الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: بعض شبه أهل التأويل، وردّ الشيخ عليها
لأهل التأويل شبه قدحت بأذهانهم عطلوا بها صفات الله، فكلما جاءتهم آية وحديث يخالف عقولهم وأفكارهم حرفوه وعطلوه، وقد بنوا معتقدهم على هذه الشبه التي أصلوها من عند أنفسهم زاعمين أنهم ينزهون الله عن صفات النقص ومشابهة الحوادث، وهم في الحقيقة قد شبهوه بالجمادات والمعدومات، وعطلوه عن صفات الكمال التي امتدح بها نفسه سبحانه، وأثنى عليه بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الشبه:
الشبهة الأولى: قولهم إن ظاهر الصفة غير مراد؛ لأن ظاهرها التشبيه؛ قال صاحب الجوهرة:
وكل نص أوهم التشبيها
أوله أو فوض ورم تنزيها1
ومعنى هذا أن كل نص في القرآن الكريم والسنة النبوية فيه صفة الله سبحانه وتعالى، ويوهم المشابهة بصفات المخلوقين بزعمهم يصرف عن ظاهره؛ مثل الاستواء: الذي أولوه بالاستيلاء. واليد: التي أولوها بالقدرة. والعين: التي أولوها بالرعاية. والمحبة: بإرادة الإحسان. وهكذا.
وقد ذكر الشيخ الأمين رحمه الله مضمون دعواهم هذه، فقال رحمه الله: "زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله؛ لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه. وعقد ذلك المَقَريّ2 في إضاءته في قوله:
1 شرح الصاوي على جوهرة التوحيد ص128.
2 هو أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن المقري المغربي. ولد في تلمسان، ونشأ بها، ودخل مصر عام (1028) . وتوفي فيها عام (1041?) .
(انظر مقدمة شرح إضاءة الدجنة المسماة بـ (رائحة الجنة) لعبد الغني النابلسي ص7-8، والأعلام 1/237) .
والنص إن أوهم غير اللائق
بالله كالتشبيه بالخلائق
فاصرفه عن ظاهره إجماعاً
واقطع عن الممتنع الأطماعا"1 2.
وقد ردّ رحمه الله على هذه الدعوى رداً مقنعاً مفحما، حيث قال:"وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم. والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها لكل مسلم راجع عقله هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه. ولا بد أن نتساءل هنا فنقول: أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال؟ والجواب الذي لا جواب غيره: بلى. وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق؟ والجواب الذي لا جواب غيره: لا، فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظاً أنزله الله في كتابه مثلاً دالاً على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم؛ فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف، وصفاتهما متخالفة كل التخالف، فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق؟ فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقاً بالخالق منزهاً عن مشابهة صفات المخلوق. وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق"3.
ثم بين رحمه الله هذا التفصيل في الفرق بين صفات الله وصفات خلقه بمثال يوضح به أن الظاهر المتبادر من صفات الله هو كما يليق بجلاله، لا يشابه صفة المخلوقين؛ قال رحمه الله: "فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم، وهذا هو الذي
1 إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة، مع شرحها ص148، ط الأولى، عام1377?.
2 أضواء البيان 7/443.
3 أضواء البيان 7/444.
يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2 إنها صفة كمال وجلال لائقة بالله جل وعلا، ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله" 3.
الشبهة الثانية: قولهم أن التأويل إجماع:
يرى المتأولة أن التأويل مجمع عليه. وقد تقدم قول المقري في إضاءته:
فاصرفه عن ظاهره إجماعاً
واقطع عن الممتنع الأطماعا4
وقد كذب الشيخ رحمه الله حكاية هذا الإجماع، وبين أنه لا أساس له من الصحة. وعقب على قول المقري بقوله:"إجماع مفقود أصلاً، ولا وجود له البتة؛ لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة؛ فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله، ولا من تابعيهم ولم يقله أحد من الأئمة الأربعة، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين. وإنما لم يقولوا بذلك؛ لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه. وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى"5.
وقد سبق الشيخ الأمين رحمه الله إلى القول بأن التأويل ليس من طريقة السلف كل من شيخ الإسلام ابن تيمية6، والذهبي7، وغيرهما. بل
1 سورة المائدة، الآية [38] .
2 سورة ص، الآية [75] .
3 أضواء البيان 7/445. وانظر المصدر نفسه 2/319، 7/451.
ومنهج ودراسات ص35. ومنع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز –الملحق بأضواء البيان 10/55.
