المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أنجز الله سبحانه وعده الكريم بالقتل، والسبي في بني قريظة، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أنجز الله سبحانه وعده الكريم بالقتل، والسبي في بني قريظة،

أنجز الله سبحانه وعده الكريم بالقتل، والسبي في بني قريظة، والجلاء، والنفي إلى الشام، وغيره في بني النضير، والجزية، والذلّة في نصارى نجران، وعَطْفُ الجملةِ بالفاء مشعرٌ بتعقُّب الكفاية عقيب شقاقهم، والمجيءُ بالسين يدلُّ على قرب الاستقبال، إذ السينُ في وضعها أقرب من التنفيس من سوف، والذواتُ ليست المكفية، فهو على حذف مضافٍ، كما مرَّ آنفًا؛ أي: فسيكفيك شقاقهم والمكفيُّ به محذوف؛ أي: بمن يهديه الله من المؤمنين؛ أي: بتفريق كلمة المشاقِّين، أو بإهلاك أعينهم، وإذلال باقيهم بنحو: السبي، والقتل، وهذا تسليةٌ وتسكينٌ للمؤمنين، ووعدٌ لهم بالحفظ والنصرة على من عاداهم، وضمانٌ من الله تعالى؛ لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه إذا تكفَّل بشيءٍ أنجزه، وهو إخبارٌ بغيب، ففيه معجزةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيمُ} بأحوالهم ونيَّاتهم، يَسْمَعُ جميع ما ينطقون به، ويعلم جميع ما يُضمِرونه به من الحسد والغلِّ، وهو مجازيهم، ومعاقبهم. وفي "الرُّوح": وهذه الجملة تذييلٌ لما سبق من الوعد، وتأكيدٌ له، والمعنى: أنَّه تعالى يسمع ما تدعوه، ويعلم ما في نيتك من إظهار الدين، فيستجيب لك، ويوصلك إلى مرادك. اهـ.

وقال أبو حيَّان: ومناسبة هاتين الصفتين هنا (1): أنَّ كُلًّا من الإيمان وضدِّه مشتملٌ على أقوالٍ وأفعالٍ، وعلى عقائد تنشأ عنها تلك الأقوال والأفعال، فناسب أن يختم ذلك بهما؛ أي: وهو السميع لأقوالكم العليم بنياتكم واعتقادكم، ولمَّا كانت الأقوال هي الظاهرة لنا، الدالَّة على ما في الباطن، قُدِّمت صفة السميع على العلم؛ ولأنَّ العلم فاصلةٌ أيضًا، وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد؛ لأنَّ المعنى:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فيجازيكم بما يصدر منكم.

‌138

- وقرأ الجمهور {صِبْغَةَ اللَّهِ} بالنصب، فيكون إمّا على الإغراء؛ أي: إلزموا يا أهل الكتاب! صبغة الله، ودينه الذي هو دين الإِسلام، وتمسَّكوا به واتَّبعوه، لا صبغة أحباركم، ورهبانكم، وسمِّي الدين صبغةً؛ لظهور أثره على صاحبه، كظهور أثر الصبغ على الثوب؛ ولأنَّه يلزمه، ولا يفارقه، كالصبغ في الثوب؛ لأنَّ الصبغ

(1) البحر المحيط.

ص: 325

بالكسر: ما يُلوَّن به الثياب، والصَّبغ بالفتح: المصدر، والصبغة: الفعلة التي تبنى للنوع، والحالة مِنْ صبَغَ، كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع الصبغ عليها، وهي؛ أي: الصبغة في الآية؛ مستعارةٌ لفطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي دينه، شبِّهت الخلقة السليمة التي يستعدُّ بها العبد للإيمان، وسائر أنواع الطاعات بصبغ الثوب من حيث إن كُلَّ واحدة منهما حليةٌ؛ لما قامت هي به وزينة له. وقيل: إنَّ الصبغة: الاغتسال لمن أراد الدخول في الإِسلام بدلًا من معموديَّة النصارى، إذا ولد لأحدهم مولودٌ، وأتى عليه: سبعةُ أيام، غمسوه في ماءٍ لهم أصفر يُسمُّونه ماء المعموديَّة، وصبغوه به ليطهِّروه به مكان الختان، وكانوا يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم؛ تشبيهًا للمولود بعيسى عليه السلام. فإذا فعلوا ذلك به قالوا: الآن صار نصرانيًّا حقًّا، وزعموا أنَّ الإنجيل ذكر عيسى بأنَّه الصَّابغ، والمعمودية: هي اسم ماء غُسل به عيسى عليه السلام حين ولادته، فمزجوه بماءٍ آخر، وكُلَّما استعملوا منه جعلوا مكانه ماء آخر. اهـ.

