المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: البراهين الكونية - جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف - جـ ١

[عبد العزيز بن صالح بن إبراهيم الطويان]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌الفصل الأول: حياة الشيخ الأمين الشخصية

- ‌المبحث الأول: نسبه، وولادته

- ‌المبحث الثاني: نشأته

- ‌المبحث الثالث: قدومه إلى المملكة، واستقراره بها، واستقبال العلماء له

- ‌المبحث الرابع: صفاته الخِلقية

- ‌المبحث الخامس: صفاته الخُلقية

- ‌المبحث السادس: أدبه، وذكاؤه وظرفه، ومن مواقفه وأقواله

- ‌المبحث السابع: وفاته

- ‌الفصل الثاني: حياة الشيخ الأمين العلمية

- ‌المبحث الأول: "طلبه للعلم، وشيوخه

- ‌المبحث الثاني: عقيدته

- ‌المبحث الثالث: أعماله، ووظائفه

- ‌المبحث الرابع: تلاميذه

- ‌المبحث الخامس: مؤلفاته

- ‌المبحث السادس: ثناء العلماء عليه

-

- ‌الباب الأول: جهود الشيخ الأمين رحمه الله في توضيح الإيمان بالله

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: توحيد الربوبية

- ‌الفصل الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني: براهين التوحيد

- ‌المطلب الأول: دلالة الصفات على توحيد الألوهية

- ‌المطلب الثاني: البراهين الكونية

- ‌المبحث الثالث: أنواع العبادة

- ‌المطلب الأول: الدعاء

- ‌المطلب الثاني: التوكل

- ‌المطلب الثالث: الولاء والبراء

- ‌المطلب الرابع: الخوف والرجاء

- ‌المطلب الخامس: الحكم بما أنزل الله

- ‌المبحث الرابع: ما يضاد إخلاص العبادة

- ‌المطلب الأول: الشرك بالله تعالى

- ‌المطلب الثاني: الذبح لغير الله

- ‌المطلب الثالث: ادعاء علم الغيب

- ‌المطلب الرابع: الحلف بغير الله

- ‌المطلب الخامس: السحر

- ‌المطلب السادس: البناء على القبور

- ‌الفصل الثالث: جهود الشيخ الأمين في توضيح توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: جهود الشيخ في إبراز عقيدة السلف في الصفات

- ‌المطلب الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المطلب الثاني: معتقد السلف في الصفات يقوم على ثلاثة أسس

- ‌المطلب الثالث: قواعد في الصفات

- ‌المطلب الرابع: ذكر جملة من الصفات التي ذكرها الشيخ الأمين –رحمه الله

- ‌المبحث الثاني: موقف الشيخ رحمه الله من أهل التأويل

- ‌المطلب الأول: معاني التأويل

- ‌المطلب الثاني: بعض شبه أهل التأويل، وردّ الشيخ عليها

- ‌المطلب الثالث: مقارنة بين مذهب السلف والخلف

- ‌المطلب الرابع: رجوع بعض أئمة أهل التأويل عن مذهب الخلف إلى معتقد السلف

- ‌الباب الثاني: جهوده في توضيح بقية أركان ومباحث الإيمان

- ‌الفصل الأول: الإيمان بالملائكة والجن

- ‌الفصل الثاني: الإيمان بالكتب

الفصل: ‌المطلب الثاني: البراهين الكونية

‌المطلب الثاني: البراهين الكونية

ومن براهين التوحيد: الآيات الكونية التي تسلك بالمخاطب سبيل الحس والمشاهدة، وتدل على عين المطلوب؛ فكل مخلوق يدلّ على وحدانية الخالق وأنه هو المعبود وحده.

يتحدث الشيخ رحمه الله عن معنى الآية الكونية فيقول: "أما الآية الكونية القدرية فهي العلامة التي نصبها الله كوناً وقدراً ليبين بها لخلقه أنه الرب وحده، والمعبود وحده؛ كفلقه الحب من السنبل، والنوى عن النخل، وكإتيانه بالليل بدل النهار، والنهار بدل الليل، وتسخير الشمس والقمر، وخلقه النجوم ليهتدى بها. فهذه آيات كونية قدرية"1.

فالآيات الكونية من عجائب صنع الله، وهي تدل على وحدانيته، واستحقاقه العبادة وحده، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتفكر فيها وننظر إليها حتى نوحده في ألوهيته جل وعلا.

يقول الشيخ الأمين رحمه الله في بيان هذا الجانب: "أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السماوات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها، وكماله، وجلاله، واستحقاقه لأن يعبد وحده جل وعلا. وأشار لمثل ذلك بقوله:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} الآية2 ووبخ في سورة الأعراف من لم يمتثل هذا الأمر، وهدده بأنه يعاجله الموت فينقضي أجله قبل أن ينظر في أمر الله

1 نقلاً عن الشريط رقم [15]، بصوت الشيخ رحمه الله: الوجه الأول؛ في تفسير سورة الأنعام. وكذلك وضح هذا المعنى في الشريط رقم [10] : الوجه الثاني؛ تفسير السورة نفسها.

