الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخلاصة: أنَّ الإمامة والنبوة لا ينالها من دنس نفسه، ودسّاها بالظلم، وقبيح الخلال، وإنّما ينالها من شرفت خلاله، وكملت أخلاقه، وصفت نفسه؛ لأنَ أهمَّ أعمال الإِمام رفع الظلم والفساد، حتى ينتظم العمران، وتَسُود السكينةُ بين الناس.
125
- {و} اذكر يا محمد! لقومك قصة {إذ جعلنا البيت} ؛ أي: الكعبة، أو جميع الحرم، فإنَّه تعالى وصفه بكونه آمنًا، وهذا صفة جميع الحرم {مَثَابَةً} أي: مرجعًا ومعادًا {لِلنَّاسِ} يعودون إليه، ويقضون منه وطرًا، كلما انصرفوا اشتاقوا إليه، فإنّهم يثوبون إليه كل عام بأعيانهم، وبأمثالهم، كما قاله الحسن، أو المراد: لا ينصرف عنه أحد إلّا وهو يتمنّى العود إليه، كما قاله ابن عباس ومجاهد، أو المعنى: جعلنا الكعبة موضع ثواب، يثابون بحجِّهِ واعتماره، وعبارة "الروح" هنا: أي: (1) واذكر يا محمد! لقومك قصة وقت تصييرنا الكعبة المعظَّمة {مَثَابَةً} كائنةً للناس؛ أي: مباءةً، ومرجعًا للحجَّاج والمعتمرين، يتفرَّقون عنه، ثم يثوبون إليه؛ أي: يرجع إليه أعيان الذين يزورونه بأن يحجوه مرّةً بعد أخرى، أو يرجع أمثالهم وأشباههم في كونهم وفد الله، وزوار بيته، فإنَّهم لما كانوا أشباهًا للزائرين أوَّلًا، كان ما وقع منهم من الزيارة ابتداءً بمنزلة عود الأوَّلين، فتعريف الناس؛ للعهد الذهنيِّ، وهم الزوار؛ أو للاستغراق، كما سيأتي، والتاء في {مثابة} ؛ للمبالغة لكثرة ما يثوب إليه، قاله الأخفش؛ أو لتأنيث المصدر؛ أو لتأنيث البقعة، كما يقال: مقامٌ ومقامةٌ، قال الشاعر:
ألَمْ تَرَ أنَّ الأرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةْ
…
فَهَلْ يُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِها
ذكَّرَ رَحْبًا على مراعاة المكان، وأنث فسيحةً على اللفظ، وقرأ الأعمش، وطلحة:{مثاباتٍ} على الجمع، وقال ورقة بن نوفل:
مَثابًا لأفناء القبائل كُلِّها
…
تَخِبُّ إلَيْهَا اليَعْمُلاتُ الطَّلائِحُ
ويروى الذَّوابل، ووجه قراءة الجمع: أنَّه مثابةٌ لكل من الناس لا يختصُّ
(1) روح البيان.
