الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: ذكر جملة من الصفات التي ذكرها الشيخ الأمين –رحمه الله
-
فيما يلي أورد كلام الشيخ الأمين –رحمه الله مفصلا عن بعض الصفات التي كثر الكلام حولها بين السلف ومخالفيهم، وذلك كي أبيّن مدى التطابق بين ما سبق أن نقلته عنه منهج وقواعد قعدها، واستند إليها في الإثبات والردّ على الخصوم، وبين ما سأورده من كلامه التفصيلي حول بعض الصفات.
وسنلاحظ عند الكلام عن الصفات تفصيلاً أنّ الشيخ الأمين –رحمه الله قد اهتمّ بذكر رأيه في الصفات في ضوء الدليل، ووفق المنهج المرسوم. وسنلاحظ أيضاً أنه لا يطيل في الحديث عنها؛ لأنه اكتفى ببيان المنهج، ووضع القواعد العامة التي تشترك فيها سائر الصفات.
ومن الصفات التي فصّل الشيخ الأمين –رحمه الله فيها الكلام: صفة الاستواء، وصفة الكلام، وصفة اليدين، وصفة المعية، وصفة العلم، وصفة العلو، وصفة العظمة، وصفة الكبرياء، وصفة القدرة، وصفة السمع، وصفة البصر، وصفة الحياة، وصفة القيومية، وصفة الوجه، وصفة العين، وصفة القدم، وصفة الغضب، وصفة الرحمة، وصفة المجيء.
[1]
صفة الاستواء:
الاستواء على العرش1 من صفات الله الفعلية الثابتة على ما يليق
1 قال الشيخ الأمين رحمه الله في العرش: (والعرش سرير الملك، ويطلق على السقف، والمراد به هنا عرش الرحمن الذي ذكره الله عز وجل في سبعة مواضع من كتابه، واصفا نفسه باستوائه عليه جلّ وعلا) . (معارج الصعود ص49) .
بجلاله وكماله، فلا يُتطرق إلى تشبيه معناها، بل تثبت من غير كيف، وفق منهج السلف الذين يثبتون الصفات من غير تكييف –كما مرّ آنفا-.
وهذه الصفة العظيمة أطال المتكلمون حولها النقاش، وحشدوا لردها كلّ ما استطاعوا من جدل وسفسطه، وكلها تضمحلّ أمام سبع آيات من القرآن الكريم أثنى الله بها على نفسه واصفا لها بالاستواء على العرش، وجعلها من صفات الكمال التي يمتدح بها جلّ وعلا.
وقد قرر الشيخ الأمين –رحمه الله هذه الصفة بأسلوب سهل، وبدون تعقيد مستشهداً على ذلك بالنقل من آيات القرآن الكريم مؤكداً أنّ هذه الصفة من صفات الجلال والكمال، وهي ثابتة لله على ما يليق بجلاله، فقال رحمه الله:"اعلموا أنّ هذه الصفة التي هي صفة الاستواء صفة كمال وجلال، تمدح بها ربّ السموات والأرض. والقرينة على أنها صفة كمال وجلال أنّ الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلا مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله"1.
ثمّ استدلّ رحمه الله على هذه الصفة العظيمة بكلام الله سبحانه وتعالى، الذي امتدح نفسه بها في سبعة مواضع من القرآن الكريم.
والشيخ رحمه الله حين يورد هذه الآيات الكريمات يؤكد أنه لا مجال معها لتأويل متأول، أو تحريف محرف، وأنّ الحقّ مع من أثبتها لله كما يليق بجلاله؛ وهم أهل السنة والجماعة.
وقد أورد رحمه الله هذه الآيات السبع التي ذكر الله فيها
استواءه على عرشه حسب ترتيبها في القرآن الكريم، مبتدأ بقوله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص28. وانظر: رحلة الحج ص81.
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1.
ثمّ عقب رحمه الله على إيراده الآية بقوله: (فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال)2.
ثمّ ذكر رحمه الله الموضع الثاني الذي ذكر فيه الاستواء؛ وهو قوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} 3، وعقّب على هذه الآيات الكريمات بقوله:(فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا الكمال والجلال)4.
ثمّ ذكر رحمه الله الموضع الثالث من سورة الرعد، وهو قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الأياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 5. ثمّ قال رحمه الله بعد ذكر هذه الآيات الكريمات "فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة
1 سورة الأعراف، الآية [54] .
2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص28.
3 سورة الأعراف، الآيتان [3-4] .
4 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص29.
5 سورة الرعد، الآيتان [2-4] .
على الجلال والكمال" 1.
ثمّ ذكر رحمه الله الموضع الرابع من سورة طه، من قوله تعالى:{طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَىاللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2، ثمّ قال رحمه الله:"فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال"3.
ثمّ ذكر رحمه الله الموضع الخامس؛ من سورة الفرقان، وهو قوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 4. وقال بعد ذلك: "فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال" 5.
ثمّ ذكر رحمه الله الموضع السادس، وهو من سورة السجدة، وهو قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ} 6، ثمّ قال بعد أن أورده: "فهل لأحد أن ينفي شيئاً
من هذه الصفات الدالة على الغاية من الجلال والكمال"7.
1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص30.
2 سورة طه، الآيات [1-8] .
3 منهج ودراسات ص31.
4 سورة الفرقان، الآيتان [58-59] .
5 منهج ودراسات ص31.
6 سورة السجدة، الآيتان [4-5] .
7 منهج ودراسات ص31.
ثمّ ذكر رحمه الله الموضع السابع من المواضع التي ذكرت فيها هذه الصفة العظيمة؛ وهو قوله تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الأوَّلُ وَالأخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} "1 2.
وبعد أن أورد الشيخ رحمه الله هذه الآيات الكريمات الدالة على ثبوت اتصاف الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة العظيمة، نوه بأنّ بعض المتكلمين تجرأ على هذه الصفة الكريمة التي وصف الله تعالى بها نفسه فحرفها عن موضعها، وانتحل لها من تلقاء نفسه معاني عطلتها عن معناها الحقيقي المتضمن للكمال المطلق، زاعماً أنّ إثباتها على ظاهرها يجعلها صفة نقص لا يجوز اتصاف الربّ بها، لذلك تؤول بمعنى آخر غير المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن.
يقول الشيخ الأمين –رحمه الله مبيّنا حال هؤلاء القوم: "فالشاهد أنّ هذه الصفات التي يظنّ الجاهلون أنها صفة نقص، ويتهجمون على ربّ السموات والأرض بأنه وصف نفسه بصفة نقص، ثمّ يسببون عن هذا أن ينفوها ويؤولوها، مع أنّ الله جلّ وعلا تمدح بها، وجعلها من صفات الجلال والكمال، مقرونة بما يبهر من صفات الجلال والكمال. وهذا يدلّ على جهل وهوس من ينفي بعض صفات الله جلّ وعلا بالتأويل"3.
ولإبعاد الشبهة التي استقرت في عقول المؤولة؛ وهي أنّ صفة الاستواء تشابه صفة المخلوق، لذلك تحرف إلى استولى، أو غيرها أكد رحمه الله أنّ
1 سورة الحديد، الآيتان [3-4] .
2 منهج ودراسات ص32. وانظر: أضواء البيان 2/16-18. وآداب البحث والمناظرة 2/132.
3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص32.
السلف لا يقصدون بإثباتهم صفة الاستواء لله أنها تشابه صفة استواء المخلوق، فكما أنّ لله الخالق ذاتاً لا تشابه الذوات، كذلك له صفات لا تشبه الصفات.
ولذلك ذكر رحمه الله أنّ اتصاف المخلوق بالاستواء هو على ما يليق به، كما أنّ استواء الخالق جلّ وعلا على ما يليق به. وأنّ الصفة وإن اشتركت في المعنى، إلا أنّ كل صفة تتبع موصوفها. فالله تعالى يقول عن استواء الإنسان:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} 1، ويقول سبحانه:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} الآية2، ويقول عن استواء السفينة:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} الآية3.
ثم قال رحمه الله بعد ما ذكر هذه الآيات الكريمات: "وإنّ للخالق جلّ وعلا استواء لائقا بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضاً استواء مناسب لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين الخالق والمخلوق، على نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4"5.
وبذلك يقطع الشيخ رحمه الله الطريق على الجاهلين الذين شبهوا الله بخلقه، ثمّ عطلوه عن صفة الكمال التي أثبتها لنفسه فهو رحمه الله يؤكد أنّ صفة الاستواء التي اتصف بها الله سبحانه وتعالى ليست كما تصور لكم عقولكم، بل هو استواء لا نعلم كيفيته، كما أننا لا نعرف كيفية الذات، فلله سبحانه من هذه الصفة ما يليق بجلاله وعظمته من غير تشبيه أو
1 سورة الزخرف، الآية [13] .
2 سورة المؤمنون، الآية [28] .
3 سورة هود، الآية [44] .
4 سورة الشورى، الآية [11] .