2 سورة فصلت، الآية [53] .

ص: 131

جل وعلا، أن ينظر فيه لينبه بذلك على وجوب المبادرة في امتثال أمر الله جل وعلا في قوله:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} 1 2.

ويوضح لنا رحمه الله في مكان آخر الحكمة من النظر في هذه الآيات الكونية التي أمر الله سبحانه وتعالى بالنظر إليها، وأن مراد الله من النظر في تلك الآيات هو الاستدلال على أنه سبحانه المستحق للعبادة، وأن له الكبرياء والعظمة، وأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق:

يقول رحمه الله مبيناً هذا الجانب عند تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} 3: "ذكر جل علا في هذه الآية الكريمة أنه جل وعلا هو الذي يري خلقه آياته؛ أي الكونية القدرية، ليجعلها علامات لهم على ربوبيته واستحقاقه العبادة وحده

فبين أنه يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، وأن مراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ماجاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق؛ كما قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} 4.

والآفاق: جمع أفق؛ وهو الناحية. والله جل وعلا قد بين من غرائب صنعه، وعجائب مخلوقاته في نواحي سماواته وأرضه مايتبين به لكل عاقل أنه هو الرب المعبود وحده" 5.

وبذلك يبين الشيخ رحمه الله أن النظر وسيلة إلى عبادة الله، وليس غاية يقف عنده المتأمل وقفة حيرة وغفلة، وإنما نظرة تفكر واتعاظ تأخذ بصاحبها

1 سورة الأعراف، الآية [185] .

2 أضواء البيان 2/439.

3 سورة غافر، الآية [13] .

4 سورة فصلت، الآية [53] .

5 أضواء البيان 7/74-75.

ص: 132

إلى الحق، وتخرجه من الظلمة إلى النور.

وقد أوضح رحمه الله البراهين الكونية الدالة على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة –والتي تضمنها القرآن الكريم- بالإجمال في مواضع، وبالتفصيل في مواضع؛ فذكر ستة أنواع تضمنتها أول سورة الجاثية، عند قوله تعالى:{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. فقال رحمه الله مبيناً هذا الجانب: "ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة من أول سورة الجاثية ستة براهين من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله، وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده تعالى:

الأول منها: خلقه السموات والأرض.

الثاني: خلقه الناس.

الثالث: خلقه الدواب.

الرابع: اختلاف الليل والنهار.

الخامس: إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به.

السادس: تصريف الرياح.

وذكر أن هذه الآيات والبراهين إنما ينتفع بها المؤمنون الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه وآياته، فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم، ولذا قال:{لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، ثم قال:{آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2 3.

ثم سرد رحمه الله بعد ذلك الأدلة من القرآن الكريم، والتي تدل على

1 سورة الجاثية، الآيات [3-5] .

2 سورة الجاثية، الآية [5] .

3 أضواء البيان 7/329-330.

ص: 133

كل نوع من الأنواع الستة السالفة، كما هي طريقته رحمه الله في تفسير القرآن بالقرآن؛ فاستدل للنوع الأول بآيات كثيرة، منها قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} 1.

واستدل للنوع الثاني بآيات كثيرة، منها قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} 2.

ومن الآيات التي استدل بها للنوع الثالث؛ خلق الدواب؛ قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.

واستدل لاختلاف الليل والنهار بآيات كثيرة، منها قوله تعالى:{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ} 4.

واستدل لإنزال الماء وإحياء الأرض به بآيات كثيرة، منها قوله تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّا ًفَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّا ًوَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} 5.

واستدل لتصريف الرياح بآيات كثيرة، منها قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} 6. إلى غير ذلك من الآيات7.

1 سورة الروم، الآية [22] .

2 سورة الروم، الآية [20] .

3 سورة النور، الآية [45] .

4 سورة النور، الآية [44] .

5 سورة عبس، الآيات [24-32] .

6 سورة الروم، الآية [46] .

7 انظر: أضواء البيان 7/329-333. وانظر المصدر نفسه 4/420-421.

ص: 134

وفيما يلي أورد تفصيلاً للبراهين السالفة التي مر ذكرها مجملة. وأورد معها براهين أخرى غيرها ذكرها الشيخ الأمين رحمه الله، ورتبها حسب أهميتها. فمنها:

أولاً: خلق السموات والأرض:

خلق السموات والأرض من أعظم الأدلة القاطعة على أن الله هو المستحق أن يعبد وحده؛ فهي دليل حي مشاهد ناطق على وجود الخالق القادر المتفرد بالعبادة.

يوضح الشيخ رحمه الله هذا البرهان فيقول: "وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً؛ بخلقه للسموات والأرض ومابينهما، في قوله:{الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} الآية1.

