الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَقَدْ رَأَى غُلَامًا مَلِيحًا: دَسِّمُوا - بِالتَّشْدِيدِ - نُونَتَهُ، أَيْ سَوِّدُوا النَّقْرَةَ الَّتِي فِي ذَقَنِهِ ; لِئَلَّا تُصِيبَهُ الْعَيْنُ، وَقِيلَ: مَعْنَى دَسْمَاءَ أَنَّهَا مُتَلَطِّخَةٌ بِدُسُومَةِ شَعْرِهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَهُ، كَمَا مَرَّ، وَالدُّسُومَةُ غَيَّرَتْهُ إِلَى السَّوَادِ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْوَدَّتْ مِنَ الْعَرَقِ، وَالدَّسْمَاءُ فِي الْأَصْلِ الْوَسِخَةُ، وَهِيَ ضِدُّ النَّظِيفَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لَوْنُهَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا حَاشِيَةُ بُرْدٍ، وَالْحَاشِيَةُ غَالِبًا تَكُونُ مِنْ لَوْنٍ غَيْرِ لَوْنِ الْأَصْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ إِزَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الْإِزَارُ بِالْكَسْرِ الْمِلْحَفَةُ، وَيُؤَنَّثُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَسْتُرُ أَسْفَلَ الْبَدَنِ، وَيُقَابِلُهُ الرِّدَاءُ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ أَعْلَى الْبَدَنِ، وَلَعَلَّ حَذْفَهُ فِي الْعُنْوَانِ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ: وَالْبَرْدَ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ طُولُ رِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفًا، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ رِدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُرْدٌ طُولُهُ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ، وَإِزَارُهُ مِنْ نَسْجِ عُمَانَ طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ فِي ذِرَاعَيْنِ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) أَيِ: السِّخْتِيَانِيُّ (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ) رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) قِيلَ: اسْمُهُ عَامِرٌ وَهُوَ تَابِعِيٌّ كُوفِيٌّ، كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ شُرَيْحٍ، فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ وَهُوَ جَدُّ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ الْإِمَامِ فِي الْكَلَامِ، وَفِي أَصْلِ الْعِصَامِ عَنْ أَبِيهِ أَيْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، قَالَ: وَفِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ وَبِذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا لِأَنَّ أَبَا بُرْدَةَ كَمَا أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَصْلِنَا الْمُقَابَلِ بِأَصْلِ السَّيِّدِ مِيرَكْ شَاهْ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا فِي سَائِرِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، مَعَ أَنَّ وُجُودَهُ لَوْ صَحَّ لَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا إِلَّا إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَائِشَةَ أَيْضًا، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ رِوَايَتِهِ عَنْهَا لَا يَجْعَلُ الْحَدِيثَ مُتَّصِلًا، كَمَا حُقِّقَ فِي الْأُصُولِ (قَالَ) أَيْ أَبُو بُرْدَةَ (أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ) أَيْ إِمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِأَمْرِهَا (كِسَاءً) بِكَسْرِ الْكَافِ ثَوْبٌ مَعْرُوفٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا رِدَاءٌ (مُلَبَّدًا) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ مُرَقَّعًا، يُقَالُ: لَبَّدْتُ الثَّوْبَ إِذَا رَقَعْتَهُ وَقِيلَ: التَّلْبِيدُ جَعْلُ بَعْضِهِ مُلْتَزِقًا بِبَعْضٍ كَأَنَّهُ زَالَ وَطَاءَتُهُ وَلِينُهُ، لِتَرَاكُمِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ ; وَلِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَعْنَاهُ أَيْ مُرَقَّعًا صَارَ كَاللُّبْدِ وَاسْتَبْعَدَهُ الْعِصَامُ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَبْعَدُ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ أَقْرَبُ، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: الْمُلَبَّدُ الْمُرَقَّعُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي ثَخُنَ وَسَطُهُ حَتَّى صَارَ كَاللُّبَدِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَالَ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ لِلرُّقْعَةِ الَّتِي يُرَقَّعُ بِهَا الْقَمِيصُ لُبْدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ حَتَّى يَتَرَاكَبَ وَيَجْتَمِعَ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّبَدِ هُنَا الَّذِي ثَخُنَ وَسَطُهُ، وَصُفِقَ لِكَوْنِهِ كِسَاءً، لَمْ يَكُنْ قَمِيصًا كَذَا
