم أسَالِيب سِعَايةٍ، أم دسَائسُ تنفيرٍ ونكايةٍ، أم تأثيرٌ نفسانيٌّ أم وسواسٌ شيطانيٌّ؟ فأيُّ ذلك أثبته العِلْمُ، كان تفِصيلًا لما أَجْملَه القرآن، ولا نتَحكَّم في حَمْله على نوعٍ منها، ولو علم الله الخَيْر في بيَانهِ لبينه، ولكنَّه وَكَل ذلك إلى بُحُوث الناس، وارتقائهم في العلم، فهو الذي يُجلِّي الغوامضَ، ويكشف الحقائق {وَمَا هُمْ}؛ أي: ليس السَّاحرون
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
{بِضَارِّينَ بِهِ} ؛ أي: بما تعلَّموه من السحر {مِنْ أَحَدٍ} ؛ أي: أحدًا {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: إنَّ هؤلاء لم يُعْطَوا شيئًا من القوى الغيبيَّة فوق ما أعطي سائر الناس، بل هي أسبابٌ ربط بها مسبَّباتها، فإذا أُصيب أحدٌ بضررٍ بعمل من أعمالهم، فإنَّما ذلك بإذنه تعالى، فهو الذي يوجد المسبَّبات عند حصول الأسباب، والاستثناء (1) في قوله:{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} مفرَّغٌ، والباء متعلِّقةٌ بمحذوف وقع حالًا من ضمير {ضَارِّينَ} أو من مفعوله، وإنْ كان نكرةً؛ لاعتمادها على النَّفي، أو الضمير المجرور في {بِهِ}؛ أي: ما يضرُّون به أحدًا إلّا مقرونًا بعلم الله تعالى، وإرادته، وقضائه لا بأمره؛ لأنّه لا يأمر بالكفر، والإضرار، والفحشاء، ويقضي على الخلق بها، فالسَّاحر يسحر، والله يكوِّن، فقد يُحدث عِنْد استعمالِهم السحر فعلًا من أفعاله ابتلاءً، وقد لا يحدثه، وكُلُّ ذلك بإرادته، ولا يُنْكَر أنَّ السحر له تأثيرٌ في القلوب، بالحُبِّ والبغض، وبإلقاءِ الشرور، حتى يَحُولَ بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الآلام، وعظيم الأسقام، وكُلُّ ذلك مُدْرَكٌ بالحس والمشاهدة، وإنكاره معاندةٌ.
وإن أردت التفصيلَ وحقيقةَ الحال (2)، فاستمع لما نَتْلُو عليك من المقال، وهو أن السحر: إظهار أمرٍ خارقٍ للعادة، من نفسٍ شِرِّيرةٍ خِبَيثةٍ، بمباشرة أعمال مخصوصةٍ، يَجْرِي فيه التعلُّم والتعليم، وبهذين الاعتبارين يُفارق المعجزة، والكرامة؛ وذلك لأنَّ المعجزة: أمرٌ خارق للعادة، يظهر على يد من يدَّعي النبوة والرسالة عند ردِّ الملحدة، والكرامة: أمرٌ خارق للعادة، يظهر على يد عبدٍ من عباد الله الصالحين، والسِّحر: أمرٌ خارقٌ للعادة، يظهر على يد نفسٍ شريرةٍ خبيثةٍ، بمباشرة أعمالٍ مخصوصة.
فَصْل في بيان حقيقة السحر
واختلف العلماء في حقيقة السحر بمعنى ثبوته في الخارج:
(1) روح البيان.
(2)
روح البيان.