وبذلك تعلم أنه ماخلق السموات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبسا بأعظم الحق؛ الذي هو إقامة البرهان القاطع المذكور على توحيده جل وعلا. عُلم من استقراء القرآن أن العلامة الفارقة بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها هي كونه خالقاً لغيره، فمن كان خالقاً لغيره فهو المعبود بحق، ومن كان لايقدر على خلق شيء فهو مخلوق محتاج، لا يصح أن يعبد بحال" 2.

وقال رحمه الله في موضع آخر عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ

1 سورة البقرة، الآيتان [21-22] .

2 أضواء البيان 7/366.

ص: 135

لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 1: "ووجه توكيده تعالى قوله: {إن إلهكم} بهذه الأقسام، وبـ"إنّ" واللام: هو أنّ الكفار أنكروا كون الإله واحدا إنكاراً شديداً، وتعجبوا من ذلك تعجباً شديداً؛ كما قال تعالى عنهم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. ولما قال تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 3 أقام الدليل على ذلك بقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 4.

فكونه خالق السموات والأرض الذي جعل فيها المشارق والمغارب برهان قاطع على أنه المعبود وحده. وهذا البرهان القاطع الذي أقامه هنا على أنه هو الإله المعبود وحده أقامه على ذلك أيضاً في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلآ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 5، فقد أقام البرهان على ذلك بقوله بعده متصلاً به:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 6 7.

فأدلة القرآن الكريم على ذلك البرهان ساطعة، وقد رأينا كيف أورد الشيخ رحمه الله هذا الدليل فأوضح أن خلق السموات والأرض دليل قاطع وبرهان ساطع على أن خالقها قدير عليم، وحكيم خبير، وأنه هو المستحق

1 سورة الصافات، الآيتان [4-5] .

2 سورة ص، الآية [5] .

3 سورة الصافات، الآية [4] .

4 سورة الصافات، الآية [5] .

5 سورة البقرة، الآية [163] .

6 سورة البقرة، الآية [164] .

7 أضواء البيان 6/673. وانظر كذلك المصدر نفسه: 4/440-441، 7/74، 644، 675، 738.

ص: 136

لأن يعبد وحده.

وقد أوضح ابن القيم رحمه الله هذا الدليل الكوني مستدلاً به على نواحي كثيرة من التوحيد، فقال:"إن الأرض والبحار والهواء، وكل ما تحت السموات، بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر. ولهذا قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها؛ إما إخباراً عن عظمتها وسعتها، وإما إقساماً بها، وإما دعاء للنظر فيها، وإما إرشاداً للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالا منه بربوبيته لها على وحدانيته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالا منه بحسنها واستوائها والتئام أجزائها، وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته"1.

فالشيخ رحمه الله يستدل بهذه المخلوقات العظيمة على طاعة الله وإفراده بالعبادة وحده، ويرد على الملاحدة المنكرين لوجود السموات بأنهم في غاية الجهالة:

يقول رحمه الله: "والذين ينكرون وجود السموات في غاية من الجهل والسفه، ولا شك أن هذا الرب العظيم الذي يخلق هذه المخلوقات العظيمة هو الجدير بالطاعة والعبادة وحده، كما أنه الخالق وحده"2.

فهو رحمه الله يرد على من طغى في الجهالة والإلحاد، ويؤكد أن وجود السموات من أعظم الأدلة على ألوهية خالقها وموجدها من العدم، وممسكها بقدرته. كيف لا تكون موجودة وهذه الكواكب والنجوم زينة لها دالة على مبدعها، وخالقها، وأنه هو الربّ المعبود وحده سبحانه وتعالى.

1 مفتاح دار السعادة 1/248.

2 معارج الصعود ص48.

ص: 137

ثانياً: خلق الإنسان:

إن من أقرب الأدلة على وحدانية الله وألوهيته: خلق الإنسان؛ فهو آية ناطقة على عجائب صنعه ودقة خلقه.

وقد دعا الله عباده إلى التفكر في أنفسهم حتى يتحقق عندهم الإيمان بأنه الرب الخالق والإله المعبود وحده؛ قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1.

وقد أشار الشيخ رحمه الله إلى هذا الدليل العظيم الذي يراه كل إنسان في نفسه؛ إذ إن القادر على هذا الخلق والإيجاد هو المستحق أن يعبد وحده؛ يقول رحمه الله عند قوله تعالى: {خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 2: "اعلم أولاً أن خلق الإنسان، وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة؛ كما أشار تعالى لذلك بقوله في أول النحل: {خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} 3، وقوله في آخر يس: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} 4؛ فالإنسان بالأمس نطفة، واليوم هو في غاية البيان وشدة الخصام؛ يجادل في ربه، وينكر قدرته على البعث. فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام، مع أن الله خلقه من نطفة، وجعله خصيماً مبيناً، آية من آياته جل وعلا دالة على أنه المعبود وحده، وأن البعث من القبور حق"5.

ويقول رحمه الله في موضع آخر عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ

1 سورة الذاريات، الآية [21] .

