الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشقّ الثاني؛ أعني: أصحاب الجنّة؛ إيذانًا بتسبُّب الخلود في النار عن الشرك، وعدم تسبّب الخلود في الجنّة عن الإيمان، بل بمحض فضل الله تعالى.
83
- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} في التوراة، والميثاق: العهد المؤكَّد باليمين، وهو قسمان: عهد خلقة وفطرةٍ، وعهد نبوّةٍ ورسالةٍ، وهو المراد هنا، وهذا العهد أخذ عليهم وجعل على لسان موسى، وغيره من أنبيائهم. قال أبو السعود: وهذا شروع في تعداد بعضٍ آخر من قبائح أسلاف بني إسرائيل، بما ينادي بعدم إيمان أخلافهم. وكلمة {إِذْ} نصبت بإضمار فعل خوطب به اليهود الموجودون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ توبيخًا لهم بسوء صنيع أسلافهم، تقديره: واذكروا يا بني إسرائيل! الموجودين في عهد محمد صلى الله عليه وسلم إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل الموجودين في زمن موسى عليه السلام، الذين هم أسلافكم وأصولكم، أو خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون؛ ليؤدِّيهم التأمُّل في أحوالهم إلى قطع الطمع في إيمان أخلافهم؛ لأنَّ قبائح أسلافهم ممَّا يؤدِّي إلى عدم إيمانهم، ولا تلد الحيّة إلّا الحيَّة، ومن ها هنا قل: إذا طاب أصل المرء طابت فروعه؛ أي: واذكروا يا أيها الرسول والمؤمنون! حين جعلنا عليهم الميثاق.
ثم بيَّن الميثاق، فقال:{لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} سبحانه وتعالى؛ أي: بأن لا تعبدوا إلّا الله تعالى، ولا تشركوا به شيئًا؛ أي: فاعبدوه دون غيره؛ لأنّه المستحقّ للعبادة، فلمّا أسقط (أن) رفع تعبدون لزوال الناصب، أو على أن يكون إخبارًا بمعنى النهي؛ أي: لا تعبدوا إلّا الله، ولا تجعلوا الألُوهيَّة إلّا لله، كأنَّ المخاطب سيمتثل النهي حتمًا، ويسارع إلى الترك، فيخبر به الناهي، وقيل: إنّه جواب قسم دلَّ عليه المعنى، كأنَّه قيل: واستحلفناهم، أو قلنا بالله لا تعبدون إلّا الله، وقد نهوا عن عبادتهم غير الله تعالى، مع أنّهم كانوا يعبدون الله خوفًا من أن يشركوا به سواه، من ملك، أو بشر، أو صنم بدعاء، أو غيره من أنواع العبادات، ودين الله على ألسنة الرسل جميعًا، فيه الحثُّ على عبادة الله وعدم
الشرك بعبادة أحد سواه {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ، فالتوحيد عماده الأمران معًا، وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه. وقرأ نافع (1)، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف العاشر، بالتاء؛ حكايةً لما خوطبوا به. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالياء على الغيبة؛ لأنَّ (2) بني إسرائيل اسم ظاهر، والأسماء الظاهرة من قبيل الغيب، ومعناه: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا يعبدوا، فلمَّا حذفت أن رفع الفعل، كما مرّ.
وقرأ عبدُ الله، وأُبيٌّ:{لا تعبدوا} بصريح النهي، وهذه قراءة شاذة، {و} تحسنون {بالوالدين إحسانًا} على لفظ تعبدون؛ لأنّه إخبارٌ، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانًا على معناه؛ لأنّه إنشاءٌ؛ أي: وأحسنوا بالوالدين، وإنْ عَلَيا إحسانًا كثيرًا؛ أي (3): برًّا، وعطفًا، ورحمةً لهما، ونزولًا عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى، ويوصل إليهما ما يحتاجان إليه ولا يؤذيهما ألبتة، وإن كانا كافرين، بل يجب عليه الإحسان إليهما، ومن الإحسان إليهما. أن يدعوهما إلى الإيمان بالرفق واللين، وكذا إن كانا فاسقين، يأمرهما بالمعروف بالرفق واللين من غير عُنْفٍ.
وإنّما عطف (4) برّ الوالدين على الأمر بعبادة الله تعالى؛ لأنَّ شكر المنعم واجبٌ، ولله على عبده أعظم النعم؛ لأنّه أوجده بعد العدم، فيجب تقديم شكره على شكر غيره، ثُمَّ إنّ للوالدين على الولد نعمةً عظيمة؛ لأنّهما السبب في وجوده، ولهما عليه حقُّ التربية أيضًا، فحقُّهما يلي حقّ المنعم بالوجود الحقيقيِّ. وقد جاء في التوراة: أنَّ من يسبَّ والديه يقتل. والحكمة في البرّ بهما: أنّهما قد بذلا للولد وهو صغير كُلَّ عنايةٍ وعطفٍ، بتربيته، والقيام بشؤونه حين كان عاجزًا
(1) البيضاوي.
(2)
النسفي.
(3)
الخازن.
(4)
جمل.
ضعيفًا لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، مع الشفقة التي لا مزيد عليها، أفلا يجب عليه بعدئذٍ مكافأتهما جزاءً وفاقًا لما صنعا؟! {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} .
ولِحُبِّ الوالدين لولدهما أسبابٌ:
1 -
الحنان الفِطريُّ الذي أودعه الله فيهما، إتمامًا لحكمته في بقاء الأنواع إلى الأمد الذي قدَّره في سابق علمه.
2 -
التفاخر بالأبناء، كما قال ابن الروميِّ:
وَكَمْ أبٍ قَدْ عَلَا بابْنٍ ذُرَى شَرَفِ
…
كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ الله عَدْنَانُ
3 -
الأمل في الاستفادة منهما مالًا وعوْنًا على المعيشة، وهذا الحبُّ لا يحتاج إلى ما يُقَرِّبُهْ، ويُوثِقُ صلته، ومن ثَمَّ ترك القرآن النصَّ عليه {و} أحسنوا بـ {ـذي القربى} أو وتحسنون بـ {ـذي القربى}؛ أي: بصاحب القرابة لكم، والقربى مصدر، كالرُّجعى بمعنى القرابة، بأن تصلوا رحمه، وتعرفوا حقَّه؛ لأنَّ الإحسان إليهم ممَّا يُقوِّي الروابط بينهم.
أحسن إلى الناسِ تَسْتَعْبِد قُلُوبهم
…
فَطالمَا اسْتَعْبَدَ الإنْسَانَ إحسانُ
فما الأُمةُ إلّا مجموعة الأُسَر والبُيوت، فصلاحُهَا بصلاحها، وفسادها بفسادها، ومن لا بيت له لا أمُّة له، ومَنْ قطع لُحمة النَّسب، فكيف يصل ما دونها؟ وكيف يكون جُزْءًا من الأمّة؟ يسرُّه ما يسرُّها، ويؤلمه ما يؤلمها، ويرى في منفعتها منفعته، وفي مضرّتها مضرَّته.
ونظام الفطرة (1) قاضٍ بأنَّ صلة القرابة أَمْتَنُ الصِلات، وجاء الدين حاثًّا عليها، مؤكِّدًا لأوَاصِرها، مقوِّيًا لأركانها، مقدِّمًا لحقوقها على سائر الحقوق بحسب درجات القرابة، وعَطَف على برِّ الوالدين بر ذوي القربى؛ لأنَّ حقَّ القرابة تابعٌ لحقّ الوالدين، والإحسان إليهم إنّما هو بواسطة الوالدين {و} أحسنوا بـ {اليتامى} أو وتحسنون إلى {اليتامى} ، بأن (2) تتعطَّفوا عليهم بالرأفة والرحمة
(1) المراغي.
