الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: البناء على القبور
من أعظم الأمور خطرا على عقيدة المسلم: هذه الفتنة التي انتشرت في الكثير من بلاد المسلمين؛ ألا وهي فتنة البناء على القبور، ورفع القباب الفخمة، والمباني الكبيرة عليها، وإنفاق الأموال الطائلة على زخرفتها وتزويقها. فإذا رآها الجاهل عظمها في قلبه، ودخلت عليه المهابة من صاحب القبر. فصار ذلك وسيلة للوقوع في الشرك؛ إذ قد يزين له الشيطان أن يطلب من صاحب القبر الذي اعتقد أنه عظيم من العظماء ززقعت في قلبه مهابته ما لا يقدر عليه إلا الله فيقع في الشرك الذي حذرنا منه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
وسداً لهذه الذريعة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إقامة الأبنية على القبور، ولعن من يفعل ذلك؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"1.
ولا شك أنّ البناء على القبور محادة لله ورسوله. ورغم أنه كذلك فقد صار في بعض بلدان المسلمين ديناً يتقرب به إلى الله؛ وذلك بسبب جهل الناس، وقلة من ينكر عليهم ذلك.
وقد ذكر الشيخ الأمين رحمه الله أن بعض من يفعل ذلك زعم أن الكتاب والسنة دلا على اتخاذ المساجد على القبور، وذكر رحمه الله أن عمدتهم في
1 أخرجه الترمذي 2/136، وقال: حديث حسن.
ذلك قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 1، وما ثبت في الصحيح من أنّ موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه قبوراً للمشركين2.
وقد عقب رحمه الله على هذا الاستدلال الذي به جوزوا البناء على القبور بوصفه إياه بأنه: "في غاية السقوط، وقائله من أجهل خلق الله"3.
وقد تبنى رحمه الله رد الإمام الطبري رحمه الله على من استدل بهذه الآية، وهذا الحديث على جواز البناء على القبور بقوله:"وقد قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في هؤلاء القوم مانصه: وقد اختلف في قائلي هذه المقالة4: أهم الرهط المسلمون، أم هم الكفار؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار، فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة؛ إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري. وعلى القول بأنهم مسلمون كما يدلّ له ذكر المسجد؛ لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية أنهم سيفعلون كذا لا يعارض به النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طمس الله بصيرته؛ فقابل قولهم: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 5 بقوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " الحديث6. يظهر لك أنّ من اتبع هؤلاء القوم في
1 سورة الكهف، الآية [21] .
2 سياتي تخريجه عند الردّ على استدلالهم به بعد صفحتين.
3 أضواء البيان 3/176.
4 يقصد: الذين قالوا: لنتخذن عليهم مسجداً –كما حكى الله عنهم ذلك-.
5 سورة الكهف، الآية [21] .
6 أخرجه مسلم 1/376، من حديث عائشة رضي الله عنها.
اتخاذهم المسجد على القبور ملعون على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما هو واضح. ومن كان ملعوناً على لسانه صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله، كما صحّ عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنّ الله يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1
…
"2.
وبذلك يتضح أنّ هذه الآية لا تدل على جواز البناء على القبور كما زعم بعضهم.
وقد قال العلامة الألوسي3 رحمه الله: "وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة، مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"4.
وهذا واضح؛ إذ لو كان شرعاً لمن قبلنا لما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله من الأمم الماضية، فدلّ على أنه من الأمور المحرمة عند جميع الأمم؛ لأنه من وسائل الشرك. وكما هو معروف فإن الأنبياء جميعهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويسدون الذرائع الموصلة إلى عبادة غيره جل وعلا.
أما استدلالهم بأنه كان في موضع مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم قبور للمشركين؛ فقد نقل الشيخ الأمين رحمه الله ردّ الإمام الطبري على هؤلاء فقال رحمه الله: "وأما استدلالهم بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مبني في محل مقابر المشركين: فسقوطه ظاهر؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فنبشت وأزيل ما فيها؛ ففي الصحيحين من
1 سورة الحشر، الآية [7] .
2 نقلاً عن أضواء البيان 3/177؛ فإني لم أعثر عليه في تفسير الطبري.
3 شهاب الدين أبو الثناء محمود بن عبد الله الحسني الألوسي. ولد في بغداد سنة (1217?) . وتوفي سنة (1270?) . من تصانيفه: روح المعاني، (انظر: الأعلام 7/176-177. والتفسير والمفسرون 1/352) .
4 روح المعاني 15/239.
حديث أنس رضي الله عنه: "فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع. فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة
…
" الحديث. هذا لفظ البخاري1، ولفظ مسلم قريب منه بمعناه2. فقبور المشركين لا حرمة لها، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بنبشها وإزالة ما فيها، فصار الموضع كأن لم يكن فيه قبر أصلاً؛ لإزالته بالكلية. وهو واضح كما ترى"3.
ولذلك لايوجد –ولله الحمد- أدلة يتمسك بها من أجاز البناء على القبور؛ لأنّ مبدأ عبادة الأوثان أصلها من الفتنة بالمقبورين. لذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، وحذر أمته من ذلك. وكلّ ذلك من نصحه عليه الصلاة والسلام لأمته، ومن حرصه على حماية جناب التوحيد؛ فالفتنة بالمقبورين من الوسائل الموصلة إلى عبادتها من دون الله جل وعلا، وهذا ما يريده الشيطان من المؤمنين؛ يريد أن يضلهم ضلالاً بعيداً.
وقد بيّن الشيخ الأمين رحمه الله حرمة البناء على القبور فقال: "والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها؛ لما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي الهياج الأسدي4 أن علياً رضي الله عنه قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" 5، ولما ثبت
1 أخرجه البخاري في صحيحه 1/111.
2 انظر: صحيح مسلم 1/373.
3 نقلاً عن أضواء البيان 3/177.
4 هو حيان بن حصين الكوفي، روى عن علي، وعمار، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: تابعي ثقة. (انظر: تهذيب التهذيب 3/67) .
5 أخرجه مسلم في صحيحه 2/666.
في صحيح مسلم وغيره أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه"1. فهذا النهي ثابت عنه صلى الله عليه وسلم ، وقد قال: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " 2 وقال جل وعلا: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3"4.
وهذه النصوص الشرعية التي ذكرها الشيخ رحمه الله أدلة قاطعة على تحريم هذا العمل، حتى تبقى دعوة التوحيد خالصة لله لا يشوبها إشراك؛ لذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فهذا التحذير منه، واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المساجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا. ودليل على الحذر من جنس أعمالهم حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس. ثم من المعلوم ما قد ابتلى به كثير من هذه الأمة من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء. وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة"5.
ولذلك نرى الشيخ الأمين رحمه الله يؤكد أن عقيدة هذه الأمة المحمدية هي تحريم البناء على القبور، وقد أيد كلامه بالنصوص الصريحة في النهي عن البناء على القبور، وفي الأمر بهدم ما بني منها وتسويته بالأرض سداً لذريعة الشرك. وحماية لجناب التوحيد.
1 أخرجه مسلم في صحيحه 2/667.
2 أخرجه البخاري في صحيحه 8/142.
3 سورة الحشر، الآية [7] .
4 أضواء البيان 3/177- 178.
5 اقتضاء الصراط المستقيم 1/295.