2 سورة الرحمن، الآيتان [3-4] .

3 سورة النحل، الآية [4] .

4 سورة يس، الآية [77] .

5 أضواء البيان 7/735.

ص: 138

مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} 1: "

ثم ذكر الحكمة فقال: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} 2؛ أي لنظهر لكم بذلك عظمتنا زكمال قدرتنا، وانفرادنا بالإلهية واستحقاق العبادة. وقال في سورة المؤمن:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} 3. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 4. والآيات بمثل هذا كثيرة. وقد أبهم هذه الأطوار المذكورة في قوله: {كَلآ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} 5؛ وذلك الإبهام يدل على ضعفهم وعظمة خالقهم جل وعلا. فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه. وما أكمل قدرته، وماأظهر براهين توحيده" 6.

وقال رحمه الله في موضع آخر أيضاً عند تفسيره قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 7: "أي إن كنتم الآن ترون أنفسكم قد ركبتم من جسم بعظام ولحم ودم ومفاصل، فاعلموا أن أصلكم من هذا التراب، فالذي أوجدكم وأوصلكم إلى هذه الحال هو الذي لا يليق بكم أن تعبدوا غيره"8.

وقد أوضح هذا البرهان أيضاً الإمام ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر

1 سورة الحج، الآية [5] .

2 سورة الحج، الآية [5] .

3 سورة غافر، الآية [67] .

4 سورة القيامة، الآيات [36-40] .

5 سورة المعارج، الآية [39] .

6 أضواء البيان 5/779.

7 سورة هود، الآية [61] .

8 معارج الصعود ص158. وانظر أضواء البيان 4/102، 5/776.

ص: 139

بعض الآيات التي أسند الله فيها خلق الإنسان لنفسه المقدسة، وذكر فيها الأطوار التي يتدرج فيها الإنسان أثناء خلقه، فقال رحمه الله: "وهذا كثير في القرآن؛ يدعو العبد إلى النظر والتفكر في مبدأ خخلقه، ووسطه، وآخره؛ إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقف على بعضه، وهو غافل عنه معرض عن التفكير فيه. ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره؛ قال الله تعالى:{قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} 1 2.

فالشيخ الأمين رحمه الله يوضح أن خلق الإنسان بهذه الصفة العجيبة دليل باهر على ربوبية الله سبحانه وتعالى وتفرده بالعبادة وحده؛ فالقادر على هذا الخلق العظيم جدير بأن تصرف إليه العبادة وحده جل وعلا.

ثالثاً: إنزال الماء:

قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 3. فالحياة قائمة على عنصرين: الماء والهواء.

وقد امتنّ الله على عباده بإنزال الماء إليهم بالقدر الذي فيه صلاحهم ونفعهم، لينتفعوا به. ويعرفوا خالقهم فيشكروه ويحمدوه على هذه النعمة العظيمة.

وقد أوضح الشيخ رحمه الله هذا المعنى؛ فقال عند تفسيره قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ

1 سورة عبس، الآيات [17-22] .

2 مفتاح دار السعادة 1/237.

3 سورة الأنبياء، الآية [30] .

ص: 140

نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} 1: "تضمنت هذه الآية الكريمة امتناناً عظيماً على خلقه بالماء الذي يشربونه، وذلك أيضاً آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته، وشدة حاجة خلقه إليه. والمعنى: أفرأيتم الماء الذي تشربون، الذي لا غنى لكم عنه لحظة، ولو أعدمناه لهلكتم جميعاً في أقرب وقت: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} 2، والجواب الذي لا جواب غيره هو: أنت ياربنا منزله من المزن، ونحن لا قدرة لنا على ذلك. فيقال لهم: إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه فلم تكفرون به، وتشربون ماءه، وتأكلون رزقه، وتعبدون غيره، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء، وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته شكراً لنعمة هذا الماء، كما أشار له هنا بقوله: {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} 3 جاء في آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} 4، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} 5، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} 6، وقوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} 7، إلى غير ذلك من الآيات"8.

ويستمر الشيخ رحمه الله في تفسير الآيات السابقة، وأكتفي منها بما

1 سورة الواقعة، الآيات [68-70] .

2 سورة الواقعة، الآية [69] .

3 سورة الواقعة، الآية [70] .

4 سورة الحجر، الآية [22] .

5 سورة النحل، الآية [10] .

6 سورة الفرقان، الآيتان [48-49] .

7 سورة المرسلات، الآية [27] .

8 أضواء البيان 7/792-793. وانظر المصدر نفسه: 5/784-786.

ص: 141

ذكرت؛ إذ أنه قد أبان فيه رحمه الله هذا الدليل العظيم على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة.

ورغم هذا الامتنان من الله على خلقه، ولطفه بهم؛ حيث أنزل الماء بقدر، وأسكنه الأرض، وهو قادر سبحانه على الذهاب به، رغم هذا نجد من يكفر بتلك النعمة ويجحده، وينسب إنزال المطر لغير الله افتراء وبهتانً عليه.

