الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: السحر
السحر من الأعمال المحرمة التي تضادّ التوحيد، وهو محادة لله ورسوله.
أنواعه كثيرة، ومن أعظمها السحر الذي لا يتم إلا بالإشراك بالله والتقرب إلى الشياطين، حتى يحققوا للساحر مراده من حصول بعض التأثيرات القبيحة فيمن يريد أن يسحره.
ومنه ما تحصل بسببه بعض التأثيرات القبيحة: كالتلبيس على العقول، أو القتل، أو التفريق بين المتحابين، أو أعمال أخرى كثيرة ومؤذية.
والسحر لا يؤثر إلا بإذن الله وإرادته الكونية؛ قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} "1.
لذلك حارب الإسلام السحر، وحرمه على المسلمين لما فيه من ادعاء الاطلاع على المجهول، وذلك مشاركة لله في علمه، وكذلك لما فيه من التوسل إلى الشياطين والتقرب إليهم ليساعدوه في تحقيق مأربه.
وقليل السحر وكثيره لا يتم إلا بالتعرض لغضب الله وسخطه، وهو من
1 سورة البقرة، الآية [102] .
السبع الموبقات.
وقد بسط الشيخ الأمين –رحمه الله الكلام عن السحر، وطرقه من جميع جوانبه. وقد أطال النفس فيه جداً؛ فتكلم عن تعريفه، وهل هو حقيقة أو خيال؟ وحكم متعاطيه، وغير ذلك من المباحث.
تعريف السحر:
عرفه رحمه الله لغة بقوله: "يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه، ولطف، ودق، ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر"1.
أما التعريف الإصطلاحي، فقال فيه:"لا يمكن حده بحدّ جامع مانع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك يكون جامعاً لها، مانعاً لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً"2.
ولهذا السبب لم يعرف الشيخ الأمين –رحمه الله السحر تعريفاً اصطلاحيا؛ لأنه يرى أنه يصعب أن يحد بتعريف يكون شاملاً لجميع أنواعه وطرقه.
حقيقة السحر:
اختلف الناس في السحر: هل هو حقيقة، أم خيال فذكر الشيخ3
1 أضواء البيان 4/444. وانظر أيضاً: المصدر نفسه 4/445. ومعارج الصعود ص51. وهو قول ابن منظور في لسان العرب 4/348.
2 أضواء البيان 4/444.
3 ذكر ذلك في أضواء البيان 4/444.
-رحمه الله أنّ المعتزلة1وغيرهم2ذهبوا إلى أنه لا حقيقة للسحر3، وأنهم احتجوا بقوله تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 4، وبقوله تعالى:{فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} الآية5.
وذهب الجمهور إلى أن منه ما له حقيقة، وليس خيالاً فقط كما توهم البعض.
ورجح الشيخ الأمين –رحمه الله ما ذهب إليه الجمهور، وذكر شيئا من أدلتهم، فقال رحمه الله:"والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة، لا مطلق تخييل لا حقيقة له. ومما يدلّ على أن منه ما له حقيقة قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 6؛ فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سبباً للتفريق بين الرجل وامرأته. وقد عبر الله عنه بـ"ما" الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي. ومما يدل على ذلك أيضاً قوله
1 المعتزلة سموا بذلك لاعتزال رئيسهم واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري. وقيل لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر. ولهم أصول خمسة اشتهروا بها: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(انظر: الفرق بين الفرق ص 20، 114. والملل والنحل 1/43. وخطط المقريزي 2/345. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص49) .
2 وممّن قال بهذا القول –كما ذكر الحافظ ابن حجر- أبو جعفر الاستراباذي –من الشافعية-، وأبوبكر الرازي –من الحنفية-، وابن حزم الظاهري (فتح الباري10/233) .
3 قال بذلك الزمخشري المعتزلي في الكشاف 2/103. وقد رد عليه ابن المنيّر في حاشية الكتاب المذكور، وبين خطأ هذا القول وأوضح معتقد أهل السنة والجماعة (وانظر: بدائع الفوائد 2/227) ، ومن المعاصرين أيضا من ينكر حقيقة السحر.
4 سورة طه، الآية [66] .
5 سورة الأعراف، الآية [116] .
6 سورة البقرة، الآية [102] .
تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 1؛ يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن. فلولا أن السحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه"2.
وهذه الأدلة التي استدل بها الشيخ الأمين –رحمه الله على حقيقة السحر أدلة صريحة على أنّ للسحر أثرا، ومنه ما هو حقيقة ومحسوس، وليس كله خيالاً.
