المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية - جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف - جـ ١

[عبد العزيز بن صالح بن إبراهيم الطويان]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌الفصل الأول: حياة الشيخ الأمين الشخصية

- ‌المبحث الأول: نسبه، وولادته

- ‌المبحث الثاني: نشأته

- ‌المبحث الثالث: قدومه إلى المملكة، واستقراره بها، واستقبال العلماء له

- ‌المبحث الرابع: صفاته الخِلقية

- ‌المبحث الخامس: صفاته الخُلقية

- ‌المبحث السادس: أدبه، وذكاؤه وظرفه، ومن مواقفه وأقواله

- ‌المبحث السابع: وفاته

- ‌الفصل الثاني: حياة الشيخ الأمين العلمية

- ‌المبحث الأول: "طلبه للعلم، وشيوخه

- ‌المبحث الثاني: عقيدته

- ‌المبحث الثالث: أعماله، ووظائفه

- ‌المبحث الرابع: تلاميذه

- ‌المبحث الخامس: مؤلفاته

- ‌المبحث السادس: ثناء العلماء عليه

-

- ‌الباب الأول: جهود الشيخ الأمين رحمه الله في توضيح الإيمان بالله

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: توحيد الربوبية

- ‌الفصل الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني: براهين التوحيد

- ‌المطلب الأول: دلالة الصفات على توحيد الألوهية

- ‌المطلب الثاني: البراهين الكونية

- ‌المبحث الثالث: أنواع العبادة

- ‌المطلب الأول: الدعاء

- ‌المطلب الثاني: التوكل

- ‌المطلب الثالث: الولاء والبراء

- ‌المطلب الرابع: الخوف والرجاء

- ‌المطلب الخامس: الحكم بما أنزل الله

- ‌المبحث الرابع: ما يضاد إخلاص العبادة

- ‌المطلب الأول: الشرك بالله تعالى

- ‌المطلب الثاني: الذبح لغير الله

- ‌المطلب الثالث: ادعاء علم الغيب

- ‌المطلب الرابع: الحلف بغير الله

- ‌المطلب الخامس: السحر

- ‌المطلب السادس: البناء على القبور

- ‌الفصل الثالث: جهود الشيخ الأمين في توضيح توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: جهود الشيخ في إبراز عقيدة السلف في الصفات

- ‌المطلب الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المطلب الثاني: معتقد السلف في الصفات يقوم على ثلاثة أسس

- ‌المطلب الثالث: قواعد في الصفات

- ‌المطلب الرابع: ذكر جملة من الصفات التي ذكرها الشيخ الأمين –رحمه الله

- ‌المبحث الثاني: موقف الشيخ رحمه الله من أهل التأويل

- ‌المطلب الأول: معاني التأويل

- ‌المطلب الثاني: بعض شبه أهل التأويل، وردّ الشيخ عليها

- ‌المطلب الثالث: مقارنة بين مذهب السلف والخلف

- ‌المطلب الرابع: رجوع بعض أئمة أهل التأويل عن مذهب الخلف إلى معتقد السلف

- ‌الباب الثاني: جهوده في توضيح بقية أركان ومباحث الإيمان

- ‌الفصل الأول: الإيمان بالملائكة والجن

- ‌الفصل الثاني: الإيمان بالكتب

الفصل: ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية

‌الفصل الثاني: توحيد الألوهية

‌المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية

المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية

هو أعظم أنواع التوحيد، وأشرفها. وهو متضمن لتوحيد الربوبية، فمن حقق توحيد الألوهية فقد أتى بالتوحيد الذي أراد الله من عباده، واستمسك بحبل الله المتين؛ لأنه المقصد الأعظم من بعثة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ومحور دعوتهم جميعاً.

وقد حرص الشيخ رحمه الله على مسلك السلف في تعريف هذا النوع من أنواع التوحيد، وإبراز أهميته. ووضح أنه هو معنى "لا إله إلا الله"؛ تلك الكلمة الخالدة التي دعا إليها كلّ نبيّ أمته، وحذرهم من مخالفتها.