(2)
العمدة.
ذكورًا كانوا أو إناثًا، جمع يتيم، كنديمٍ وندامى، واليتيم من الآدميين: من فقد أباه، ومِن غيرهم من فقد أُمَّه وهو صغيرٌ، فإذا بلغ الحلم زال عنه اليُتْمُ، فالإحسانُ إلى اليتيم بحسن تربيته، وحفظ حقوقه من الضياع، والكتابُ والسنة مليئان بالوصيّة به، وحسبك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا وكافل اليتيم كهاتين" وأشار بالسَّبابة والوسطى، ويجب رعاية حقوق اليتيم لثلاثة أمورٍ: لصغره، ويتمه، ولخلوِّه عمَّن يقوم بمصلحته، إذ لا يقدر هو أن ينتفع بنفسه، ولا يقوم بحوائجه.
والحكمة في وجوب الإحسان إلى اليتيم: أنّه لا يجد في الغالب من تبعثه العاطفة على تربيته، والقيام بشؤونه، وحفظ أمواله، والأُمُّ وإن وُجدت، تكون في الغالب عاجزةً عن تنشئته وتربيته التربيةَ المُثْلى، إلى أنَّ الأيتام أعضاءٌ في جسم الأُمة، فإذا فسدت أخلاقهم، وساءت أحوالهم، تسرَّب الفساد إلى الأُمَّة جمعاء، إذ يُصْبِحُون قُدْوةً سيّئةً بينَ نَشئْها، فيدِبُّ فيها الفساد، ويتطرَّقُ إليها الانحلال، وتأَخذ في الفناء {و} أحسنوا بـ {المساكين} أو وتحسنون إلى {المساكين} المتذلِّلين من الفاقة والحاجة، وعجزوا عن الكسب بأن تُواسوهم، وتؤتوهم حقوقَهم التي فُرض لهم في أموالكم، جمع مسكين بوزن مفعيل من السكون، كأنَّ الفقر أسكنه عن الحراك؛ أي: الحركة، وأثقله عن التقلّب، والمراد بهم (1): ما يشمل الفقراء، فإنّ الفقير والمسكين متى اجتمعا افترقا، ومتى افترقا اجتمعا، وإنّما تأخَّرت درجة المساكين عن اليتامى؛ لأنّه قد يُمْكِن أن ينتفع بنفسه، وينفع غيره بالخدمة، بخلاف اليتيم، فإنّ الصغر مانعٌ له من ذلك، والحاصل: أن الإحسان إلى المساكين يكون بالصدقة عليهم، ومواساتهم حين البأس والضراء. روى مسلم، عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله" وأحسبه قال: "وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر"{و} قلنا لهم {قولوا للناس} عمومًا قولًا {حُسْنًا} ونَحْوُه الحديثُ: "وخالق الناس بخلق حسن" وسمَّاه حسنًا بفتحتين مبالغةً، لفرط حسنه؛ أي: هو حسنٌ في
(1) العمدة.
نفسه، وأمر سبحانه بالإحسان بالمال في حقِّ أقوامٍ مخصوصين، وهم الوالدان، والأقرباء، واليتامى، والمساكين، ولمَّا كان (1) المال لا يسع الكُلَّ، أمر بمعاملة الناس كلهم بالقول الجميل الذي لا يعجز عنه العاقل؛ يعني: وألينوا لهم القول بحسن المعاشرة وحسن الخلق، ومروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، إن كان المراد بالمخاطبين الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، كما هو الظاهر، والقول الحسن: هو الذي يحصل انتفاعهم به.
وقيل المعنى: قولوا للناس صدقًا وحقًّا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، فمن سألكم عنه فاصدقوه وبيِّنوا صفته، ولا تكتموها، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما إن كان الخطاب للحاضرين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي القيام بهذه الفرائض إصلاحٌ لحال المجتمع، وسعيٌ في رُقيِّه وتقدُّمه حتى يبلغ ذروة المجد والشرف. وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب (2):{حَسَنًا} بفتحتين على أنّه صفة مشبهة لمصدر محذوف، تقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا. وقرأ الباقون: {حُسْنًا} بضمّ الحاء وسكون السين على أنّه مصدر وصف به مبالغةً. وقرأ عطاء بن أبي رباح، وعيسى بن عمر:{حُسُنًا} بضمّهما، فضمّة السين اتباع بضمّة الحاء، وهي قراءة شاذة. وقرأ أبي، وطلحة بن مصرف:{حُسْنَى} على وزن فُعْلى على أنّه مصدر كالرُّجْعَى، والعُقْبَى، والبشرى. وقرأ الجحدريّ:{إحسانًا} على أنّه نعت لمصدر محذوف؛ أي: قولًا إحسانًا، وإحسانًا مصدرٌ من أحسن الذي همزته للصيرورة؛ أي: قولًا ذا حسنٍ، كما تقول أعشبت الأرض إعشابًا؛ أي: صارت ذات عُشْبٍ.
وبعد أن أمرهم سبحانه بعبادته وحده على سبيل الإجمال، فصَّل بعضًا من ذلك ممَّا لا يُهتدى إليه إلّا بهُدًى إلهيّ، ووحيٍ سماويٍّ، فقال:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ؛ أي: أدّوا الصلاة التي فرضت عليكم في ملتكم وشريعتكم، فقبلتم
(1) روح البيان.
(2)
البحر المحيط بتصرف.
الميثاق المذكور إن كان الخطاب مع الأسلاف، كما هو ظاهر السياق، أو أدّوا الصلاة المفروضة كاملةً بالركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، إن كان الخطاب مع الحاضرين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر الصلاة والزكاة مع دخولهما في عموم العبادة المذكور أوّلًا، من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ؛ إظهارًا لمزيته وفضله على غيره؛ لأنَّ الصلاة أفضل عبادات البدن، والزكاة أفضل عبادات المال؛ لأنّ الصلاة هي التي تصلح النفوس، وتنقّيها من أدران الرذائل، وتحلِّيها بأنواع الفضائل، وروحها هو الإخلاص لله، والخشوع لعظمته وسلطانه، فإن فقدته كانت صورًا ورسومًا لا تغني فتيلًا، وهم ما تولَّوا ولا أعرضوا عن تلك الصُّور والرسوم إلى عصر التنزيل {وَآتُوا الزَّكَاةَ}؛ أي: وأعطوا الزكاة المفروضة عليكم في ملّتكم، أو ادفعوا زكاة أموالكم إلى المُسْتَحقّين؛ لما (1) في الزكاة من إصلاح شؤون المجتمع، وقد كان لهم ضروبٌ من الزكاة:
منها: مالٌ خاصٌّ يؤدَّى لآل هارون، وهو إلى الآن في اللَّاوِيِّين - سبطٌ من أسباطهم -.
ومنها: مالٌ للمساكين.
ومنها: ما يؤخذ من ثمرات الأرض.
ومنها: سَبْتُ الأرض، وهو تركها في كلِّ سبع سنين مرَّةً بلا حرث ولا زرعٍ، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقةٌ.
ولمَّا أمرهم الله تعالى بهذه التكاليف الثمانية لتكون لهم المنزلة عنده بما التزموا به، أخبر عنهم أنّهم ما وَفَوا بذلك بقوله:{ثُمَّ} بعدما قبلتم الميثاق أوّلًا {تَوَلَّيْتُمْ} وأعرضتم، ورفضتموه {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ}؛ أي: إلّا قليلًا من أسلافكم، وهم الذين أقاموا اليهوديَّة على طريقتها قبل النسخ، أو من أخلافكم،
(1) المراغي.