وأما جانب الخيال في السحر: فيجعل الشيخ –رحمه الله من قصة سحرة فرعون مثالاً على الخيال في السحر، ولا يرضى قول من قال: إنّ سحرهم حقيقة لا خيال، فيقول رحمه الله:"فإن قيل: قوله في (طه) : {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ} الآية3، وقوله في (الأعراف) {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} 4الدالان علىأن سحر فرعون خيال لا حقيقة له، يعارضهما قوله في) الأعراف) : {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} 5؛ لأن وصف سرحهم بالعظيم يدل على أنه غير خيال. فالذي يظهر في الجواب –والله أعلم- أنهم أخذوا كثيرا من الحبال والعصي، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال والعصي تسعى، وهي كثيرة. فظنّ الناظرون أنّ الأرض ملئت حيات تسعى لكثرة ما ألقوا من الحبال والعصي، وخافوا من كثرتها، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وُصف سحرهم بالعظم. وهذا ظاهر لا إشكال فيه"6.
فالشيخ رحمه الله يوضح أن السحر وصف بالعظم؛ لكثرة ما ألقى
1 سورة الفلق، الآية [4] .
2 أضواء البيان 4/437-438. وانظر: معارج الصعود ص51-52.
3 سورة طه، الآية [66] .
4 سورة الأعراف، الآية [116] .
5 سورة الأعراف، الآية [116] .
6 أضواء البيان 4/438.
السحرة من الحبال والعصي، ولتخييلهم للناس أنها تسعى. فهذا النوع ليس السحر فيه حقيقة، بل هو تخييل.
وقد وافق الشيخُ رحمه الله في فهم هذه الآية الحافظ ابن حجر حيث إنه جعل سحر سحرة فرعون من الخيال، لا من الحقيقة، فقال عند قوله تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 1:"هذه الآية عمدة من زعم أن السحر إنما هو تخييل. ولا حجة له بها؛ لأن هذه وردت في قصة سحرة فرعون، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل"2.
فما قاله الشيخ الأمين –رحمه الله من أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون إنما هو تخييل، هو الصواب؛ فلا شك أنه من التخييل الناتج من تأثير السحر على أبصارهم حتى رأت غير الحقيقة؛ كما قال تعالى:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} 3.
وحاصل الكلام أن السحر قسمان –كما ذكر ذلك الشيخ الأمين-: حقيقي، وخيالي، وهذا التقسيم تعضده الأدلة النقلية وهو مذهب جمهور المسلمين.
قال الإمام القرطبي رحمه الله بعد ما ساق أدلة المعتزلة التي استدلوا بها علىأن السحر خيال لا حقيقة؛ مثل قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاس} 4، وقوله تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 5،
1 سورة طه، الآية [66] .
2 فتح الباري 10/235-236.
وقد ذكر نحو هذا الكلام الإمام ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث ص123.
3 سورة الأعراف، الآية [116] .
4 سورة الأعراف، الآية [116] .
5 سورة طه، الآية [66] .
فقال: "وهذا لا حجة فيه؛ لأننا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل، وورد بها السمع؛ فمن ذلك ما جاء في هذه الآية1من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس، فدلّ على أنّ له حقيقة"2.
وأخيراً أختم كلام العلماء في هذا الجانب بقول أحد أئمة الدعوة البارزين؛ وهو الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله الذي قال: "وقد زعم قوم من المعتزلة وغيرهم أن السحر تخييل لا حقيقة له، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل منه ما هو تخييل، ومنه ما له حقيقة"3.
حكم استعمال السحر، وتعلمه:
أوضح الشيخ الأمين –رحمه الله أن قول جمهور العلماء –منهم أبو حنيفة، ومالك، وأصحاب أحمد، وغيرهم- في الذي يستعمل السحر ويتعلمه أنه يكفر بذلك. وفي رواية عن أحمد ما يقتضي عدم كفره. وفصل الشافعي رحمه الله في هذه المسألة، فقال: "إذا تعلم السحر، قلنا له: صف لنا سحرك. فإن وصف ما يوجب الكفر؛ مثل ما في سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها فهو كافر. وإن كان لا يوجب
الكفر: فإن اعتقد إباحته فهو كافر، وإلا فلا" 4.
1 يعني قوله تعالى في سورة البقرة، الآية [116] ?فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه?.
2 الجامع لأحكام القرآن 2/32.
3 تيسير العزيز الحميد ص383.
4 انظر: أضواء البيان 4/455. وانظر أيضاً: شرح النووي على صحيح مسلم 14/176. والمغني 12/300. وتيسير العزيز الحميد ص384. وكتاب الدين الخالص 2/322.
وقول الشيخ الأمين –رحمه الله في هذه المسألة شبيه بقول الشافعي وأصحابه، حيث إنه لا يكفر الساحر إلا أن يكون في سحره شرك بالله، فإن كان يتم بدون الإشراك بالله فهو لا يصل إلى الكفر، ولكنه محرم تحريماً شديداً، فيقول رحمه الله موضحاً هذا المعنى:
"والتحقيق في هذه المسألة هو التفصيل، فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر، فهو كفر بلا نزاع. ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة؛ فإنه كفر بلا نزاع، كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} 1وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 2، وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 3، وقوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 4.... وإن كان السحر لا يقتضي الكفر؛ كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها: فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر"5.