وعرف الشيخ رحمه الله توحيد الألوهية، وحدد ضابطه؛ عرفه بأنه:"توحيده جلّ وعلا في عبادته"، وحدد ضابطه بقوله "وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى "لا إله إلا الله"؛ وهي مركبة من نفي وإثبات؛ فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ماكانت في جميع أنواع العبادات بإخلاص على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام"1.

وقد أورد رحمه الله الأدلة من القرآن الكريم على تعريفه لهذا النوع من التوحيد؛ فقال: "وأكثر آيات القرآن الكريم من هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد: قوله

1 أضواء البيان 3/410.

2 سورة ص، الآية [5] .

ص: 107

تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} الآية1، وقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلآ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4وقوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5. فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول: أن ما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد؛ لشمول كلمة "لا إله إلا الله" لجميع ماجاء في الكتب؛ لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده، فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب. والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة"6.

وعرف الشيخ رحمه الله توحيد الألوهية في موضع آخر بقوله: "إن توحيد الألوهية هو معنى كلمة "لا إله إلا الله"، وهي بلا شك متضمنة لجميع الشرائع، فيدخل في ذلك فعل كلّ واجب وغيره؛ كالمندوب، وترك كلّ محرم وغيره؛ كالمكروه"7.

ويقول عن هذا التوحيد في موضع آخر زيادة في الإيضاح: "إن الركن الأكبر الذي هو توحيد الله بأنواعه، المستلزم إفراده بالعبادة وحده هو منتهى التحرر من الرق والعبودية للمخلوقين؛ ومن جملتهم النفس والهوى

1 سورة محمد، الآية [19] .

2 سورة النحل، الآية [36] .

3 سورة الأنبياء، الآية [25] .

4 سورة الزخرف، الآية [45] .

5 سورة الأنبياء، الآية [108] .

6 أضواء البيان 3/410، 411.

7 معارج الصعود ص40.

ص: 108

والشيطان –كفانا الله وإخواننا المسلمين شر ذلك كله والهوى والشيطان-"1.

فالشيخ رحمه الله اعتنى بهذا التوحيد، شأنه شأن العلماء المحققين السائرين على منهج السلف الصالح الذين فهموا دعوة الرسل وحقيقة التوحيد، وأنها إفراد الله بكل أنواع العبادة، والكفر بكل ما يعبد من دون الله، والتمييز بين حقوق الله الخاصة به سبحانه، وبين حقوق خلقه.

وللتدليل على أن الشيخ رحمه الله لم يخرج عن منهاج السلف، بل اقتفى أثرهم في الاعتناء بهذا النوع من أنواع التوحيد أذكر تعريفاً واحداً من تعاريف السلف لهذا التوحيد؛ يقول الإمام ابن تيمية2-رحمه الله:"فإنّ حقيقة التوحيد: أن نعبد الله وحده، فلا يدعى إلا هو، ولا يُخشى إلا هو، ولا يُتقى إلا هو، ولايتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، لا لأحد من الخلق، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم"3.

ويلاحظ التوافق بين هذا التعريف، وتعريف الشيخ رحمه الله، بل السلف كلهم على هذا التعريف.

ولم يقتصر اعتناء الشيخ رحمه الله بهذا النوع من أنواع التوحيد على مجرد ذكره وتبيين أهميته في كتبه، بل نراه لا يدع مناسبة إلا ويحرص على التدليل على أهميته، وتبيين أنه أصل الدين وأساسه؛ يقول في محاضرة ألقاها في المسجد النبوي متحدثاً عن هذا النوع العظيم من أنواع التوحيد: "توحيده جلّ وعلا في عبادته هو الذي فيه جميع المعارك بين الرسل والأمم،

1 منهج التشريع الإسلامي ص11.

2 تقدمت ترجمته.

3 منهاج السنة النبوية 3/490.

ص: 109

وهو الذي أرسلت لتحقيقه، وحاصله هو معنى "لا إله إلا الله"؛ فهو مبني على أصلين هما النفي والإثبات في "لا إله إلا الله". فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادة كائنة ماكانت. ومعنى الإثبات منها: هو إفراده جلّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادة على الوجه الذي شرع أن يعبد به. وجلّ القرآن في هذا النوع: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلآ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3. {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5. والآيات في هذا كثيرة جداً6.

