المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولدٌ، أم لا {كُلٌّ}؛ أي: كُلُّ ما فيهما من أولي - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ولدٌ، أم لا {كُلٌّ}؛ أي: كُلُّ ما فيهما من أولي

ولدٌ، أم لا {كُلٌّ}؛ أي: كُلُّ ما فيهما من أولي العلم، وغيرهم {لَهُ}؛ أي: لله سبحانه وتعالى {قَانِتُونَ} جمع الخبر اعتبارًا لمعنى كلٍّ؛ أي: منقادون، ولا يمتنع شيءٌ منهم، ولا يستعصي على مشيئته، وتكوينه، وتقديره، ومطيعون له طاعة تسخير وقهرٍ، فالجماد مسخَّر لما أراد الله منه، فالطاعة هنا: طاعة الإرادة والمشيئة، لا طاعة العبادة، أو مقروُّن له بالعبوديَّة والتوحيد، وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكوِّنه الواجب لذاته، فلا يكون له ولدٌ؛ لأنّه من حقّ الولد أن يجانس والده، وإنّما عبَّر عن (1) جميع الموجودات أوّلًا بما يعبَّر به عن غير ذوي العلم، وعبَّر عنه آخرًا بما يختصُّ بالعقلاء وهو لفظ {قَانِتُونَ} ؛ تحقيرًا لشأن العقلاء الذين جعلوا ولدًا لله سبحانه {قَانِتُونَ} خبرٌ (2) عن كلٌّ؛ وجمع حملًا على المعنى، وكلٌّ إذا حذف ما تضاف إليه جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع، ومراعاة اللفظ فتفرد، وإنّما حسنت مراعاة الجمع هنا؛ لأنّها فاصلة رأس آية؛ ولأنَّ الأكثر في لسانهم؛ أنّه إذا قطعت عن الإضافة، كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال:{وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وقد جاء إفراد الخبر، كقوله: كلٌّ يعمل على شاكلته، وسيأتي هناك إن شاء الله تعالى، ذكر ما حسَّن إفراد الخبر.

والخلاصة (3): أي ليس الأمر كما زعموا، بل جميع ما في السموات والأرض ملك له، قانت لعزته، خاضع لسلطانه، منقاد لإرادته، فما وجه تخصيص واحد منهم بالانتساب إليه، وجعله ولدًا مجانسًا له {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} ثمَّ إن الله سبحانه، يخصُّ من يشاء من عباده بما شاء من الفضل، كالأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ولكن هذا لا يرتقي بالمخلوق إلى أن يصل إلى مرتبة الخالق.

‌117

- {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: هو سبحانه وتعالى مبدعهما، وموجدهما،

(1) روح البيان.

(2)

البحر المحيط.

(3)

المراغي.

ص: 239

وخالقهما، ومنشئهما على غير مثال سبق، ولم يكونا شيئًا، على أنَّ (1) البديع بمعنى: المبدع وهو الذي يبدع الأشياء؛ أي: يحدثها، أو ينشئها، على غير مثال سبق، والإبداع: اختراع الشيء لا عن شيء دفعةً؛ أي: من غير مادّةٍ ومُدّةٍ، أو المعنى: بديع سمواته وأرضه؛ أي: بدعت لمجيئهما على شكلٍ فائقٍ، حسنٍ غريبٍ، فعلى الأول: من أبدع، والإضافة معنويةٌ، وعلى الثاني: من بدع إذا كان على شكلٍ فائق، وحسنٍ رائقٍ، والإضافة لفظيةٌ، فهو من باب إضافة الصفة إلى منصوبها الذي كان فاعلًا في الأصل؛ لأنَّ الأصل بديعٌ سمواته وأرضه.

وهذه حجة أخرى لإبطال مقالتهم الشنيعة (2)، تقريرها: إنّ الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادّته عنه، والله تعالى مبدع الأشياء كلها على الإطلاق، منزَّهٌ عن الانفعال، فلا يكون والدًا، ومن قدر على خلق السموات والأرض من غير شيء، كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟! والمعنى: هو سبحانه وتعالى، موجدهما اختراعًا وابتكارًا لا على مثال سابق، وإذا كان هو المبدع لهما، والموجد لجميع من فيهما، فكيف يصحُّ أن ينسب إليه شيءٌ منهما على أنّه مجانسٌ له؟! تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.

وقرأ الجمهور (3): {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، وقرأ المنصور بالنصب على المدح، وقرىء بالجر على أنّه بدل من الضمير في {لَهُ} {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا}؛ أي: وإذا أراد سبحانه وتعالى إيجاد أمر من الأمور، وإحداث شيء من الأشياء {فَإِنَّمَا يَقُولُ} سبحانه {لَهُ}؛ أي: لذلك الذي أراد إيجاده {كُنْ} ؛ أي: احْدُث {فيكون} ؛ أي: فذلك الأمر المأمور، يكون، ويحدث من غير توقُّفٍ، ولا إباءٍ، وبلا مهلةٍ، وتأخُّرٍ، وأصل القضاء: الأحكام، أطلق هنا على الإرادة الإلهيَّة المتعلقة بوجود الشيء؛ لإيجابها إيّاه ألبتة، والأمر واحد الأمور، و {كُنْ} و {يكون} هنا: من كان التامة بمعنى:

(1) روح البيان.