ذَكَرَهُ مِيرَكْ شَاهْ (وَإِزَارًا غَلِيظًا) أَيْ خَشِنًا (فَقَالَتْ) أَيْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ هَذَا اللُّبْسَ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ قَبْلَ أَنْ
يُوَسِّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِفَتْحِهِ وَنَصْرِهِ (قُبِضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْقَابِضُ مَعْلُومٌ أَيْ أُخِذَ (رُوحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَيْنِ) أَيْ تَوَاضُعًا وَانْكِسَارًا وَعُبُودِيَّةً وَافْتِقَارًا، وَإِجَابَةً لِدُعَائِهِ مِرَارًا اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ «إِزَارًا غَلِيظًا» ، مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَهُ الْمُلَبَّدَةَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفِيدُ مَعْنًى ثَالِثًا لِـ «مُلَبَّدًا» ، وَهُوَ أَنَّهُ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِكِسَاءٍ، وَأَنَّ التَّلْبِيدَ فِي أَصْلِ النَّسْجِ دُونَ التَّرْقِيعِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ يُبَيِّنُ مَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَعْرَاضِهَا وَشَهَوَاتِهَا، حَيْثُ اخْتَارَ لُبْسَهُمَا، وَاجْتَزَأَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ أَدْنَى الْكِفَايَةِ بِهِمَا، انْتَهَى.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَارَ غَنِيًّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَنِهَايَةِ أَمْرِهِ، نَعَمْ. ظَهَرَ لَهُ الْمُلْكُ وَالْغِنَى، وَلَكِنِ اخْتَارَ الْفَقْرَ وَالْفَنَاءَ ; لِيَكُونَ مُتَّبِعًا لِجُمْهُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُتَّبِعًا لِخُلَاصَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّتِي) اسْمُهَا رُهْمٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْهَاءِ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ خَالِدٍ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقِيلَ: بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَنْظَلَةَ (تُحَدِّثُ عَنْ عَمِّهَا) أَيْ عَمِّ عَمَّةِ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ، اسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْمُحَارِبِيُّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَأَمَّا مَا قَالَ الْعِصَامُ أَنَّ الْأَصَحَّ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ عَمِّ أَبِيهَا، أَيْ عَمِّ ابْنِ حَنْظَلَةَ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي أَصْلِنَا، وَلَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ أَصْلًا، نَعَمْ.
ذَكَرَ مِيرَكْ شَاهْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ الْكَمَالِ عَنْ عَمِّ أَبِيهِ وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ إِلَى الْأَشْعَثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَمَّ عَمَّةِ الشَّخْصِ هُوَ عَمُّ أَبِيهِ (قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي) أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ (بِالْمَدِينَةِ) أَيْ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بَيْنَا بِحَذْفِ الْمِيمِ، وَأَصْلُهُ بَيْنَ وَهُوَ الْوَسَطُ، وَقَدْ تُشْبَعُ فَتْحَتُهَا فَتَتَوَلَّدُ أَلِفًا، وَقَدْ تُزَادُ فِيهَا مِيمٌ، وَهُمَا مُضَافَانِ إِلَى مَا بَعْدَهُمَا، وَقِيلَ: مَا وَالْأَلِفُ عِوَضَانِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ وَفِي الْمُغْرِبِ