يقول الشيخ رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلآ كُفُوراً} 1 مبيناً حال تلك الفئة، وراداً عليها، ومفندا لأقوالها الردئية: "ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفوراً الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار، وإنما نزل بطبيعته؛ فالمنزل له عندهم: هو الطبيعة، وأن طبيعة الماء المتبخر: إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته، ثم يجتمع، ثم يتقاطر، وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له، وأنه هو المطر. فينكرون نعمة الله في إنزال المطر، وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله، ووجوب الإيمان به، واستحقاقه وحد للعبادة، فمثل هؤلاء داخلون في قوله:{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلآ كُفُوراً} 2، بعد قوله:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} 3 وقد صرح في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} أنه تعالى هو مصرف الماء ومنزله حيث شاء وكيف شاء. ومن قبيل هذا المعنى: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه

1 سورة الفرقان، الآيات [48-50] .

2 سورة الفرقان، الآية [50] .

3 سورة الفرقان، الآية [50] .

ص: 142

وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال:"هل تدرون ماذا قال ربكم؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر: فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"1. هذا لفظ مسلم رحمه الله في صحيحه، ولا شك أن من قال: مطرنا ببخار كذا؛ مسنداً ذلك للطبيعة، أنه كافر بالله مؤمن بطبيعة البخار

ولا شك أن خالق السموات والأرض جل وعلا هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً" 2.

وهكذا يرد الشيخ رحمه الله على هؤلاء الملاحدة الذين جحدوا وجود الرب سبحانه وتعالى، وعطلوه عن ربوبيته وألوهيته، وهم يتقبلون في نعمته، ويأكلون ويشربون من فضله، ويرون هذا البرهان العظيم فلا يؤمنون.

ويؤكد رحمه الله أن الله هو المتفرد بالخلق والإيجاد، المنعم على الناس بفضله وقدرته، فالواجب عليهم أن يعبدوه وحده ولا يشركوا معه غيره، فسبحانه من إله عظيم امتنّ على عباده بجميع الخيرات.

وقد أشار الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى هذا الدليل الذي ذكره الشيخ الأمين، وجعله دليلاً على إفراد الله بالعبادة؛ يقول السعدي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 3: "يذكر الله تعالى في هذه الآية نعمة من أعظم النعم، ليعقلوا عن الله مواعظه وتذكيره،

1 صحيح مسلم 1/83-84.

2 أضواء البيان 5/786. وانظر المصدر نفسه 5/784.

3 سورة النحل، الآية [65] .

ص: 143

فيستدلوا بذلك على أنه وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده"1.

وبهذا يتبين أن إنزال الله تعالى للمطر بكمية مقدرة، فيها مصلحة شاملة لكل ما هو حي دليل على ألوهيته وعظمته؛ فإن القدرة على إنزال الماء من أقوى الأدلة على أنه لا معبود سواه.

رابعاً: إحياء الأرض:

من البراهين الكونية الدالة على استحقاق الله للعبادة وحده: إحياء الأرض، وإنبات النبات الذي امتن الله به على عباده.

وقد أوضح الشيخ رحمه الله هذا البرهان بأسلوب السؤال والجواب؛ حيث قال رحمه الله: "وإيضاح هذا البرهان باختصار أن قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} 2 أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه؛ كالخبز الذي يأكله، ويعيش به، من خلق الماء الذي كان سبباً لنباته: هل يقدر أحد غير الله أن يخلقه؟ الجواب: لا. ثم هب أن الماء قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض على هذا الوجه الذي يحصل به النفع من غير ضرر، بإنزاله على الأرض رشا صغيراً حتى تروي به الأرض تدريجاً من غير أن يحصل به هدم ولا غرق؛ كما قال تعالى:{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 3 الجواب: لا. ثم هب أن الماء قد خلق فعلاً، وأنزل في الأرض على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض ويخرج منها مسمار النبات4 الجواب: لا. ثم لعله: هب أن النبات خرج من الأرض، وانشقت عنه،

1 تيسير الكريم الرحمن 4/216.

2 سورة عبس، الآية [24] .

3 سورة الروم، الآية [48] .

4 أي عِرق النبات.

ص: 144

فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ الجواب: لا. ثم هب أن السنبل خرج من النبات، فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى يدرك ويكون صالحاً للغذاء والقوت؟ الجواب: لا" 1.