(2)

روح البيان.

(3)

البحر المحيط بتصرف.

ص: 240

أحدث يحدث. ففي هذه الجملة: تقرير (1) معنى الإبداع، وذلك أنَّ اتخاذ الولد ممَّا يكون بأطوار، ومهلةٍ، وفعله تعالى يستغني عن ذلك، وقوله {كُنْ} تمثيلٌ لسهولة حصول المقدورات بحسب تعلُّق مشيئته تعالى، وتصويرٌ لسرعة حدوثها من غير توقُّفٍ، ولا تأخُّرٍ، كطاعة المأمور المطيع للأمر القويِّ المطاع، ولا يكون من المأمور الإباء.

والمعنى: أي (2) وإذا أراد سبحانه إحداث أمرٍ وإيجاده، فإنَّما يأمره أن يكون موجودًا، فيكون والكلام تمثيلٌ وتشبيهٌ؛ لتعلُّق إرادته بإيجاد الشيء، فيعقبه وجوده بأمرٍ يصدر، فيعقبه الامتثال، والإيجاد، والتكوين من أسرار الألوهية عبَّر عنهما بما يُقَرِّبُهما من الفهم، وهو أن يقول للشيء:{كُنْ فَيَكُونُ} . وقرأ ابن عامر (3){كُنْ فَيَكُونَ} بالنصب في كلِّ القرآن إلّا في موضعين: في أوّل آل عمران في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وفي الأنعام في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} فإنّه رفعه فيهما، وقرأ الكسائي بالنصب في النحل ويس، وبالرفع في سائر القرآن، والباقون بالرفع في كُلِّ القرآن، أمَّا النصب فعلى جواب الأمر، وأمّا الرفع فإمّا على أنّه خبر مبتدأ محذوفٍ؛ أي: فهو يكون، أو معطوفٌ على {يَقُولُ} أو معطوفٌ على {كُنْ} من حيث المعنى، كما هو قول الفارسي.

واعلم: أنَّ (4) أهل السنة لا يرون تعلُّق وجود الأشياء بهذا الأمر وهو {كُنْ} بل وجودها متعلِّق بخلقه، وإيجاده وتكوينه، وهو صفةٌ أزليةٌ، وهذا الكلام عبارةٌ عن سرعة حصول المخلوق بإيجاده، وكمال قدرته على ذلك، لكن لا يتعلق علم أحدٍ بكيفية تعلُّق القدرة بالمعدومات، فيجب الإمساك عن بحثها، وكذا عن بحث كيفية وجود الباري سبحانه، وكيفية العذاب بعد الموت، وأمثالها، فإنّها من الغوامض، والأمور المغيبة عنّا.

(1) روح البيان.

(2)

المراغي.

(3)

المراح.

(4)

روح البيان.

ص: 241

ثمّ اعلم: أنَّ السبب في هذه الضلالة، وهي نسبة الولد إلى الله تعالى، والقول بأنّه اتخذ ولدًا؛ أنَّ أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على الباري تعالى اسم الأب، وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى قالوا: إنَّ الأب هو الربُّ الأصغر، وإنّ الله تعالى هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك أنّه تعالى هو السبب الأوّل في وجود الإنسان، وأنَّ الأب هو السبب الأخير في وجوده، فإنَّ الأب هو معبود الابن من وجهٍ؛ أي: مخدومه، ثم ظنت الجهلة منهم أنَّ المراد به: معنى الولادة الطبيعية، فاعتقدوا ذلك تقليدًا ولذلك كفر قائله، ومنع منه مطلقًا؛ أي: سواءٌ قصد به معنى السببية، أو معنى الولادة الطبيعية؛ حسمًا لمادة الفساد. واتخاذ الحبيب أو الخليل جائزٌ من الله تعالى؛ لأنّ المحبّة تقع على غير جوهر المحبِّ، قالوا: أوحى (1) الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: ولَّدتك، أي أوجدتك بلا والدٍ، وأنت نبيٌّ، فخفَّف النصارى التشديد الذي في ولَّدتك؛ لأنه من التوليد وصحفوا بعض إعجام النَّبيِّ بتقديم الباء على النون، فقالوا: ولدتك وأنت بُنيَّ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون؟! وقال تعالى: يا أحباري! ويا أبناء رسلي! فغيَّره اليهود، وقالوا: يا أحبائي! ويا أبنائي! فكذَّبهم الله تعالى بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فالله سبحانه منزَّه عن الحدود والجهات، ومتعالي عن الأزواج، والبنين والبنات، ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السموات، وفي الحديث الصحيح كما مرَّ لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (كذَّبني ابن آدم)، أي: نسبني إلى الكذب (ولم يكن له ذلك)؛ أي: لم يكن التكذيب لائقًا به، بل كان خطأً (وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمَّا تكذيبه إيّايَ، فزعم أن لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمَّا شتمه إيّاي، فقوله: لي ولدٌ، فسبحاني أن أتخذ صاحبةً أو ولدًا) وإنّما كان هذا شتمًا؛ لأنّ التولُّد هو انفصال الجزء عن الكل بحيث ينمو، وهذا إنّما يكون في المركَّب، وكُلُّ مركّب محتاجٌ.

فإن قلت: قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} تكذيبٌ أيضًا؛ لأنّه تعالى أخبر أنّه لا

(1) روح البيان.

ص: 242