فذهب الجمهور: إلى ثبوته في الخارج، وقالت المعتزلة: لا ثبوت له، ولا وجود له في الخارج، بل هو تمويهٌ وتخييلٌ، ومجرَّد إراءة ما لا حقيقة له، يرى الحبال حيَّاتٍ بمنزلة الشعوذة التي سببها: خِفَّة حركات اليد، أو إخفاء وجه الحيلة، وتمسّكوا بقوله:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} ولنا وجهان: الأوّل: يدل على الجواز، والثاني يدلّ على الوقوع، أمّا الأول: فهو إمكان الأمر في نفسه، وشمول قدرة الله سبحانه وتعالى له، فإنّه الخالق، وإنما الساحر فاعلٌ وكاسبٌ، وأمّا الثاني: فهو قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وفيه إشعارٌ بأنّه ثابتٌ حقيقة ليس مجرد إراءةٍ وتمويهٍ، وبأنَّ المؤثّر والخالق هو الله تعالى وحده، وأمّا الشَّعوذة، وما يجري مجراها من إظهار الأمور العجيبة بواسطة ترتيب الأدلَّة الهندسية، وخفّة اليد، والاستعانة بخواص الأدوية والأحجار، فإطلاق السحر عليها مجازٌ، أو لما فيها من الدِقَّة؛ لأنّه في الأصل عبارةٌ عن كل ما لطف مأخذه، وخفي سببه، ولذا يقال: سحرٌ حلالٌ، وأكثرُ من يتعاطى السحر النساء، وخاصةً حالَ حيضهنّ، والأرواحُ الخبيثةُ ترى غالبًا للطبائعِ المغلوبةِ، والنفوسِ الرذيلة، وإن لم يكن لهم رياضةٌ، كالنساء، والصبيان، والمُخنثين، والإنسان إذا فَسَد نفسه، أو مزاجه يشتهي ما يضرُّه، ويتلذَّذ به، بل يعشق ذلك عشقًا يفسد عقلَه، ودينَه، وخلقه، وبدنه، وماله، والشياطين خبيثةٌ، فإذا تقرَّب صاحبُ العزائم، والإِقسام، وكَتْبِ الرُّوحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم، بما يحبُّونه من الكفر، والشرك صار ذلك كالرَّشوة والبَرْطِيْلِ لهم، فيقضون بعض أغراضهم، كمن يعطي رجلًا مالًا - ليقتل من يريد قتله، أو يعينه على فاحشةٍ، أو ينال منه فاحشةً، ولذلك يكتب السحرة، والمُعْزِمُون في كثيرٍ من الأمور، كلامَ الله تعالى بالنَّجاسة، والدماء، ويتقرَّبون بالقرابين، ومن حيوانٍ ناطقٍ، وغير ناطق، والبُخور، وتَركِ الصلاة، والصومِ، وإباحات الدماء، ونكاح ذوات المحارم، وإلقاء المصحف في القاذورات، وغيرِ ذلك مما ليس فيه رضا الله تعالى، فإذا قالوا كفرًا، أو كتبوه، أو فعلوه أعانتهم الشياطين؛ لأغراضهم، أو بعضها، إمَّا بتَغْوِيرِ مَاءٍ، وإمّا بِأَنْ يُحْمَلَ في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإمّا بأنْ يأتيه بمالٍ من أموال الناس، كما
يسرقه الشياطينُ من أموالِ الخائِنين، وأموال من لم يذكر اسم الله عليه، ويأتي به، وإمّا بغير ذلك، من قتل أعدائهم، أو إمراضهم، أو جَلْبِ من يهوونه وكثيرًا ما يتصوَّر الشيطان بصورة الساحر، ويقف بعرفاتٍ ليظنَّ مَنْ يُحسِن الظنَّ به أنّه وقف بعرفات، وقد زيَّن لهم الشيطان أنَّ هذا كرامات الصالحين، وهو من تلبيس الشيطان، فإنَّ الله تعالى لا يُعبد إلّا بما هو واجبٌ، أو مستحبٌّ، وما فعلوه ليس بواجبٍ، ولا مستحبٍ شرعًا، بل هو منهيٌّ عنه حرامٌ، ونعوذ بالله من اعتقاد ما هو حرامٌ عبادةً، ولأهل الضلال الذين لهم عبادةٌ على غير الوجه الشرعيّ، مكاشفاتٌ أحيانًا، وتأثيراتٌ يأوون كثيرًا إلى مواضع الشياطين التي نهي عن الصلاة فيها، كالحمَّام، والمزبلة، والمقبرة، وأعطان الإبل، وغير ذلك مما هو من مواضع النجاسات؛ لأنَّ الشياطين تنزل عليهم فيها، ويخاطبهم ببعض الأمور، كما يخاطبون الكفار، وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلّم عُبَّاد الأصنام.