فأخبر الله تعالى: أنَّ دين الإِسلام ليس ما تفعله النصارى. وقيل: إنّه منصوب على كونه بدلًا من {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وقيل: إنّه منصوبٌ انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} . وقيل: عن قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . وقيل عن قوله: {فَقَدِ اهْتَدَوْا} والتقدير: قولوا آمنا بالله، وصبغنا الله صبغةً؛ أي: فطرنا، وخلقنا على استعداد قبول الحق، والإيمان فطرته، فهذا المصدر مفعولٌ مطلق مؤكِّد لنفسه؛ لأنَّه مع عامله المقدَّر بعينه، وقع مؤكّدًا لمضمون الجملة المتقدمة، وهو قوله:{آمَنَّا بِاللَّهِ} ، لا محتمل لها من المصادر إلّا ذلك المصدر؛ لأنَّ إيمانهم بالله يحصل بخلق الله إيّاهم على استعداد اتباع الحق، والتحلِّي بحلية الإيمان. وهذا الوجه؛ أعني: كونه منتصبًا انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} أحسنها، وأظهرها، لما سيأتي عند قوله:{وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} من تنافر آخر الآية لأوَّلها إذ نَصَبْنَا على الإغراء، ولأنَّ نصبه على الإبدال من ملة إبراهيم بعيدٌ؛ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه، ويحتمل أن يكون التقدير: طهَّرنا الله تطهيره؛ لأنَّ الإيمان يُطهِّر النفوس من أوضار الكفر، وسمَّاه صبغةً؛ للمشاكلة لما فعلته النصارى، والمشاكلة: هي ذكر الشيء

ص: 326

بلفظ غيره لوقوع ذلك الشيء في صحبة الغير، إمَّا بحسب المقال المحقَّق، أو المقدَّر بأن لا يكون ذلك الغير مذكورًا حقيقةً، ويكون في حكم المذكور لكونه مدلولًا عليه بقرينة الحال، فالمشاكلة تجري بين قولين، كما في قوله تعالى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فإنَّه عبَّر عن ذات الله تعالى بلفظ النفس؛ لوقوعه في صحبة لفظ النفس، وعبَّر هنا عن لفظ الفطرة بلفظ الصبغة؛ لوقوعه في صحبة صبغة النصارى إذ كانوا يشتغلون بصبغ أولادهم في سابع الولادة مكان الختان، للمسلمين بغمسهم في الماء الأصفر الذي يسمُّونه المعمودية بالدال، أو المعمورية بالراء، على زعم أنَّ ذلك الغمس وإن لم يكن مذكورًا حقيقةً، لكنَّه واقعٌ فعلًا من حيث إنّهم يشتغلون به، فكان في حكم المذكور بدلالة قرينة الحال عليه من حيث اشتغالهم به، ومن حيث إنّ الآية نزلت ردًّا لزعمهم ببيان أنَّ التطهير المعتبر هو تطهير الله عباده، لا تطهير أولادكم بغمسهم في المعمودية، وهي اسم ماءٍ غسل به عيسى عليه السلام حين ولادته، وهو نهرٌ في الأردن، وهو عند النصارى مثل الزمزم عند المسلمين في غسل أولادهم به تبرُّكًا به عندما ينصِّرونهم، فمزجوه بماءٍ آخر، وكُلَّما استعملوا منه جعلوا مكانه ماءً آخر.