والشيخ الأمين –رحمه الله ربط حكم السحر بما يتصل به من أسباب؛ فإن كانت أسبابه كفراً، وكان لا يتم إلا بالتقرب إلى الشياطين والكواكب: فهو من أنواع السحر التي يكفر متعاطيها، وإن كانت أسبابه غير مكفرة؛ بمعنى أن الساحر لا يعظم أحداً سوى الله، ولا يدّعي أنه يعلم الغيب، ولا يصرف شيئاً من العبادة لغير الله: فهذا ليس كفراً وإن اشتمل على التخييل والكذب والخداع والغش، بل هو عمل محرم من كبائر الذنوب.
1 سورة البقرة، الآية [102] .
2 سورة البقرة، الآية [102] .
3 سورة البقرة، الآية [102] .
4 سورة طه، الآية [69] .
5 أضواء البيان 4/456.
وللإمام النووي1-رحمه الله كلام قريب من هذا المعنى؛ فقد قال رحمه الله عن حكم السحر: "إنه قد يكون كفراً، وقد لا يكون كفراً، بل معصية كبيرة. فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر، وإلا فلا. وأما تعلمه ونعليمه فحرام؛ فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا. وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر، واستتيب منه، ولا يقتل عندنا، فإن تاب قبلت
توبته"2.
وهكذا يتبين أن كلام العلماء رحمهم الله يتفق مع ما ذكره الشيخ الأمين –رحمه الله من عدم كفر الساحر مطلقاً، بل الأمر فيه تفصيل –كما مر معنا-.
1 تقدمت ترجمته ص؟؟.
2 شرح النووي على صحيح مسلم 14/176. وانظر للاستزادة أيضاً: فتح الباري 10/235، وتيسير العزيز الحميد ص 384.
حد الساحر:
اختلف العلماء رحمهم الله في حد الساحر: هل يقتل بمجرد فعله السحر، أو لا؟.
فذكر الشيخ الأمين رحمه الله أقوال العلماء في هذه المسألة؟، وذكر أدلتهم، ثم ذكر ما ترجح لديه من هذه الأقوال.
وسوف أستعرض أقوال العلماء، وأدلتهم، وما ترجح لدى الشيخ الأمين رحمه الله في هذه المسألة:
اتفق الأئمة الأربعة على قتل الساحر كفراً إذا تضمن سحره الكفر1.
أما إن قتل بسحره إنساناً، ولم يكن سحره متضمناً الكفر: فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله. أما أبو حنيفة رحمه الله فقال: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك، أو يقرّ بذلك في حقّ شخص معين.
وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإنه قال: يقتل والحالة هذه قصاصاً2.
أما هل يقتل الساحر بمجرد فعله السحر؟
قال مالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد: يقتل3.
وقال الشافعي: الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر يقتل، فإذا عمل عملاً دون الكفر لم نر عليه قتلا4. وهو رواية عن أحمد5.
أما عن قبول توبة الساحر: فقد منع من قبولها الإمام أبو حنيفة، والإمام
1 انظر: تفسير القرطبي 2/33. وأضواء البيان 4/457.
2 انظر: تفسير القرآن العظيم1/147. وشرح النووي على صحيح مسلم 14/176.
3 انظر: المغني 12/302. وتيسير العزيز الحميد ص391.
4 انظر: فتح الباري 10/247. والمغني 12/302.
5 المغني 12/302 وتيسير العزيز الحميد ص391.
مالك، والإمام أحمد في رواية. وقال الإمام الشافعي والإمام أحمد في رواية أخرى: تقبل توبته.
وأما ساحر أهل الكتاب: فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل ساحر المسلمين. وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل: يعني لقصة لبيد بن الأعصم.
وأما الساحرة التي تنتسب إلى الإسلام: فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل، ولكن تحبس. وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل1.
ونخلص من ذلك إلى أنه لا خلاف بين العلماء في قتل الساحر إذا اشتمل سحره على الكفر، أو قتل بسحره شخصاً معيناً بإقراره وإنما الخلاف في قتل الساحر الذي يشتمل سحره على عمل دون الكفر –كما مر عند ذكر أقوال العلماء في ذلك-.
وقد ترجح لدى الشيخ الأمين رحمه الله أن الساحر الذي لا يتمّ سحره إلا بالكفر: يقتل كافراً إن لم يتب؛ لأنه قد ارتد وبدل دينه. لكن إن استتيب فتاب وأناب فالراجح قبول توبته:
يقول رحمه الله: "إن السحر نوعان.... منه ما هو كفر، ومنه ما لا يبلغ بصاحبه الكفر. فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر: فلا شك في أنه يقتل كفراً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 2. وأظهر القولين عندي في استتابته: أنه يستتاب، فإن تاب قبلت توبته"3.