ونراه رحمه الله أثناء مروره بـ"أم درمان" متجهاً إلى الديار المقدسة يُسأل عن قصة الغرانيق7، فيوضحها، ويتكلم عن إخلاص العبادة لله تعالى فيقول: "فإخلاص العبادة لله وحده هو دعوة عامة الرسل، وأشدهم فيه احتياطاً خاتمهم صلى الله عليه وسلم ، ولذا منع بعض الأمور التي كانت مباحة عندهم احتياطا في توحيد الله في عبادته جلّ وعلا، فالسجود

1 سورة النحل، الآية [36] .

2 سورة الأنبياء، الآية [25] .

3 سورة البقرة، الاية [256] .

4 سورة الزخرف، الآية [45] .

5 سورة الأنبياء، الآية [108] .

6 المعين والزاد ص65.

7 تتلخص قصة الغرانيق فيما يأتي: ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم بمكة، فلما بلغ:"أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى"ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فلما بلغ السجدة سجد، فسجد معه المسلمون والمشركون.

وقد رجح الشيخ الشنقيطي رحمه الله عدم صحتها، وعضّد قوله بأقوال عدد كبير من العلماء الذين أنكروها.

(انظر: رحلة الحج ص128-130. وكذا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/207-212-) .

ص: 110

لمخلوق في شريعته السمحة كفر بالله تعالى، مع أنه كان جائزاً في شرع غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ كما قال تعالى عن يعقوب وأولاده في سجودهم ليوسف:{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} 1، ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس أنه ما أوحي إليه إلا توحيد الله تعالى في عبادته في قوله:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. وقد تقرر عند الأصوليين والبيانيين أنّ لفظ "إنما" من أدوات الحصر، فدلت الآية على حصر الموحى إليه صلى الله عليه وسلم في أصله الأعظم الذي هو "لا إله إلا الله"؛ لأنها دعوة جميع الرسل، وغيرها من شرائع الإسلام وفروعها التابعة لها. ولهذا صار مكذب رسول واحد مكذبا لجميع الرسل؛ لأن دعوتهم واحدة؛ قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} 3؛ أي بتكذيبهم نوحاً. {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} 4؛ أي بتكذيبهم هودا.

1 سورة يوسف، الآية [100] .

2 سورة الأنبياء، الآية [108] .

3 سورة الشعراء، الآية [105] .

4 سورة الشعراء، الآية [123] .

ص: 111

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} 1؛ أي بتكذيبهم لوطاً. {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} 2؛ أي بتكذيبهم شعيباً. فهذه الآيات تدل على أن مكذب رسول واحد مكذب لجميع الرسل؛ وذلك لاتحاد دعوتهم، وهي مضمون لا إله إلا الله" 3.

وسيأتي مزيد بيان لهذا الموضوع.

والمقصود أن الشيخ رحمه الله لم يترك مناسبة تمرّ إلا وأفاض فيها في الكلام عن توحيد الألوهية، وأنه دعوة جميع الأنبياء عليهم السلام، وأنّ الله سبحانه وتعالى ما خلق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب إلا ليعبد ولايشرك معه شيء.

ونراه كذلك رحمه الله يسترسل في ذكر الأدلة الصريحة من القرآن الكريم الدالة على شأن العبادة وعظمها؛ فيقول "والآيات الدالة على أن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجل أن يعبد الله وحده كثيرة جداً؛ كقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلآ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 5، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 6، وغير ذلك من الآيات"7.

والشيخ رحمه الله قد أوضح أن توحيد الألوهية هو معنى "لا إله إلا الله" التي من أجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب.

1 سورة الشعراء، الآية [160] .

2 سورة الشعراء، الآية [176] .

3 رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ص134.

4 سورة النحل، الآية [36] .

5 سورة الأنبياء، الآية [25] .

6 سورة الزخرف، الآية [45] .

7 أضواء البيان 3/8.