5 أضواء البيان 2/318.
تكييف. وهذا هو المذهب الحقّ الذي تدلّ عليه نصوص الوحي المثبتة للصفات؛ لأنّ المنهج والطريقة في ذلك واضحة لم يدعنا الله تعالى فيها لعقولنا حين قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1؛ فالصفات ثابتة، وأما الكيفية فمنفية؛ إذ كيف نعرف كيفية صفته سبحانه، ونحن لم نعلم كيفية ذاته تعالى الله عما قاله المبطلون علواً كبيراً.
فالشيخ رحمه الله ينطلق في كلامه من الكتاب والسنة، ومن مفهوم السلف الصالح؛ الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
سئل الإمام مالك رحمه الله عن الاستواء، فقال:(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)2.
وقال الأوزاعي رحمه الله: (كنا والتابعون متوافرون نقول: إنّ الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته جلّ وعلا)3.
وقال الشيخ أبو نصر السجزي4: (وأئمتنا؛ كسفيان الثوري5، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة6، وحماد بن سلمة7، وحماد بن
1 سورة الشورى، الآية [11] .
2 تقدم تخريجه.
3 الأسماء والصفات للبيهقي ص515.
4هو الإمام الحافظ شيخ السنة أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجستاني. توفي سنة (444?) . (انظر: سير أعلام النبلاء17/654.وشذرات الذهب 3/271.
5 تقدمت ترجمته.
6 هو الإمام سفيان بن عيينة بن ميمون، مولى محمد بن مزاحم الهلالي الكوفي، ثم المكي. حافظ العصر، وأحد أئمة الحديث. ولد سنة (107) ، وتوفي سنة (198?) .
(انظر: سير أعلام النبلاء 8/454. وشذرات الذهب 1/354) .
7 هو الإمام حماد بن سلمة بن دينار البصري، من كبار المحدثين، توفي سنة (167?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 7/444. وشذرات الذهب 1/262) .
زيد1، وعبد الله بن المبارك2، والفضيل بن عياض3، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه4؛ متفقون على أنّ الله سبحانه بذاته فوق العرش، وعلمه بكلّ مكان، وأنه ينزل من السماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء" 5.
فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة في استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه؛ فهم يؤمنون بها على مراد الله من غير تكييف لمعناها، ولا مشابهة لها بصفة المخلوقين.
والشيخ رحمه الله متبع لطريقة السلف المستندة إلى نصوص الوحي، فهو من دعاة الاتباع، ومن أشدّ أعداء الابتداع.
موقف المتكلمين من صفة الاستواء، وردّ الشيخ الأمين رحمة الله عليهم:
وفي معرض إيضاح الشيخ الأمين رحمه الله لهذه الصفة بيّن رأي المتكلمين فيها، وذكر أنهم أكثروا من الخوض فيها حتى نفوها بأدلة جدلية كلامية عقيمة استدلوا بها لإبطال الحقّ وإحقاق الباطل حتى تجرأ كثير من الناس ممن يدعي الإسلام على تعطيل هذه الصفة عن ربّ السموات والأرض بهذه الأدلة الواهية التي يعارضون بها كلام الله سبحانه
1 هو الإمام حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري. أحد أئمة الحديث. ولد سنة (98) ، وكان ضريراً. وتوفي سنة (179هـ) .
(انظر: سير أعلام النبلاء 7/456، 466. والبداية والنهاية 10/180) .
2 هو الإمام عبد الله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظلي المروزي. أحد أئمة الحديث. قال عنه ابن معين: ذاك أمير المؤمنين في الحديث. ولد سنة (118هـ) . وتوفي سنة (181هـ) .
(انظر سير أعلام النبلاء 8/378. والبداية والنهاية 10/183) .
3 هو الإمام الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي الخراساني. أحد أئمة العباد والزهاد. توفي سنة (187هـ) .
(انظر: سير أعلام النبلاء 8/421. والبداية والنهاية 10/206. وشذرات الذهب 1/316) .
4 تقدمت ترجمته.
5 سير أعلام النبلاء 17/656.
وتعالى1، ولهم تأويلات مختلفة في نفي تلك الصفة عن الله، ولكنّ مؤدى الكل واحد من حيث تعطيل الله جلّ وعلا عن الاتصاف بهذه الصفة العظيمة، وتحريفها عن الاستواء إلى الاستيلاء2.
وقد ناقشهم الشيخ الأمين رحمه الله مناقشة علمية رصينة أظهر من خلالها كثيراً من التحريفات التي وقعوا فيها، واستوعب مزاعمهم وأدلتهم التي جمعوها، وبيّن أنهم بهذه المزاعم يريدون التوصل إلى نفي الاستواء عن الله سبحانه وتعالى.
ومن هذه المزاعم التي ذكروها: قالوا: إنّ قوله: على العرش استوى مجاز؛ فنفوا الاستواء؛ لأنه مجاز، وقالوا: معنى استوى: استولى. وشبهوا استيلاءه باستيلاء بشر بن مروان على العراق. وقالوا أيضاً: إنّ الاستواء يوهم غير اللائق بالله لاستلزامه مشابهة استواء الخلق، فجاؤوا بالاستيلاء لأنه هو اللائق به بزعمهم3.
ونبّه رحمه الله إلى مشابهة المؤولة لليهود الذين بدلوا كلام الله وحرفوه، فغضب الله عليهم ولعنهم، وذكر أنّ المؤولة سلكوا الطريق نفسه الذي سلكه اليهود؛ فقال رحمه الله مبينا هذا المعنى: (ولو تدبروا كتاب الله لمنعهم ذلك من تبديل الاستواء بالاستيلاء، وتبديل اليد بالقدرة، أو النعمة؛ لأنّ الله جلّ وعلا يقول في محكم كتابه في سورة القرة:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا منهم قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون} 4، ويقول في الأعراف: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
1 انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص27، 28.
2 انظر: الإرشاد ص40، 41. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص226، 227. وانظر أيضاً: مختصر الصواعق المرسلة 2/379، 380.
3 انظر: أضواء البيان 7/452. وانظر أيضاً: المصدر نفسه 7/454. وآداب البحث والمناظرة 2/135. ورحلة الحج ص84.
4 سورة البقرة الآية [59]
مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} 1 فالقول الذي قاله الله لهم، هو قوله:"حطة"؛ وهي فعلة من الحطّ بمعنى الوضع: خبر مبتدأ محذوف؛ أي دعاؤنا ومسألتنا لك حطة لذنوبنا؛ أي حطّ وضعها عنا، فهي بمعنى طلب المغفرة. وفي بعض روايات الحديث2 في شأنهم أنهم بدلوا هذا القول بأن زادوا نوناً فقط، فقالوا: حنطة؛ وهي القمح. وأهل التأويل قيل لهم على العرش استوى، فزادوا لاما فقالوا استولى. وهذه "اللام" التي زادوها أشبه شيء بالنون التي زادها اليهود في قوله تعالى:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} 3، وبقول الله جلّ وعلا في منع تبديل القرآن بغيره:{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 4. ولا شك أنّ من بدل استوى باستولى مثلا لم يتبع ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يجتنب التبديل، ويخاف العذاب العظيم الذي خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم لو عصى الله فبدل قرآنا بغيره، المذكور في قوله: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . واليهود لم ينكروا أنّ اللفظ الذي قاله الله لهم هو لفظ حطة، ولكنهم حرفوه بالزيادة المذكورة، وأهل هذه المقالة لم ينكروا أنّ كلمة القرآن هي استوى، ولكن حرفوها وقالوا في معناها: استولى. وإنما أبدلوها بها لأنها أصلح في زعمهم من لفظ كلمة القرآن التي توهم غير اللائق، وكلمة استولى في زعمهم هي المنزهة اللائقة بالله، مع أنه لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم باستيلاء بشر على
1 سورة الأعراف، الآية [162] .
2 انظر: مسلم 4/2312 وفيه: أنهم قالوا: حبة في شَعَرَة بدل حطة. وفي مسند الإمام أحمد (وقولوا حطة. قال بدَلوا فقالوا: ((حنطة في شعرة)) بدل حطة انظر الفتح الرباني 18/73.
3 سورة البقرة، الآية [58] .
4 سورة يونس، الآية [15] .
العراق) 1.
وبهذه الإلزامات التي ساقها الشيخ الأمين رحمه الله برهن على صحة حكمه في المؤولة بأنهم سلكوا مسلك اليهود في تحريف كلام الله تعالى، ومعارضته. فليس كلامه رحمه الله مجرد دعوى يلقيها على عواهنها، بل ضمّن ذلك أمثلة من القرآن الكريم ليتضح وجه الشبه بين اليهود والمؤولة.