4 إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة ص148.
5 أضواء البيان 7/451-452.
6 الفتاوى 6/394.
7 سير أعلام النبلاء 10/610.
نص العلامة عبد الباقي الواهبي على تحريم التأويل في صفات الله، فقال رحمه الله:"يحرم تأويل ما يتعلق به تعالى وتفسيره؛ كآية الاستواء، وحديث النزول، وغير ذلك من آيات الصفات، إلا بصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعض الصحابة، وهذا مذهب السلف قاطبة"1.
ولاشك أنه لم يصدر عن الله ولا عن رسوله ما يوجب التأويل، وإنما ما يوجب الإثبات.
الشبهة الثالثة: قولهم أن الصفات مجاز:
يرى المؤولة أن الصفات التي يؤلونها ليست على الحقيقة، بل هي من المجاز. والمجاز باب واسع، يمكن من خلاله تعطيل الصفات.
وقد رد الشيخ الأمين رحمه الله على هذه الشبهة فقال: "إن الله تبارك وتعالى موصوف بتلك الصفات حقيقة لا مجازاً؛ لأنا نعتقد اعتقاداً جازماً لا يتطرق إليه شك أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها لا تدل البتة إلا على التنزيه عن مشابهة الخلق، واتصافه تعالى بالكمال والجلال. وإثبات التنزيه والكمال والجلال لله حقيقة لا مجازاً لا ينكره مسلم ومما يدعو إلى التصريح بلفظ الحقيقة ونفي المجاز كثرة الجاهلين الزاعمين أن تلك الصفات لا حقائق لها، وأنها كلها مجازات. وجعلوا ذلك طريقاً إلى نفيها؛ لأن المجاز يجوز نفيه، والحقيقة لا يجوز نفيها، فقالوا: مثلاً: اليد مجاز يراد به القدرة والنعمة، أو الجود؛ فنفوا صفة اليد لأنها مجاز. وقالوا: "على العرش استوى" مجاز؛ فنفوا الاستواء لأنه مجاز"2. وقال رحمه الله في موضع آخر: "ومن المعلوم أن هذه الصفات لو كان يقصد بها شيء آخر من المجازات التي يحملها عليها المؤولون لبادر صلى الله عليه وسلم إلى بيانه؛ لأنه لا يجوز في حقه صلوات الله عليه وسلامه
1 العين والأثر ص35-36.
2 أضواء البيان 7/452. وانظر المصدر نفسه 7/463.
تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ولا سيما في العقائد" 1.
الشبهة الرابعة: الصفة التي لا يشتق منها تؤول:
قال رحمه الله: "ومن الغريب أن بعض الجاحدين لصفات الله المؤولين لها بمعان لم ترد عن الله ولا عن رسوله يؤمنون فيها ببعض الكتاب دون بعض؛ فيقرون بأن الصفات السبع التي تشتق منها أوصاف ثابتة لله مع التنزيه، ونعني بها القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام؛ لأنها يشتق منها قادر حي عليم إلخ. وكذلك في بعض الصفات الجامعة؛ كالعظمة والكبرياء والملك والجلال مثلاً؛ لأنها يشتق منها العظيم والمتكبر والجليل والملك. وهكذا يجحدون كل صفة ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يشتق منها غيرها؛ كصفة اليد والوجه، ونحو ذلك. ولا شك أن هذا التفريق بين صفات الله التي أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم لا وجه له البتة بوجه من الوجوه، ولم يرد عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم الإذن في الإيمان ببعض صفاته وجحد بعضها، وتأويله؛ لأنها لا يشتق منها. وهل يتصور عاقل أن يكون عدم الاشتقاق مسوغاً لجحد ما وصف الله به نفسه؟ ولا شك عند كل مسلم راجع عقله أن عدم الاشتقاق لا يرد به كلام الله فيما أثنى به على نفسه، ولا كلام رسوله فيما وصف به ربه. والسبب الموجب للإيمان إيجاباً حتماً كلياً هو كونه من عند الله، وهذا هو الذي علم الراسخون في العلم أنه الموجب للإيمان بكل ما جاء عن الله سواء استأثر الله بعلمه؛ كالمتشابه، أو كان مما يعلمه الراسخون في العلم، كما قال الله عنهم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 2"3.
1 رحلة الحج، للشيخ الأمين رحمه الله ص83.
2 سورة آل عمران، الآية [7] .
3 أضواء البيان 7/447.
