الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: ما يضاد إخلاص العبادة
المطلب الأول: الشرك بالله تعالى
…
المبحث الرابع: ما يضادّ إخلاص العبادة
بعد أن ذكرت –فيما مرّ- أنواع العبادة كما وضحها الشيخ الأمين رحمه الله، وبيّنها في كتبه، أشرع ها هنا بذكر مايضادّ تلك ألأنواع، وينافي إخلاص العبادة؛ من الشرك الأكبر والأصغر وكبائر الذنوب، بحسب ما تطرق إليه الشيخ رحمه الله، ووفق منهجه رحمه الله.
قال تعالى ممتنّا على المؤمنين بأنه قد بغض إلى قلوبهم مايضادّ إخلاص العبادة؛ من كفر، أو فسوق، أو عصيان بفضله عليهم، ونعمته، ورأفته بهم جلّ وعلا:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 1.
ولبيان هذه الأنواع التي تضادّ إخلاص العبادة قسّمت هذا المبحث إلى مطالب:
1 سورة الحجرات، الآية [7] .
المطلب الأول: الشرك بالله تعالى
كما أنّ أعظم طاعة وعبادة عُبد الله تعالى بها، وتُقرب بها إليه هي التوحيد، كذلك فإنّ أعظم ذنب عصي الله تعالى به على الإطلاق هو الشرك، لذلك فإنّ من مات عليه لايغفر له الله أبداً، ويدخله النار خالداً مخلداً فيها أبداً، ويحبط جميع عمله كبيره وصغيره؛ لأنه صرف أعظم حقّ من حقوق الله تعالى لغير الله تعالى فأحبط الله جميع عمله بسبب التفاته إلى غير خالقه جل وعلا.
وقد اهتمّ الشيخ الأمين رحمه الله بهذا الجانب، وذكر أن كلّ مسلم يجب عليه أن يعرف ماهي العبادة، وما الذي يحبطها ويفسد العمل؛ فقال رحمه الله:"اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة؛ وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات، فيخلص تقربه بذلك إلى الله، ولايصرف شيئاً منه لغير الله كائنا ماكان"1.
وقبول العبادة مبني على أمرين:
الأول: الإخلاص: وهو تجريد العبادة لله سبحانه وتعالى. وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
الثاني: العمل الصالح: وهو تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو معنى شهادة أنّ محمداً رسول الله.
ودليل ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً
1 أضواء البيان 7/626.
وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1.
وهذا الموضوع؛ أعني الإشراك بالله تعالى –عياذا بالله من ذلك- من الموضوعات الخطيرة، لذلك اهتم الشيخ الأمين رحمه الله ببيانه، وأطال النفس فيه جداً؛ فقد بين رحمه الله أن المشرك لا يقبل منه عمل، ولا يرجى له خلاص؛ لأنه أتى بظلم عظيم، فمن مات وهو يشرك بالله شيئاً فهو في نار جهنم خالداً فيها؛ لأنه صرف العبادة إلى غير الخالق الرازق المعبود وحده سبحانه وتعالى فقال رحمه الله:"إن من أشرك بالله غيره.... ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك لا خلاص منه بوجه، ولانجاة معه بحال"2.
لذلك أهاب الشيخ رحمه الله بكل مسلم أن يفرق بين حقوق الله الخاصة به سبحانه، وبين حقوق خلقه، وأن يعطي كل ذي حق حقه، حتى لايقع في هذا الأمر العظيم.
وأوضح رحمه الله أن أعظم الحقوق الخاصة بالله تعالى: إخلاص العبادة له وحده جل وعلا، وأخلص مايكون وأصدقه حين تحيط الشدائد والكرب بالإنسان. فمن أخلص لله فقد عرف حقه، واقتدى بنبيه صلى الله عليه وسلم.
يقول رحمه الله: "اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته، والتي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه؛ كحق النبي صلى الله عليه وسلم ليضع كل شيء في موضعه على ضوء ماجاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن العظيم، والسنة الصحيحة. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته: التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب ودهمته
1 سورة الكهف، الآية [110] .