ثمّ يناقش الشيخ رحمه الله هؤلاء المؤولة في صميم تأويلهم، فيطرح عليهم عدة أسئلة ينسف من خلالها تأويلهم الباطل؛ إذ هذه الأسئلة لا تحتمل إلا إجابة واحدة لا يستطيع المؤولة أن يقولوا بها. وهذه الأسئلة التي يطرحها الشيخ رحمه الله هي من لوازم قولهم الشنيع في تأويل صفة استواء الربّ سبحانه وتعالى؛ فيقول رحمه الله:(هل كان أحد يغالب الله على عرشه حتى غلبه على العرش واستولى عليه وهل يوجد شيء إلا والله مستولٍ عليه؟ فالله مستولٍ على كل شيء وهل يجوز أن يقال إنه تعالى استولى على كلّ شيء غير العرش؟ فافهم)2.
وهكذا يُظهر الشيخ رحمه الله شناعة هذا القول، وما يلزم عليه من لوازم كفرية إن اعتقدها المؤول، كلّ ذلك بأسلوب مقنع يُظهر فظاعة قول المؤولة الذين قالوا على الله بغير علم.
1 أضواء البيان 7/452- 454.
ولله درّ العلامة ابن القيم رحمه الله حيث يقول:
أمر اليهود بأن يقولوا حطة
فأبوا، وقالوا حنطة لهوان
وكذلك الجهمي قيل له استوى
فأبى وزاد الحرف للنقصان
قال استوى استولى وذا من
جهله لغة وعقلا ماهما سيان
نون اليهود ولام جهميّ هما
في وحي ربّ العرش زائدتان
(انظر: المقاصد وتصحيح القواعد لأحمد بن عيسى ص26) .
2 أضواء البيان 7/454.
وأخيراً يجهز الشيخ الأمين رحمه الله على تأويلهم ناسفاً له من أساسه، فبين لهم أنّ المحذور الذي فروا منه؛ وهو خوفهم من تشبيه استواء الخالق بالمخلوق، قد وقعوا فيه حين أولوا استوى باستولى. فيسألهم مستفسراً منهم هل تقصدون باستيلاء الله على عرشه استيلاء مشابهاً لاستيلاء بشر بن مروان على العراق، أم تريدون استيلاء خاصاً كما يليق بجلال الله وعظمته. وبلا شك فهم سيجيبون بالجواب الأخير؛ إذ هم قد أولوا الاستواء بالاستيلاء فراراً من التشبيه. وبهذه الطريقة ليس أمامهم من منفذ يخرجون منه إلا أن يذعنوا للحقّ، ويقولوا بقول أهل السنة والجماعة دون تلاعب بالألفاظ: إنّ الله مستو على العرش استواء يليق بجلاله سبحانه؛ إذ لفظ "استوى" هو اللفظ الذي أثنى الله به على نفسه، وتعبدنا بتلاوته، فهو أحق بأن يوصف الله تعالى به.
وفي ذلك يقول رحمه الله: (تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق هو أفظع أنواع التشبيه، وليس بلائق قطعا. إلا أنه يقول: إن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء الخلق، مع أنه ضرب له المثل باستيلاء بشر على العراق، والله يقول:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1، ونحن نقول: أيها المؤول هذا التأويل: نحن نسألك إذا علمت أنه لا بدّ من تنزيه أحد اللفظين؛ أعني لفظ "استوى" الذي أنزل الله به الملك على النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا يتلى، كلّ حرف منه عشر حسنات، ومن أنكر أنه من كتاب الله كفر. ولفظة "استولى" التي جاء بها قوم من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى نص من كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا قول أحد من السلف. فأيّ الكلمتين أحقّ بالتنزيه في رأيك؟ آلأحق بالتنزيه كلمة القرآن المنزلة من الله على رسوله، أم كلمتكم التي جئتم بها من تلقاء أنفسكم من غير مستند
1 سورة النحل، الآية [74] .
أصلاً؟ ونحن لا يخفي علينا الجواب الصحيح عن هذا السؤال إن كنت لا تعرفه) 1.
وهذه الطريقة المقنعة التي سلكها الشيخ رحمه الله تستعمل في كلّ تأويل فروا إليه خشية المشابهة؛ فإذا لم يقولوا فيه كما يليق بجلاله لزمتهم مشابهة الخالق بالمخلوق، ووقعوا فيما فروا منه. وحينئذ نقول لهم: نحن نثبت الصفات لله، ونقول: كما يليق بجلاله، وهذه صفات أثنى الله بها على نفسه، وتعبدنا بتلاوتها كما أوضح ذلك كله الشيخ الأمين رحمه الله تعالى.
وقد سبق الشيخ الأمينَ إلى سلوك هذه الطريقة شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في رده على المؤولة2. وهذا من الأدلة الجلية على اقتداء الشيخ الأمين رحمه الله بسلفه الصالح من العلماء الأجلاء الذين ردوا على من انحرف عن الطريق المستقيم، وجادلوا من عاند منهم، وقارعوا حججهم الواهية الباطلة بحجج في غاية القوة والوضوح والإقناع.
ولم يكتف الشيخ الأمين رحمه الله بإيراد تلك الحجة الظاهرة الساطعة البيان رادا بها هذا التأويل، بل نجده رحمه الله يفرد مبحثا مستقلا لمناقشة المتكلمين في ردهم صفة الاستواء، يقيم فيه عليهم الحجة بمقتضى قواعدهم التي قعدوها لنفي معاني الصفات التي لا توافق أهواءهم؛ فهم يقولون: لو كان الله مستويا على العرش لكان مشابها للخلق، لكنه غير مشابه للخلق، فهو غير مستوٍ على العرش. وبهذه الطريقة القياسية نفوا صفة الاستواء الثابتة في سبعة مواضع من كتاب الله تعالى.
يقول رحمه الله موضحاً ذلك: (نحبّ أن نذكر كلمة قصيرة لجماعة قرؤوا في المنطق والكلام، وظنوا نفي بعض الصفات من أدلة كلامية؛ كالذي
1 أضواء البيان 7/454- 455. وانظر: منهج ودراسات ص50.
2 راجع العقيدة التدمرية ص45- 46.
يقول مثلاً: لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للحوادث، لكنه غير مشابه للحوادث، ينتج: فهو غير مستو على العرش. هذه النتيجة الباطلة تضادّ سبع آيات من المحكم المنزل، ولكننا الآن نقول في مثل هذا1 على طريق المناظرة والجدل المعروف عند المتكلمين؛ نقول: هذا قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية، استثنائية؛ استثنى فيه نقيض التالي، فأنتج نقيض المقدم، حسب ما يراه مقيم هذا الدليل. ونحن نقول: إنه تقرر عند عامة النظار أنّ القياس الاستثنائي المركب من شرطيه متصلة لزومية يتوجه عليه القدح من ثلاث جهات:
1-
يتوجه عليه القدح من جهة استثنائية.
2-
ويتوجه عليه من جهة شرطية إذا كان الربط بين المقدم.
3-
ويتوجه عليه من جملة شرطية إذا كان الربط بين المقدم وهذه القضية كاذبة الشرطية. فالربط بين مقدمها وتاليها كاذب كذباً بحتاً، ولذا جاءت نتيجتها مخالفة لسبع آيات.
إيضاحه: أن نقول: قولكم لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للحوادث. هذا الربط بين لو واللام كاذب كاذب كاذب، بل هو مستو على عرشه كما قال من غير مشابهة للحوادث، كما أنّ سائر صفاته واقعة كما قال من غير مشابهة للخلق. ولا يلزم من استوائه على عرشه كما قال أن يشبه شيئاً من المخلوقين في صفاتهم البتة، بل استواؤه صفة من صفاته، وجميع صفاته منزهة عن مشابهة الخلق، كما أنّ ذاته منزهة عن مشابهة ذوات الخلق. ويطّرد في الكل) 2.
1 يريد القدح في القياس الاستثنائي الذي أوردوه.
2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص41- 42. وانظر: آداب البحث والمناظرة 2/122- 126. ومنع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز –الملحق بأضواء البيان 10/57- 62.
وهكذا يردّ عليهم الشيخ الأمين –رحمه الله بمنطقهم، مبيّنا أنّ هذه القاعدة الجدلية، والدليل الجدلي الذي اتخذوه ذريعة لنفي الاستواء: كاذب من أساسه، فلا شك أنّ النتيجة التي رتبوها على هذا الدليل الكاذب ستكون كاذبة أيضاً، وبذلك يتضح أنّ صفة الاستواء ثابتة لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته بأدلة النقل؛ من كتاب وسنة. ولا شك أن العقل السليم الذي لم تدخله الآراء الفاسدة والشبهات لا يعارض الدليل الصحيح، بل يسلم له؛ فالعقل السليم يوافق الدليل الصحيح.
بقي أن أنبه إلى أنّ الشيخ الأمين –رحمه الله رغم معرفته للجدل والمنطق، ومعرفته لقواعده وجزئياته –كما تبيّن لنا من هذا الردّ- إلا أنه لم يجعله أساساً لإثبات الصفات، بل لم يستخدمه في مبحث التوحيد إلا للرد على من يعتقده ويأخذ به، وذلك لإقامة الحجة عليهم، وإبطال حججهم بمنطقهم الذي يفهمونه.