ويعلل رحمه الله قبول توبة الساحر، فيقول: "لأن الله لم يأمر
1 انظر: تفسير ابن كثير 1/147. وأضواء البيان 4/456، 457.
2 أخرجه البخاري في الصحيح 8/163.
3 أضواء البيان 4/458.
نبيه، ولا أمته صلى الله عليه وسلم بالتنقيب عن قلوب الناس، بل بالاكتفاء بالظاهر. وما يخفونه في سرائرهم أمره إلى الله تعالى" 1.
وأما ساحر أهل الكتاب: فيؤكد رحمه الله أنه يقتل، فيقول:"وأظهر الأقوال عندنا أنه لايكون أشد حرمة من ساحر المسلمين، بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين"2.
وأما من استدلّ بقصة لبيد بن الأعصم على عدم قتل ساحر أهل الكتاب: فقد ردّ الشيخ الأمين رحمه الله، وبين سبب عدم قتل لبيد بن الأعصم مع أنه سحر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة. فدلّ على أنه لولا ذلك لقتله. وقد ترك المنافقين لئلا يقول الناس محمد يقتل أصحابه، فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام، مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق؛ وهو عبارة عن المنافق –والله أعلم-"3.
وأما المرأة الساحرة: فيرجح رحمه الله أن حكمها حكم الرجل على التفصيل المتقدم، فيقول:"وأظهر القولين عندي: أن المرأة الساحرة حكمها حكم الرجل الساحر، وأنها إن كفرت بسحرها قتلت كما يقتل الرجل؛ لأن لفظة (من) في قوله: "من بدل دينه فاقتلوه " 4 تشمل الأنثى على أظهر القولين وأصحهما إن شاء الله تعالى. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الآية5؛ فأدخل الأنثى في لفظة (من)، وقوله تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنّ} الآية6
1 المصدر نفسه 4/458.
2 أضواء البيان 4/471.
3 المصدر نفسه 4/471.
4 تقدم تخريجه قبل صفحتين.
5 سورة النساء، الآية [124] .
6 سورة الأحزاب، الآية [30] .
وقوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ} 1، إلى غير ذلك من الآيات" 2.
وللعلماء أدلة وحجج في قتل الساحر وعدمه. وقد ذكر الشيخ الأمين رحمه الله هذه الأدلة وناقشها، ثم رجح ما يظهر له أنه الصواب من الأقوال في ذلك. وهاك تفصيل ذلك:
أولاً: الذين قالوا بقتل الساحر مطلقاً:
استدلوا بآثار عن الصحابة، وحديث. فمن هذه الآثار:
1-
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بسنة: "اقتلوا كل ساحر". قال الراوي: فقتلنا في يوم واحد ثلاث سواحر3.
2-
وما رواه مالك من أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت4.
3-
ومارواه البخاري في تاريخه الكبير: "كان عند الوليد رجل يلعب. فذبح إنساناً وأبان رأسه، فجاء جندب الأزدي5 فقتله"6.
4-
وبما رواه الترمذي والدارقطني عن جندب قال: قال رسول الله
1 سورة الأحزاب، الآية [31] .
2 أضواء البيان 4/459.
3 أخرجه أبو داود 3/431-432. وقال عنه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: إسناده حسن.
(انظر تيسير العزيز الحميد ص391-392) .
4 الموطأ 2/871.
5 هو جندب بن كعب بن عبد الله الأزدي، أبو عبد الله الغامدي. الملقب بـ (جندب الخير) . قال علي بن المديني، وابن حبان: له صحبة.
(انظر: الاستيعاب 1/218. والإصابة 1/250) .
6 التاريخ الكبير للبخاري/ القسم الثاني من الجزء الأول ص222.
صلى الله عليه وسلم: " حد الساحر ضربة بالسيف"1.
قال الشيخ الأمين رحمه الله عن هذه الأدلة: "فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحداً من الصحابة أنكرها على من عمل بها، مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور. وهي حجة من قال بقتله مطلقاً. والآثار المذكورة، والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر؛ لأن الساحر الذي قتله جندب رضي الله عنه كان سحره من نحو الشعوذة والأخذ بالعيون، حتى إنه يخيل إليهم أنه أبان رأس الرجل، والواقع بخلاف ذلك. وقول عمر: "اقتلوا كل ساحر" يدل على ذلك لصيغة العموم2"3.
فالشيخ رحمه الله يرى أن هذه الأدلة قوية ومعتبرة، ولها وزنها في الحكم؛ (أعني الحكم بقتل الساحر مطلقاً) ؛ حيث إنها من عمل بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يعلم أن أحداً من الصحابة أنكرها على من عمل بها.