وقد أوضح هذا البرهان الإمام ابن القيم رحمه الله، وبين تدرج هذا النبات في الإيجاد حتى يكون صالحاً مثمراً دالاً على خالقه وموجده من العدم؛ يقول رحمه الله: "إذا تأملت إخراج ذلك النور البهي من نفس ذلك الحطب، ثم النبات الأخضر، ثم إخراج تلك الثمار على اختلاف أنواعها، وأشكالها، ومقاديرها، وألوانها، وصورها، وروائحها، ومنافعها، وما يراد منها. ثم تأمل أين كانت مستودعة في تلك الخشبة وهاتيك العيدان، وجعلت الشجرة لها كالأمّ، فهل كان في قدرة الأب العاجز الضعيف إبراز هذا التصوير العجيب، وهذا التقدير الحكيم، وهذه الأصباغ الفائقة، وهذه الطعوم اللذيذة، والروائح الطيبة، وهذه المناظر العجيبة؟ فسل الجاحد من تولى تقدير ذلك وتصويره وإبرازه، وترتيبه شيئاً فشيئاً، وسوق الغذاء إليه في تلك العروق اللطاف التي يكاد البصر يعجز عن إدراكها، وتلك المجاري الدقاق؟ فمن تولى ذلك كله، ومن الذي أطلع لها الشمس، وسخر لها الرياح، وأنزل عليها المطر، ودفع عنها الآفات

إلخ" 2.

فإيضاح الشيخ الأمين رحمه الله لهذا البرهان الدال على أن الخالق متصف بصفات الكمال، متفرد بالخلق والإيجاد والعبادة: يرشد كل ذي عقل ولب إلى صرف جميع أنواع العبادات لله وحده جل وعلا، ويبعده عن عبادة ما سواه بأي نوع من أنواع العبادة، فلا شك أن الخالق اللطيف

1 أضواء البيان 7/332-333. وانظر المصدر نفسه 7/790-791.

2 مفتاح دار السعادة 1/281.

ص: 145

الخبير الموجد من العدم هو الإله المعبود بحق وحده جل وعلا.

وهذا الإيضاح من الشيخ رحمه الله يدل على المكانة العظيمة لهذا الدليل الذي يلقم كل جاحد ومكابر ومشرك الحجة، ويجعل ألوهية الخالق ووحدانيته من الأمور البديهية التي لا يعرض عنها من رزقه الله عقلاً مستقيماً، وفطرة سليمة.

خامسا: اختلاف الليل والنهار:

الليل والنهار من الآيات العظيمة الدالة على عظمة الخالق وكمال قدرته، وأنه المنعم على عباده بهذه النعم الجزيلة التي توجب عليهم ان يقابلوها بالشكر والثناء والانقياد لهذا الإله العظيم.

يقول الشيخ رحمه الله مبيناً هذا الجانب: " والآيات الدالة على إختلاف الليل والنهار- من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله واستحقاقه للعبادة وحده-كثيرة جداً، كقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} الآية 1، وقوله:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} 2. وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} الآية 3: وقوله تعالى: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} 4. وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَر} 5الآية، وقوله تعالى:{إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} 6: والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} 7: أي تدركون بعقولكم أن الذي ينشئ السمع والأبصار

1 سورة فصلت، الآية [37] .

2 سورة يس، الآية [37] .

3 سورة الأعراف، الآية [54] .

4 سورة يس، الآية [40] .

5 سورة النحل، الآية [12] .

6 سورة يونس، الآية [6] .

7 سورة المؤمنون، الآية [80] .

ص: 146

والأفئدة، ويذرؤكم في الأرض وإليه تحشرون، وهو الذي يحيي ويميت، ويخالف بين الليل والنهار: أنه الإله الحق المعبود وحد جل وعلا، الذي لا يصح أن يسوى به غيره سبحانه وتعالى علواً كبيراً" 1.

واختلاف الليل والنهار من أعظم النعم التي امتن الله بها على عباده، فلو كان الليل سرمداً لتعطلت الحياة، وأصبح الإنسان في خمول وكسل. وكذلك النهار لو جعله الله سبحانه وتعالى مستمراً لكان الناس في تعب وإرهاق. لكنه العليم الخبير جعلهما يلفان الأرض، لا يتأخران عن وقتهما؛ فهما آيتان من آيات الله الباهرة التي يراها العباد في اليوم مرتين تنبئ عن وحدانية الخالق وعظمته، وكمال قدرته، واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له.

سادساً: اختلاف ألوان المخلوقات:

إن ما نراه حولنا في هذا الكون من مخلوقات ذات ألوان مختلفة دليل على حكمة الخالق، وعظمته جل وعلا، وسعة علمه.

وتنوع ألوان هذه المخلوقات برهان قاطع، ودليل قوي على كمال الخالق، واستحقاقه للعبادة وحده، ودليل على سفه من ادعى أن هناك خالقاً غير الله يعبد من دون الله، أو مع الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

ولا شك أن من صرف شيئاً من خصوصيات الله لغير الله فقد جاء بغاية الكفر والضلال.

يقول الشيخ الأمين رحمه الله موضحاً هذا الجانب: "إن اختلاف ألوان الآدميين، واختلاف ألوان الجبال، والثمار والدواب، والأنعام؛ كل ذلك

1 أضواء البيان 5/810-811. وانظر المصدر نفسه 5/738-739.