(2)
صفة الكلام:
الكلام من صفات الله الثابتة على ما يليق بجلاله سبحانه. وهو صفة ذاتية باعتبار نوع الكلام، وصفة فعل لتعلقه بمشيئة الله باعتبار أفراد الكلام1.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيك ربنا وسعديك؟ فينادي بصوت: إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار"2.
فهو سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء. وهو متكلم بصوت يسمع3؛ يُسمعه من شاء من خلقه؛ سمعه موسى عليه السلام من غير واسطة، وسمعه من أذن له من ملائكته ورسله. وهو سبحانه وتعالى يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه.
هذا معتقد سلف الأمة في صفة كلام الله سبحانه وتعالى. وهو ما قرره الشيخ الأمين –رحمه الله، وبينه خير بيان؛ فقد قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 4: "هذه الآية الكريمة من سورة براءة نص صريح في أنّ هذا الذي نقرؤه ونتلوه هو بعينه كلام الله؛ فالصوت صوت القاري، والكلام كلام الباري؛ لأن الله صرح أنّ هذا المشرك المستجير يسمع كلام الله يتلوه عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
1 انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام 6/219. وانظر أيضاً: الصفات الإلهية للدكتور محمد أمان ص262.
2 أخرجه البخاري في الصحيح 5/241. ومسلم في الصحيح 1/201.
3 انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص180.
4 سورة التوية، الآية [6] .
هذا المحفوظ في الصدور، المقروء بالأسنة، المكتوب بالمصاحف هو كلام الله جلّ وعلا بمعانيه وألفاظه. ولا شك أنّ أصل الكلام صفة لله جلّ وعلا ونحن لا نحب إكثار الخوض فيه ولكن نقول: إنّ الكلام صفة الله التي لم يزل متصفاً بها، ولم يتجرد يوما عن كونه متكلماً، وهو في كلّ وقت يتكلم بما شاء كيف شاء على الوجه اللائق بكماله وجلاله؛ فكلامه صفة ليس بمخلوق"1.
وهذا النصّ من كلام الشيخ الأمين –رحمه الله واضح الدلالة على أنّ عقيدته في كلام الله هي عقيدة السلف؛ أنّ الله يتكلم حقيقة متى يشاء، وكيف يشاء، وأننا لا نعلم كيفية كلامه سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم كلام الله غير مخلوق، وفي ذلك ردّ على الجهمية والمعتزلة، وهو ما سوف أوضحه فيما بعد إن شاء الله.
ومن الأدلة على أنّ عقيدة الشيخ الأمين –رحمه الله في صفة الكلام هي عقيدة السلف عينها، أنّ ما قاله أئمة السلف عن صفة الكلام مطابق تمام المطابقة لما ذكره الشيخ الأمين –رحمه الله:
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ الله لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه يتكلم بصوت كما جاءت به الآثار. والقرآن وغيره من الكتب الإلهية كلام الله تكلم به بمشيئته وقدرته، وليس ببائن عنه مخلوقاً، ولا يقولون إنه صار متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً، ولا أنّ كلام الله تعالى من
1 الشريط الأول من تفسير سورة التوبة، الوجه الأول، عند تفسير قوله تعالى:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} . وانظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ الأمين ص 54،189. وأضواء البيان 2/309. ومنهج ودراسات ص16. ورحلة الحج ص76.
حيث هو: هو حادث بل ما زال متكلماً إذا شاء، وإن كان كلم موسى وناداه بمشيئته وقدرته، فكلامه لا ينفد"1.
وقال في موضع آخر مبينا القول الحق في القرآن "فالقرآن الذي نقرؤه هو كلام الله مبلغاً عنه لا مسموعاً منه، وإنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا، الكلام كلام الباري، والصوت صوت القري، كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة مع العقل"2.
وقال تقيّ الدين عبد المغني المقدسي3: "مذهب أهل الحقّ أنّ الله عز وجل لم يزل متكلماً بكلام مسموع مفهوم مكتوب"4.
وقال ابن أبي العز الحنفي5: "والحقّ أنّ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة، وكلام الله تعالى لا يتناهى؛ فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يزال كذلك
…
كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف" 6.
وقال العلامة عبد الباقي المواهبي7: "فلم يزل اللهمتكلما كيف يشاء، إذا شاء بلا كيف، يأمر بما شاء ويحكم"8.
1 الفتاوى 12/173.
2 الفتاوى 12/98. وانظر المصدر نفسه 12/244.
3 تقدمت ترجمته.
4 انظر: عقيدة المقدسي ص61.
5 تقدمت ترجمته.
6 شرح العقيدة الطحاوية ص192.
7 هو: عبد الباقي بن عبد الباقي البعلي. ولد سنة (1005?) في بعلبك، وتوفي سنة (1071?) في دمشق. (انظر: الأعلام 3/272) .
8 العين والأثر ص65.
فهذا هو مذهب السلف الحقّ في إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى. وهو ما سار عليه الشيخ الأمين –رحمه الله في إثبات هذه الصفة وإيضاحها، وتقرير المعتقد الصحيح فيها مستنداً إلى أدلة الوحي.
صفة المتكلمين من صفة الكلام وردّ الشيخ الأمين رحمه الله عليهم
أكثر المتكلمون من أشاعرة ومعتزلة وجهمية وغيرهم من الخوض في صفة الكلام، حتى قيل إنما سمي علم الكلام بهذا الاسم أخذاً من كثرة ما قيل فيها. ونظراً لما عرف عن القوم من حبّ في الإطالة والسفسطة والأخذ بالجدل العقيم الذي لا يسعفه عقل ولا نقل من أجل تقرير الباطل؛ فقد تشعبت فيها الأقوال، حتى ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها سبعة أقوال، أو تزيد1، وذكر العلامة أبو العز الحنفي شارح الطحاوية تسعة أقوال في صفة الكلام2.
ولكن سوف أقتصر على أشهر هذه الأقوال التي انتشرت وذاع صيتها، والتي ذكرها الشيخ الأمين رحمه الله، وهما قول المعتزلة والجهمية، وقول الأشاعرة والكلابية3؛ فقد ذكرهما رحمه الله وكرّ عليهما بالتفنيد والإبطال بالحجج الدامغة من النقل والعقل.
فالقول الأول: قول المعتزلة والجهمية: القائلين أنّ كلام الله عز وجل مخلوق خلقه الله منفصلا عنه4.
والقول الثاني: قول الكلابية والأشاعرة: القائلين أنّ الكلام معنى واحد قديم قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه
1 انظر الفتاوى 12/163.
2 شرح الطحاوية ص180.
3 الكلابية: هم أتباع محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب الذي سلك الأشعري مسلكه في طوره الثاني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الكلابية والأشعرية خير من هؤلاء –يقصد النجارية والضرارية- في باب الأسماء والصفات فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع. وأما في باب القدر، وسائر الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة) .
(الفتاوى 3/103. وانظر: مقالات الإسلاميين 1/249، 251، 2/225، 227) .
4 شرح الأصول الخمسة ص528.
بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة1.
وسيأتي مزيد إيضاح لكلامه عند الردّ عليهم.
الردّ على الجهمية والمعتزلة:
سبق أن ذكرت أنّ الجهمية والمعتزلة نفوا صفات الله سبحانه وتعالى، ومن الأولى أن ينفوا صفة الكلام عن الله، ولذلك قالوا عن كلام الله إنه مخلوق.
وهذا ماصرح به عبد الجبار المعتزلي2 بقوله: "وأما مذهبنا في ذلك فهو أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه، وهو مخلوق محدث"3.
وقد بيّن الشيخ الأمين رحمه الله خطأ هذا القول وجهالة قائله، واستدل بالأدلة السمعية على بطلان هذا الرأي البعيد عن جادة الصواب والحقّ؛ فقال في تفسير النداء المذكور في قوله تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ} الآية4: "فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى. ولا يعقل أنه كلام مخلوق. ولا كلام خلقه الله في مخلوق كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة؛ إذ لا يمكن أن يقول غير الله: {إنه أنا الله العزيز الحكيم} 5، ولا أن يقول:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} 6. ولو فرض أنّ الكلام
1 أصول الدين للبغدادي ص106. والإرشاد ص99. والمواقف ص293. وشرح الصاوي على جوهرة التوحيد ص101، 104. وانظر أيضاً: الفتاوى 12/165. والبرهان ص37. ومختصر الصواعق 2/513.
2 عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني الاسترابادي. من كبار أئمة المعتزلة. ولد سنة (359هـ)، وتوفي سنة (415) . انظر: سير أعلام النبلاء 17/244. ومعجم المؤلفين 5/78. والأعلام 3/273) .
3 شرح الأصول الخمسة ص528.
4 سورة مريم، الآية [52] .
5 سورة النمل، الآية [9] .
6 سورة طه، الآية [14] .