1 سنن الترمذي 4/60، وقال: والصحيح عن جندب موقوف. وسنن الدارقطني 3/114.
وقال الشيخ الألباني: ضعيف (كما في سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/641)، وقال الشيخ الأمين: لا يصح (كما في أضواء البيان 4/459) .
2 قال الشيخ الأمين رحمه الله عن الساحر الذي قتله جندب:"إن سحره من نحو الشعوذة، والأخذ بالعيون، وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام"(كما في أضواء البيان 4/462) . ويفهم من كلامه أن سحر التخييل ليس كفراً.
ولست أدري كيف يتفق كلامه هنا مع كلامه عن سحرة فرعون – (الذين كان سحرهم تخييلاً) - عندما فسر قوله تعالى: {ولايفلح الساحر حيث أتى} فقال:"وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه، وهو الكافر"(أضواء البيان 4/442) .
وقد فصل رحمه الله كما مر معنا فيما مضى- في حكم الساحر؛ إن كان لا يتم سحره إلا بالكفر فهو كافر، وإن كان لا يبلغ الكفر فهو محرم حرمة شديدة. وسحر الشعوذة والتخييل قد لا يتم إلا بطاعة الشيطان، والكفر بالرحمن، فيكفر فاعله بالله العظيم. وعلى هذا المنهج يقال إن سحر الشعوذة والتخييل ليس مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام على إطلاقه، بل الأمر فيه التفصيل السابق.
3 أضواء البيان 4/461.
ثانياً: أدلة من فصّلوا في الحكم على الساحر:
ذكر الشيخ الأمين رحمه الله أدلة الفريق الثاني، وهي كما يلي:
1-
استدلوا بما رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة"1.
ووجه الاستشهاد بهذا الحديث: أن السحر الذي لم يكفر صاحبه ليس من الثلاث المذكورة في الحديث.
2-
واحتجوا بأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها2.
ولو وجب قتلها لما جاز بيعها.
وذكر الشيخ رحمه الله أن بعضهم3 أراد أن يوفق بين أدلة الفريقين بحمل أدلة الفريق الأول الدالة على قتل الساحر مطلقاً بأن المراد السحر الذي يشتمل على كفر. أما الذي لا يبلغ سحره الكفر فتحمل عليه أدلة من قال بعدم القتل.
لكن الشيخ رحمه الله لم يرتض هذا الجمع، ورد على ذلك بقوله: "لا يصح؛ لأن الآثار الواردة في قتله جاءت بقتل الساحر الذي سحره من نوع الشعوذة؛ كساحر جندب الذي قتله. وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام كما تقدم إيضاحه؛ فالجمع غير ممكن. وعليه فيجب الترجيح: فبعضهم يرجح عدم القتل؛ بأن دماء المسلمين حرام إلا
1 أخرجه البخاري 8/38.
2 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/137.
3 أمثال ابن المنذر –الذي نقل ذلك القرطبي عنه، ووافقه عليه-.
(انظر: الجامع لأحكام القرآن 2/34) .
بيقين1. وبعضهم يرجح القتل؛ بأن أدلته خاصة، ولا يتعارض عام وخاص لأن الخاص يقضي على العام عند أكثر أهل الأصول كما هو مقرر في محله" 2.
والشيخ الأمين رحمه الله يميل إلى القول بعدم قتل الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر، فيقول: "والأظهر عندي أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر، ولم يقتل به إنساناً أنه لا يقتل؛ لدلالة النصوص القطعية والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح. وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والتجرؤ على دم مسلم من غير دليل صحيح من كتاب أو سنة مرفوعة غير ظاهر عندي.
والعلم عند الله تعالى. مع أن القول بقتله قوي جداً بفعل الصحابة له من غير نكير" 3.
وما قاله الشيخ رحمه الله: قال به قبله الشافعي، وأحمد –في رواية- وابن المنذر4، والنووي5، والقرطبي6.
حل السحر عن المسحور:
يقال لحل السحر عن المسحور، وكشفه وعلاجه: النشرة. وقد نقل الشيخ الأمين رحمه الله اختلاف العلماء في حكمها، فذكر أن بعضهم قد أجازها، وبعضهم قد منع منها.
1 كما قال القرطبي (انظر: الجامع لآحكان القرآن 2/34) .
2 أضواء البيان 4/462.
3 أضواء البيان 4/462.
4 هو الإمام الحافظ العلامة أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري. صاحب التصانيف الرائعة في اختلاف العلماء ولد بنيسابور سنة (242?)، وتوفي سنة (318?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 14/490- 492. والأعلام للزركلي 6/184) .
وقد نقل قوله، وقول الشافعي وأحمد في ذلك صاحب تيسير العزيز الحميد ص391.