بَيْنَ مِنَ الظُّرُوفِ اللَّازِمَةِ، وَلَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَقَدْ يُحْذَفُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَيُعَوَّضُ عَنْهُ مَا أَوِ الْأَلِفُ، وَفِي النِّهَايَةِ هُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ بِمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ، وَيُضَافَانِ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ أَوْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَيَحْتَاجَانِ إِلَى جَوَابٍ يَتِمُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَالْأَفْصَحُ فِي جَوَابِهِمَا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إِذْ، وَإِذَا. وَقَدْ جَلَا فِي الْجَوَابِ كَثِيرًا، يُقَالُ: بَيْنَا زَيْدٌ جَالِسٌ دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرٌو، وَإِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ (إِذَا) بِالْأَلِفِ لِلْمُفَاجَأَةِ (إِنْسَانٌ خَلْفِي) قَالَ
صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الْعَامِلُ فِي إِذَا مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ، تَقْدِيرُهُ وَقْتَ ذِكْرِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فَاجَئُوا وَقْتَ الِاسْتِبْشَارِ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَقْتَ مَشْيِي بِالْمَدِينَةِ، فَاجَأْتُ قَوْلَ إِنْسَانٍ خَلْفِي، فَحِينَئِذٍ بَيْنَمَا ظَرْفٌ لِهَذَا الْمُقَدَّرِ، وَإِذَا مَفْعُولٌ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، فَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ مَعْمُولِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ، كَذَا حَقَّقَهُ الْحَنَفِيُّ (يَقُولُ) أَيْ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ بَلْ عَيْنُ الْأَعْيَانِ وَإِنْسَانُ الْعَيْنِ عَيْنُ الْإِنْسَانِ، حِينَ رَآنِي مُسْبِلًا إِزَارِي، وَغَافِلًا عَنْ حُسْنِ شِعَارِي، ثُمَّ قَوْلُهُ يَقُولُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْمَوْصُوفِ، وَالْمَقُولُ قَوْلُهُ:(ارْفَعْ إِزَارَكَ) أَيْ عَنِ الْأَرْضِ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الرَّفْعَ (أَتْقَى) مِنَ التَّقْوَى أَيْ أَقْرَبُ إِلَيْهَا وَأَدَلُّ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ غَالِبًا عَلَى انْتِفَاءِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالتَّاءُ مُبْدَلَةٌ عَنِ الْوَاوِ ; لِأَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْوِقَايَةِ، فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ تَوَهَّمُوا أَنَّ التَّاءَ مِنْ أَصْلِ الْحُرُوفِ، فَقَالُوا: تَقَى يَتَّقِي مِثْلَ رَمَى يَرْمِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنْقَى بِالنُّونِ مِنَ النَّقَاءِ، أَيْ أَنْظَفُ مِنَ الْوَسَخِ (وَأَبْقَى) بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ أَكْثَرُ دَوَامًا لِلثَّوْبِ، فَعَلَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ بِالْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ أَوِ الْقَالَبِ أَوَّلًا ; لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ، وَثَانِيًا بِالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّهَا التَّابِعَةُ لِلْأُخْرَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ الْأُخْرَوِيَّةَ لَا تَخْلُو عَنِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَأَنْقَى مِنَ الدَّنَسِ وَفِي نُسْخَةٍ أَبْقَى، أَيْ أَكْثَرُ بَقَاءً فَغَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ؛ مَعَ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ تَقْتَضِيهَا بَلِ النَّقَاوَةُ هِيَ عَيْنُ التَّقْوَى أَوْ بَعْضُهَا فِي الْمَعْنَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اخْتِلَافَ النُّسَخِ فِي أَتْقَى لَا فِي أَبْقَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ بِتَعَدُّدِ النُّقْطَةِ الْفَوْقِيَّةِ، أَوْ بِوَحْدَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَخِيرَ التَّصْحِيفُ ; لِأَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ الْمُعَوَّلِ (فَالْتَفَتُّ) كَذَا بِخَطِّ مِيرَكَ فِي الْهَامِشِ وَاقِعًا عَلَيْهِ عَلَامَةُ نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، أَيْ نَظَرْتُ إِلَى وَرَائِي (فَإِذَا هُوَ) أَيِ الْإِنْسَانُ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ فَاعْتَذَرْتُ عَنْ فِعْلِي (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هِيَ) أَيِ الْإِزَارُ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ:(بُرْدَةٌ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ كِسَاءٌ يَلْبَسُهُ الْأَعْرَابُ (مَلْحَاءُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ تَأْنِيثُ أَمْلَحَ، وَالْمُلْحَةُ بِالضَّمِّ بَيَاضٌ يُخَالِطُهُ سَوَادٌ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَقِيلَ: الْمَلْحَاءُ الَّتِي فِيهَا
خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ، وَقِيلَ: مَا فِيهِ الْبَيَاضُ أَغْلَبُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مُلْحَاءُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمِهِ، وَكَأَنَّ الصَّحَابِيَّ أَرَادَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ لَا خُيَلَاءَ فِيهَا، وَأَنَّ أَمْرَ بَقَائِهَا وَنَقَائِهَا سَهْلٌ لَا كُلْفَةَ مَعَهُمَا، فَأَجَابَهُ صلى الله عليه وسلم بِطَلَبِ الْإِقْتِدَاءِ بِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كَمَالِ الْحِكَمِ الشَّامِلَةِ لِعُمُومِ الْأُمَمِ بِسَبَبِهِ، وَحِينَئِذٍ (قَالَ أَمَا لَكَ) بِاسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وَمَا نَافِيَةٌ (فِيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ أَلَيْسَ لَكَ فِي فِعْلِي الْمُحْتَوِي عَلَى قَوْلِي وَحَالِي (أُسْوَةٌ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ قُدْوَةٌ وَمُتَابَعَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ أَيْ فِي قَوْلِي فَلَا يُلَائِمُهُ، قَوْلُهُ: (
فَنَظَرْتُ) أَيْ إِلَى لُبَاسِهِ (فَإِذَا إِزَارُهُ) بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ (إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْكَامِلِ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ; لِيَكْمُلَ هَذَا، وَقَدْ أَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، حَيْثُ قَالَ: كَانَ الصَّحَابِيُّ تَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ارْفَعْ إِزَارَكَ، الْأَمْرَ بِالْقَطْعِ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهَا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ لَا يُنَاسِبُ قَطْعُهَا، انْتَهَى.
وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا لَفْظًا فَإِنَّ إِرَادَةَ الْقَطْعِ مِنَ الرَّفْعِ لَا تُتَصَوَّرُ مِنْ عَجَمِيٍّ فَكَيْفَ تَجُوزُ مِنْ صَحَابِيٍّ عَرَبِيٍّ، وَأَمَّا مَعْنًى، فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ اعْتِذَارُهُ اعْتِرَاضًا مَعَ أَنَّ الْبُرْدَةَ الْمَلْحَاءَ مِمَّا يَلْبَسُهُ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ قَوْلُ الْعِصَامِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: أَرَادَ إِنَّهَا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ وَالْعَادَةُ فِي الِاكْتِسَاءِ بِهَا هُوَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ أَرْفَعُهَا انْتَهَى.
وَفَسَادُهُ لَا يَخْفَى ; وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِبَعْضِهِمْ هُنَا تَخْلِيطٌ فَاجْتَنِبْهُ، ثُمَّ بِمَا قَرَّرْنَاهُ سَابِقًا انْدَفَعَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، مِنْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِذَارَ إِنَّمَا يَتِمُّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: أَتْقَى بِالْفَوْقِيَّةِ ; لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ وَالْأَحْرَى بِالِاعْتِنَاءِ بِهِ إِذِ اخْتِلَالُهُ لَهُ يَقْدَحُ نُقْصَانًا فِي الدِّينِ، وَهُوَ التَّكَبُّرُ وَالْخُيَلَاءُ، وَلَمْ يَعْتَذِرْ عَنِ الْأَخِيرَيْنِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِمَا أَسْهَلُ وَأَخَفُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ نَصْرٍ) بِسُكُونِ مُهْمَلَةٍ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ) بِالتَّصْغِيرِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (عَنْ إِيَاسِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَهُوَ نِسْبَةٌ إِلَى الْجَدِّ، فَإِنَّ سَلَمَةَ بْنَ عَمْرٍو غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ (قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بِلَا انْصِرَافٍ.