المذكور قاله مخلوق افتراء على الله كقول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} 1. على سبيل فرض المحال، فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حقّ وصواب. فقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} 2، وقوله:{إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3 صريح في أنّ الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك، كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام" 4.
الردّ على الكلابية والأشعرية:
ذهب الكلابية والأشعرية إلى أنّ الله متكلم بكلام قائم بذاته أزلا وأبداً، لا يتعلق بمشيئته وقدرته، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً.
ونفوا أن يكون الله متكلماً بحرف وصوت؛ زاعمين أنّ كلامه سبحانه نفسيّ. أما القرآن الكريم: فقد صرحوا بأنه مخلوق محدث ليس كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله5.
وقد بيّن الشيخ الأمين رحمه الله موقفهم من هذه الصفة بعبارة سهلة موجزة، فقال: "اعلم أنّ كثيراً من المتكلمين يزعمون أنّ كلام الله معنى قائم بذاته، مجرد عن الألفاظ والحروف. والأمر عندهم هو اقتضاء الفعل بذلك المعنى القائم بالنفس، المجرد عن الصيغة. ولأجل هذا الاعتقاد الفاسد قسموا الأمر إلى قسمين: نفسيّ ولفظيّ. فالأمر النفسي عندهم هو
1 سورة النازعات، الآية [24] .
2 سورة طه، الآية [14] .
3 سورة النمل، الآية [9] .
4 أضواء البيان 4/293- 294.
5 أصول الدين للبغدادي ص106. والإرشاد ص99. والمواقف ص293. والبرهان ص37. وانظر: الفتاوى 2/165.
ماذكرنا، والأمر اللفظي هو اللفظ الدالّ عليه كصيغة "افعل""1.
ثمّ لما فصلّ رحمه الله معتقدهم وموقفهم من كلام الله سبحانه وتعالى، ردّ رحمه الله على معتقدهم الفاسد مبيّنا بطلانه بالأدلة القوية المقنعة، مبرزاً القول الحقّ في هذه المسألة؛ فقال رحمه الله:"إذا علمت ذلك فاعلم أنّ هذا المذهب باطل، وأنّ الحقّ أنّ كلام الله هو هذا الذي نقرؤه بألفاظه؛ فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري. وقد صرح تعالى بذلك في قوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2، فصرح بأنّ ما يسمع ذلك المشرك المستجير بألفاظه ومعانيه كلامه تعالى. وأقام الحجج على أنّ ما في النفس إن لم يتكلم به لا يسمى كلاما؛ كقوله في قصة زكريا: {قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النَّاس} 3، مع أنه أشار إليهم كما قال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} 4، فلم يكن ذلك المعنى القائم بنفسه الذي عبر عنه بالإشارة كلاماً. وكذلك قصة مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} الآية5، مع قوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} 6، وفي الحديث: " إنّ الله عفى لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل به" 7. واتفق أهل اللسان على أنّ الكلام: اسم، وفعل، وحرف. وأجمع الفقهاء على أنّ من حلف لا يتكلم لا يحنث بحديث النفس، وإنما يحنث بالكلام"8.
1 مذكرة أصول الفقه للشيخ الأمين ص188-189.
2 سورة التوبة، الآية [6] .
3 سورة مريم، الآية [10] .
4 سورة مريم، الآية [11] .
5 سورة مريم، الآية [26] .
6 سورة مريم، الآية [29] .
7 أخرجه مسلم في صحيحه 1/116-117، بلفظ مقارب لما ذكره الشيخ رحمه الله، وفيه:(تجاوز) بدل (عفى) ، مع تقديم وتأخير في بعض ألفاظه.
8 مذكرة أصول الفقه ص188-189.
وهكذا يتبين بنا مدى فهم الشيخ الأمين رحمه الله لعقيدة السلف، وتقريره لها؛ بإثبات الكلام لله تبارك وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، والرد على الكلابية والأشعرية الذين قسموا الكلام إلى كلام نفسي وكلام لفظي، جاعلين كلام الرب جل وعلا من القسم الأول. ولا ريب أن هذا التقسيم لم يقل به أحد من العقلاء، وأن الزعم بأن كلام الله نفسي قول على الله بغير علم.
ولم يكتف الشيخ الأمين رحمه الله بما ذكره آنفاً، بل استطرد في مواضع أخرى مبيناً أن الكلام في لغة العرب هو ما نطق به وتلفظ به، وسمع، لاما كان في النفس؛ إذ ماكان في النفس لا يسمى كلاماً، بل يقيد بما يدل عليه، فيقال: حديث النفس، أو قول النفس؛ يقول رحمه الله موضحاً هذا الجانب:"وإذا أطلق الكلام في بعض الأحيان على مافي النفس، فلا بد أن يقيد بما يدل على ذلك؛ كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} 1. فلو لم يقيد بقوله {نْفُسِهِمْ} لانصرف إلى الكلام باللسان"2.
وبهذا يتضح لنا بطلان مذهب الأشاعرة والكلابية لتهافت محتوياته أمام الأدلة الدامغة من الكتاب والسنة، والتي يستند إليها الشيخ رحمه الله فيما ذهب إليه من رد أو تقرير.
3-
صفة اليدين:
صفة اليدين صفة خبرية ذاتية حقيقية ثابتة لله سبحانه وتعالى كما يليق
1 سورة المجادلة، الآية [8] .
2 مذكرة أصول الفقه ص189.
بجلال الله؛ قال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 1، وقال تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 2. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" 3.
وقد دلت الآيات والأحاديث النبوية الكثيرة على هذه الصفة العظيمة لربنا سبحانه وتعالى.
وقد أوضح الشيخ الأمين رحمه الله هذه الصفة، وبين أنها صفة كمال لله سبحانه وتعالى وصف بها نفسه، وهي لا تشابه صفات المخلوقين؛ فقال رحمه الله: "فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق، هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم. هذا هو المتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4. والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 5 أنها صفة كمال وجلال، لائقة بالله جل وعلا، ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وقد بين جل وعلا عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة؛ قال تعالى في تعظيم شأنها:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 6. وبين أنها
1 سورة ص، الآية [75] .
2 سورة المائدة، الآية [64] .
3 أخرجه مسلم في صحيحه 4/2133.
4 سورة المائدة، الآية [38] .
5 سورة ص، الآية [75] .
6 سورة الزمر، الآية [67] .
صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 1؛ فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي من صفات كماله وجلاله يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى" 2.
وهذا الكلام من الشيخ الأمين رحمه الله هو معتقد السلف جميعاً في صفة اليدين لله سبحانه وتعالى على الحقيقة كما يليق بجلاله، وأنها لا تشابه يدي المخلوق كما أن ذات الله سبحانه وتعالى لا تشابه ذات المخلوق.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: "نحن نقول: الله جل وعلا له يدان كما أعلمنا الخالق البارئ في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونقول: كلتا يدي ربنا عز وجل يمين"3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد تواتر في السنة مجئ اليد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتان له كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السموات بيده اليمنى، وأن يديه مبسوطتان. ومعنى بسطهما بذل الجود وسعة الإعطاء"4.
وهكذا نرى أن تناول الشيخ رحمه الله لهذه الصفة ينطلق من اتباعه
1 سورة ص، الآية [75] .
2 أضواء البيان 7/444- 445. وانظر: رحلة الحج ص79.
3 التوحيد لابن خزيمة 1/193.
4 الرسالة المدنية ص45.
لمنهج الوحي، وسلوكه مسلك السلف، ولذلك جاء تقريره للمذهب الحق المستند إلى الدليل في غاية القوة والبيان.
موقف الشيخ الأمين رحمه الله ممن تأول هذه الصفة:
أوَّل المتكلمون هذه الصفة كدأبهم في تحريف الصفات التي لا تنطبق مع أقسيتهم وعقولهم، فعدوها من المتشابه؛ فأولتها المعتزلة بمعنى القوة أو النعمة1، وقال متأخرو الأشاعرة: هي بمعنى القدرة2. أما متقدمو الأشاعرة فأثبتوها صفة لله تعالى على مايليق بجلاله كما هو معتقد السلف3.
وقد رد الشيخ الأمين رحمه الله على من تأول هذه الصفة
الكريمة، مظهراً زيف دعواهم، ومبيناً أن إثبات هذه الصفة على ما يليق بالله لا يأباه إلا ذوو القلوب المريضة بالتشبيه؛ فقال:"ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة؛ لإجماع أهل الحق والباطل كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة. ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السموات والأرض"4.
ثم ذكر رحمه الله شبههم التي يتعلقون بها، ورد عليها، وبين اللوازم التي تلزم هذا القول؛ فقال: "فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية
1 شرح الأصول الخمسة ص228.
2 مشكل الحديث ص243. وأصول الدين ص110، والإرشاد ص146. والمواقف.
3 أصول الدين ص111.
4 أضواء البيان 7/445. وانظر: رحلة الحج ص84.