قال العلماء: إن كان في السحر ما يخل شرطًا من شرائط الإيمان، من قول، وفعل، كان كفرًا، وإلا لم يكن كفرًا، وعامَّة ما بأيدي الناس من العزائم، والطَّلاسم، والرُّقي التي لا تفهم بالعربية، فيها ما هو شِرْكٌ وتعظيمٌ للجن، ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرُّقي التي لا يفهم معناها بالعربية؛ لأنَّها مظنَّة الشرك، وإن لم يعرف الرَّاقي أنّها شركٌ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه رخّص في الرُّقي ما لم تكن شركًا، وقال "مَن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" ولذا نقول: إنه يجوز أن يكتب للمصاب، وغيره من المرضى شيءٌ من كتاب الله تعالى، وذكره. بالمداد المباح، ويُسقى، أو يعلَّق عليه، وفي أسماء الله تعالى، وذكره خاصَّةً قمع الشياطين، وإذلالهم، ولأنفاس أهل الحق تأثيراتٌ عجيبةٌ؛ لأنّهم تركوا الشهوات، ولزموا العبادات على الوجه الشرعيِّ، وظهر لهم حكم قوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ولذا يطيعهم الجنُّ والشياطين، ويستعبدونهم، كما استعبدها سليمان عليه السلام، بتسخير من الله تعالى، وإقداره.
واعلم: أنَّ حكم الساحر القتل ذكرًا كان أو أنثى، إذا كان سعيه بالإفساد، والإهلاك في الأرض، وإذا كان سعيه بالكفر، فيقتل الذكر دون الأنثى، فتضرب، وتحبس؛ لأنَّ الساحرة كافرةٌ، والكافرةُ ليست من أهل الحرب، فإذا كان الكفر
الأصليُّ يدفع عنها القتل، فكيف الكفر العارض؟ والساحر إن تاب قبل أن يؤخذ تقبل توبته، وإن أُخِذ ثم تاب لا تقبل، كما قال في "الأشباه": كُلُّ كافر تاب فتوبته مقبولةٌ في الدنيا والآخرة، إلّا الكافر بسبِّ نبيٍّ، أو بسبِّ الشيخين، أو أحدهما، وبالسحر ولو امرأةً، وبالزندقة إذا أُخِذَ قبل توبتهِ، والزنديق: هو الذي يقولُ بقدمِ الدهر، وإسنادِ الحوادث إليه مع اعتراف النبوَّةِ، وإظهارِ الشرع. هذا، وأكثر المنقول إلى هنا من كتاب آكام المرجان، وهو الذي ينبغي أن يكتب على الأحداق لا على القراطيس والأوراق.
قوله {بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} قرأ الجمهور (1) بفتح الميم وسكون الراء والهمزة. وقرأ الحسن، والزهري، وقتادة {المَرِ} بغير همز مخففًا. وقرأ ابن أبي إسحاق:{المُرءُ} بضمّ الميم والهمزة. وقرأ الأشهب العقيلي {المِرْءِ} بكسر الميم والهمزة، ورُويت عن الحسين. وقرأ الزهري أيضًا {المَرِّ} بفتح الميم وإسقاط الهمزة وتشديد الراء، فأمَّا فتح الميم وكسرها وضمُّها، فلغاتٌ، وأمَّا المرِ بكسر الراء، فوجهه أنّه نقل حركة الهمزة إلى الراء، وخفَّف الهمزة، وأمّا تشديدها بعد الحذف، فوجهه أنّه نوى الوقف فشدَّد، كما روي عن عاصم مستطرّ بتشديد الراء في الوقف، ثُمَّ أُجري الوصل مجرى الوقف، فأقرَّها على تشديدٍ فيه، قوله:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} قرأ الجمهور بإثبات النون في {بِضَارِّينَ} وقرأ الأعمش بحذفها، وخرج ذلك على وجهين: أحدهما: أنّها حذفت تخفيفًا، والثاني: أنَّ حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو {بِهِ} كما قال:
هما أخوا في الحرب من لا أخا لَهُ
وكما قال:
كما خُطَّ الكتابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ
وهذا التخريج ليس بجيد؛ لأنَّ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف
(1) البحر المحيط.
