الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنْ هُو مُسْتَوْلِيًا عَلَى أحدِ
…
إلّا عَلَى أضْعَفِ المَجَانِين
وأتى بالخبر فعلًا مضارعًا ولم يأت باسم الفاعل؛ لأنّه يدلُّ على حدوث الظنّ وتجدده لهم شيئًا فشيئًا، فليسوا ثابتين على ظنّ واحد، بل يتجدَّد لهم ظنونٌ دالةٌ على اضطراب عقائدهم، واختلاف أهوائهم.
وفي هذه الآية (1): دليلٌ على أن المعارف كسبيَّةٌ، وعلى بطلان التقليد، وعلى أنّ المغترَّ بإضلال المُضِلّ مذمومٌ، وعلى أنَّ الاكتفاء بالظنّ في الأصول غير جائز، وعلى أنَّ القول بغير دليل باطلٌ، وعلى أنَّ ما تساوى وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلّا بدليل سمعيّ، وتمسَّك بها أيضًا منكروا القياس وخبر الواحد؛ لأنَّهما لا يفيدان العلم. ثُمَّ ذكر الله سبحانه وتعالى، جريمة هؤلاء الرؤساء المُضلين الذين أضلُّوا العوامَّ،
79
- فقال: {فَوَيْلٌ} ؛ أي: عذابٌ شديد، أو وادٍ في جهنّم، والويل كلمةٌ يقولها كُلُّ مَنْ وقع في هلكة بمعنى الدعاء على النفس بالعذاب؛ أي: عقوبةٌ عظيمةٌ وهلكةٌ شديدة، أو هو وادٍ في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا، قبل أن يبلغ قعره، كما روي عن أبي سعيد الخدريِّ. وقال سعيد بن المسيّب إنه وادٍ في جهنّم لو سُجّرت فيه جبال الدنيا، لذابت من شدّة حرّه. رواه الترمذي وغيره مرفوعًا. وهو مبتدأ خبره ما بعده، وسوَّغ الابتداء به مع كونه نكرة؛ ما فيه من معنى الدعاء، إذ الدعاء أحد المسوغات للابتداء بالنكرة، وهي تقارب ثلاثين مسوّغًا، كما هو مبسوط في كتب النحو؛ أي: فعذابٌ شديدٌ وعقوبةٌ عظيمة كائنة {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} ؛ أي: يُحرِّفون التوراة عمَّا أنزلت عليه، ويكتبونه كتابةً مختلقةً من عند أنفسهم موافقةً لهواهم، وهم أحبار اليهود، وقوله:{بِأَيْدِيهِمْ} تأكيدٌ؛ لأنَّ الكتابة لا تكون إلّا بالأيدي؛ أو لأنّه يحتمل أن يأمر غيره بأن يكتب، فقال:{بِأَيْدِيهِمْ} لرفع هذه الشُّبهة، والمراد (2) بالذين يكتبون الكتابَ اليهودُ، وذلك أنَّ رؤساء اليهود خافوا ذهاب مآكلهم، وزوال رياستهم حين قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة، فاحتالوا في تعويق سفلتهم عن
(1) البحر المحيط.
(2)
خازن وأبو سعود.
الإيمان به، فعمدوا إلى صفته في التوراة فغيَّرُوها، وكانت صفته فيها: حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعةً؛ أي: متوسِّط القامة، فغيروا ذلك وكتبوا مكانه: طويلٌ أزرق العينين، سبط الشعر؛ أي: جعده، وكانوا إذا سألتهم سفلتهم عن ذلك قرأوا عليهم ما كتبوا، فيجدونه مخالفًا لصفته صلى الله عليه وسلم فيكذبونه.
والكتابة معروفة ويقال: أوّل من كتب بالقلم إدريس عليه السلام. وقيل: آدم أبو البشر عليه السلام. وقيل: كتبوا في التوراة ما يدلُّ على خلاف صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبثُّوها في سفهائهم، وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل، وصار سفهاؤهم ومن يأتيهم من مشركي العرب إذا سألوهم عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما هو هذا الموصوف عندنا في التوراة المبدَّلة المغيَّرة، ويقرؤونها عليهم، ويقولون: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا بها ثمنًا قليلًا. وقيل: خاف ملوكهم على ملكهم إذا آمن الناس كُلُّهم، فجاؤوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل، وكشطوها من التوراة وكتبوا بأيديهم كتابًا، وحلَّلوا فيه ما اختاروا، وحرَّموا ما اختاروا.
وقوله: {بِأَيْدِيهِمْ} قال أبو حيان: تأكيدٌ يَرْفَعُ توهُّمَ المجاز؛ لأنّ قولك: زيد يكتب، ظاهره أنّه يباشر الكتابة، ويحتمل أن يُنسب إليه على طريقة المجاز، ويكون آمرًا بذلك، كما جاء في الحديث:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب)، وإنّما المعنى أمر بالكتابة؛ لأنّ الله تعالى قد أخبر أنّه النبيُّ الأمّيُّ، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، وقد قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} ونظير هذا التأكيد {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} و {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} وقوله:
نظَرْتَ فلم تَنْظُر بَعْينيك مَنْظرًا
فهذه كلَّها أُتى بها؛ لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ؛ ولرفع المجاز الذي كان يحتمله، وفي هذا التأكيد أيضًا تقبيحٌ لفعلهم إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم واجترحوه بأيديهم {ثُمَّ يَقُولُونَ} لأتباعهم (1) وسفلتهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قُرىء لهم، ومعمول
(1) البحر المحيط.