المذكورة وأمثالها لا يليق بالله؛ لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث. ولم تكتف بذلك حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها. إن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى وعلى كتابه العظيم، وإنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين. وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل؛ فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من السلف. وماذا عليك لو صدقت وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل. وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق؟ وهل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق على أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق"1.
وبعد هذا الرد من الشيخ رحمه الله على المؤولة، والذي أبان فيه زيف دعاويهم، وأنها لا حظ لها من كلام الله ولا رسوله ولا إجماع المسلمين، ولا يدل عليها عقل ولا سمع: نراه رحمه الله يحذّر المؤولة ويخوفهم بالله أن يتجرؤوا على تحريف وصف الله لنفسه، مبيناً لهم أن كيفية صفات الرب جل وعلا لايحيط بها أحد ولا يستطيع مخلوق معرفة كنهها، فهي ثابتة لله جل وعلا كما يليق بجلاله؛ فيقول رحمه الله: "فاخش الله يا إنسان، واحذر من التقوّل على الله بغير علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه. واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به، حتى
1 أضواء البيان 7/445-446.
يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول: هذا الذي وصفت به نفسك غير لائق بك، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ولا من رسولك، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك؛ فاليد مثلاً التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة، وأنا انفيها باتاً وأبدلها لك بوصف لائق بك وهو النعمة أو القدرة مثلاً، "أو الجود"1.
وهكذا نلاحظ القوة التي يمتاز بها الشيخ رحمه الله في إيضاح الحق ودمغ الباطل، ففيها من الغيرة على الحق ومحاربة الباطل مايجعلها قارعة على رؤوس المعطلين.
إشكال، وتوضيحه:
أورد الشيخ الأمين رحمه الله قضية قد تشكل على بعض الناس. ومضمونها: أن القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع السلف دل على أن الله متصف بأن له يدين –بالتثنية-. وكذلك أجمعوا على أن الله لايوصف بصفة الأيدي –بالجمع-. مع أن الله وصف نفسه بذلك، فقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} 2.
فلماذا أجمع السلف على تقديم آية {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 3 على آية {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ؟ 4.
وقد أجاب الشيخ رحمه الله عن هذا السؤال: أنه لا تعارض ولا إشكال بين الآيتين، وأن صيغ الجموع لها معنيان. وقد بين رحمه الله هذه المعاني
1 أضواء البيان 7/446.
2 سورة يس، الآية [71] .
وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حول هذا المعنى ((في الرسالة المدنية ص49)) .
3 سورة ص، الآية [75] .
4 انظر: أضواء البيان 7/463.
مدللا عليها بآيات من القرآن الكريم؛ فقال "الجواب: أن لا خلاف بين أهل اللسان العربي، ولا بين المسلمين أن صيغ الجموع تأتي لمعنيين؛ أحدهما: إرادة التعظيم فقط، فلا يدخل في صيغة الجمع تعدد أصلاً؛ لأن صيغة الجمع المراد بها التعظيم إنما يراد بها واحد. الثاني: أن يراد بصيغة الجمع معنى الجمع المعروف. وإذا علمت ذلك فاعلم أن القرآن العظيم يكثر فيه جداً إطلاق الله جل وعلا على نفسه صيغة الجمع؛ يريد بذلك تعظيم نفسه، ولايريد بذلك تعدداً، ولا أن معه غيره سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، كقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1؛ فصيغة الجمع في قوله: {إنا} وفي قوله: {نحن} ، وفي قوله:{نزلنا} ، وقوله:{حافظون} لايراد بها أن معه منزلاً للذكر وحافظاً له غيره تعالى، بل هو وحده المنزل له والحافظ له. وكذلك قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} 2، وقوله:{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} 3، وقوله:{أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} 4، ونحو هذا كثير في القرآن جداً، وبه تعلم أن صيغة الجمع في قوله:{إنا} ، وفي قوله:{خلقنا} ، وفي قوله:{عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 5 إنما يراد بها التعظيم، ولا يراد بها التعدد أصلاً.
وإذا كان يراد بها التعظيم لا التعدد علم بذلك أنها لا تصح بها معارضة قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 6؛ لأنها دلت على صفة اليدين، والجمع في
1 سورة الحجر، الآية [9]
2 سورة الواقعة، الآية [58-59] .
3 سورة الواقعة، الآية [69] .
4 سورة الواقعة، الآية [72] .
5 سورة يس، الآية [71] .
6 سورة ص، الآية [75] .
قوله: {أيدينا} لمجرد التعظيم. وما كان كذلك لا يدل على التعدد، فيطلب الدليل من غيره، فإن دل على أن المراد بالتعظيم واحد حكم به. فقوله مثلاً:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 قام فيه البرهان القطعي أنه حافظ واحد. وكذلك قوله: {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} 2، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} 3، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} 4؛ فإنه قد قام في كل ذلك البرهان القطعي على أنه خالق واحد، ومنزل واحد، ومنشئ واحد. وأما قوله:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فقد دل البرهان القطعي على أن الله موصوف بصفة اليدين كما صرح به في قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} كما تقدم إيضاحه قريباً. وقد علمت أن صيغة الجمع في قوله: {لَحَافِظُونَ} ، وقوله:{أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ، وقوله:{أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} ، وقوله:{أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} ، وقوله:{خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 5، لا يراد بشيء منه معنى الجمع، وإنما يراد به التعظيم فقط"6.
وهذا الجواب من الشيخ رحمه الله مقنع لمن أراد الحق ومعرفة معتقد السلف؛ فهو مقنع لطالب الحق غاية الإقناع بما اشتمل عليه من تقرير علمي رصين.
وقد نبه الشيخ الأمين رحمه الله إلى أن قوله تعالى في سورة الذاريات: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} 7أن هذه الآية ليست من آيات الصفات، وأن {أيد} لا يراد منها صفة اليد، وإنما هي بمعنى القوة؛ فقال -
1 سورة الحجر، الآية [9] .
2 سورة الواقعة، الآية [59] .
3 سورة الواقعة، الآية [69] .
4 سورة الواقعة، الآية [72] .
5 سورة يس، الآية [71] .
6 أضواء البيان 7/463- 465.
وانظر كلام أبي الحسن في الإبانة (ص104) ، وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة التدمرية (ص75) عن هذا الإشكال.
7 سورة الذاريات، الآية [47] .
رحمه الله-: "قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بنيناها بأيد} ليست من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم، لأن قوله: "بأيد" ليس جمع يد، وإنما الأيد: القوة، فوزن قوله هنا: {بأيد} فعل، ووزن الأيدي: أفعل؛ فالهمزة في قوله: "بأيد" في مكان الفاء، والياء في مكان العين، والدال في مكان اللام. ولو كان قوله تعالى: {بأيد} جمع يد، لكان وزنه أفعلا، فتكون الهمزة زائدة، والياء في مكان الفاء، والدال في مكان العين، والياء المحذوفة –لكونه منقوصاً- هي اللام. والأيد والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيد: قوي، ومنه قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} 1؛ أي قويناه. فمن ظن أنه جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطاً فاحشاً، والمعنى: والسماء بنيناها بقوة"2.
[4]
صفة المعية:
تطرق الشيخ الأمين رحمه الله لهذه الصفة من عدة جوانب:
أحدها: أقسامها. وثانيها: الجمع بينها وبين استواء الله على عرشه. وثالثها: الردّ على الجهمية القائلين إنّ الله معنا بذاته.
أولاً: تقسيم المعية: أوضح الشيخ الأمين رحمه الله أنّ المعية تنقسم إلى قسمين؛ خاصة وعامة؛ فقال رحمه الله: "إنّ لله معية خاصة ومعية عامة. فالمعية الخاصة بالنصر والتوفيق والإعانة، وهذه لخصوص المتقين المحسنين؛ كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية3، وقوله:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} الآية4، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ
1 سورة البقرة، الآية [87] .
2 أضواء البيان 7/669 وانظر كلام أبي الحسن الأشعري (في الإبانة ص100- 101) عن هذه المسألة.
3 سورة النحل، الآية [128] .
4 سورة الأنفال، الآية [12] .
وَأَرَى} 1، وقوله:{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 2. ومعيّة عامة بالإحاطة والعلم؛ لأنه تعالى أعظم وأكبر من كلّ شيء، محيط بكلّ شيء. فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى"3.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "وأما المعية العامة لجميع الخلق: فهي بالإحاطة التامة والعلم ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا"4.
ثانياً: الجمع بين معيته سبحانه، واستوائه على عرشه جل وعلا.
لاشك أنّ من كان عالما بأحوال عباده، مطلعا عليهم، ومهيمنا عليهم، يسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويدبر جميع أمورهم: أنه معهم حقيقة، وإن كان فوق عرشه حقيقة؛ لأنّ المعية لا تستلزم الاجتماع في مكان5. ومعيته لا تشبه معية مخلوق لمخلوق، بل هي معية على ما يليق بجلاله.