ص: 147

من آياته الدالة على كمال قدرته، واستحقاقه للعبادة وحده؛ قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} 1. واختلاف الألوان المذكورة من غرائب صنعه تعالى وعجائبه، ومن البراهين القاطعة على أنه هو المؤثر جل وعلا، وأن إسناد التأثير للطبيعة من أعظم الكفر والضلال، وقد أوضح تعالى إبطال تأثير الطبيعة غاية الإيضاح، بقوله في سورة الرعد: {وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2"3.

ويوضح رحمه الله هذا الدليل في موضع آخر مؤكداً على أهميته ودلالته على وحدانية الخالق العظيم، وعلى تفرده بالألوهية، وأنه لا شريك له في عبادته، وأنه هو الخالق لكل شيء، ولا يقع شيء إلا بمشيئته وإرادته، فليس لشيء من مخلوقاته تأثير إلا بأمره وتدبيره؛ فيقول رحمه الله عند تفسير قوله تعالى:{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} 4:

"وأشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء، وأنه الرب وحده، المستحق أن يعبد وحده. وأوضح هذا في آيات أخر؛ كقوله في سورة فاطر:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} 5، وقوله: {وَمِنْ

1 سورة فاطر، الآيتان [27-28] .

2 سورة الرعد، الآية [4] .

3 أضواء البيان 6/486.

4 سورة النحل، الآية [13] .

5 سورة فاطر، الآية [27] .

ص: 148

آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 1. ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك فيه الدلالة القاطعة على أن الله جل وعلا واحد، لا شبيه له، ولا نظير له، ولا شريك له، وأنه المعبود وحده. وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة وإرادة الفاعل المختار، وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا. كما أوضح ذلك في قوله:{وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2؛ فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة؛ لأن قطعها متجاورة، والماء الذي تسقى به ماء واحد، والثمار تخرج متفاضلة، مختلفة في الألوان، والأشكال، والطعوم، والمقادير، والمنافع. فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار، يفعل ما يشاء كيف يشاء، سبحانه جل وعلا عن الشركاء والأنداد. ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بشيئته جل وعلا: أن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ألقي فيها الحطب، وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ولا شك أن الحطب أصلب، وأقسى، وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه؛ فأحرقت الحطب بحرها، وكانت على إبراهيم برداً وسلاماً لما قال لها خالقها:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 3، فسبحان من لا يقع شيء كائنا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا فعال لما يريد" 4.

فالشيخ رحمه الله استدل بهذه الألوان العجيبة والجميلة على حكمة الله وقدرته، وأنه الخالق المبدع؛ صور تلك الأشياء فأحسن خلقها وتصويرها،

1 سورة الروم، الآية [22] .

2 سورة الرعد، الآية [4] .

3 سورة الأنبياء، الآية [69] .

4 أضواء البيان 3/227-228.

ص: 149

فلا تتشابه المخلوقات بأشكالها ولا بألوانها، فلا رب سواه، ولا إله غيره، ولا شريك معه من خلقه.

ثم يستنتج رحمه الله من هذا الدليل أيضاً أن لله المشيئة المطلقة؛ فما شاء كان، ومالم يشأ لم يكن. وأن من أسند شيئاً من أمور الخلق إلى غير الله فقد افترى على الله الكذب، وأتى بغاية الكفر والضلال؛ لأنه جل وعلا المتفرد بالخلق والأمر، والمستحق للعبادة وحده سبحانه وتعالى.

ص: 150

سابعاً: جريان السفن:

من آيات الله الباهرة الدالة على عظمته وقدرته وأنه المعبود وحده: جريان السفن على ظهر البحر، وتسخيرها للناس؛ فتعبر بهم المحيطات، وتنقل أثقالهم إلى بلاد بعيدة بيسر وسهولة وأمان، محفوظة –بحفظ الله سبحانه- من الأخطار.

وهذه الآية الكونية برهان عظيم على أن الخالق القادر هو الله سبحانه وتعالى، وهو المستحق لأن يعبد وحده، ولا يشرك معه شيء من مخلوقاته.

وقد أوضح الشيخ الأمين رحمه الله هذا البرهان عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ} 1؛ فقال: "أي من علاماته الدالة على قدرته واستحقاقه للعبادة وحده: الجواري؛ وهي السفن، واحدتها جارية، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 2؛ يعني سفينة نوح، وسميت جارية: لأنها تجري في البحر

وماتضمنته هذه الآية الكريمة من أن جريان السفن في البحر من آياته تعالى الدالة على كمال قدرته، جاء موضحاً في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِوَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَوَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَإِلآ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 3، وقوله تعالى:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} 4، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ

1 سورة الشورى، الآية [32] .

2 سورة الحاقة، الآية [11] .

3 سورة يس، الآيات [41-44] .

4 سورة العنكبوت، الآية [15] .

ص: 151

النَّاسَ} إلى قوله: {لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. وقوله تعالى في سورة النحل: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} الآية2. وقوله في فاطر: {َتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الآية3 والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة4.