به واحدٌ منهم، سواء العاكف فيه والباد. وقال مجاهد وابن جبير معناه: يثوبون إليه من كل جانب؛ أي: يحجونه في كل عام، فهم يتفرقون، ثم يثوبون إليه أعيانهم، أو أمثالهم، ولا يقضي أحدٌ منهم وطرًا، وقال الشاعر:
جَعَلَ البَيْتَ مَثَابًا لَهُمُ
…
لَيسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ
وقال ابن عباس: معاذًا وملجأً، وقال قتادة والخليل: مجمعًا، والألف واللام في قوله:{لِلنَّاسِ} إمّا لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أنَّ الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان، وإمَّا للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك. {وَأَمْنًا}؛ أي: محلَّ أمنٍ لمن يسكنه ويلجأ إليه من الأعداء، والخسف، والمسخ، فإنّ المشركين كانوا لا يتعرَّضون لسكان الحرم، ويقولون: البيت بيت الله، وسكَّانه أهل الله، بمعنى: أهل بيته، وكان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم، فلا يتعرَّض له، ويتعرَّضون لمن حوله، وهذا شيء توارثوه من دين إسماعيل عليه السلام، فبقوا عليه إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم، أو يأمن لمن حجَّه من عذاب الآخرة من حيث إنّ الحج يجبُّ ما قبله؛ أي: يقطع ويمحو ما وجب قبله من حقوق الله تعالى غير الماليَّة، مثل: كفارة اليمين، وأمَّا حقوق العباد، فلا يجبُّها الحجُّ. {و} قلنا {اتخذوا}؛ أي: اجعلوا يا أمّة محمد! لأنفسكم {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} عليه السلام؛ أي: عند مقام إبراهيم {مُصَلًّى} ؛ أي: موضع صلاة، فمن هنا بمعنى: عند، والعندية تصدق بجهاته الأربع، والتخصيص بكون المصلى خلفه، إنّما استفيد من فعله صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة بعده؛ أي: واذكر إذ جعلنا البيت مثابةً، وقلنا لكم: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهو على تقدير القول؛ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الإخبار، ومقام إبراهيم: الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت، وفيه أثر قدميه، أو الموضع الذي كان فيه حين قام عليه، ودعا الناس إلى الحج، أو حين رفع بناء البيت، والذي يسمى اليوم مقام إبراهيم هو موضع ذلك الحَجَر.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، والجمهور {وَاتَّخِذُوا} بكسر الخاء على صيغة الأمر، فلا بدّ على هذه القراءة من تقدير
القول، كما مرّ آنفًا. وقرأ نافع، وابن عامر {وَاتَّخِذُوا} بفتحها، جعلوه فعلًا ماضيًا عطفًا على {جَعَلْنَا}؛ أي: واتَّخذ الناس مقامه الموسوم به؛ يعني: الكعبة قبلةً يصلُّون إليها، فهو إخبار عن قوم إبراهيم أنّهم اتخذوا من مقامه مصلى. وفي "الفتوحات" قرأ نافع، وابن عامر:{وَاتَّخِذُوا} فعلًا ماضيًا على لفظ الخبر، والباقون على صيغة الأمر، فأمَّا قراءة الخبر، ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّه معطوف على {جَعَلْنَا} المخفوض بإذ تقديرًا، فيكون الكلام جملة واحدة.
الثاني: أنّه معطوف على مجموع قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا} فيحتاج إلى تقدير: إذ؛ أي، وإذ اتخذوا، ويكون الكلام جملتين.
الثالث: ذكره أبو البقاء: أن يكون معطوفًا على محذوف، تقديره: فثابوا واتخذوا.
وأمّا قراءة الأمر ففيها أربعة أوجه:
أحدها: أنّه عطف على {اذْكروا} إذ قيل إنَّ الخطاب هنا لبني إسرائيل؛ أي: اذكروا نعمتي، واتخذوا.
الثاني: أنها عطفٌ على الأمر الذي تضمنه قوله {مَثَابَةً} كأنَّه قال: ثوبوا، واتخذوا، ذكر هذين الوجهين المهدويّ.
الثالث: أنّه معمولٌ لقول محذوف؛ أي: وقلنا اتخذوا بأن قيل: إنّ الخطاب لإبراهيم وذرّيته، أو لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمّته.
الرابع: أن يكون مستأنفًا. اهـ. "سمين".
وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (أنّ إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت، وإسماعيل يناول الحجارة، ويقول:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ! فلمَّا ارتفع البنيان، وضعف إبراهيم عن وضع الحجارة، قام على حجرٍ وهو مقام إبراهيم عليه السلام فبناء البيت كان متأخرًا من بناء مكة، وكُلّ منهما في زمن إبراهيم، أمّا الأول، فبناء إبراهيم، وأمّا الثاني، فبناء طائفة من جرهم، كما في تاريخ مكة.
