المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال أبو حيان (1): وظاهر قوله: {مَا عَرَفُوا} أنّه الكتاب؛ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: قال أبو حيان (1): وظاهر قوله: {مَا عَرَفُوا} أنّه الكتاب؛

قال أبو حيان (1): وظاهر قوله: {مَا عَرَفُوا} أنّه الكتاب؛ لأنّه أتى بلفظ ما، ويحتمل أنّه يراد به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فإنَّ {مَا} قد يعبَّر بها عن صفات من يعقل، ويجوز أن يكون المعنى: ما عرفوه من الحق، فيندرج فيه معرفة نبوّته، وشريعته، وكتابه، وما تضمنه، وقوله:{فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} لمَّا كان الكتاب جائيًا من عند الله إليهم فكذَّبوه، وستروا ما سبق لهم عرفانه، فكان ذلك استهانةً بالمُرْسَلِ، والمُرْسَل به، قابلهم الله تعالى بالاستهانة والطَّرد، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة؛ لأنَّ من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقةً {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} ، ثمّ إنّه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعليةً عليهم، كأنّه شيءٌ جاءهم من أعلاهم فجلَّلهم بها، ثُمَّ نبَّه على علّة اللَّعنة وسببها وهي الكفر، كما قال قبل:{بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} و {مَا} (2) في قوله:

‌90

- {بِئْسَمَا} نكرةٌ موصوفة منصوبةٌ على التمييز، مفسّرةٌ لفاعل بئس المحذوف وجوبًا، تقديره: بئس وقبح الشيء شيئًا {اشْتَرَوْا} صفة لما، واشترى بمعنى: باع وابتاع، والمراد هنا الأوَّل {بِهِ} عائد إلى {مَا}؛ أي: بذلك الشيء {أَنْفُسَهُمْ} المرادُ (3) بها الإيمان، وإنَّما وضع الأنفسَ موضع الإيمان؛ إيذانا بأنّها إنّما خُلقت للعلم، والعملِ به المُعبَّر عنه الإيمان، ولمّا بدّلوا الإيمان بالكفر كانوا كأنّهم بدَّلوا الأنفس به؛ أي: بئس الشيء شيئًا باعوا به أنفسهم؛ أي: إيمانَهم، والمخصوص بالذمِّ ما ذكره بقوله:{أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} على محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي: بالكتاب المصدِّق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته؛ أي: والمخصوص بالذمّ كفرهم بالقرآن الذي أنزل الله سبحانه على محمد صلى الله عليه وسلم، المصدّق للتوارة التي معهم {بَغْيًا} علّة (4) لأنْ يَكْفُروا أي: حسدًا وطلبًا لما ليس لهم، كما أنّ الحاسد يطلب ما ليس له لنفسه مما للمحسود من

(1) البحر المحيط.

(2)

العمدة.

(3)

روح البيان.

(4)

روح البيان.

ص: 84

جاه، أو منزلةٍ، أو خصلة حميدة، والباغي: هو الظالم الذي يفعل ذلك عن حسده، والمعنى: بئس الشيء شيئًا باعوه به إيمانَهم كُفْرُهم المعلَّلُ بالبغي الكائن لأجل {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ} أي حسدًا على أن ينزّل، فإنَّ الحسد يستعمل بعلى؛ أي: حسدًا على أن ينزّل الله سبحانه وتعالى وحْيًا وكتابًا {مِنْ فَضْلِهِ} وإحسانه {عَلَى مَنْ يَشَاءُ} ، ويختاره، ويصطفيه {مِنْ عِبَادِهِ} وخلقه المستأهلين لتحمُّل أعباء الرسالة. وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وطلبًا لما أُنزل عليه لأنفسهم، وذلك أنَّ كفر اليهود لم يكن من شكٍّ واشتباهٍ، وإنما كان حسدًا حيث صارت النبوة في ولد إسماعيل، وذلك أنَّ اليهود كانوا يعتقدون نبيَّ آخر الزمان، ويتمنَّون خروجه، وهم يظنُّون أنَّه من ولد إسحاق، فلمَّا ظهر أنّه من ولد إسماعيل حسدوه، وكرهوا أن يخرج الأمر من بني إسرائيل، فيكون لغيرهم من العرب، وعِزُّ النبوّة من يعقوب إلى عيسى عليهما السلام، كان في إسحاق فختم في عيسى، ولم يكن من ولد إسماعيل نبيٌّ غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فختمت النبوَّة على غيرهم، وعدموا العزّة، والشرف، والفضل، فحسدوا لذلك.

وقرأ أبو عمرو (1)، وابن كثير: جميع المضارع مخفَّفًا من أنزل، إلّا ما وقع الإجماع على تشديده وهو في الحِجْرِ {وَمَا نُنَزِّلُهُ} إلّا أن أبا عمرو شدَّد {على أن ننزل} آيةٌ في الأنعام، وابن كثير شدد، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} و {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا} وشدَّد الباقون المضارع حيثما وقع إلّا حمزة، والكسائي فخفَّفا {وينزل الغيث} في آخر لقمان {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في الشورى والهمزة والتشديد كُلٌّ منهما للتعدية.

{فَبَاءُوا} أي: رجعوا وانصرفوا من الله ملتبسين {بِغَضَبٍ} كائنٍ {عَلَى غَضَبٍ} أي: احتملوا بلعنةٍ من الله بسبب كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن مع غضبٍ استحقُّوه، أوَّلًا بتضييع التوراة وبتبديله، وبالكفر بعيسى؛ أي: استحقُّوا غضبًا لاحقًا مع غضبٍ سابقٍ لهم، فاستحقُّوا لعنةً بعد لعنةٍ لأمور صدرت منهم،

(1) البحر المحيط.

ص: 85