5 كما في شرحه على صحيح مسلم 7/176.
6 كما في الجامع لأحكام القرآن 2/34.
وممن أجازها: سعيد بن المسيب1 رحمه الله تعالى؛ قال قتادة2:
(قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طبّ3، -أو يؤخذ عن أمراته- أيُحلّ عنه، أو ينشر؟ قال: لابأس، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه)4.
ومال إلى هذا المزني5، وقال الشعبي6: لابأس بالنشرة7. وكذا قال أبو جعفر الطبري. وممن كرهها: الحسن البصري8.
أما الشيخ رحمه الله فيرى أن السحر إن كان يحل بالآيات الشرعية، والأدعية المأثورة: فهذا مباح. وإن كان لا يحل إلا بسحر مثله، أو شيء ممنوع شرعاً: فهذا لايجوز.
يقول رحمه الله: "إن استخراج السحر إن كان بالقرآن والمعوذتين وآية الكرسي، ونحو ذلك مما تجوز الرقية به: فلا مانع من ذلك. وإن كان
1 ابن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبومحمد. سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة. توفي سنة (94?) . (انظر: سير أعلام النبلاء4/217والبداية والنهاية 9/105) .
2هو قتادة بن دعامة بن عزيزالبصري المحدث المفسر. كان من أوعيةالعلم، وأحدعلماء التابعين توفي سنة (117?) . (انظر: سيرأعلام النبلاء5/269.والبداية والنهاية9/105) .
3 قال أبو عبيد: طُبّ: أي سحر، يقال منه: رجل مطبوب. ونرى أنه إنما قيل له مطبوب لأنه كنى بالطب عن السحر، كما كنوا عن اللديغ فقالوا: سليم.
(انظر: تهذيب اللغة 13/302) .
4 أخرجه البخاري 7/29.
5 هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني المصري تلميذ الشافعي. ولد سنة (175?) ، وتوفي سنة (264?) .
(انظر: سير أعلام النبلاء 12/492) .
6 هو الإمام الحافظ عامر بن شراحيل بن عبد الله الشعبي. راوية التابعين. توفي سنة (104?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 4/294) .
7 انظر الجامع لأحكام القرآن 2/35.
8 هو الحسن بن أبي الحسن؛ يسار. أبو سعيد مولى زيد بن ثابت. كان سيد أهل زمانه علما وعملاً. توفي سنة (110?) . (انظر سير أعلام النبلاء 4/563. والبداية والنهاية 9/278) . ونقل عنه الكراهة الشيخ الأمين في أضواء البيان 4/465.
بسحر، أو بألفاظ عجمية، أو بما لا يفهم معناه، أو بنوع آخر مما لا يجوز: فإنه ممنوع. وهذا واضح، وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى" 1.
فالشيخ رحمه الله لم يمنع النشرة إن كانت بسبب مباح شرعاً. أما النشرة التي تكون عن طريق الشيطان والسحرة: فهذه التي منعها؛ لأن السحر من السبع الموبقات، فكيف يحل الذهاب إلى الساحر والطلب منه أن يفك السحر، والله سبحانه وتعالى لم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما حرم عليها.
وأختم هذه المسألة بكلام للشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن2 رحمه الله في النشرة، يقول فيه:"إن ما كان منه بالسحر فيحرم. وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز. والله أعلم"3.
وهذا الكلام يتوافق مع ما قاله الشيخ الأمين رحمه الله في هذه المسألة.
قدر تأثير الساحر في المسحور:
أشار الشيخ الأمين رحمه الله إلى أن هناك خلافاً بين العلماء في بيان القدر الذي يمكن أن يبلغه تأثير السحر في المسحور.
وقد فصّل الشيخ رحمه الله في هذه المسألة، وجعل لها واسطة وطرفين.
فالطرف الأول: لا خلاف في أن تأثير السحر يبلغه؛ كالتفريق بين الرجل وامرأته، وكالمرض الذي يصيب المسحور من السحر، ونحو ذلك.
1 أضواء البيان 4/460.
2 هو العلامة عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد في الدرعية سنة (1193?)، وتوفي في الرياض سنة (1285?) . (انظر: علماء نجد 1/56) .
3 فتح المجيد ص243. ويعزى هذا القول إلى الحافظ ابن القيم كما في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب. انظر فتح المجيد ص243.
واستدل على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة:
أما الكتاب: فأشار إلى قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 1.
أما من السنة: فأورد الحديث الثابت في الصحيحين، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن2.
والطرف الثاني: لا خلاف في أن تأثير السحر لايمكن أن يبلغه؛ كإحياء الموتى، وفلق البحر، ونحو ذلك.
وأما الواسطة: فهي التي وقع فيها الخلاف بين العلماء.