وروي: أنّه لمَّا أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر، ووضعهما بمكة، وأتت على ذلك مُدّةٌ، ونزلها الجرهميُّون، وتزوَّج إسماعيل منهم امرأة، وماتت هاجر، استأذن إبراهيم سارة في أن يأتي هاجر، فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيَّد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم، فيصيد، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت: ليست عندي، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن في ضيق وشدّةٍ، فشكت إليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: فليغيِّر عتبة بابه، والمراد: ليطلِّقكِ، فإنّك لا تصلحين له امرأةً، وذهب إبراهيم، فجاء إسماعيل، فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحدٌ؟ قالت: جاءني شيخٌ صفته كذا وكذا، كالمستخفَّة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له: فليغيِّر عتبة بابه، قال: ذلك أبي، وقد أمرني أن أُفارقك، ألحقي بأهلك، فطلَّقها وتزوَّج منهم أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثُمَّ استأذن سارة في أن يزور إسماعيل، فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيَّد، وهو يجيء الآن إن شاء الله، فأنزل رحمك، قال: هل عندك ضيافةٌ؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن، واللحم، وسألها عن عيشهم؟ قالت: نحن في خير وسعة، فدعا لهما بالبركة، ولو جاءت يومئذٍ بخبز بُرٍّ، أو شعيرٍ، أو تمرٍ لكانت أكثر أرض الله بُرًّا، أو شعيرًا، أو تمرًا، وقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءت بالمقام فوضعته على شقِّه الأيمن، فوضع قدمه عليه وهو راكبٌ، فغسلت شقَّ رأسه الأيمن، ثمّ حوَّلته إلى شقه الأيسر، فغسلت شقَّ رأسه فبقي أثر قدميه عليه، وقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: قد استقامت بابك، فلمَّا جاء إسماعيل وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم، جاء شيخٌ أحسن الناس وجهًا، وأطيبهم ريحًا، فقال لي: كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه، فقال: ذلك إبراهيم، وأنت عتبة بابي، أمرني أن أمسكك، ثُمَّ لبث عنهم ما شاء الله، ثُمَّ جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلًا تحت دوحة قريبة من زمزم، فلمَّا رآه قام
إليه، فصنع كما يصنع الولد بالوالد، ثمّ قال: يا إسماعيل! إنّ الله أمرني بأمرٍ، أتعينني عليه؟ قال: أعينك عليه، قال: أمرني أن أبني ها هنا بيتًا، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجر، وهما يقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
ثمَّ لمَّا فرغ من بناء الكعبة قيل له: أَذِّنْ في الناس بالحج، فقال: أنادي وأنا بين الجبال! ولم يحضرني أحدٌ! فقال الله: عليك النداء، وعليَّ البلاغ، فصعد أَبَا قُبيسٍ، وصعد هذا الحجر، وكان قد خُبىءَ في أبي قُبيسٍ أيامَ الطوفان، فارتفع هذا الحجر حتى علا كُلَّ حجر في الدنيا، وجمع الله له الأرض كالسفرة، فنادى: يا معشر المسلمين! إنّ ربّكم بنى لكم بيتًا، وأمركم أن تحجُّوه، فأجابه الناس من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات، فمن أجابه مرّةً حجَّ مرة ومن أجابه عشرًا حج عشرًا. وفي الحديث:"إنَّ الركنَ والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا مماسة أيدي المشركين لأضاءتا. ما بَيْنَ المشرقِ والمغربِ" والمرادُ منهما: الحجر الأسود والحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت.