ص: 112

وببيان معنى هذه الكلمة العظيمة تكتمل الفائدة ببيان تعريف توحيد الألوهية.

معنى "لا إله إلا الله"

" لا إله إلا الله" كلمة التوحيد التي من حققها دخل الجنة، وكان من الآمنين يوم القيامة. وهي أصل الدين، ودعوة جميع الأنبياء والمرسلين؛ من لدن نوح عليه السلام، وحتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كلّ منهم يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.

ولأهمية هذه الكلمة وعظمها قال عنها الإمام ابن القيم1 رحمه الله: "كلمة قامت بها الأرض والسموات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه. ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار. وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار. فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد. وهي حق الله على جميع العباد؛ فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون. فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟، وماذا أجبتم المرسلين؟. فجواب الأولى بتحقيق "لا إله إلا الله" معرفة وإقراراً وعملاً. وجواب الثانية بتحقيق "أن محمداً رسول الله" معرفة وإقراراً وانقياداً وطاعة"2.

وقد سلك الشيخ رحمه الله مسلك السلف في تفسير معنى "لا إله إلا

1 تقدمت ترجمته.

2 زاد المعاد 1/134.

ص: 113

الله" فقال: "إن معناها: لا معبود بحق إلا الله" 1.

وهذا هو التفسير الصحيح الذي ارتضاه السلف الصالح رحمهم الله؛ يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب2رحمهم الله: "ومعنى لا إله إلا الله: أي لامعبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لاشريك له؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلآ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3، مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4، فصح أن معنى الإله: هو المعبود. ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: "قولوا لا إله إلا الله" قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 5. وقال قوم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 6، وهو إنما دعاهم إلى "لا إله إلا الله". فهذا هو معنى "لا إله إلا الله"، وهو: عبادة الله، وترك عبادة ما سواه؛ وهو الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله"7.

ولم يقتصر الشيخ الأمين رحمه الله على التعريف السابق بل زاد معنى "لا إله إلا الله" توضيحاً بذكر ما اشتملت عليه من نفي وإثبات، وببيان أن الدين الإسلامي قائم على هذه الكلمة؛ فقال عند تفسيره لقوله

1 انظر: أضواء البيان 4/508، 6/273. ومعارج الصعود ص143.

2 هو الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. من أئمة الدعوة المجاهدين. ولد في الدرعية سنة (1200هـ) . كان قاضياً على مكة المكرمة في عهد الدولة السعودية الأولى. مات مقتولاً في الدرعية عام (1233هـ) عندما هاجمها إبراهيم باشا.

(انظر: علماء نجد خلال ستة قرون 1/293. والأعلام 3/123) .

3 سورة الأنبياء، الآية [25] .

4 سورة النحل، الآية [36] .

5 سورة ص، الآية [5] .

6 سورة الأعراف، الآية [70] .

7 تيسير العزيز الحميد ص73.

ص: 114

تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1: "إن حصر الوحي في آية الأنبياء هذه في توحيد العبادة حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع؛ لأن شرائع الأنبياء كلهم داخلة في ضمن معنى "لا إله إلا الله"؛ لأن معناها خلع جميع المعبودات غير الله جل وعلا في جميع أنواع العبادات، وإفراده جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات؛ فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية"2.

ويقول رحمه الله في موضع آخر: "وقد حصر الله جل وعلا الوحي كله في هذه الكلمة؛ حيث قال: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3؛ وذلك أنها تحتوي على مضمون كلّ الكتب السماوية والشرائع الإلهية، وتشملها؛ لأنها مركبة من نفي كل الآلهة –غير الله-، ونفي عبادتها، وإثبات كلّ العبادات لله وحده، ففيها يدخل كلّ تقرب إلى الله تعالى من عقائد وأعمال، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 4. فكل التكليفات والحقوق مندرجة تحت هذه الكلمة، ولهذا قال نبي الله هود: "أعبدوا الله"؛ أي تقربوا إليه وحده بما أمركم بالتقرب به إليه من العبادات على وجه الخضوع والذلّ والمحبة، فلا تكفي المحبة دون الخضوع والذلّ، لأنها قد تكون طبيعية، ولا يكفي مجرد الخضوع والذلّ؛ لأنه قد يكون خاضعاً لمن يبغضه، تحت قهره وسلطانه، وباجتماع ذلك يحصل كمال العبودية لله"5.