الشبهة الخامسة: الصفة التي ليس لها آثار تؤول:
قال الشيخ الأمين رحمه الله: "وما يزعمه بعضهم من أن القدرة والإرادة مثلاً، ونحوهما ليست كاليد، والوجه بدعوى أن القدرة والإرادة مثلاً ظهرت آثارهما في العالم العلوي والسفلي بخلاف غيرهما كصفة اليد ونحوها. فهو من أعظم الباطل، ومما يوضح ذلك أن الذي يقوله هو وأبوه وجده من آثار صفة اليد التي خلق الله بها نبيه آدم"1.
الشبهة السادسة: أن الاستواء والعلو والفوقية تستلزم الجهة:
ذكر رحمه الله هذه الشبهة، ورد عليها، وفصل في المعنى المراد من الجهة، فقال:"واعلم أن ما يزعمه كثير من الجهلة من أن ما في القرآن العظيم من صفة الاستواء والعلو والفوقية يستلزم الجهة، وأن ذلك محال على الله، وأنه يجب نفي الاستواء والعلو والفوقية، وتأويلها بما لا دليل عليه من المعاني: كله باطل. وسببه سوء الظن بالله وكتابه، وعلى كل حال فمدعي لزوم الجهة لظواهر نصوص القرآن العظيم، واستلزام ذلك للنقص الموجب للتأويل. يقال له: ما مرادك بالجهة؟ إن كنت تريد بالجهة مكاناً موجوداً انحصر فيه الله، فهذا ليس بظاهر القرآن، ولم يقله أحد من المسلمين. وإن كنت تريد بالجهة: العدم المحض فالعدم عبارة عن لا شيء؛ فميز أولاً بين الشيء الموجود، وبين لا شيء"2.
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذه الشبهة3. بنحو كلام الشيخ الأمين رحمه الله.
الشبهة السابعة: قول المفوضة: إن قولكم حقيقة لا مجازاً لم يرد عن السلف:
1 أضواء البيان 7/448.
2 أضواء البيان 7/459- 460.
3 انظر: العقيدة التدمرية ص66.
وقد رد الشيخ الأمين رحمه الله على هذه الشبهة رداً مقنعاً، فقال:"إنما قلنا حقيقة لا مجازاً لقطعِنا وجزمِنا بأن تلك الصفات التي مدح الله بها نفسه صفات كمال وجلال منزهة عن مشابهة صفات الخلق؛ كتنزيه ذاته عن مشابهة ذواتهم. وجميع العقلاء إذا راجعوا عقولهم تحققوا أن الظاهر المتبادر لكل مسلم هو مخالفة الله لخلقه وتنزيهه عن مشابهتهم في صفاتهم وذواتهم وأفعالهم؛ فالظاهر المتبادر من صفة الاستواء والوجه واليد مثلاً أنها صفات كمال وجلال منزهة عن كل ما يخطر في قلوب الجهلة من مشابهة صفات الخلق. وإذا كان ظاهرها المتبادر منها التنزيه وعدم المشابهة فإثباتها حقيقة لا محذور فيه؛ لأن إثبات الكمال والتنزيه لله لا محذور فيه البتة"1.
وقال في موضع آخر: "إن سبب نفوره2 من لفظة الحقيقة ونفي المجاز هو ما ينطوي عليه قلبه من سوء الظن بكلام الله في كتابه، وأن ظاهره المتبادر منه الكفر والتشبيه. ولو هداه الله إلى ما هدى إليه السلف الصالح من اليقين الجازم بأن ما مدح الله به نفسه في كتابه بالغ من الكمال والتنزيه ما يقطع علائق الوساوس وأوهام التشبيه؛ لأنه جل وعلا لا يمكن بحال أن يشبهه شيء من خلقه لما وقع فيما وقع فيه؛ فقد كان في بادئ الأمر يتبادر إلى ذهنه التشبيه لظنه أن ظواهر آيات الصفات تستلزم التشبيه، وكان ثانياً معطلاً بدعواه أن ما مدح الله به نفسه في كتابه من الصفات كالاستواء، واليد لا حقيقة لها. وأي جهل بالله، وأي إلحاد في آياته أعظم من دعوى أن معاني آياته لا حقيقة لها. سبحانك هذا بهتان عظيم. وعلى كل حال فإنا نقطع بأن ما مدح الله به نفسه في كتابه كله كمال وجلال منزه أتم التنزيه عن مشابهة الخلق، وأن حقيقة ذلك الكمال والجلال ثابتة له تعالى حقاً؛ لأن من
1 المعين والزاد ص43.