وهم الذين آمنوا منهم، كعبد الله بن سلام وأضرابه، فإنّهم وفوا بالعهد فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورُوي عن أبي عمرو أنّه قرأ {إلا قليلٌ} بالرفع. وقرأ بذلك أيضًا قومٌ، قال ابن عطية: وهذا على إبدال قليلٌ من الضمير في تولّيتم. اهـ. من "البحر" تلخيصه: أخذنا عهدكم يا بني إسرائيل! بجميع المذكور، فقبلتم وأقبلتم عليه، ثمّ أعرضتم عن المُضِيِّ على مقتضى الميثاق ورفضتموه، إلّا قليلًا من أسلافكم وأخلافكم {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} عمّا عهد إليكم، كأوائلكم، وهذا خطابٌ للفروع؛ أي: أنتم مكذّبون للحقِّ والهدى، وتاركون له حيث أتاكم به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وهذه (1) الجملة مؤكّدة لعاملها؛ لأنَّ توليتم يغني عنه. وقيل المعنى؛ تولَّيتم بأبدانكم وأنتم معرضون بقلوبكم، فعلى هذا فهي حال منتقلة.
وقيل هذه الجملة: تذييليَّةٌ (2)؛ أي: وأنتم قومٌ عادتكم الإعراض عن الطاعة، ومراعاة حقوق الميثاق، وليس الواو للحال؛ لاتحاد التولِّي والإعراض، فالجملة اعتراضٌ؛ للتأكيد في التوبيخ، وأصل الإعراض: الذهاب عن المواجهة، والإقبال إلى جانب العرض. وعبارة المراغي: وفي قوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} مبالغةٌ (3) في الترك المستفاد من التولّي؛ لأنّ الإنسان قد يتولَّى عن شيء وهو عازمٌ على أن يعود إليه، ويؤدِّي ما يجب عليه، فليس كُلُّ من تولَّى عن شيء يكون معرضًا عنه، وقد كان من تولّيهم وإعراضهم، أن تخذوا الأحبار والرهبان أربابًا مشرِّعين، يُحِلُّون، ويحرّمون، ويبيحون، ويحظرون، ويزيدون، ما شاءوا من الشعائر والمناسك الدينيَّة، فكأنّهم شركاء لله، يشرِّعون لهم ما لم يأذن به الله، كما كان من توّليهم أن بخلوا بالمال في الواجبات الدينيَّة، كالنفقة على ذوي القربى، وأداء الزكاة، وتركوا النهي عن المنكر، إلى نحو ذلك بما يدل على الاستهتار بأمور الدين.
وفائدة ذكر قوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} ؛ إفادة عدم بخس العاملين حقَّهم،
(1) عكبري.
(2)
روح البيان.
(3)
المراغي.
والإشادة بذكرهم، والإشارة إلى أنَّ وجود القليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد، وعمَّ البلاء، وقد جرت سنّة الله، بأنَّ بقاء الأمة عزيزةً مرهوبة الجانب ذات سطوة وبأسٍ، إنّما يكون بمحافظة السواد الأعظم فيها على الأخلاق الفاضلة، والدأب على العمل الذي به تستحقُّ العزَّ والشرف. بعد هذا (1)، لا عجب فيما ترى من حلول الكرب والبلاء بالمسلمين، الذين فتنوا في دينهم ودنياهم، وهم غافلون لاهون لا يعتبرون، ولا يذكرون.
فصلٌ فيما يتعلَّق بهذه الآية
واعلم: أنَّ في هذه الآية عدَّة أشياء (2):
منها: العبادة، فمِنْ شَرْط العُبودية: تفَرُّد العبد لعبادة المعبود، وتجرُّده عن كل مقصود، فمن لاحظ خلقًا، أو استحلى ثناءً، أو استجلب بطاعته إلى نفسه حظًّا من حظوظ الدنيا والآخرة، أو داخله بوجهٍ من الوجوه مزجٌ، أو شوبٌ، فهو ساقطٌ عن مرتبة الإخلاص برؤية نفسه.
ومنها: الإحسان إلى الوالدين، وقد عظَّم الله حقَّ الوالدين، حيث قرن حقَّه بحقّهما في آياتٍ من القرآن؛ لأنَّ النَّشْأة الأولى من عند الله سبحانه، والنشأة الثانية وهي التربية من جهة الوالدين، ويقال: ثلاث آيات أنزلت مقرونةً بثلاث آيات، ولا تقبل إحداها بغير قرينتها إحداها، قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} والثانية: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} والثالثة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، والامتثال إلى أمرهما، وصلة أهل وُدِّهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما. وفي "التأويلات النجمية": إنّ في قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إشارةٌ إلى أنَّ أعزَّ الخلق على الولد والداه، لأجل أنَّهما سُدَا وجوده في الظاهر، ولكن ينبغي أن يحسن
(1) المراغي.
(2)
روح البيان.
إليهما بعد خروجه من عهدة عبودّية ربّه، إذ هو موجد وجوده، ووجود والديه في الحقيقة، ولا يختار على أداء عبوديّته إحسان والديه، فكيف الالتفات لغيرهما، وفي الحديث:"ما قعد يتيمٌ مع قوم على قصعتهم، فلا يقرب قصعتهم الشيطان"، وفي الحديث أيضًا:"مَنْ ضمَّ يتيمًا من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله سبحانه، غفرت له ذنوبه ألبتة، إلّا أن يعمل عملًا لا يغفر، ومن أذهب الله كريمته، فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه" قالوا: وما كريمته؟ قال: "عيناه"، ومن كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، فأنفق عليهنّ، وأحسن إليهنّ حتى يكبرن، أو يمتن، غفرت له ذنوبه ألبتةَ، إلّا أن يعمل ما لا يغفر، فناداه رجل من الأعراب ممَّن هاجر، فقال: يا رسول الله! أو اثنتان، فقال صلى الله عليه وسلم:"أو اثنتان".
وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة". وأشار بالسبابة والوسطى، والسبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهليّة تدعى بالسبَّابة؛ لأنّهم كانوا يسبُّون بها، فلما جاء الله بالإِسلام كرهوا هذا الاسم، فسمَّوها بالمشيرة؛ لأنّهم كانوا يشيرون بها إلى الله بالتوحيد، والمُشيرة من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثمّ البنصر أقصر من الوسطى، فقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا وهو كهاتين في الجنة" وقوله في الحديث الآخر: "أُحْشر أنا، وأبو بكر، وعمر يوم القيامة هكذا". وأشار بأصابعه الثلاث، فإنّما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق، فقال: نحشر هكذا، ونحن مشرفون، وكذلك كافل اليتيم يكون له منزلةٌ رفيعةٌ، فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل تأويل الحديث على الانضمام، واقتراب - بعضهم من بعض في محل القربة، وهذا معنى بعيد؛ لأنّ منازل الأنبياء، والمرسلين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين، مراتب متباينة، ومنازل مختلفةٌ. كذا في "تفسير القرطبي".
ومنها: البِرُّ إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وذلَّلتهم، وهذا يتضمَّن الحضَّ على الصدقة، والمواساة، وتفقد أحوال المساكين والضعفاء، وفي الحديث:"السَّاعي على الأرملة والمساكين، كالمجاهد في سبيل الله" وكان طاووسٌ يرى السعي على الأخوات، أفضل من الجهاد في سبيل الله.
ومنها: القول الحسن، ولمّا خرج العبد من عهدة حقِّ العبوديّة، وعمت رحمته وشفقته الوالدين، وغيرهما، لَزِمَ له أن يقول للناس حسنًا، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الله تعالى، ويهديهم إلى طريق الحقِّ، ويخالقهم بحسن الخلق، وأن يكون قوله ليّنًا، ووجهه منبسطًا طلقًا مع البر والفاجر، والسُنِّيِّ والمبتدع، من غير مداهنةٍ، ومن غير أن يتكلَّم معه بكلام يُظَنُّ أنَّه يرضى مذهبه؛ لأنَّ الله تعالى قال لموسى وهارون عليهما السلام:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} فليس بأفضل من موسى وهارون عليهما السلام، والفاجر ليس بأخسّ من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه، فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى، فكيف بالمبتدع.