فالشيخ الأمين رحمه الله يستدل على استحقاق الله للعبادة بجريان السفن التي تحمل الأثقال –في خضم البحر المتلاطم الأمواج- بيسر وسهولة، مكلوءة بحفظ الله سبحانه وتعالى، ولاريب أن هذه الآية الكونية من آثار رحمة الله، ودلائل قدرته ووحدانيته وألوهيته، وهي واضحة للعيان، ولكل طالب للحق.

1 سورة البقرة، الآية [164] .

2 سورة النحل، الآية [14] .

3 سورة فاطر، الآية [12] .

4 أضواء البيان 7/194.

ص: 152

المطلب الثالث: أدلة بطلان إلهية ما سوى الله

بعد أن ذكر الشيخ الأمين رحمه الله تعالى البراهين العظيمة الدالة على أن المعبود بحق هو الله سبحانه وتعالى المتصف بصفات الجلال والكمال أكد أن هناك براهين قطعية دلت على أن الآلهة المعبودة من دون الله باطلة، وعبادتها لا يرضى بها صاحب العقل السليم؛ إذ إنها متصفة بصفات النقص الدالة على العجز، والتي ينزه المعبود بحق عن الاتصاف بها.

يقول رحمه الله عند تفسير قوله تعالى؛ {َاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 1: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه متصفة بستة أشياء، وكل واحدة منها برهان قاطع أن عبادتها مع الله لاوجه له بحال، بل هي ظلم متناه، وجهل عظيم، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم، وهذا بعد أن أثنى الله على نفسه جل وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها، التي هي براهين قاطعة على أن المتصف بها المعبود وحده.

والأمور الستة التي هي من صفات المعبودات من دون الله:

الأول منها: أنها لا تخلق شيئاً؛ أي لا تقدر على خلق شيء.

والثاني: أنها مخلوقة كلها؛ أي خلقها خالق كل شيء.

1 سورة الفرقان، الآية [3] .

ص: 153

والثالث: أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً.

والرابع والخامس والسادس: أنها لاتملك موتاً، ولاحياة، ولانشوراً؛ أي بعثا بعد الموت. وهذه الأمور الستة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت مبينة في مواضع أخر من كتاب الله تعالى" 1.

ثم ذكر رحمه الله الآيات الدالة على هذا المعنى.

فاستدل للأمر الأول؛ وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله لا تخلق شيئاً، بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الآية2. وبقوله تعالى:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} 3.

وقد بين تعالى في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق ومن لا يخلق، لأن من يخلق هو المعبود، ومن لايخلق لاتصح عبادته:

كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآية4: أي: وأما من لم يخلقكم فليس برب، ولا بمعبود لكم كما لا يخفى. وقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 5، وقوله تعالى:{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 6؛ أي ومن كان كذلك فهو المعبود وحده جل وعلا. وقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 7.

1 أضواء البيان 6/269.

2 سورة الحج، الآية [73] .

3 سورة الكهف، الآية [51] .

4 سورة البقرة، الآية [21] .

5 سورة النحل، الآية [17] .

6 سورة الرعد، الآية [19] .

7 سورة الأعراف، الآية [191] .

ص: 154

واستدل للأمر الثاني؛ وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله مخلوقه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1، وبقوله تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 2.

واستدل للأمر الثالث؛ وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً بقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 3 –ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضراً ولا نفعاً-، وبقوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 4.

واستدل للأمر الرابع والخامس والسادس؛ وهي كونهم لايملكون موتاً ولاحياة ولانشوراً بقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5؛ فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئاً من ذلك المذكور في الآية؛ ومنه الحياة المعبر عنها بـ"خلقكم"، والموت المعبر عنه بقوله:"ثم يميتكم"، والنشور المعبر عنها بقوله:"ثم يحييكم".

وبين أنهم لا يملكون حياة ولانشورا في قوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه} الآية6.

1 سورة النحل، الآية [20] .

2 سورة الأعراف، الآية [191] .

3 سورة الأعراف، الآيتان [191-192] .

4 سورة الأعراف، الآية [197] .

5 سورة الروم، الآية [40] .

6 سورة يونس، الآية [34] .

ص: 155

وبين أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلآ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} 1، وقوله تعالى:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} الآية2. إلى آخر ما أورده الشيخ رحمه الله من أدلة في هذا الباب3.

فالشيخ رحمه الله يهتم بإبراز براهين التوحيد، ويعرضها بأسلوبه، وعلى طريقته في تفسير القرآن بالقرآن، مؤكداً دلالتها على أن الله تعالى هو المعبود بحق وحده لا شريك له، وأن عبادة من دونه من أظلم الظلم، ومن الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار –عياذا بالله تعالى-.

1 سورة آل عمران، الآية [145] .

2 سورة المنافقون، الآية [11] .

3 انظر أضواء البيان 6/269-271.وانظر أيضاً: المصدر نفسه4/31، 32، 5/833.

وقد أشار الرازي إلى هذه البراهين في تفسيره (التفسير الكبير 24/48) .

ص: 156