وقد أشار الشيخ الأمين رحمه الله إلى هذا المعنى؛ فقال: "إنه تعالى مستو على عرشه كما قال بلا كيف ولا تشبيه، استواء لائقاً بكماله وجلاله، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل، فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام، ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علواً كبيراً. فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق؛ ألا ترى –ولله المثل الأعلى- أنّ أحدنا لو جعل في يده حبة خردل أنه ليس داخلا في شيء من أجزاء تلك الحبة مع انه محيط بجميع أجزائها ومع جميع أجزائها. والسموات والأرض ومن فيهما في يده تعالى اصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علواً كبيراً. فهو أقرب إلى الواحد
1 سورة طه، الآية [46] .
2 سورة التوبة، الآية [40] .
3 دفع إيهام الاضطراب –الملحق بأضواء البيان 10/176- 177-.
4 المصدر نفسه 3/390. وانظر كلام شيخ الإسلام في الفتاوى 11/249. وكلام الإمام ابن كثير في تفسيره 4/322.
5 من القواعد المثلى للشيخ ابن عثيمين ص59- بتصرف.
منا من عنق راحلته1، بل من حبل وريده2، مع أنه مستو على عرشه، لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا"3.
ثالثاً: الردّ على الجهمية القائلين إنّ الله معنا بذاته:
يرى الجهمية أنّ الله في كلّ مكان، وأنه معنا بذاته4. وقد استدلوا بقوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 5، وقوله:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} 6، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ردّ عليهم الشيخ الأمين رحمه الله مبيّنا لهم أنّ هذا الفهم لهذه الآية غير صحيح؛ فالله سبحانه هو الذي أحاط بمخلوقاته، ولا تحيط به جل وعلا، فهو أكبر من كلّ شيء؛ فقال رحمه الله: "اعلم أنّ ما يزعمه الجهمية من أنّ الله تعالى في كلّ مكان مستدلين بهذه الآية7 على أنه في الأرض: ضلال مبين، وجهل بالله تعالى؛ لأنّ جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحلّ في شيء منها ربّ السموات والأرض الذي هو أعظم من كلّ شيء، وأعلى من كلّ شيء، محيط بكلّ شيء ولا يحيط به
1 يشير رحمه الله إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم)) . (أخرجه مسلم في صحيحه 4/2077) .
2 يشير رحمه الله إلى قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . (سورة ق، الآية [16] ) .
3 دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/285-. وانظر: أضواء البيان 3/390.
ولشيخ الإسلام رحمه الله، والحافظ ابن القيم رحمه الله كلام حول هذا المعنى. (انظر: الفتاوى 5/103. ومختصر الصواعق ص419-492) .
4 انظر الرد على الجهمية للإمام الدارمي ص18.
5 سورة الحديد، الآية [4] .
6 سورة الأنعام، الآية [3] .
7 يقصد قوله تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} . (سورة الأنعام، الآية [3] ) .
شيء، فالسموات والأرض في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل في يد أحدنا –وله المثل الأعلى-، فلو كانت حبة خردل في يد رجل، فهل يمكن أن يقال: إنه حالّ فيها، أو في كلّ جزء من أجزائها؟ لا، وكلا هي أصغر وأحقر من ذلك. فإذا علمت ذلك: اعلم أنّ ربّ السموات والأرض أكبر من كلّ شيء، وأعظم من كلّ شيء، محيط بكلّ شيء ولا يحيط به شيء، ولا يكون فوقه شيء. {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1 سبحانه وتعالى علواً كبيراً، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 2"3.
وبهذا يتضح لنا بطلان هذا القول القبيح الذي هو حلول صرف؛ إذ يلزم منه أنّ الله تعالى حالّ في كلّ مكان، ليس في مكان دون آخر، ويلزم منه أن تكون الأماكن القذرة، وأجواف الخنازير محلاً لله سبحانه وتعالى عما يقول المبطلون علواً كبيراً.
[5]
صفة العلم:
العلم من صفات الله الذاتية، فهي لا تنفك عنه جلّ وعلا. وعلمه سبحانه وتعالى محيط بكلّ شيء أزَلاً وأبداً. وهو أحد مراتب القدر الأربعة؛ فقد علم الله سبحانه وتعالى جميع ما هو كائن، ولم يطلع على غيبه أحداً من خلقه، إلا ما أطلع عليه رسله تأييداً لهم في دعوتهم الناس إلى الإيمان به جل وعلا.
1 سورة سبأ، الآية [3] .
2 سورة طه، الآية [110] .
3 أضواء البيان 2/182-183. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام حول هذا المعنى في الفتاوى (5/230) .
وقد أوضح الشيخ رحمه الله هذه الصفة العظيمة فقال: "علم الغيب صفة مختصة بالله تعالى، وقد نفاها عن كلّ خلقه. وكونه يطلع بعض خلقه على بعض الغيب لا يقتضي أن يوصفوا بما وصف به"1.
وقال رحمه الله في موضع آخر، عند تفسير قوله تعالى:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} 2: "بيّن تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يقصّ على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط علمه بكلّ ما فعلوه من صغير وكبير، وجليل وحقير.
وبيّن هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3، وقوله:{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 4، وقوله:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 5"6.
1 معارج الصعود ص103.
2 سورة الأعراف، الآية [7] .
3 سورة المجادلة، الآية [7] .
4 سورة الحديد، الآية [4] .
5 سورة يونس، الآية [61] .
6 أضواء البيان 2/291. وانظر: المصدر نفسه 2/303، 308.
ومنهج ودراسات ص15-16. ورحلة الحج ص76. ومعارج الصعود ص45، 47، 67، 100. وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن صفة العلم في الفتاوى 6/340.
[6]
صفات العلوّ والعظمة والكبرياء:
ذكر الشيخ الأمين رحمه الله صفتي العلوّ والعظمة عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 1؛ فقال رحمه الله: "وصف نفسه جل وعلا في هذه الآية الكريمة بالعلوّ والعظمة، وهما من الصفات الجامعة كما قدمنا في سورة الأعراف2.... وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وصفه تعالى نفسه بهاتين الصفتين الجامعتين لكلّ كمال وجلال، جاء مثله في آيات أخر؛ كقوله تعالى:{وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 3، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} 4، وقوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 5، وقوله تعالى:{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} الآية6، إلى غير ذلك من الآيات7.
وذكر رحمه الله صفة الكبرياء عند تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 8؛ فقال رحمه الله: " ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنّ له الكبرياء في السموات والأرض؛ يعني أنه المختص بالعظمة والكمال والجلال والسلطان في السموات والأرض؛ لأنه هو معبود أهل السموات والأرض، الذي يلزمهم تكبيره وتعظيمه وتمجيده والخضوع والذلّ له"9.
1 سورة الشورى، الآية [4] .
2 انظر: أضواء البيان 2/313.
3 سورة البقرة، الآية [255] .
4 سورة النساء، الآية [34] .
5 سورة الرعد، الآية [9] .
6 سورة الجاثية، الآية [37] .
7 أضواء البيان 7/150- 151. وانظر المصدر نفسه 2/313- 314.
8 سورة الجاثية، الآية [37] .
9 أضواء البيان 7/361. وانظر: رحلة الحج ص78. ومنهج ودراسات ص23.
ثمّ ذكر رحمه الله أنّ ما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في آيات أخر؛ فذكر عدة آيات في القرآن الكريم، ومنها: قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} 1؛ فقال رحمه الله: "معناه أنّ له الوصف الأكمل الذي هو أعظم الأوصاف وأكملها وأجلها في السموات والأرض. وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله يقول: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما أسكنته ناري" 2"3.
[7]
صفة القدرة:
صفة القدرة من الصفات الذايتة. وقد ذكرها الشيخ رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4، قال:"أي قادر. وهذه الصفة التي هي صفة القدرة: هي التي يوجد الله جل وعلا بها الممكنات. وهو تعالى قادر على ما يشاء، وما لم يشأ؛ مثال ذلك: انه تعالى شاء إيمان أبي بكر وهدايته، وقد هداه للإيمان، ولم يشأ إيمان أبي جهل، وهو قادر عليه، ولم تتعلق به مشيئته، فلم يوجده. وكلّ صفات الله عز وجل من الكمال؛ بحيث لو تصور شيء من المبالغة في الصفة فهي فوق ذلك"5.
1 سورة الروم، الآية [27] .
2 أخرجه مسلم في صحيحه (4/2023) بلفظ مقارب عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العزة إزاري والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته)) .
وأخرجه أبو داود (في سننه 4/350-351) عن أبي هريرة بنحو اللفظ الذي أورده الشيخ، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) .
وكذا أخرجه ابن ماجه (في السنن 2/1397) بلفظ أبي داود إلا أنّ فيه: ((ألقيته في جهنم)) بدل ((قذفته في النار)) .
3 أضواء البيان 7/261. وانظر: المصدر نفسه 5/136. وإبطال التأويلات 1/232. والفتاوى 10/253-254.