{و} اذكر يا محمد! لأمّتك قصّة إذ {عهدنا} وأوصينا {إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} وأمرناهما بـ {أن} أسِّسا بيتي على التقوى و {طَهِّرَا بَيْتِيَ} من الأوثان والأنجاس كُلِّها؛ يعني: الكعبة وأضافه إليه؛ تشريفًا له؛ أي: عهدنا إليهما، وأمرناهما أمرًا مؤكَّدًا، ووصَّينا إليهما، فإنَّ العهد قد يكون بمعنى الأمر والوصيّة، يقال: عهد إليه؛ أي: أمره ووصَّاه، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} وسمَّاه بيته؛ لأنّه جعله معبدًا للعبادة الصحيحة، وأمر المُصلِّين بأن يتوجَّهُوا إليها، وفي إبراهيم (1) سبع لغات: أشهرها إبراهيم بألفٍ وياءٍ، وإبراهام بألفين، والثالثة: إبراهم بألف بعد الراء وكسر الهاء دون ياء، الرابعة: كذلك إلّا أنّه بفتح الهاء، والخامسة: كذلك إلّا أنّه بضمّ الهاء، السادسة: أبْرَهَم بفتح الهاء
(1) الفتوحات.
من غير ألف وياء، السابعة: أبراهوم بالواو. اهـ. "سمين". وإسماعيل: اسم أعجمي، وفيه لغتان: اللام والنون، ويجمع على سماعلة، وسماعيل، وأساميع، ومن أغرب ما نقل في تسميته: أنَّ إبراهيم لما دعا الله تعالى أن يرزقه ولدًا، كان يقول في دعائه: اسمع إيل! اسمع إيل! وإيل: اسم الله تعالى بالسريانية، فلمَّا ولد سمَّاه بذلك؛ أي: أمرناهما، وألزمناهما، وأوجبنا عليهما أن طهِّرا بيتي؛ أي: أن أسساه وابنياه على التوحيد، وطهِّراه من الأوثان والأنجاس، وعن كُلِّ ما لا يليق به من كُلِّ رجسٍ حسيٍّ ومعنوي، كاللغو، والرَّفث، والتنازع فيه حين أداء العبادات، كالطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والعكوف فيه، وكالشرك، والرياء، والسمعة، إلى غير ذلك، والمراد: احفظاه من أن ينصب حوله شيءٌ منها، وأقراه على طهارته، وإلّا لم يكن هناك إذ ذاك أوثانٌ عند البيت حتى يطهَّر منها، ونظيره قوله تعالى:{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} فإنّهنّ لم يُطهَّرن من نجس، بل خلقهن طاهراتٍ، كقولك للخياط: وسِّع كم القميص، فإنّك لا تريد أن تقول: أزل ما فيه من الضِّيق، بل المراد: اصنعه ابتداءً واسع الكمّ.
والحكمة في جعل الله سبحانه معبدًا لعباده، وهو هذا البيت؛ لأنَّ الخلق في حاجةٍ إلى التوجّه إلى خالقهم بشكر، والثناء عليه، والتوسّل إليه لاستمداد رحمته، ومعونته، وهم يعجزون عن التوجه إلى موجودٍ غيبيٍّ، لا يتقيَّد بمكان، ولا ينحصر في جهة، فعيَّن لهم مكانًا نسبه إليه رمزًا إلى أنَّ ذاته المقدَّسة تحضره والحضور الحقيقيُّ مَحالٌ عليه، فالمراد: أنَّ رحمته الإلهية تحضره، ومن ثمَّ كان التوجُّه إلى هذا المكان، كالتوجُّه إلى تلك الذات العليَّة لو وجد العبد إلى ذلك سبيلًا، وانظر حكمة تخصيص هذه البقعة من بين بقاع الأرض باتخاذه معبدًا، فإنَّه من الذخائر المدفونة في قلوب خواص عباده.
{لِلطَّائِفِينَ} ؛ أي: للزائرين الدائرين حوله {وَالْعَاكِفِينَ} ؛ أي: المقيمين عنده، والمعتكفين فيه؛ أي: المجاورين الذين عكفوا عنده؛ أي: أقاموا عنده لا يرجعون، ولا يذهبون، ولا يرتحلون منه، وهذا في أهل الحرم، والأول؛ أعني: الطائفين في الغرباء القادمين إلى مكة للزيارة والطواف، وإن كان الطواف لا