الإعراب
{أَفَتَطْمَعُونَ} الهمزة فيه للاستفهام الاستبعاديّ، وتدخل على ثلاثة من حروف العطف، الفاءُ كما هنا، والواو كقوله الآتي:{أَوَلَا يَعْلَمُونَ} ، وثُمَّ كقوله:{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} . واختلف في مثل هذه التراكيب بين الجمهور والزمخشري، فذهب الجمهور: إلى أنّ الهمزة مقدّمة من تأخير؛ لأنّ لها الصدر، ولا حذف في الكلام، والفاء زائدة عندهم، والتقدير:
…
(أتَطُمْعَوُن) و (أَلَا يعلمون)، و (ثُمَّ إذا ما وقع). وذهب الزمخشري: إلى أنها داخلة على محذوف دلَّ عليه سياق الكلام، والتقدير هنا: أتسمعون أخبارهم، وتعلمون أحوالهم، فتطمعون في إيمانهم. انتهى من "أبي السعود". {أَفَتَطْمَعُونَ} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاريِّ، المضمّن للنهي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف؛ أي: أتسمعون، وتعلمون أحوالهم فتطمعون {تطمعون} فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة على كونها إنشائيّة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمعنى: لا تطمعوا في إيمان هؤلاء العتاة الجفاة القاسية قلوبهم، {أَن} حرف نصب ومصدر {يُؤمِنُوا} فعل وفاعل منصوب
بأن المصدريّة {لَكُمْ} جاز ومجرور متعلّق بيؤمنوا على تضمينه معنى الانقياد، أو اللام زائدة، والكاف في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المصدريّة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جَرٍّ محذوف متعلّق يتطمعون، تقديره: أفتطمعون في إيمانهم إيّاكم؛ أي: لا تطمعوا في ذلك فإنّه بعيد عقلًا {وَقَدْ} الواو حالية {قَدْ} حرف تحقيق {كَانَ فَرِيقٌ} فعل ناقص واسمه {مِنهُمْ} وجارّ ومجرور صفة لفريق {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب خبر كان، وجملة كان في محل النصب حال من الواو في {يُؤْمِنُوا} ، تقديره: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم حالة كون فريق منهم سامعين كلام الله {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {يُحَرِّفُونَهُ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة يسمعون على كونها خبر لكان، تقديره: ثمّ محرّفين إيّاه {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور متعلّق بيحرّفون، و {مَا} مصدريّة {عَقَلُوهُ} فعل وفاعل ومفعول به، وضمير المفعول في {عَقَلُوهُ} عائد إلى كلام الله، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدريّة. و {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد عقلهم وفهمهم إياه؛ أي: كلام الله، ويجوز أن تكون موصولًا اسميًّا في محل الجرّ بإضافة الظرف إليه، وجملة {عَقَلُوهُ} صلة لها، والعائد ضمير {عَقَلُوهُ}؛ أي: يحرّفون الكلام من بعد المعنى الذي عقلوه وعرفوه، وفهموه {وَهُمْ} الواو حالية {هم} مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُونَ} خبر المبتدأ، ومفعول العلم محذوف، تقديره: وهم عالمون أنّهم مبطلون، والجملة الإسمية حال من الواو، في يحرّفون؛ تقديره: ثمّ يحرّفونه حالة كونهم عالمين أنّهم مبطلون معاندون.
{وَإِذَا لَقُوا} الواو استئنافية أو عاطفة {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلّق بالجواب الآتي {لَقُوا الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجرّ مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا
محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة، أو في محل النصب معطوفة على جملة قوله:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} والتقدير: كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت. {آمَنَّا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لقالوا {وَإِذَا} الواو عاطفة {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان متعلّق بالجواب الآتي {خَلَا بَعْضُهُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجرّ مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها {إِلَى بَعْضٍ} جار ومجرور متعلق بخلا {قَالُوا} فعل وفاعل جواب {إذا} ، وجملة {إذا} معطوفة على جملة قوله:{وَإِذَا لَقُوا} على كونها مستأنفة، أو حالًا {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} الهمزة، للاستفهام الإنكاري، {تُحَدِّثُونَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول قالوا. {بِمَا} (الباء) حرف جر {مَا} اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل الجر بالباء، والجار والمجرور متعلّق بتحدثونهم {فَتَحَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، أو صفة للموصوفة، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: فتحه الله. {عَلَيْكُمْ} جار ومجرور متعلق بفتح {لِيُحَاجُّوكُمْ} اللام حرف جرّ وتعليل. {يحاجوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا، بعد لام كي، والكاف مفعول به {بِهِ} جار ومجرور متعلق بيحاجوكم {عِنْدَ رَبِّكُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بيحاجوا، والجملة الفعلية صلة أنّ المصدرية، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم لمحاججتهم إيّاكم به عند ربّكم يوم القيامة، واللام متعلقة بتحدثونهم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الهمزة للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف {لَا} نافية {تَعْقِلُونَ} فعل وفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: أنّ ذلك يكون عليكم حجّة لهم عند ربّكم، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أتغفلون عن ذلك فلا تعقلونه، والجملة المحذوفة مع المعطوفة في محل النصب مقول قالوا.
{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)} .
{أَوَلَا} الهمزة للاستفهام التقريريّ المضمّن للتوبيخ داخلة على محذوف، والاستفهام التقريري: هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقرّ عنده ثبوته، مع التوبيخ والتقريع له، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره:
أيلومونهم على التحديث بما ذكر ولا يعلمون. الخ، والجملة المحذوفة مستأنفة {لا} نافية {يَعْلَمُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُ} من الفعل والفاعل المستتر في محل الرفع خبر أنّ، تقديره: أنّ الله عالم، وجملة أنّ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي يعلمون إن كانت يقينيّة، أو مسدّ مفعول يعلمون إن كانت عرفانية، تقديره: أو لا يعرفون علم الله ما يسرّون وما يعلنون {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول يعلم، أو مصدريّة {يُسِرُّونَ} فعل وفاعل صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: أنّ الله يعلم الأمر الذي يسرّونه في قلوبهم، أو صلة لما المصدرية، تقديره: أنّ الله يعلم إسرارهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} معطوف على ما يسرّون، يجري فيه ما جرى فيه من أوجه الإعراب.