2 أضواء البيان 5/690-691. وانظر المصدر نفسه 1/393.
الدواهي، لايجوز إلا لله وحده؛ لأنه من خصائص الربوبية، فصرف ذلك الحق لله، وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومرضاته، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة لله وحده جل وعلا"1.
ثم بين رحمه الله الأدلة من القرآن الكريم على أن الإخلاص حق لله؛ لأنه هو الخالق الرازق القادر على كشف الدواهي والشدائد وحده؛ فقال رحمه الله: "بين جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه أنّ التجاء المضطر من عباده إليه وحده في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى. ومن أصرح ذلك الآيات التي في سورة النمل؛ أعني قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2...."3.
ثم بيّن رحمه الله محل الشاهد في هذه الآيات أنه قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 4 فقال رحمه الله: "فهذه المذكورات التي هي إجابة المضطر إذا دعاه، وكشف السوء، وجعل الناس خلفاء في الأرض من خصائص ربوبيته جل وعلا، ولذا قال بعدها:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . فتأمل قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه} ، مع قوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء} تعلم أنّ إجابة المضطرين إذا التجؤوا ودعوا وكشف السوء عن المكروبين، لا فرق في كونه من خصائص الربوبية
1 أضواء البيان 7/618.
2 سورة النمل، الآية [59-64] .
3 أضواء البيان 7/618.
4 سورة النمل، الآية [62] .
بينه وبين خلق السموات والأرض، وإنزال الماء، وإنبات النبات، ونصب الجبال، وإجراء الأنهار؛ لأنه جل وعلا ذكر الجميع بنسق واحد في سياق واحد، واتبع جميعه بقوله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} . فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله توجه إليه الإنكار السماوي الذي هو في ضمن قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ، فلا فرق البتة بين تلك المذكورات في كونها كلها من خصائص الربوبية"1.
ويوضح الشيخ الأمين رحمه الله في موضع آخر أن كل ما لايقدر عليه إلا الله فهو حق لله سبحانه وتعالى، لا يطلب إلا منه، وإذا طلب من غيره كان صرفا لخصائص الله لغيره؛ لأن الله هو المعبود والمدعو في طلب كل خير، ودفع كل شر في الرخاء والشدة، فقال رحمه الله:"واعلم أيضاً رحمك الله أنه لافرق بين ماذكرنا من إجابة المضطر، وكشف السوء عن المكروب، وبين تحصيل المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله كالحصول على الأولاد والأموال، وسائر أنواع الخير، فإن التجاء العبد إلى ربه في ذلك أيضاً من خصائص ربوبيته جل وعلا؛ كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} 2، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَه} 3، وقال تعالى: {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} الآية4، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} 5، وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} 6، إلى غير ذلك من الآيات. وفي الحديث: " إذا سألت فاسأل الله" 7. وقد
1 أضواء البيان 7/619-620.
2 سورة يونس، الآية [31] .
3 سورة العنكبوت، الآية [17] .
4 سورة الشورى، الآية [49] .
5 سورة النحل، الآية [72] .
6 سورة النساء، الآية [32] .
7 جزء من حديث ابن عباس. أخرجه الترمذي في سننه 4/667، وقال:"حديث حسن صحيح".
أثنى الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية1. فنبينا صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه إذا أصابهم أمر أو كرب التجأوا إلى الله وأخلصوا له الدعاء، فعلينا أن نتبع ولانبتدع" 2.
فالشيخ رحمه الله بيّن أن الإخلاص لله لابد أن يكون في جميع أنواع العبادة، لا يشرك مع الله أحداً من خلقه، ولو كان ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً؛ لأنه حق الله الذي افترضه على عباده، والعلامة الفارقة بين الإيمان والكفر.