1 سورة الأنبياء، الآية [108] .

2 أضواء البيان 3/8.

3 سورة الأنبياء، الآية [108] .

4 أخرجه مسلم 1/53.

5 معارج الصعود ص136. وانظر المصدر نفسه ص204.

ص: 115

وبهذا يتضح اهتمام الشيخ رحمه الله بمعنى "لا إله إلا الله". واقتداؤه في تفسيرها بسلف هذه الأمة، وسلوكه مسلكهم من حيث إيضاح معناها غاية الإيضاح. وبيان أنها قاعدة الدين، ومنتهى غاية المؤمنين.

وقد كرر رحمه الله نحو هذا الكلام في عدة مواضع من كتابه أضواء البيان1. وفي غيره من كتبه2.

وأذكر هنا من أقوال السلف مايعضد فهم الشيخ رحمه الله لمعنى "لا إله إلا الله" المشتملة على النفي والإثبات:

فمن ذلك: قول شيخ الإسلام ابن تيمية3-رحمه الله بعد كلامه على إخلاص العبادة لله: "وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإنها تنفي عن قلبه ألوهية ماسوى الحق، وتثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافياً لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتاً لألوهية رب العالمين، ورب الأرض والسماوات. وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله وعلى مفارقة ماسواه؛ فيكون مفرقا –في علمه وقصده، في شهادته وإرادته، في معرفته ومحبته- بين الخالق والمخلوق؛ بحيث يكون عالماً بالله تعالى، ذاكرا له، عارفاً به. وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وإنفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محباً لله، معظماً له، عابداً له، راجياً له، خائفاً منه، محباً فيه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به، متوكلاً عليه، ممتنعاً عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك مما هو من خصائص إلهيته

1 انظر: أضواء البيان 1/103، 2/47، 3/205، 267.

2 انظر: تفسير سورة النور –جمع د/عبد الله القادري- ص197.

ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/204، 225.

3 تقدمت ترجمته.

ص: 116

سبحانه وتعالى" 1.

ومن أقوال العلماء الذين اشتهر عنهم تمسكهم بمنهج السلف في مسائل العقيدة، واهتمامهم بهذا النوع من التوحيد خاصة؛ أذكر قول الإمام محمد بن عبد الوهاب2-رحمه الله في معنى "لا إله إلا الله" مؤيداً بذلك كلام الشيخ الأمين رحمه الله في هذا المعنى يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:"فإن هذه الكلمة "لا إله إلا الله" نفي وإثبات؛ نفي الإلهية عما سوى الله سبحانه وتعالى من المخلوقات، حتى من المرسلين البشر وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وحتى من الملائكة وجبريل عليهم وعلى جميع المرسلين الصلاة والسلام، فضلاً عن غيرهم من الأنبياء والصالحين وسائر المخلوقات؛ وإثباتها بجميع أنواعها كلها لله عز وجل وحده لا شريك له"3.

والخلاصة: أنّ الشيخ الأمين رحمه الله يرى أن معنى "لا إله إلا الله" لا يقتصر على النطق بها، بل يجب تحقيق لوازمها، مع ترك ما يناقضها؛ فالجهل بمعناها جهل بالدين لا ينجي من الخلود في النار، فإنّ "لا إله إلا الله" هي معنى توحيد الألوهية؛ الذي هو دعوة الرسل جميعاً.

1 العبودية ص156. وانظر شرح العقيدة الطحاوية ص111.

2 هو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي الوهيبي التميمي، مجدد الدعوة في الجزيرة العربية. ولد في العيينة سنة (1115?)، وتوفي في الدرعية سنة (1206?) . (انظر: علماء نجد 1/25) .

3 مؤلفات الشيخ/ القسم الأول –العقيدة: تفسير كلمة التوحيد- ص363، 364.

ص: 117