وأمثلتها: هل يجوز أن ينقلب الإنسان بالسحر حماراً. أو الحمار إنسانا؟ وهل يصحّ أن يطير الساحر في الهواء؟ أو يدقق جسمه حتى يتمكن من الدخول من كوة ضيقة؟ أو ينتصب على رأس قصبة؟ أو يجري على خيط مستدق؟ أو يمشي على الماء، ويركب الكلب، ونحو ذلك؟
ثمّ ذكر رحمه الله أن بعض الناس جعل من مقدور الساحر أن يفعل هذه الأمور. ومنهم الفخر الرازي3. وبعضهم منع ذلك4.
1 سورة البقرة، الآية [102] .
2 أخرجه البخاري 7/29.
3 هو فخر الدين محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني. ويعرف بابن الخطيب. كان من قائمة الأشاعرة، وذكر ابن كثير أنه رجع إلى معتقد السلف. توفي سنة (606) .
(انظر: سير أعلام النبلاء 21/500، والبداية والنهاية 13/60) .
4 انظر: أضواء البيان 4/466- 467.
وممن أجازه المازري1، وقال: هو مذهب الأشعرية2؛ لأنه لا فاعل إلا الله تعالى3.
وكذلك أجازه القرطبي، ونقل ذلك عن بعض مشايخه، فقال:"قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات، والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وركوب كلب، وغير ذلك. ومع ذلك فلا يكون السحر موجباً لذلك، ولا علة لوقوعه، ولا سبباً مولداً، ولا يكون الساحر مستقلاً به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر. كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء"4.
أما موقف الشيخ رحمه الله فيختلف عن موقف من أجازه بهذا المعنى الذي تقدم؛ فإنه رحمه الله قد أوضح أن هذا النوع من السحر مقتدر
1 هو العلامة محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، من كبار فقهاء المالكية، كان بصيراً بعلم الحديث. توفي سنة (536هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 20/104. وشذرات الذهب 4/114) .
2 هم أتباع أبي الحسن الأشعري، وعلى مذهبه في طوره الثاني، وكان –في طوره الثاني- على معتقد الكلابية، ثم رجع إلى معتقد أهل السنة والجماعة، والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئه في باب الأسماء والأحكام، جبرية في باب القدر، أما في الصفات فليسوا بجهمية بل فيهم نوع من التجهم.
(راجع: الفتاوى 6/55. وانظر: الملل والنحل ص94- 103. ومقدمة تحقيق د/عبد الله شاكر لرسالة أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري ص63-68) .
3 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 14/175.
(وانظر ص263 ففيها نقد للعبارة الأخيرة لأنها خطأ) .
4 الجامع لأحكام القرآن 2/33. إلا أنه لم يذكر تحويل الساحر الإنسان إلى حمار، والحمار إلى إنسان.
ونقل عنه الحافظ ابن حجر قوله: (والحقّ أنّ لبعض أصناف السحر تأثيراً في القلوب؛ كالحبّ والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان؛ بالألم والسقم. وإنما المنكور أنّ الجماد ينقلب حيواناً أو عكسه بسحر الساحر، ونحو ذلك) . (انظر: فتح الباري 10/233) .
للساحر على سبيل أن الله هو خالق الأسباب ومسبباتها. وما يجري من هذه الأفعال فالسحر سبب له. لكنه رحمه الله يميل إلى أن هذه الأمثلة هي من نوع التخييل والشعوذة، ليست من نوع تغيير طبيعة الشيء إلى غيرها. وقد أكد أنّ هذا المعنى هو الأظهر عنده فقال:"أما بالنسبة إلى أنّ الله قادر على أن يفعل جميع ذلك، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب وإن لم تكن هناك مناسبة عقلية بين السبب والمسبب كما قدمناه مستوفى في سورة مريم1، فلا مانع من ذلك والله جل وعلا يقول: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} 2. وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع؛ لأن غالب ما يستدلّ عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة والأخذ بالعيون، لا قلب الحقيقة مثلاً إلى حقيقة أخرى. وهذا هو الأظهر عندي، والله تعالى أعلم"3.
وأوضح كلام الشيخ رحمه الله ببعض النقاط:
أولاً: ما قاله الشيخ الأمين رحمه الله من أنّ الله قادر على أن يفعل، وأنه سبحانه يجعل بعض الأسباب لها تأثير في بعض الأشياء. هذا هو معتقد أهل السنة في أفعال الله سبحانه وتعالى. والشيخ رحمه الله بهذا الكلام يردّ على من جعل بمقدور الساحر أن يفعل ما مرّ معنا من الأمثلة، على كون الله هو الفاعل، وأن الساحر لا سبب له في ذلك ولا قدرة، وإنما خلقه الله عندما يريد الساحر ذلك، لا كونه جعله سبباً لحصول هذه الأمور. وهذا هو قول من ينكر حكمة الله والأسباب التي جعلها سبباً لحصول بعض
1 ذكر الشيخ ذلك في أضواء البيان 4/250.