ولكن هذا الحق صرف عند بعض الناس –ممن يدّعون الإسلام وزين لهم الشيطان سوء عملهم- إلى غير الله، فالتجأوا إلى ذلك الغير بأنواع العبادات من رغبة ورهبة عند نزول الملمات والكروب فصارت حالهم أعظم من حال المشركين الأوائل الذين كانوا يخلصون في الشدائد، ويشركون في الرخاء.
وقد وضح الشيخ الأمين حال هؤلاء فقال: "إن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده، ولا يصرفون شيئاً من حقه لمخلوق، وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة. ويعلم من ذلك أن بعض الجهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالاً من عبدة الأوثان؛ فإنهم إذا دهمتهم الشدائد، وغشيتهم الأهوال والكروب التجأوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله، مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع أن إجابة المضطر وإنجاءه من الكروب من حقوقه التي لايشاركه فيها غيره"3.
1 سورة الأنفال، الآية [9] .
2 أضواء البيان 7/625-626. وانظر المصدر نفسه 4/561.
3 أضواء البيان 3/614.
فالشيخ الأمين رحمه الله يميط اللثام عن هؤلاء الذين يفرطون في حقوق الله وخصائصه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ ففاقوا المشركين في شركهم؛ إذ دعوا أوثانهم وتوجهوا إليها في الشدة والرخاء، والسعة والضيق؛ فهم أشد شركا من الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأسوأ حالاً منهم؛ لأن أولئك كانوا يعلمون أن من يجيب الدعاء هو الله، فكانوا يلجؤون إليه وقت الشدائد والكرب، ويتركون أوثانهم.
وقد أشار إلى مشركي زماننا، وشدة تألههم لأوثانهم في الرغبة والرهبة الشيخ سليمان بن عبد الله1 رحمه الله فقال:"وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا الله كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك؛ فإنهم إذا أصابتهم الشدائد براً وبحراً أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون الله، وأكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه ديدنه وهِجّيراه إن قام، وإن قعد، وإن عثر"2.
وقد أشار الشيخ الأمين رحمه الله إلى نماذج من شرك هؤلاء الذين يدّعون أنهم من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيغالون فيه، وفي بعض الصالحين زاعمين أنهم يحبونهم ويعظمونهم، وفعلهم في الحقيقة من الأمور التي توجب سخط الله وسخط رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيقول رحمه الله: "إن ما انتشر في أقطار الدنيا من الالتجاء في أوقات الكروب والشدائد إلى غير الله جل وعلا كما يفعلون ذلك قرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعند قبور من يعتقدون فيهم الصلاح زاعمين أن ذلك من دين الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ومحبة الصالحين. وكله
من أعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمات الله وحرمات رسوله؛ لأن صرف
1 تقدمت ترجمته.
2 تيسير العزيز الحميد، ص220.
الحقوق الخاصة بالخالق التي هي من خصائص ربوبيته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ممن يعتقد فيهم الصلاح مستوجب سخط الله، وسخط النبي صلى الله عليه وسلم وسخط كل متبع له بالحق" 1.
فالشيخ الأمين رحمه الله يؤكد أن من توجه بشيء من حقوق الله إلى غيره فقد أغضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وخالف طريقته، وترك الاقتداء به، فهو صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر أمته بأن يجعلوه لله ندا، بل كان يأمر بالإخلاص لله وإفراده بالعبادة وحده سبحانه وتعالى. وكذا الأنبياء قبله، وأصحابه رضوان الله عليهم.
يقول رحمه الله مبيناً هذا المعنى: "ومعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر بذلك هو ولا أحد من أصحابه، وهو ممنوع في شريعة كل نبي من الأنبياء. والله جل وعلا يقول:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2، بل الذي كان يأمر به صلى الله عليه وسلم هو ما يأمره الله بالأمر به في قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 3..4.
1 أضواء البيان 7/623-624.
2 سورة آل عمران، الآيتآن [79-80] .
3 سورة آل عمران، الآية [64] .
4 أضواء البيان 7/624.