{وَمِنْهُمْ} الواو عاطفة أو استئنافية منهم جار ومجرور خبر مقدّم {أُمِّيُّونَ} مبتدأ مؤخّر مرفوع بالواو؛ لأنّه جمع مذكر سالم، تقديره: وأمّيون كائنون منهم، والجملة الإسمية مستأنفة، أو في محل النصب على الحالية معطوفة على جملة قوله:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} وقال أبو السعود: هذه الجملة معطوفة على الجمل الثلاث الحالية؛ لمشاركتها لهنّ، فإنّ مضمونها مناف لرجاء الخير منهم، وإن لم يكن فيها ما يحسم مادة الطمع في إيمانهم، كما هو مضمون الجمل الثلاث، فإن الجهل بالكتاب في منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريف كلام الله تعالى، ولا بمثابة النفاق، ولا بمثابة النهي عن إظهار ما في التوراة. اهـ. {لَا} نافية {يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع صفة لأمّيون، تقديره: ومنهم أمّيون عادمون علم الكتاب {إلّا} أداة استثناء منقطع بمعنى لكن {أَمَانِيَّ} منصوب على الاستثناء، ولكن بعامل محذوف، تقديره: لكن يعتقدون أماني، كما أشار إليه البيضاوي في "الحلّ"، ولا يصحّ نصبه بيعلمون؛ لأنّ إدراك الأماني؛ أي: الأكاذيب لي علمًا، بل هو جهل مركّب، أو اعتقاد ناشيء عن تقليد. اهـ. "جمل". {وَإِنْ} والواو استئنافية، أو حالية {إِنْ} نافية لا عمل لها عند الجمهور؛
لانتقاض نفيها بإلّا، وعاملة عمل ليس عند سيبويه مستدلًا بقول الشاعر:
إن هو مستوليًا على أحد
…
إلّا على أضعف المجانين
{هُمْ} مبتدأ عند الجمهور، واسم {إِن} نافية عند سيبويه، {إلّا} أداة استثناء مفرّغ {يَظُنُّونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ عند الجمهور، أو في محل النصب خبر {إِنْ} النافية، وحذف مفعولي ظنّ؛ للعلم بهما، أو اقتصارًا، والتقدير: وما هم إلّا ظانون أكاذيب باطلة لا أصل لها، أو ما هم إلّا ظانّين أكاذيب باطلة، والجملة الاسمية مستأنفة، أو حال من الواو في قوله:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} تقديره: ومنهم أمّيون لا يعلمون الكتاب حالة كونهم ظانّين ومعتقدين أكاذيب باطلة.
{فَوَيْلٌ} الفاء استئنافية، أو فصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا عرفت هؤلاء اليهود يسمعون كلام الله، ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه، وأردت بيان عاقبة من فعل ذلك، فأقول لك: ويل للذين يكتبون الكتاب {ويل} مبتدأ مرفوع، وسوّغ الابتداء بالنكرة ما فيه من معنى الدعاء {لِلَّذِينَ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول {بِأَيْدِيهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيكتبون {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {يَقُولُونَ} فعل وفاعل معطوف على {يَكْتُبُونَ} على كونه صلة الموصول {هَذَا} مبتدأ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلقّ بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ليقولون {لِيَشْتَرُوا} اللام حرف جرّ وتعليل {يشتروا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي {به} جار ومجرور متعلق بيشتروا {ثَمَنًا} مفعول به {قَلِيلًا} صفة لثمنا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لاشترائهم به ثمنًا قليلًا، الجار والمجرور
متعلق بيكتبون {فَوَيْلٌ} الفاء عاطفة كرّرها للتأكيد {ويل} مبتدأ {لَهُمْ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} {مِمَّا} جارّ ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر {كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما كتبته أيديهم {وَوَيْلٌ} الواو عاطفة {ويل} مبتدأ {لَهُمْ} خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على ما قبلها {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر {يَكْسِبُونَ} فعل وفاعل صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ممّا يكسبونه، ويصحّ أن تكون {مَا} مصدريّة في الموضعين، وإنّما كرّر الويل؛ ليفيد أنّ الهلاك مرتّب على كل واحد من الفعلين على حدته لا على مجموع الأمرين، وأخّر {يَكْسِبُونَ} ؛ لأن الكتابة مقدّمة، ونتيجتها كسب المال، فالكَتْب سبب، والكسب مسبب عنه، فجاء النظم على هذا الترتيب اهـ. "كرخي". وقال أبو السعود: قوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} تأكيد لقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} ومع ذلك فيه نوع مغايرة؛ لأن قوله: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} وقع تعليلًا، فهو مقصود، وقوله فيما سلف:{يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} وقع صلة، فهو غير مقصود، وقوله:{وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} الكلام فيه كالذي فيما قبله من جهة أنّ التكرير للتأكيد. انتهى.
{وَقَالُوا} الواو استئنافية {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {لَنْ} حرف نفي ونصب {تَمَسَّنَا} فعل مضارع ومفعول به منصوب بلن {النَّارُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا} . {إِلَّا} أداة استثناء مفرّغ {أَيَّامًا} منصوب على الظرفية الزمانيّة بالفعل المذكور قبله متعلق به، والتقدير: لن تمسّنا النار أبدًا إلّا في أيام قلائل يحصرها العدّ؛ لأنّ العدّ يحصر القليل {مَعْدُودَةً} صفة {أَيَّامًا} {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد صلى الله عليه وسلم،
والجملة الفعلية مستأنفة {أَتَّخَذْتُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لقل، وإن شئت قلت:{أَتَّخَذْتُمْ} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري مبنية على الفتح، وحذفت همزة الوصل المتصلة بالماضي الخماسي؛ لاستثقال اجتماع همزتين {أَتَّخَذْتُمْ} فعل وفاعل بمعنى جعلتم المتعدّية إلى مفعول واحد، كما في العكبري، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ} . {عِنْدَ اللَّهِ} ظرف ومضاف إليه متعلق باتخذ {عَهْدًا} مفعول به {فَلَنْ} الفاء رابطة لجواب شرط مقدّر وجوبًا لكونه مقرونًا بلن، تقديره: إن جعلتم عند الله عهدًا فلن يخلف الله عهده {لَنْ} حرف نفي ونصب واستقبال {يُخْلِفَ} فعل مضارع منصوب بلن {اللَّهُ} فاعل {عَهْدَهُ} ، مفعول به ومضاف إليه، والجملة من الفعل والفاعل في محل الجزم جواب للشرط المقدّر، وجملة الشرط المقدّر مع جوابه في محل النصب مقول لقل {أَمْ} حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام فهي متّصلة، أو منقطعة بمعنى بل التي للإضراب الانتقالي {تَقُولُونَ} فعل وفاعل مرفوع بالنون، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَتَّخَذْتُمْ} على كونها مقولًا لقل، أو في محل النصب مقول {قُلْ} . {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {تَقُولُونَ} {مَا} اسم موصول، والعائد محذوف، تقديره: ما لا تعلمونه، وعلم هنا بمعنى عرف يتعدّى لمفعول واحد {لا} نافية {تعلمون} فعل مضارع والواو فاعل والجملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول.
{بَلَى} حرف جواب يجاب بها النفي، فيصير إثباتًا بخلاف نعم، وجير، وأجل، وإيْ، فإنها لتقرير ما قبلها إثباتًا أو نفيًا {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أوّل، ويصحّ كونها شرطيّة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله {كَسَبَ} فعل ماض وفاعل مستتر صلة لمن الموصولة، أو في محل الجزم بمن الشرطيّة على كونها فعل شرط لها {سَيِّئَةً} مفعول به {وَأَحَاطَتْ} الواو عاطفة {أحاط} فعل ماض،
والتاء علامة تأنيث الفاعل {بِهِ} متعلق بأحاطت، {خَطِيئَتُهُ} فاعلٌ ومضافٌ إليه، والجملة معطوفة على جملة {كَسَبَ} على كونها صلةً لمن الموصولة، أو فعل شرطٍ لِمَنِ الشرطية {فَأُولَئِكَ} الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا لما في المبتدأ من العموم، لشبه الموصول بأسماء الشرط في الإبهام على كون {مَن} موصولة، أو رابطة الجواب بالشرط وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية على كون {مَن} شرطيّة {أُولَئِكَ} أولاء اسم إشارة يشار به للجمع المطلق في محل الرفع مبتدأ ثان، على كون {مَن} موصولة أو في محل الرفع مبتدأ، والكاف حرف قال على الخطاب {أَصْحَابُ} خبر للمبتدأ الثاني، أو خبر المبتدأ {النَّارِ} مضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول وخبره جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، على كون {مَن} موصولة، أو جملة {أُولَئِكَ} في محل الجزم بمن الشرطيّة على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطيّة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب {هُمْ} ضمير لجماعة الذكور الغائبين في محل الرفع مبتدأ {فِيهَا} متعلق بخالدون و {خَالِدُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من أصحاب النار، تقديره؛ حالة كونهم خالدين فيها {وَالَّذِينَ} الواو عاطفة، أو استئنافية، الذين مبتدأ أوّل {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا} {أُولَئِكَ} هو مبتدأ ثان {أَصْحَابُ} خبر له {الْجَنَّةِ} مضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول وخبره معطوفة على جملة قوله:{مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} على كونها جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} تقدم إعرابها.