والجار والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثمَّ مضافٌ إليه؛ لأنّه مشغولٌ بعاملٍ جارٍ، فهو المؤثِّر فيه لا الإضافة، وأمَّا جعل حرف الجر جُزْءًا من المجرور، فهذا ليس بشيءٍ؛ لأنّه مؤثّر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء، والأجود التخريج الأوّل؛ لأنَّ له نظيرًا في نظم العرب ونثرها، فمن النثر قول العرب:
قَطَاقطَا بَيْضُكِ ثِنْتَا وَبَيْضِي مائتا
يُريدُون ثِنْتَان ومِائتَانِ {وَيَتَعَلَّمُونَ} منهما {مَا يَضُرُّهُمْ} في الدنيا والآخرة، ولا ينفعهم، صرَّح (1) بذلك؛ إيذانًا بأنّه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضَّرر، بل هو شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ، لأنّهم لا يقصدون به التخلُّصَ عن الاغترار بأكاذيب من يدَّعي النبوَّة مثلًا من السحرة، أو تخليصَ النَّاس منه حتى يكون فيه نفعٌ في الجملة. وعبارة أبي حيان: لمَّا ذكر أنّه يحصل به الضرر لمن يفرَّق بينهما، ذكر أيضًا أنَّ الضرر لا يقتصر على من يُفعل به ذلك، بل هو أيضًا يضرُّ مَن تعلَّمه، ولمَّا كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النَّفع؛ لأنّه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر، ويحصل به النفع، نَفَى النفع عنه بالكليَّة وأتى بلفظ لا؛ لأنّها يُنفى بها الحال والمستقبل، والظاهر أنَّ {وَلَا يَنْفَعُهُمْ} معطوفٌ على {يَضُرُّهُمْ} وكلا الفعلين صلةٌ لما، فلا يكون لها موضعٌ من الإعراب، وجوَّز بعضهم أن يكون {لا ينفعهم} على إضمار هو؛ أي: وهو لا ينفعهم فيكون في موضع رفعٍ، وتكون الواو للحال، وتكون جملةً حاليَّةً، وهذا الوجه ضعيفٌ، وقد قيل: الضرر وعدم النفع مختصٌّ بالآخرة.
وقيل: هو في الدنيا والآخرة، فإنَّ تعلُّمه إن كان غير مباح، فهو يجرُّ إلى العمل به، وإلى التنكيل به إذا عُثِر عليه، وإلى أنَّ ما يأخذه عليه حرامٌ، هذا في الدنيا، وأمَّا في الآخرة فلِمَا يترتَّب عليه من العقاب. انتهى. قال المراغي: وهذا مِما يعاقبُ الله عليه، ومَنْ عُرِف بإيذاء الناس أبغضوه، واجتنبوه، ولا نفع لهم فيه، فإنَّا نرى منتحلي هذه المِهَنِ مِنْ أفقر الناس وأَحْقِرهم، وذلك حالُهم في
(1) روح البيان.
الدنيا، فما بالك بهم في الآخرة يوم يُجزى كلُّ عامل بما عمل. انتهى.