2 يقصد المفوض.
أسمائه تعالى الحق؛ فهو جل وعلا حق، وعبادته وحده حق. وجميع صفاته حق، وكل ما أثنى به على نفسه حق يقين. فمن ادعى على شيء من صفاته التي مدح بها نفسه أنها لا حقيقة لها متهجماً عليها بإدعائه أن ظاهرها المتبادر منها الكفر الذي هو مشابهة صفات الخلق. فالله جل وعلا حسبه، وسيجازيه الجزاء اللائق به"1.... إلى أن قال رحمه الله:"وقد قال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فلو كان الاستواء لا حقيقة له عنده لما صرح بأن الإيمان به واجب، ولقال: إنه يجب تأويله بمعنى آخر، وأنه مجاز ولا حقيقة له"2.
وقال رحمه الله أيضاً في معرض الرد عليهم: "إن أصل الحقيقة في اللغة التي نزل بها القرآن (فعلية) بمعنى: فاعل، من قول العرب: حق الشيء، بمعنى ثبت. أو بمعنى مفعول من حققت الشيء –بتخفيف القاف- إذا أثبته. وإذا علمت أن الحقيقة معناها من معنى مادة الثبوت، فثبوت صفات الله دلت عليه نصوص الوحي دلالة قاطعة لا نزاع فيها. فمعنى اتصافه بصفاته حقيقة بدلالة المطابقة: هو كونها ثابتة له حقاً. وهذا هو معنى نصوص الوحي، فلا زيادة فيه البتة على المعنى الذي دل عليه الوحي. وقد ذكرنا آنفاً أن من أسمائه الحق، وذلك مستلزم لأن صفاته كلها حق، وكل ما هو ثابت حقيقة فهو حق، وبهذا تعلم أن نفي الحقيقة عن بعض الصفات مستلزم لنفي ثبوتها، ونفي ثبوت ما أثبته الله لنفسه محادة له جل وعلا من حيث لا يشعر ذلك النافي. وأما نفي المجاز عن صفات الله فقد أوضحناه في رسالة مستقلة، ومن أوضح أدلته أن القائلين بالمجاز منذ نشأ المجاز مجمعون على أن من الفوارق بينه وبين الحقيقة في اصطلاح البيانيين أن كل
1 المعين والزاد ص43-44.
2 المعين والزاد ص45.
مجاز يجوز نفيه باعتبار الحقيقة
…
ومعلوم أن ما مدح الله به نفسه في كتابه لا يجوز نفي شيء منه، وذلك يستلزم منع المجاز فيؤول؛ لأن وجود المجاز يستلزم جواز النفي كما وضحنا"1.
وما قاله الشيخ الأمين رحمه الله في رده على هذه الشبهة قد قاله غيره من أئمة أهل السنة والجماعة؛ كالإمام ابن عبد البر رحمه الله الذي قال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة"2.
وفي ختام هذا المبحث نشير على أن الشيخ الأمين رحمه الله أورد سؤالين بلسان أهل التأويل، ثم أجاب عليهما، ونسفهما من أساسهما موضحاً أنهما مجرد شبهة تدور في مخيلة المتأولة يلقونها في أسماع من يصغي إليهم ليبدلوا كلام الله ويحرفوا معانيه.
وقد أورد الشيخ رحمه الله سؤالهم الأول، بقوله:"اعلم أنه إن قال معطل متنطع: نحن لا نعقل كيفية استواء مثلاً منزهة عن مشابهة كيفية استواء الخلق، فبينوا لنا كيفية معقولة منزهة عن مشابهة كيفيات استواء الخلق لنعتقدها؛ لأنا لم تدرك عقولنا كيفية استواء منزهة عن ذلك؟ "3.
ثم أجاب الشيخ رحمه الله عن هذا السؤال مبيناً أن أشباه هذا السؤال يورده المعاند ليبطل به المعتقد السلفي، وقد سد رحمه الله على المعاند كل
1 الزاد والمعين ص45-46.
2 التمهيد 7/145.
وهذه المسألة من المسائل التي نوقش فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين حبس. وقد رد عليهم بالرد المقنع.
(انظر: الفتاوى 3/188، 199) . وانظر كلام الإمام أبي الحسن الأشعري عن الحقيقة. (في رسالة أهل الثغر ص213، 216) .
3آداب البحث والمناظرة2/130.وانظر منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص45.