وقرأ الأعرج (1)، وابن أبي عبلة: بالرفع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، تقدير: ذلك الإيمان صبغة الله؛ أي: دين الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} ؛ أي: دينًا. وقيل: تطهيرًا؛ لأنّه يطهِّر من أوساخ الكفر؛ أي: لا صبغة أحسن من صبغته تعالى؛ لأنّه تعالى يصبغ عباده بالإيمان، ويطهِّرهم به من أوضار الشرك. وقوله:{وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأٌ (2) وخبرٌ، والاستفهام فيه للإنكار بمعنى النفي {مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} نصب على التمييز من أحسن، منقولٌ من المبتدأ، والتقدير: ومَنْ صِبْغَتُهُ أحسنُ من صبغته تعالى، فالتفضيل جارٍ بين الصبغتين لا بين فاعليهما، والمعنى: أيُّ شخصٍ تكون صبغته أحسن من صبغة الله تعالى؟ فإنّه

(1) البحر المحيط.

(2)

روح البيان.

ص: 327

يصبغ عباده بالإيمان، ويُطهِّرهم به من أوضار الكفر، وأنجاس الشرك، فلا صبغة أحسن من صبغته، فهي جماع كُلِّ خير، وبها تتألَّف القلوب، والشعوب، وتزكو النفوس، أمَّا ما أضافه الأحبار والرُّهبان من أهل الكتاب إلى الدين، فهي من صبغة البشريَّة، والصنعة الإنسانيَّة التي تجعل الدين الواحد مذاهب متفرقّةً، والأمَّة شيعًا متنافرةً. {وَنَحْنُ} معاشر المسلمين {لَهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: لله الذي أعطانا تلك النعمة الجليلة {عَابِدُونَ} ؛ أي: مطيعون شكرًا لها، ولسائر نعمه التي لا تحصى، فإذا كان حرفةُ العبد العبادة، فقد زيّن نفسه بصبغٍ حسنٍ يزيِّنه ولا يشينه. وفيه تعريضٌ لأهل الكتاب؛ أي: لا نشرك به كشرككم، وتقديم الظرف على عامله؛ للاهتمام به؛ ولرعاية الفاصلة، وهو معطوف على آمنَّا داخلٌ تحت الأمر وهو قولوا، وهذا العطف (1) يردُّ قول من زعم أنَّ صبغة الله بدل من ملَّة أو نصب على الإغراء بمعنى: عليكم صبغة الله، لما فيه من فكِّ النظم، وإخراج الكلام عن التئامِه واتِّساقِه، وانتصابها يعني: صبغة الله على أنها مصدرٌ مؤكدٌ، هو الذي ذكره سيبويه، والقول: ما قالت حذام. انتهى. وتقديره: في الإغراء: عليكم صبغة الله ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الإغراء إذا كان بالظرف والمجرور، لا يجوز حذف ذلك الظرف، ولا المجرور، ولذلك حينَ ذَكَرنا وَجْهَ الإغراء قدَّرنا: الزموا صبغة الله، ومعنى عابدون: موحِّدون، ومنه قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ؛ أي: لِيُوحّدُون. وقيل: مطيعون، متَّبعون ملَّة إبراهيم عليه السلام، وصبغة الله. وقيل: خاضعون، مستكينون في اتباع ملةِ إبراهيم، غير مستكبرين، وهذه أقوالٌ متقاربة.

والمعنى (2): أي ونحن معاشر المسلمين له تعالى عابدون، ولا نعبد سواه، فلا نتَّخذ الأحبار والرهبان أربابًا يزيدون في ديننا، وينقصون، ويحلُّون، ويحرِّمون، ويَمْحُون مِنْ نفُوسِنا صبغةَ التوحيد، ويُثْبِتُون مكانَها صبغة البشر التي تُفْضِي إلى الإشراك بالله، واتخاذِ الأنداد له، وفي الآية إيماءٌ إلى أنَّ الإِسلام لم

(1) البحر المحيط.

(2)

المراغي.

ص: 328