المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ثُمّ أومأ الله سبحانه إلى بطلان مقالاتهم بقوله لنبيّه صلى - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ثُمّ أومأ الله سبحانه إلى بطلان مقالاتهم بقوله لنبيّه صلى

ثُمّ أومأ الله سبحانه إلى بطلان مقالاتهم بقوله لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمد! لهؤلاء الحَمْقى المتقاولين {هَاتُوا} ؛ أي: أحضروا، وقرِّبوا، وهو أمرٌ تعجّبيٌّ {بُرْهَانَكُمْ}؛ أي: حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة، ولم يقل براهينكم؛ لأنَّ الدعوى كانت واحدة وهي: نفي دخول غيرهم الجنّة، والحجة على تلك الدعوى واحدة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في مقالتكم هذه، فإنَّ كُلَّ قولٍ لا دليل عليه غير ثابت.

‌112

- {بَلَى} إثباتٌ لما نفوه من دخول غيرهم الجنة؛ لأنَّ بلى لإثبات النفي؛ أي: يدخلها غيركم، وعبارة "الروح": اعلم أنَّ قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ

} إلخ. مشتملٌ على إيجاب ونفي، أمّا الإيجاب: فهو أن يدخل الجنّة اليهود والنصارى، وأمّا النفي: فهو أن لا يدخل الجنة غيرهم، فقوله:{بَلَى} إثبات لما نفوه في كلامهم، فكأنّهم قالوا: لا يدخل الجنة غيرنا، فأجيبوا بقوله: بلى يدخل الجنة غيركم، وليس الأمر كما تزعمون {مَنْ أَسْلَمَ} وبذل {وَجْهَهُ}؛ أي: نفسه (لـ) ـطاعة {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى، وأخلص إيمانه لا يشرك به شيئًا، وانقاد لأمره، وأخلص عبادته من شوائب الرياء والسمعة، فإنَّ إسلام (1) شيءٍ لشي جعله سالمًا بأن لا يكون لأحد حقٌّ فيه، لا من حيث التخليق والمالكية، ولا من حيث استحقاق العبادة والتعظيم، عبَّر عنها بالوجه؛ لكونه أشرف الأعضاء من حيث إنَّه معدن الحواس، والفكر، والتخيُّل، فهو مجاز من باب ذكر الجزء، وإرادة الكل، ومنهم قولهم: كرَّم الله وجهك، ويحتمل أن يكون إخلاص الوجه كنايةً عن إخلاص الذات؛ لأنَّ من جاد بوجهه لا يبخل بشيء من جوارحه، ويكون الوجه بمعنى العضو المخصوص، وقوله:{وَهُوَ مُحْسِنٌ} حالٌ من ضمير {أَسْلَمَ} ؛ أي: وهو مع إخلاصه وتسليم النفس إلى الله بالكلية بالخضوع والانقياد، محسنٌ في جميع أعماله، بأن يعملها على وجهةٍ يستصوبها، فإنَّ إخلاصها لله لا يستلزم كونها مستحسنة بحسب الشرع، وحقيقة الإحسان: الإتيان بالعمل على الوجه اللائق، وهو حسنه الوصفيُّ التابع لحسنه الذاتيِّ، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقوله:"أن تعبد الله كأنّك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهذا

(1) روح البيان.

ص: 208

المعنى حقيقة الإيمان، وظاهره الإحسان، وأمَّا باطنه، فمرتبةُ، كنتُ سمعه وبصره؛ أي: بلى يدخل الجنة غيركم؛ لأنّه من أَسْلمَ وَجْهَه لله سبحانه، وهو محسن؛ أي: موحِّد مصدِّق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {فَلَهُ أَجْرُهُ} جواب {مَنْ} الشرطية؛ أي: فلذلك المسلم المحسن ثوابه، وأجره على انقياده الظاهريِّ، وتصديقه الباطنيِّ: أي: ثوابه الذي وعد له على عمله، وهو عبارةٌ عن دخول الجنّة، وتصويره (1) بصورة الأجر؛ للإيذان بقوّة ارتباطه بالعمل، واستحالة نيله بدونه حال كون ذلك الأجر ثابتًا مدَّخرًا له {عِنْدَ رَبِّهِ} ومالك أمره، ومدبِّر شؤونه، ومبلِّغه إلى كماله، لا يضيع ولا ينقص؛ والعندية للتشريف، والجملة جواب {مَنْ} الشرطية، كما مرّ آنفًا إن كانت شرطيّة، وخبرها إن كانت موصولة، والفاء حينئذٍ؛ لتضمن معنى الشرط، وعبارة "الخازن" هنا: وإنّما خصَّ الوجه بالذكر؛ لأنّه أشرف الأعضاء، وإذا جاد الإنسان بوضع وجهه على الأرض في السجود، فقد جاد بجميع أعضائه، قال عمرو بن نفيل:

وأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ

لَهُ الأرضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا

وأسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أسْلمَتْ

لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا

يعني بذلك: استسلمت لطاعته الأرض والمزن {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الآخرة بالخلود في النار، أمَّا في الدنيا، فالمؤمنون أشدُّ خوفًا وحزنًا من غيرهم من أجل خوفهم من العاقبة، فإنَّهم يخافون من أن يصيبهم الشدائد، والأهوال العظام قُدَّامَهَم، ويحزنون على ما فاتهم من الأعمال، والطاعات، المؤدِّية إلى الفوز بأنواع السعادات، فإنَّ المؤمن، كما لا يقنط من رحمة الله، لا يأمن من غضبه وعقابه، كما قيل: لا يجتمع خوفان ولا أمنان، فمن خاف في الدنيا أمن في الآخرة حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر، وتفويت الثواب، فإنَّ الخوف إنّما يكون مما يتوقَّع في المستقبل، كما أنَّ الحزن على ما وقع سابقًا، ومن أَمِنَ في الدنيا خاف في الآخرة

وجمع الضمير هنا؛

(1) روح البيان.

ص: 209