الطرق التي سلكها للنيل من العقيدة. فأجاب عن هذا السؤال بجوابين، يكفي واحد منهما لدمغ حجتهم، فقال:"الأول: أن يقال: هل عرفت كيفية الذات الكريمة المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فإن قال: لا، قلنا له: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات؛ لأن الصفات تختلف باختلاف موصوفاتها؛ فكل صفة بحسب موصوفها"1.
وفي هذه الإجابة تظهر لنا براعة الشيخ الأمين رحمه الله؛ فهو قد بدأ مع السائل وانطلق معه من قاعدة يتفقان عليها، وأوضح له أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات؛ فإذا كنت تثبت لله ذاتاً حقيقية لا تشبه ذوات خلقه، وهذا أمر نتفق عليه؛ إذ لا تشبه ذات الله الذوات، ولا نعلم كيفيتها، فمن البديهي إذاً أن صفات الله تختلف عن صفات خلقه، وأن لا نعلم كيفيتها. وحينئذ فليس أمام هذا المعترض إلا أن يرضخ أمام هذا الجواب المقنع، ويسلم.
ولم يكتف الشيخ رحمه الله بما سبق، بل أورد مثلاً فيه عبرة لمن أراد الله هدايته؛ برهاناً صادقاً مشاهداً في الوجود، وحجة بالغة، فقال:"ألا ترى –ولله المثل الأعلى- أن لفظة رأس مثلاً إذا أضفتها إلى الإنسان فقلت: رأس الإنسان، وأضفتها إلى الوادي أو أضفتها إلى الجبل فقلت: رأس الجبل، وأضفتها إلى المال فقلت: رأس المال: أن لفظة الرأس لفظة واحدة، وأنها اختلفت حقائقها اختلافاً عظيماً بحسب اختلاف إضافاتها. وهذا في اختلاف الإضافات إلى مخلوقات حقيرة، فما بالك بالاختلاف الواقع بين ما أضيف إلى الخالق وما أضيف إلى خلقه؛ فالفرق بين ذلك كالفرق بين ذات الخالق وذوات المخلوقين"2.
1 آداب البحث والمناظرة 2/130. وانظر: منهج ودراسات ص45. وأضواء البيان 2/320، 7/450.
2 آداب البحث والمناظرة 2/131. وأضواء البيان 7/451. وانظر منهج ودراسات ص45-46.
وبهذا يوضح الشيخ الأمين رحمه الله قاعدة مهمة؛ وهي أن الألفاظ قبل الإضافة والتخصيص هي معان مشتركة، ولكنها بعد الإضافة والتخصيص تخص من أضيفت إليه. وهذا ملحوظ فيما بين المخلوقات، فكيف بين الخالق جل وعلا وبين المخلوق؛ فصفات الله جل وعلا تشترك مع صفات المخلوق في المعنى العام الكلي، وتفترق بعد الإضافة والتخصيص.
بل هي تفترق بعد الإضافة والتخصيص بين المخلوقات أنفسها؛ فلفظة اليد مثلاً من المعاني المشتركة، لكن إذا قلت: يد الباب، أو يد الإنسان، أو يد الطائر، أو يد الحيوان؛ ظهرت النتيجة الدالة على التفاوت فيما بين هذه المخلوقات، فكيف بين الخالق جل وعلا وبين خلقه، إنها والله لأعظم مباينة.
أما الشق الثاني من الجواب على هذا السؤال؛ فهو خاص بمن أثبت بعض الصفات، وأول البعض الآخر؛ فيلزمه أن يثبت بقية الصفات كما يليق بجلاله سبحانه، مثل ما قال في بعضها؛ إذ الكل لا نعلم كيفيتها، والمشابهة منتفية عن الجميع؛ قال رحمه الله:"الوجه الثاني: هو أن تقول: هل عرفتم كيفية منزهة عن مشابهة الخلق في السمع والبصر مثلاً؟ فلا بد أن يقولوا أيضاً: لا، ولكنا نعلم أن سمع الله وبصره منزهان عن مشابهة أسماع الخلق وأبصارهم. فإن قالوا ذلك، قلنا: ونحن نقول مثل ذلك في الاستواء، وسائر الصفات الثابتة بالوحي الصحيح"1.
وبعد هذا البسط الواضح من الشيخ الأمين رحمه الله في الإجابة عن هذا السؤال الإجابة المقنعة التي تزيل الشبه، وتمحو التصورات التي يحسبها أصحابها علماً ومهارة يخدعون بها السذج ويبلبلون أفكارهم ومعتقداتهم: أريد أن أقول: إن الشيخ الأمين رحمه الله بهذه الإجابة الواضحة دلل على
1 آداب البحث والمناظرة 2/131.