{وَإِذْ} الواو عاطفة {إذْ} ظرفٌ لما مضى من الزمان في محل النصب معطوفة على {نِعْمَتِيَ} كالظروف السابقة {أَخَذْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل
الجرّ مضاف إليه لإذ، والتقدير: واذكروا - يا بني إسرائيل - حين أخذنا ميثاق أسلافكم. {مِيثَاقَ} مفعول به {بَنِي} مضاف إليه مجرور بالياء، وهو مضاف {إِسْرَائِيلَ} مضاف إليه مجرور بالفتحة {لَا} نافية {تَعْبُدُونَ} فعل وفاعل، والجملة جملة مفسّرة للميثاق لا محل لها من الإعراب {إِلَّا اللَّهَ} إِلَّا أداة استثناء ولفظ الجلالة مفعول به {وَبِالْوَالِدَيْنِ} الواو عاطفة {بِالْوَالِدَيْنِ} متعلق بمحذوف معطوف على جملة {لَا تَعْبُدُونَ} على كونها جملة مفسّرة، تقديره: وأحسنوا بالوالدين {إحْسَانًا} منصوبٌ على المفعولية المطلقة {وَذِي} الواو عاطفة ذي معطوف على الوالدين مجرور بالياء؛ لأنّه من الأسماء الستّة ذي مضاف {الْقُرْبَى} مضاف إليه {وَالْيَتَامَى} معطوف على الوالدين، وكذلك {وَالْمَسَاكِينِ} معطوف على الوالدين {وَقُولُوا} الواو عاطفة {قولوا} فعل أمر وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله:{لَا تَعْبُدُونَ} على كونها مفسّرة للميثاق {لِلنَّاسِ} متعلق بقولوا {حُسْنًا} منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنّه صفة لمصدر محذوف، تقديره: قولًا حسنًا {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على جملة {لَا تَعْبُدُونَ} {وَآتُوا الزَّكَاةَ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {تَعْبُدُونَ} {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {تَوَلَّيْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجرّ معطوفة على جملة قوله:{أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} على كونها مضافًا إليه لـ {إِذْ} ، أو معطوفة على محذوف، تقديره: فقبلتم الميثاق، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {أَخَذْنَا} {إِلَّا} أداة استثناء {قَلِيلًا} منصوب على الاستثناء {مِنْكُمْ} صفة لقليلًا، تقديره: قليلًا كائنًا منكم {وَأَنْتُمْ} الواو حالية {أنتم معرضون} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {تَوَلَّيْتُمْ} .
التصريف ومفردات اللغة
{أَفَتَطْمَعُونَ} الطمع: تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقًا قويًّا، وهو أشدّ من الرجاء؛ لأنّه لا يحدث إلّا عن قوّة رغبة، وشدّة إرادة، وإذا اشتدّ صار طمعًا، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء، يقال: طمع يطمع طمعًا وطماعة وطماعية مخفّفًا، كطواعية، كقول الشاعر:
طَمَاعِيَةَ أَنْ يَغْفِرَ الْذَنْبَ غَافِرُهُ
واسم الفاعل طَمِعٌ وطامعٌ، ويعدَّى بالهمزة، ويقال: طامعه مطامعةً، ويقال: طمُع بضم الميم كثر طمعه، وضِدُّ الطمع اليأس، قال كُثيِّرٌ:
لَا خَيْرَ في الحُبِّ وَقْفًا لا يُحرِّكُهُ
…
عَوَارِضُ اليَأْسِ أوْ يَرْتَاجُهُ الطَّمَعُ
ويقال: امرأةٌ مِطماعٌ؛ أي: تَطْمَعُ ولا تُمكِّنُ، وقد توسِّع في الطمع، فسمِّي به رزقُ الجند، يقال: أمر لهم الأمير بأطماعهم؛ أي: أرزاقهم وهو من وضع المصدر موضع المفعول. اهـ. "بحر".
{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} والفريق: اسم جمع لا واحد له من لفظه، كرهط، وقوم. اهـ. "سمين".
{يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} والكلام: هو القول الدالُّ على نسبةٍ إسناديَّةٍ مقصودةٍ لذاتها، ويطلق أيضًا على الكلمة، ويُعبَّر به أيضًا عن الخَطِّ والإشارة، وما يفهم من حال الشيء، وهل يطلق على المعاني القائمة بالذهن التي يعبّر عنها بالكلام في ذلك خلاف، {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} التحريف: إِمالة الشيء من حال إلى حال، والحرف الحدُّ المائل. {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} والتحديث: الإخبار عن حادث، ويقال منه: يُحدِّث، وأصله: من الحدوث، وأصل فعله أن يتعدَّى إلى واحد بنفسه، وإلى آخر بعن، وإلى ثالثٍ بالباء، فقال: حدثت زيدًا عن بكر بكذا، ثم إنه قد يضمَّن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدّية إلى اثنين، فيتعدَّى إلى ثلاثة، {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} والفتح: القضاء بلغة اليمن، ومنه الفتَّاح العليم والإِذْكَار، ومنه فتَحَ على الإِمام والظفُرُ، فمنه {فقد جاءكم الفتح}. قال الكلبي: وبمعنى القصص. قال الكسائي: وبمعنى التبيين. قال الأخفش: وبمعنى المنِّ، وأصل الفتح: خرق الشيء، والسدُّ ضدُّه.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} أصلُ لقوا: لقيوا بوزن فعلوا، استثقلت الحركة على الياء فحذفت للتخفيف، فسكنت الياء لمَّا حذفت حركتها، فالتقت ساكنةً مع واو الجماعة فحذفت، ثُمَّ ضُمّت القاف؛ لمناسبة الواو، فصار وزنها فَعُوا بعد أن كان فعلوا، كما مرّ {خَلَا} أصله: خلَوَ من الخلوة فعلٌ ناقصٌ، واويُّ اللام، قُلبت الواو ألفًا؛ لتحرّكها بعد فتح، {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أصله يحاجِّجونكم حذفت نون الرفع لمَّا دخلت لام التعليل على الفعل، ونصب بأن
مضمرة بعدها، ثُمَّ أدغمت الجيم الأولى في الثانية، والمُحاجَّة من الاحتجاج وهو القصد للغلبة، يقال: حاجَّهُ قَصَد أن يغلب، والحُجَّة الكلام المستقيم، مأخوذٌ من محجَّة الطريق {مَا يُسِرُّونَ} أصله: يُسْرِرون بوزن يفعلون، نقلت حركة الراء الأُولى إلى السين، فلما سُكِّنت أدغمت في الثانية، يقال: أسرَّ الشيء إذا أَخْفاه، وأعلنه إذا أظهره.