وفي الآية: إيماءٌ إلى أنَّ الاجتناب عما لا يؤمن غوَائلِهُ واجب، كتعلُّم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجرَّ إلى الغَواية، وإن قال مَنْ قال:
عرفت الشرَّ لا للشرِّ لكنْ لِتَوَقِّيهِ
…
ومَنْ لا يعرف الشرَّ مِنَ الناسِ يَقَعْ فيهِ
وذكَر في "التَّجْنيس": أنَّ تعلُّم النجوم حرام إلّا ما يُحتاج إليه للقبلة، ولمعرفة فصول السنة وحسابها، ومعرفة فيء الزوال من المنازل الثمانية والعشرين، ومِنْ أحاديث "المصابيح":(مَنِ اقتبس - علمًا من النجوم، اقتبس شعبةً من السحر) وإذا لم يكن في تعلُّم مثل هذه العلوم خيرٌ، فكذا إمساكُ الكتب التي اشتملت عليها من كتب الفلاسفة وغيرها، بل لا يجوز النظر إليها، كما في "نصابِ الاحتساب" {وَلَقَدْ عَلِمُوا}؛ أي: لقد علم هؤلاء اليهود في التوراة، واللام فيه للقسم؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد علم اليهود الذين أخذوا السحر، واتَّبعوا الشياطين بدل متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان به.
وقال أبو حيان (1): الضمير في علموا قيل: عائدٌ على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان بن داود عليه السلام، وكانوا حاضرين استخراجَ الشياطين السحرَ ودفنه، أو أَخْذَ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيّه، ولمَّا أخرجوه بعد موته، قالوا: والله ما هذا مِن عمل سليمان، ولا من ذخائره، وقيل: عائدٌ على من بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، وقيل: يعود على اليهود قاطبةً؛ أي: علموا ذلك في التوراة، وقيل: عائدٌ على علماء اليهود، وقيل: عائدٌ على الشياطين، وقيل: على الملكين؛ لأنَّهما كانا يقولان لمن يتعلَّم السحر فلا تكفر، فقد علموا أنَّه لا خَلاق له في الآخرة وأتى بضمير الجمع على قول: مَنْ يرى ذلك وعَلِم هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين وعُلِّقت عن الجملة، ويحتمل أن تكون المتعدية لمفعول واحد، وعلقت أيضًا كما علقت عرفتُ، والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. انتهى.
(1) البحر المحيط.
واللام في قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} هي لام الابتداء، وهي المانعة من عمل علم وأخواتها، وهي أحد الأسباب المُوِجبة للتعليق، وأجازوا حَذْفَها، وهي باقيةٌ على منع العمل، وخرَّجُوا على ذلك قوله:
كَذاكَ أُدِّبْتُ حتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي
…
إنّي وجدتُ مِلاكُ الشِيمةِ الأَدبُ
يريد لَمُلاكُ الشيمة، و {مِنْ} هنا موصولة، وهي مرفوعة بالابتداء، والجملة من قوله:{مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} في موضع خبرها؛ أي: لقد (1) علموا أنَّ من اشترى السحر، واختاره، واستبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله تعالى، ما له في الآخرة من خلاق ونصيبٍ من دار الكرَامة؛ لأنّه من أهل النار؛ أي: ليس لذلك المشتري، والآخذ بالسحر في الآخرة خلاقٌ، وحظٌّ، ونصيبٌ من الجنة، بل هو من أهل النار.
والمعنى (2): أي إنَّهم عالمون بأنَّ من اختار هذا، وقدَّمه على العلم بأصول الدين وأحكام الشريعة التي توصل إلى السعادة في الدارين، فليس له حظٌّ في الآخرة؛ لأنّه خالف حكم التوراة التي حظَرت تعلُّم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجنَّ، والشياطين، والكهان، كعقوبة عابدي الأصنام والأوثان، واللام في قوله:{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} موطئةٌ (3) لقسم محذوف، والشراء هنا بِمَعْنَى: البيعِ؛ لأنَّ الشراء من الأضداد، والمخصوص بالذمّ محذوف.
والمعنى (4): وعزّتي وجلالي: لبئس وقَبُح الشيء شيئًا باعوا به حظوظ أنفسهم في الآخرة، والمخصوص بالذمّ تعلُّم السحر، أو الكفر حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله تعالى؛ يعني: أنَّ اليهود لمَّا نبذوا كتاب الله تعالى وراء ظهورهم، وأقبلوا على التَّمسُّكِ بما تتلو الشياطين، فكأنَّهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى.
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
(3)
روح البيان.
(4)
العمدة.