القول هذه الجملة التي هي قوله: {هَذَا} المحرَّف هو الذي أنزل {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى في التوراة، وقوله:{لِيَشْتَرُوا} علة في القول وهي لام كي، وهي مكسورة؛ لأنّها حرف جرّ فيتعلَّق بيقولون. وبنو العنبر يفتحون لام كي، قاله مكّيٌّ في "إعراب القرآن" له، وقد أبعد من قال: إنها متعلِّقة بالاستقرار، وقوله:{بِهِ} متعلّق بقوله: {لِيَشْتَرُوا} ، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم:{هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو المكتوب المحرَّف؛ أي: يقولون هذا المحرَّف من عند الله، ليأخذوا لأنفسهم بمقابلة المحرف من سفلتهم، {ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: عوضًا يسيرًا لا يُعْبأَ به من الدنيا، وهو ما أخذوه من الرُّشَا في مقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل الزائغ. وإنّما عبَّر عن (1) المشترى الذي هو المقصود بالذات في عقد المعاوضة، بالثمن الذي هو وسيلةٌ فيه؛ إيذانًا بتعكيسهم، حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة، والوسيلة مقصودة بالذات، وإنّما وصفه بالقلّة؛ إمّا لفنائه وعدم ثوابه، وإمّا لكونه حرامًا؛ لأنّ الحرام لا بركة فيه، ولا يربو عند الله تعالى. كذا في "تفسير القرطبي".
وقد جمعوا (2) في هذا الفعل أنّهم ضلوا وأضلُّوا، وكذبوا على الله، وضمُّوا إلى ذلك حُبَّ الدنيا، وهذا الوعيد مرتَّب على كتابة الكتاب المحرَّف، وعلى إسناده إلى الله تعالى وكلاهما منكرٌ، والجمع بينهما أنكر، وهذا يدلُّ على تحريم أخذ المال على الباطل، وإن كان برضا المعطي {فَوَيْلٌ لَهُمْ}؛ أي: العقوبة العظيمة ثابتةٌ لهم {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} ؛ أي: من أصل كتابهم إيّاه {وَوَيْلٌ لَهُمْ} ؛ أي: عذابٌ شديد حاصلٌ لهم {مِمَّا يَكْسِبُونَ} ؛ أي: من أصل كسبهم وأخذهم الرشوة، وعملهم المعاصي، وأصل الكسب: الفعل لجر نفعٍ أو دفع ضرٍّ، ولهذا لا يوصف به سبحانه وتعالى.
وكتابتهم (3) مقدّمةٌ نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرَّر الويل في كل
(1) روح البيان.
(2)
البحر المحيط.
(3)
البحر المحيط.
واحد منهما؛ لئلّا يتوهم أنَّ الوعيد هو على المجموع فقط، فكل واحد من هذين متوعَّد عليه بالهلاك، وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام، وهو الأليق بمساق الآية، وقيل المراد: بما يكسبون الأعمال السيّئة، والمعنى: فويلٌ لهم لأجل ما كتبته أيديهم من الكتاب المحرَّف، وويل لهم لأجل ما يصيبونه ويأخذونه من سفلتهم، ومن الرُّشا والحرام على تحريفهم.
وفي الآيات إشاراتٌ (1):
الأولى: أنَّ علم الرجل، ويقينه، ومعرفته، ومكالمته مع الله لا يفيده الإيمان الحقيقيّ، إلّا أن يتداركه الله سبحانه بفضله ورحمته، قال الله تعالى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} وأنَّ الله تعالى كلَّم إبليس وخاطبه بقوله: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وما أفاده ذلك الإيمان الحقيقيُّ، إذ لم يكن مؤيَّدًا من الله بفضله ورحمته، ولم يبق على الإيمان بعد العيان، فكيف يؤمن بالبرهان.
والثانية: أنَّ العالم المعاند، والعاميَّ المُقلِّد سواءٌ في الضلال؛ لأنَّ العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكنٌ من العلم، وأنَّ الدين ليس بالتَّمَنِّي، فالذين ركنوا إلى التقليد المحض واغترُّوا بظنونٍ فاسدةٍ، وتخميناتٍ مبهمةٍ، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلّا قراءتها دون معرفة معانيها، وإدراك أسرارها وحقائقها، وهذا حال أكثر أهل زماننا من مدّعي الإِسلام بلا معرفة قواعده، وامتثال مأموراته واجتناب منهيّاته، فالمدَّعي والمُتمنِّي عاقبتهما خسرانٌ وضلالٌ، وحسرةٌ وندامة، ووبال وأنكال.
والثالثة: أنَّ من بدَّل، أو غيَّر، أو ابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخلٌ في الوعيد المذكور، وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك؛ لما علم ما يكون في آخر الزمان، فقال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين
(1) روح البيان.