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} جمع أُمِّي، والأمّيُّ: هو الذي لا يقرأ في كتاب ولا يكتب، نسب إلى الأُمّ؛ لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن، أو يقرأن في كتاب، أو لأنه بحال ولدَتْه أُمُّه لم ينتقل عنها، أو نسب إلى الأمّة وهي القامة والخلقة، كأنَّ الذي لا يكتب ولا يقرأ قائمٌ على الفطرة والجِبلَّة، أو إلى الأُمَّة، إذ هي سَاذجَةٌ قبل أن تَعِرف المعارف {إِلَّا أَمَانِيَّ} الأماني: جمع أُمنيَّة بضم الهمزة، وكسر النون، وتشديد الياء، وأصلها: أُمْنُوية بوزن أفُعولة، اجتمعت الواو والياء، وسُبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وكسرت النون؛ لمناسبة الياء، فجمعت على أفاعيل، وما روي من تخفيفها فجَمْعُه على أفاعِل، كما يقال: في جمع مفتاح مفاتحِ، وكأنَّ من قرأ بالتخفيف لم يعتد بحرف المدّ الذي في المفرد، كما مرّ مِن مَنَى إذا قدَّر؛ لأنّ المُتَمنِّي يقدِّر في نفسه، ويَحْزَرُ ما يتمنَّاه، أو من تمنَّى إذا كذب، قال أعرابي لابن دأبٍ في شيء حدَّث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته؟ أي: اختلقته، وقال عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت، أو من تمنَّى إذا تلا، قال تعالى:{إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} ؛ أي: إذا تلا وقرأ، وقال الشاعر:
تَمَنَّى كِتابَ الله أوَّل لَيْلهِ
…
وآخِرَه لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ
والتلاوة والكذب راجعان لمعنى التقدير، فالتقدير أصله، قال الشاعر:
وَلَا تَقُولَنَّ لشيءٍ سَوْف أَفْعَلُه
…
حتَّى تَبَيَّنَ ما يُمْنِي لَكَ المَانِي
أي: يقدِّر وجمعها بتشديد الياء؛ لأنّه أفاعيل، وإذا جمع على أفاعل خففت الياء، والأصل التشديد؛ لأنّ الياء الأولى في الجمع هي: الواو التي كانت في المفرد التي انقلبت فيه ياءً، ألا ترى أنَّ جمع أمُلْوُدْ أماليد. اهـ. من "البحر".
والمراد أنّهم لا يعلمون الكتاب إلّا كما حَدَسوه، أو تخيَّلُوه في هواجسهم من أنهم شعب الله المختار، وأنَّ الله يعفو عنهم، وأنَّ آباءَهم الأنبياء يشفعون لهم، وما ذلك كلُّه إلّا أكاذيب مُنَمَّقة لفّقها لهم أحبارهم، فتناقلوها من غير تمحيصٍ، أو رويَّةٍ {إِلَّا يَظُنُّونَ} أصله: يَظْنُنُون بوزن يفعلون، نقلت حركة النون الأولى إلى الظاء، فسكنت فأدغمت في النون الثانية {فَوَيْلٌ} الويل: مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم، وَأَلَ مصنوعٌ، ولم يجيء من هذه المادة التي فاؤها واوٌ وعينها ياء إلّا وَيْل، وويح، وويس، وويب، ولا يثنى ولا يجمع، ويقال: ويله، ويجمع على ويلاتٍ. قال امرؤ القيس:
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْر خِدْرَ عُنيزةٍ
…
فقالَتْ لك الوَيْلَاتُ إنّك مُرْجل
وإذا أضيف ويْلٌ فالأحسن فيه النصب على المفعولية المطلقة؛ لأنَّه مصدرٌ لفعل أماته العرب، قال تعالى:{وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} وزعم بعضٌ أنَّه إذا أضيف لا يجوز فيه إلّا النصب، وإذا أفردته اختير الرفع على الابتداء قال:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ} ويجوز النصب أيضًا. قال الشاعر:
فَويْلًا لِتَيْمٍ مِنْ سَرابِيْلها الخُضْرِ
والوَيْلُ معناه: الفضيحة والحسرة، وقال الخليل: الوَيْلُ: شِدَّةُ الشرِّ، وقال غيره: الويل: الهلكة، وكُلُّ مَنْ وقع في هلكةٍ دعا بالوَيْلِ، وقال الأصمعيُّ: هي كلمة تفجُّعٍ، وقد يكون ترحُّمًا، ومنه قوله:
وَيْلَ أُمِّه مِسْعَرُ حَرْبِ
{يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} والأيدي جمع يدٍ، ويدٌ مما حذف منه اللام، كدم، ووزنه فعلٌ، وقد صرح بالأصل، فقالوا يَدْيٌ، وقد أبدلوا من الياء الأولى همزة، قالوا: قطع الله أَدْيَهُ، وأبدلوا منها أيضًا جيمًا، قالوا: لا أفعل ذلك جَدَ الدهر، يريدون يد الدهر، وهي حقيقةٌ في الجارحة مجازٌ في غيرها، وأمَّا الأيادي فجمع الجمع، وأكثر استعمال الأيادي في النعم، وأَصْلُ الأيْدي أيْدُي، استثقلت الضمّةُ على الياء، فحذفت، فسكنت الياء، وقبلها ضمّةٌ، فانقلبت واوًا، فصار الأيْدُوُ، كما قيل: في مِيقنٍ موقِنٌ، ثمّ إنّه لم يوجد في لسانهم واوٌ ساكنةٌ قبلها ضمَّةٌ في اسم، وإذا أدَّى القياسُ إلى ذلك قُلِبَت تلك الواو ياءً، وتلك الضمَّةُ قبلها
كسرةً، فصار: الأيدي {ثُمَّ يَقُولُونَ} أصله: يقْوُلون بوزن يفعُلون، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر ضمّة، فصارت حرف مدّ {لِيَشْتَرُوا} أصله: يشتريون بوزن يفتعلون، حذفت منه نون الرفع لمَّا نصب الفعل بأن المضمرة بعد لام التعليل، ثُمّ استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فسكِّنت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضُمَّت الراء؛ لمناسبة واو الجماعة. {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} والكسب أصله: اجتلاب النفع، وقد جاء في اجتلاب الضرِّ، ومنه:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} والفعل منه يجيء متعدّيًا إلى واحد، تقول: كسبت مالًا، وإلى اثنين تقول: كسبت زيدًا مالًا، وقال ابن الأعرابي: يقال: كسب هو نفسه، وأكسب غيره. وأنشد:
فأكْسَبَني مَالًا وأكْسبته حمدًا
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} المَسُّ: الإصابة، المسُّ: الجمع بين الشيئين على نهاية القرب، واللَّمْسُ مثله لكن مع الإحساس، وقد يجيءُ المسُّ مع الإحساس، وحقيقة المسّ واللَّمس باليد، ونقل من الإحساس إلى المعاني، مثل:{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} كـ {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ومنه سمّي المجنون مسًّا.
وقيل: المسُّ واللَّمْسُ والجسُّ متقاربٌ، إلّا أنّ الجسَّ عامٌ في المحسوسات، والمسُّ فيما يخفى ويدقُّ، كنَبْضِ العروق، والمسُّ واللَّمْسُ بظاهر البشرة، والمَسُّ كنايةٌ عن النكاح وعن الجنُون، وقد تقدّم أنَّ {النَّارُ} ألفها منقلبةٌ عن واو؛ بدليل تصغيرها على نويرة، وأصل أيَّامٍ: أيوامٌ بوزن أفعال، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء فصار أيَّامًا. المعدود: اسم مفعول من عدَّ بمعنى حَسَب، والعدد هو الحساب.
{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} {قُلْ} فيه إعلال بالحذف، أصله: قُوْلْ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين {أَتَّخَذْتُمْ} حذفت منه همزة الوصل؛ للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام؛ لأنّها إنّما جيء بها للتوصُّل إلى النُّطق بالساكن، وهمزة الاستفهام حصل بها ذلك، وتقدَّم الكلام على مادَّة الاتخاذ عند الآية:(51)، والإخلاف عدم الإيفاء بالشيء الموعود.