2 سورة البقرة، الآية [102] .
3 أضواء البيان 4/467- 468.
الأشياء، ولا فعل للعبد عندهم، والله هو الفاعل. وهذا هو قول الأشاعرة كما مرّ معنا، وهو مخالف للنقل والعقل وهو حقيقة قول الجبرية1. وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله مقدورات الله، وأنها على قسمين، فقال: "منها ما يفعله بواسطة قدرة العبد؛ كأفعال العباد وما يصنعونه. ومنها ما يفعله بدون ذلك؛ كإنزال المطر" 2.
وبهذا يتضح مراد الشيخ الأمين رحمه الله؛ وهو أنّ الله يعطي الساحر من الأسباب ما به يستطيع أن تحصل له هذه الأمور، والله هو خالق الأسباب ومسبباتها.
ثانياً: ما ذكر الشيخ رحمه الله من الأمثلة المختلف فيها عن مقدورات الساحر: فهي بمقدور الخلق من الجنّ والإنس فعله، وليست بصعبة عليهم. أما المثال الذي ذكره ضمن الأمثلة؛ وهو أن الساحر بمقدوره أن يقلب الإنسان حماراً، والحمار إنساناً: فهذا ليس باستطاعة الخلق فعله؛ لأنه ليس من مقدورهم، إلا على سبيل التخييل والشعوذة؛ لأن السحرة تساعدهم الشياطين، وهذا الأمر ليس باستطاعة الشياطين فعله؛ لأنها لا تستطيع قلب عين إلى آخر، ولا التصرف في الطبائع والحقائق، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وجميع ما يختص بالسحرة والكهان وغيرهم ممن ليس بنبيّ: لا يخرج عن مقدور الإنس والجنّ. وأعني بالمقدور: ما يمكنهم التوصل إليه بطريق من الطرق....فما يقدر عليه الساحر من سحر بعض الناس حتى يمرض أو يموت هو من مقدور الجنّ،
1 فالله هو الخالق –والعبد هو الفاعل فهو المصلي والصائم، والسارق والشارب، فهذه أفعال العبد التي يثاب ويعاقب عليها والله الخالق: والله خلقكم وما تعملون، فالله خالق أفعال العباد، والعباد يفعلون أفعالهم حقيقة. هذا معتقد أهل السنة، وانظر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول هذا الموضوع 3/12-20.
2 النبوات ص417.
وهو من جنس مقدور الإنس" 1.
وقال أيضاً: "فإنّ الساحر قد يصعد في الهواء والناس ينظرونه، وقد يركب شيئاً من الجمادات؛ إما قصبة، وإما خابية، وإما مكنسة، وإما غير ذلك فيصعد به الهواء، وذلك أنّ الشياطين تحمله. وتفعل الشياطين هذا ونحوه بكثير من العباد والضلال من عباد الشركس
…
وكذلك المشي على الماء: قد يجعل له الجن ما يمشي عليه وهو يظن أنه يمشي على الماء، وقد يخيلون إليه أنه التقى طرفا النهر ليعبر، والنهر لم يتغير في نفسه، ولكن خيلوا إليه ذلك" 2.
إذاً: ما يفعله الساحر من هذه الأمور يكون بمساعدة الشيطان له، فتتضافر قدرة الشيطان مع فعل الساحر فيحصل المطلوب.
فالشياطين يتلبسون بالسحرة، ويحققون مآربهم إذا أطاعوهم، لكن لا يستطيعون قلب عين إلى أخرى؛ لأنه ليس بمقدور الخلق فعل ذلك، وإنما هو الله وحده.
والشيخ الأمين رحمه الله يميل إلى أنّ هذه الأمور التي يظهر منها أنّ عين الشيء انقلبت إلى أخرى هي من التخييل والشعوذة، وسحر عين الرائي، وليس من قلب الحقيقة إلى أخرى.
ولا شك أن عمل الساحر إما أن يكون بالتأثير على أعين الناس؛ فيرون الشيء على غير حقيقته. وإما أن يكون التأثير في المشاهد بفعل السحر الذي يتم بتعاون الشياطين مع السحرة؛ قال ابن القيم رحمه الله: "إنّ الساحر يفعل هذا وهذا؛ فتارة يتصرف في نفس الرائي وإحساسه حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به. وتارة يتصرف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية
1 النبوات ص391.
2 المصدر نفسه ص394- 395.
حتى يتصرف فيها" 1.
وكل ذلك –ولله الحمد- ليس فيه قلب للحقائق كما قال الشيخ الأمين رحمه الله؛ لأن السحر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يتعدى مقدور الخلق، والخلق ليس باستطاعتهم قلب الطبائع.
1 بدائع الفوائد 2/228.