وَقِيلَ: بِانْصِرَافٍ (يَأْتَزِرُ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا أَلِفًا، أَيْ يَلْبَسُ الْإِزَارَ وَيُرْخِيهِ (إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ بِقَرِينَةٍ، مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ فِي جَمْعِ الْأَنْصَافِ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْسِعَةِ (وَقَالَ) أَيْ عُثْمَانُ وَيُحْتَمَلُ سَلَمَةَ عَلَى بُعْدٍ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَكْرَارُ قَالَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ يَقُولُ عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ يَأْتَزِرُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ
مِنْهُ مُكَرَّرًا (هَكَذَا) أَيْ مِثْلَ هَذَا الِاتِّزَارِ الْمَذْكُورِ (كَانَتْ إِزْرَةُ صَاحِبِي) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الزَّايِ صِيغَةُ النَّوْعِ وَالْهَيْئَةِ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ عُثْمَانَ بِصَاحِبِي (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ سَلَمَةَ، أَوْ يَعْنِي سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَهُ إِيَاسٌ، وَفَائِدَةُ نَقْلِ سَلَمَةَ حِينَئِذٍ الْإِزْرَةَ عَنْ عُثْمَانَ، مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لِيُعْلَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ مَحْفُوظَةٌ مَعْمُولَةٌ لِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلْيَتَأَكَّدِ النَّدْبُ ; وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أَيِ ابْنُ سَعِيدٍ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَأَمَّا نُسْخَةُ ابْنِ سَعْدٍ بِلَا يَاءٍ فَتَحْرِيفٌ (أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَنْبَأَنَا، وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) أَيِ السُّبَيْعِيِّ (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ) بِضَمِّ نُونٍ وَفَتْحِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ يَاءٍ فَرَاءٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي نُسْخَةٍ يَزِيدُ بِفَتْحِ تَحْتِيَّةٍ، وَكَسْرِ زَايٍ آخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، فَفِي التَّقْرِيبِ مُسْلِمُ بْنُ نُذَيْرٍ مُصَغَّرًا، وَيُقَالُ: ابْنُ يَزِيدَ كُوفِيٌّ يُكَنَّى أَبَا عِيَاضٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ) بِكَسْرِ النُّونِ بِلَا يَاءٍ، كَانَ حُذَيْفَةُ صَاحِبَ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُنَافِقِينَ وَالْفِتَنِ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ قَبْلَ بَدْرٍ وَشَهِدَا أُحُدًا وَقُتِلَ أَبُوهُ فِي الْمَعْرَكَةِ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً، فَوَهَبَ لَهُمْ دَمَهُ (قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَضَلَةِ سَاقِي) بِفَتْحِ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، كُلُّ لَحْمَةٍ
مُجْتَمِعَةٍ فِي عَصَبٍ، فَفِي النِّهَايَةِ عَلَى وَزْنِ طَلْحَةَ، وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَفِي الْقَامُوسِ مُحَرَّكَةٌ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ (أَوْ سَاقَهُ) شَكٌّ مِنْ رَاوِي حُذَيْفَةَ هَلْ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِعَضَلَةِ حُذَيْفَةَ، أَوْ أَخَذَ بِعَضَلَةِ نَفْسِهِ، صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَقِيلَ: الشَّكُّ إِمَّا مِنْ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ، أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ حُذَيْفَةَ فَبَعِيدٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ مِيرَكُ: الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بِلَفْظِ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَسْفَلَ مِنْ عَضَلَةِ سَاقِي بِغَيْرِ شَكٍّ، انْتَهَى. فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّكَّ مِنْ حُذَيْفَةَ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَلَا يَتَّجِهُ جَزْمُ الشَّارِحِينَ بِأَنَّهُ مِنَ الرُّوَاةِ انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ مَنْ جَزَمَ بِهِ، بَلْ قَالُوا بِتَرْجِيحِهِ، وَأَمَّا ابْنُ حَجَرٍ مَعَ كَوْنِهِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْعِصَامِ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْجَزْمِ وَالْقَطْعِ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (هَذَا) أَيِ الْعَضَلَةُ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ تَذْكِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ (مَوْضِعُ الْإِزَارِ) أَيْ مَوْضِعُهُ اللَّائِقُ بِهِ (فَإِنْ أَبَيْتَ) أَيِ امْتَنَعْتَ مِنْ قَبُولِ النَّصِيحَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْعَمَلِ بِالْأَكْمَلِ وَالْأَفْضَلِ، وَأَرَدْتَ التَّجَاوُزَ عَنِ الْعَضَلَةِ، (فَأَسْفَلُ) بِالرَّفْعِ أَيْ فَمَوْضِعُهُ أَسْفَلُ مِنَ الْعَضَلَةِ قَرِيبًا مِنْهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ (فَإِنْ أَبَيْتَ فَلَا حَقَّ) أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَقَّ (لِلْإِزَارِ فِي الْكَعْبَيْنِ) أَيْ فِي وُصُولِهِ إِلَيْهِمَا وَالْمَعْنَى إِذَا جَاوَزَ
الْإِزَارُ الْكَعْبَيْنِ فَقَدْ خَالَفْتَ السُّنَّةَ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ الْإِزَارُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ انْتَهَى. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُخَرَّجَ فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فِي النَّارِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْبَالَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ جَائِزٌ، لَكِنْ مَا أَسْفَلَ مِنْهُ مَمْنُوعٌ ; وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ فِيمَا يَنْزِلُ إِلَيْهِ طَرَفُ الْإِزَارِ هُوَ نِصْفُ السَّاقِ، وَالْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ مَا تَحْتَهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَمَا نَزَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ فَمَمْنُوعٌ مَنْعَ تَحْرِيمٍ، وَإِلَّا فَمَنْعَ تَنْزِيهٍ، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ هَذَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْإِسْبَالِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ; لِئَلَّا يَنْجَرَّ إِلَى مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» ، وَيُفْهَمَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَنَّ الِاسْتِرْخَاءَ إِلَى مَا وَرَاءَ الْكَعْبَيْنِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ فِي مَعْنَى الْإِزَارِ الْقَمِيصَ، وَسَائِرَ الْمَلْبُوسَاتِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْإِزَارُ بِالذِّكْرِ بِنَاءً عَلَى الْقَضِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ، أَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ غَالِبَ مَلْبُوسَاتِهِمْ كَانَ إِزَارًا، قَالَ مِيرَكُ: وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْإِسْبَالِ مَنْ أَسْبَلَهُ لِضَرُورَةٍ كَمَنْ يَكُونُ بِكَعْبِهِ جُرْحٌ يُؤْذِيهِ الذُّبَابُ مَثَلًا، إِنْ لَمْ يَسْتُرْهُ بِإِزَارِهِ وَثَوْبِهِ حَيْثُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْعِرَاقِيُّ مُسْتَدِلًّا بِإِذْنِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي لُبْسِ قَمِيصِ الْحَرِيرِ مِنْ أَجْلِ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمَا فِيهِ لَمَّا شَكَيَا إِلَيْهِ الْقَمْلَ، وَجَمَعَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْعِلَّتَيْنِ كَانَتَا بِهِمَا مَعًا، أَوْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْأُخْرَى، أَوْ أَنَّ الْحَكَّةَ نَشَأَتْ عَنِ الْقَمْلِ فَنُسِبَتِ الْعِلَّةُ تَارَةً لِلسَّبَبِ، وَتَارَةً لِلْمُسَبِّبِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا جَوَازُ تَعَاطِي مَا نُهِيَ عَنْهُمَا شَرْعًا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، كَمَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِلتَّدَاوِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْإِسْبَالِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، لِمَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مُسْبِلِ الْإِزَارِ، قَالَتْ: كَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ، فَقَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ، فَالْمَقْصُودُ حُصُولُ السَّتْرِ وَالْمُجَاوَزَةُ عَنِ الْحَدِّ مَمْنُوعٌ، إِمَّا كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا، فَإِذَا لَبِسَتِ الْمَرْأَةُ خُفًّا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّجَاوُزُ عَنِ الْقَدَمِ فِي حَقِّهِنَّ، وَكَذَا جَوَازُ الْإِرْخَاءِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ لِلتَّسَتُّرِ، فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى جَمِيعِ الثِّيَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.