فائدة: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} بلى حرف جواب، مثل: نعم، وجير، وأجل، وإي، والفرق بينها وبين بلى: أنَّ بلى جواب لنفي متقدّمٍ، أي: إبطالٍ،
ونقْضٍ، وإيجابٍ له، سواءٌ دخله استفهامٌ أم لا، فتكون إيجابًا له، نحو: قول القائل: ما قام زيد؟ فتقول: بلى؛ أي: قد قام، وقوله: أليس زيد قائمًا؟ فتقول: بلى؛ أي: هو قائم، قال تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ويُروى عن ابن عباس: (أنّهم لو قالوا: نعم لكفروا). اهـ. "سمين". ومما وقعت فيه جوابًا للاستفهام، قول الجَحَّاف بن حكيم:
بَلَى سَوْفَ نُبْكِيْهِمْ بِكُلِّ مُهَنَّدِ
…
وَنُبْكِي نُمَيْرًا بالرِّمَاحِ الخَواطِرِ
وقعت جوابًا للذي، قال له الأخطل:
ألا فَاسْأَل الجَحَّافَ هَلْ هُوَ ثَائِرٌ
…
بِقَتْلَى أُصِيْبَتْ مِنْ نُميْر بنِ عَامِرِ
وبلى عندنا ثلاثيُّ الوضع وليس أصله بل، فزيدت عليها الألف خلافًا للكوفيين. اهـ. من "البحر" {سَيِّئَةً} أصله: سَيْوَأَةٌ بوزن فيعلةٍ، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت فيها الياء، كما في سيّد وميِّت؛ لأنَّ المادّة واويُّ العين، يقال: ساءه يسوءهُ سوءًا ومساءةً إذا أحزنه الأمر، وساء زيدٌ إذا حزن، والسيئة تسوء صاحبها عاجلًا وآجلًا، وهي تأنيث السيء {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} تقدَّم أنَّ أصله موثاقٌ، قلبت الواو ياء؛ لسكونها إثر كسرة {وَقُولُوا لِلنَّاسِ} هو أمرٌ من قال يقول، وأصل يقول: يَقْوُل بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر ضمَّةٍ، فصارت حرف مدّ، فلمَّا بُنِيَ الأمر منه، حُذفت حرف المضارعة ونون الرفع، فقيل: قولوا. {حُسْنًا} في "القاموس": الحسن بضمّ الحاء، وسكون السين الجمال، والجمع محاسن على غير قياس، وقياسه أن يكون جمعًا لمحسنٍ، كمسجد ومساجد، وحسن ككرم ونصر، فهو حاسِنٌ وحَسَنٌ، بفتحتين وحَسِينٌ كأمير، وحُسَانٌ كغُراب، وحسَّان كرُمَّان. اهـ.
وأمَّا حَسَنٌ بفتحتين على قراءة حمزة والكسائي، فهو صفة مشبَّهة لا مصدرٌ، كما فهم من عبارة "القاموس"، فسقط ما للكرخي هنا.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أصله: أَقْوِمُوا بوزن أَفْعِلُوا، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} آتوا أصله: أَأْتِيوا، أمرٌ من آتى الرباعيّ، حذفت منه نون الرفع لبناء الأمر، ثُمَّ أبدلت الهمزة الثانية الساكنة حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى، ثُمَّ استثقلت الضمة على الياء،
فحذفت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، ثُمَّ ضمَّت التاء؛ لمناسبة الواو، {الزَّكَاةَ} تقدَّم أنَّ ألفه منقلبةٌ عن واو؛ لأنّه من: زكا يَزْكُو، كنما ينمو.
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ} استبعادًا لعدم قبولهم الإيمان مع مشاهدة الآيات الباهرة، وتسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين؛ لأنّهم كانوا شديدي الحرص على إيمانهم.
ومنها: الإتيان بالجملة الحالية في قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إفادةً لكمال قُبْحِ صنيعهم، وأنَّ تحريفهم للتوراة كان عن قصدٍ وتصميمٍ، لا عن جهل ونسيانٍ، ومن يرتكب المعصية عن علم يستحقُّ الذمَّ والتوبيخ، أكثر ممن ارتكبها وهو جاهل.
ومنها: الاستفهام بمعنى النهي في قوله: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} ؛ لأنَّ المعنى: لا تحدِّثوهم يعنون المؤمنين.
ومنها: التعبير بالفتح في قوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} ؛ للإيذان بأنّه سِرٌّ مكنون، وبابٌ مغلقٌ لا يقف عليه أحدٌ.
ومنها: التوبيخ والعتاب في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
ومنها: الطباق في قوله: {يسرون ويعلنون} حيث قابل بين لفظتي يسرّون ويعلنون، وهو نوع طباق الإيجاب.
ومنها: ذكر الأيدي في قوله: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} مع أنَّ الكتابة لا تكون إلّا بالأيدي؛ لدفع توهُّم المجاز بأنَّ المراد أَمْلَوْهُ لغيرهم، وللتأكيد بأنَّ الكتابة باشروها بأنفسهم، كما يقول القائل: كتبته بيميني وسمعته بأذني، وفيه الإطناب أيضًا لتصوير حالة الكتابة في النفس، كما وقعت، وتجسيدها أمام السامع حتى يكاد يكون مشاهدًا لها، ولتسجيل الأمر عليهم، كما تقول لمن ينكر معرفته: ما كتب ووقع أنت كتبته بيمينك.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} ؛ لأنّ الاشتراء مستعارٌ عن الاستبدال.
ومنها: التكرار في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} ، وقوله:{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} ، وقوله:{وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} للتوبيخ، والتقريع، ولبيان أنَّ جريمتهم بلغت من القبح والشناعة الغاية القصوى.
ومنها: التهكُّم في قوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ؛ لأنّ الكسب حقيقةٌ في استجلاب النفع، فاستعماله في استجلاب الضُرّ، كالسيئة على سبيل التهكّم.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} حيث شبَّه الخطايا بعدوٍ نزل بقوم، وأحاطوا بهم من كل الجوانب إحاطة السِوَار بالمعصم، واستعار لفظة الإحاطة؛ لغلبة السيّئات على الحسنات، فكأنَّها أحاطت بها من جميع الجهات.
ومنها: الإشارة بعنوان الجمع في قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} مراعاةً لجانب المعنى في كلمة (مَنْ) بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة قبله.
ومنها: المقابلة بين فريقي الأشقياء والسعداء في قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} ، وقوله:{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} .
ومنها: الإتيان بالفاء في قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} دون قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} إشارة إلى أنَّ خلود النار تسبَّب عن الكفر، بخلاف خلود الجنّة، فلا يتسبَّب عن الإيمان، بل بمحض فضل الله تعالى كذا قاله بعض الأشياخ. اهـ. "صاوي".
ومنها: الإتيان بالجملة الخَبَريَّة في قوله: {لَا تَعْبُدُونَ} مرادًا بها النهي؛ لأنّها أبلغ من صريح النهي؛ لما فيه من الاعتناء بشأن المنهي عنه، وتأكُّد طلب امتثاله حتى كأنّه امتثل وأخبر عنه.
ومنها: الالتافات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} وفي قوله: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} على قراءة التاء؛ لأن ذكر بني إسرائيل إنّما وقع بطريق الغيبة، ومن فوائد الالتفات: تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والإملال؛ لما جبلت عليه النفوس من حبّ التنقُّلات، والسآمة
من الاستمرار على مِنْوال واحدٍ، كما هو مقرَّرٌ في محلّه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
قال الله سبحانه جَلَّ وعلا:
المناسبة
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ
…
} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر بني (1) إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أُمروا به، من إفراده تعالى بالعبادة، والإحسان إلى الوالدين وذي القربى، ثُمَّ بيَّن أنهم لم يأتمروا بذلك. ذكّرهم في هذه الآيات بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق
(1) المراغي.