أنه قد أوتي علماً وافياً وحجة بالغة في مجادلة الخصوم، وأعطى مثلاً واضحاً للداعية في الأسلوب الذي ينبغي أن يحتذى به في إقناع الخصم من غير إثارة البغضاء والجدل. فرحم الله الشيخ الأمين رحمة واسعة.
أما السؤال الثاني:
فقد أورده رحمه الله بقوله: "اعلم إن قال معطل متنطع: إن القرآن العظيم نزل بلغة العرب، والاستواء في لغتهم هو هذا الذي نشاهده في استواء المخلوقين، فإثباته لله يستلزم التشبيه بالخلق بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن"1.
وقد رد رحمه الله على هذا السؤال، وبين بطلانه من وجهين:
الأول: أن المعترض لم يفرق بين الخالق والمخلوق، لكن العرب لم يقعوا في هذا الخطأ؛ فهم يعرفون ما بين الخالق والمخلوق من مباينة، وأن للخالق صفات تليق بعظمته، وهي صفات كمال لا نقص فيها، وللمخلوق صفات مناسبة تليق بما هو عليه من النقص والضعف؛ فقال رحمه الله موضحاً هذا المعنى: "الأول: أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم يعلمون كل العلم من معاني لغتهم أن بين الخالق والمخلوق، والرازق والمرزوق، والمحيي، والمميت والممات، إلى آخره فوارق عظيمة هائلة مستلزمة للاختلاف التام بين صفات الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق. وأن أصل اللغة يقتضي أن تكون صفة كل منهما مناسبة لحاله؛ فعظمة صفة الخالق كعظمة ذاته، وانحطاط صفة المخلوق عنها كانحطاط ذاته عن عظمة ذاته. وما كان يلتبس ذلك على عوام المسلمين في زمنه صلى الله عليه وسلم، فما كان يخطر في عقولهم مشابهة صفة الخالق لصفة خلقه، بل يعلمون أن صفة الخالق لائقة به، وصفة المخلوق لائقة به، والفرق بينهما كالفرق بين الذات
1 آداب البحث والمناظرة 2/131. وانظر: أضواء البيان 7/449.
والذات"1.
أما الشق الثاني من الجواب: فقد عنى به الشيخ رحمه الله من أثبت بعض الصفات من غير كيف، وأول الباقي: أنه يلزمه إثبات الجميع لله من غير كيف، أو نفي الجميع؛ لأنها تشابه صفات المخلوقين؛ فقال رحمه الله:"الوجه الثاني: أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لا يعرفون للسمع والبصر مثلاً كيفية إلا هذا المعنى المشاهد في المخلوقين بالحاسة التي هي جارحة، فيلزم قولكم أن يكون إثبات السمع والبصر ونحوهما من الصفات يستلزم التشبيه بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن. فإن قالوا: لا يلزم من كون الوضع العربي يراد فيه بمعنى السمع والبصر ما هو مشاهد في المخلوقات أن يكون سمع الله وبصره مشابهين لأسماع الخلق وأبصارهم، لتنزيه صفاته عن مشابهة صفاتهم. قلنا: وكذلك نقول في الاستواء ونحوه، ولا وجه البتة للفرق بين السمع والبصر وبين الاستواء، والمشاهد من الجميع في المخلوقات لا يليق بالله جل وعلا، والذي اتصف الله به من الجميع منزه عن مشابهة صفات الخلق؛ كتنزيه سائر صفاته وذاته عن مشابهة صفات الخلق وذواتهم"2.
ونلاحظ في هذا الجواب قوة الحجة التي عرضها الشيخ الأمين رحمه الله، إذ إنه قد استخدم حجة المنازع المثبت لبعض الصفات، فألزمه أن يقول في بعض الصفات كما قال في بعضها الآخر؛ إما إثباتاً، وإما نفياً؛ لأنّ التفريق بينهما قول على الله بغير علم وتحكم بغير دليل، وقد دلت الأدلة السمعية والعقلية على ثبوت الصفات لله من غير كيف.
1 آداب البحث والمناظرة 2/131. وانظر: أضواء البيان 7/449-450.
2 آداب البحث والمناظرة 2/131-132.
وانظر الإجابة عن هذين السؤالين أيضاً: في أضواء البيان 2/320، 7/449-451. ومنهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص45.