4 سورة هود، الآية [4] .
5 معارج الصعود ص44. وانظر: أضواء البيان 2/307. ورحلة الحج ص76. وآداب البحث 2/132. ومنهج ودراسات ص13. وانظر أيضاً: الفتاوى 6/18.
[8]
صفتا السمع والبصر:
قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} 1: أي ما أبصره وما أسمعه جل وعلا. وما ذكره في هذه الآية الكريمة من اتصافه جل وعلا بالسمع والبصر ذكره أيضاً في مواضع أخر؛ كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2، وقوله:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 3، وقوله تعالى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 4، والآيات بذلك كثيرة جداً"5.
[9]
صفتا الحياة والقومية:
قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} 6: "الحيّ: المتصف بالحياة، الذي لا يموت أبداً. والقيوم: صيغة مبالغة؛ لأنه جل وعلا هو القائم بتدبير شئون جميع الخلق، وهو القائم على كلّ نفس بما كسبت. وقيل: القيوم: الدائم الذي لا يزول"7.
وصفة القيومية صفة ذاتية باعتبار، وفعلية باعتبار؛ فالله سبحانه وتعالى قائم بنفسه، ومقيم لغيره جل وعلا. وهذه الصفة تشبه صفة الكلام من
1 سورة الكهف، الآية [26] .
2 سورة الشورى، الآية [11] .
3 سورة المجادلة، الآية [1] .
4 سورة الحج، الآية [75] .
5 أضواء البيان 4/81. وانظر: المصدر نفسه 2/308. ورحلة الحج ص76. وآداب البحث والمناظرة 2/132. ومنهج ودراسات ص14. وانظر أيضاً: كتاب التوحيد لابن خزيمة 1/106.
6 سورة طه، الآية [111] .
7 أضواء البيان 4/518. وانظر كلام الشيخ الأمين رحمه الله عن صفة الحياة في: أضواء البيان 2/308. ورحلة الحج ص76. وآداب البحث 2/132. ومنهج ودراسات ص14.
وقد تكلم على صفة الحياة من السلف، فقال نحوا من كلام الشيخ الأمين، كلّ من شيخ الإسلام ابن تيمية (في الفتاوى 6/68) ، وابن أبي العز (في شرح الطحاوية ص124) ، وغيرهما.
حيث كونها صفة ذاتية فعلية؛ إذ إنّ صفة الكلام صفة ذاتية باعتبار نوع الكلام، وفعلية باعتبار أفراد الكلام.
[10]
صفة الوجه:
قال رحمه الله: "والوجه صفة من صفات الله العلي وصف بها نفسه. فعلينا أن نصدق ربنا، ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التامّ عن مشابهة صفات الخلق"1.
[11]
صفة العين:
قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {بأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} 2: "العين صفة لله تعالى لائقة بجلاله، لا يشبه صفة المخلوقين.
وإنما جمعت هنا لمناسبة إضافتها إلى الضمير المجموع للتعظيم" 3.
[12]
صفة القدم:
قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 4: "وثبت في بعض الأحاديث أنّ النار لا يزال الله يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد. فيضع ربّ العزة قدمه عليها فتقول: قط قط5. وهذه صفة لله تعالى لائقة بجلاله تثبت كغيرها على أساس التنزيه"6.
1 أضواء البيان 7/450. وانظر المصدر نفسه 2/332، 4/199، 6/457.
وكلام الشيخ هذا يشبه كلام من سبقه من السلف عن هذه الصفة الكريمة. (انظر مثلاً: التوحيد لابن خزيمة 1/24-25. والفتاوى 6/68. ومختصر الصواعق ص417) .
2 سورة هود، الآية [37] .
3 معارج الصعود ص113. وللسلف رحمهم الله كلام حول هذه الصفة الكريمة يشبه ما أورده الشيخ الأمين رحمه الله. (انظر مثلاً: التوحيد لابن خزيمة 1/96-97. والفتاوى 6/68) .
4 سورة هود، الآية [119] .
5 يشير رحمه الله إلى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه (6/47) ، ومسلم في صحيحه (4/2186-2187) .
6 معارج الصعود ص304.
وممن تكلم من السلف على هذه الصفة بكلام يشبه كلام الشيخ الأمين: القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات لأخبار الصفات (1/195) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (6/68) ، وغيرهما.
[13]
صفة الغضب:
قال رحمه الله: "اعلم أنّ الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته، تظهر آثارها في المغضوب عليهم. نعوذ بالله من غضبه جل وعلا. ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت؛ فنصدق ربنا في كلّ ما وصف به نفسه، ولا نكذب بشيء من ذلك مع تنزيهنا التامّ له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً"1.
فهي إذاً صفة ثابتة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته؛ لا يشبه غضبه غضب خلقه، كما أنّ صفاته كلها لا تشبه صفات خلقه؛ إذ الصفات تتبع المتصف بها، كما سبق أن قرر الشيخ الأمين رحمه الله ذلك.
[14]
صفة الرحمة:
وفي بيان هذه الصفة يقول رحمه الله: "الرحمة صفة الله التي اشتق لنفسه منها اسمه الرحمن، واسمه الرحيم: وهي صفة تظهر آثارها في خلقه الذين يرحمهم، وصيغة التفضيل في قوله:{وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 2؛ لأن المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضاً، ولا شك أنّ رحمة الله تخالف رحمة خلقه؛ كمخالفة ذاته وسائر صفاته لذواتهم وصفاتهم3.
1 أضواء البيان 4/488. وانظر المصدر نفسه 2/316.
وللسلف رحمهم الله كلام حول هذه الصفة يطابق ما أورده الشيخ الأمين رحمه الله. (انظر مثلاً: التدمرية ص46. وسير أعلام النبلاء 17/656) .
2 سورة المؤمنون، الآية [109] .
3 أضواء البيان 5/834. وانظر المصدر نفسه 1/101، 2/315. ورحلة الحج ص79. ومنهج ودراسات ص26. ومعارج الصعود ص30، 50، 120، 182، 219. وانظر أيضاً الفتاوى 6/18.
[15]
صفة المجيء:
قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 1: "ومثل هذا من صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه يمرّ كما جاء، ويؤمن بها، ويعتقد أنها حقّ، وأنه لا يشبه شيئاً من صفات المخلوقين. فسبحان من أحاط بكلّ شيء علماً، "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما"2"3.
[16]
صفة العجب:
قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} 4: "هذه الآية الكريمة على قراءة حمزة والكسائي فيها إثبات العجب لله تعالى، فهي إذاً من آيات الصفات على هذه القراءة"5.
[17]
صفة النور:
قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} 6: وصف الله بأنه نور. ومن أسمائه تعالى: النور. ومما يدلّ على وصفه به قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} 7"8.
وقد ذكر الشيخ الأمين رحمه الله بعض الصفات بإيجاز، وبيّن أنها ثابتة
1 سورة الفجر، الآية [22] .
2 سورة طه، الآية [110] .
3 أضواء البيان 2/284.
4 سورة الصافات، الآية [12] .
5 أضواء البيان 6/680.
ولأبي يعلى كلام قريب من هذا الكلام. (انظر: إبطال التأويلات 1/245) .
6 سورة النور، الآية [35] .
7 سورة الزمر، الآية [69] .
8 تفسير سورة النور ص138. جمعه الدكتور عبد الله قادري.
لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله؛ مثل صفة الإرادة1، وصفة الرضا2، وغيرهما.
وقد سرد الشيخ رحمه الله بعض الصفات، فقال: فلا يشكل عليكم بعد هذا صفة نزول ولا مجيء، ولا صفة يد ولا أصابع، ولا عجب، ولا ضحك؛ لأنّ هذه الصفات كلها من باب واحد؛ فما وصف الله به نفسه منها: فهو حقّ، وهو لائق بكماله وجلاله، لا يشبه شيئاً من صفات المخلوقين. وما وصف به المخلقو منها: فهو حقّ مناسب لعجزهم وفنائهم وافتقارهم"3.
وبهذا يتضح لنا من الصفات التي ذكرها الشيخ الأمين رحمه الله مفصلة، ومن الأخرى التي سردها سرداً أنّ منهجه رحمه الله هو منهج السلف؛ لا يتجاوزون الكتاب والسنة؛ فما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أثبتوه لله على ما يليق بجلاله وكماله. وما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم نفوه عن الله جل وعلا. وهم في إثبات الصفات ينزهون الله تبارك وتعالى عن مشابهة المخلوقين تنزيها لا يصل إلى التعطيل، بل يتقيّدون بقوله جل وعلا:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4.
وبما أوردته من كلام الشيخ الأمين رحمه الله حول الصفات يتضح لنا أنه رحمه الله سلفي العقيدة والمنهج؛ فعلى منهج السلف في الإثبات سار، وبما قالوا به قال رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له المثوبة.
1 أضواء البيان 2/307.
2 المصدر نفسه 2/316.
3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص43-44. وانظر كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله: في مختصر الصواعق المرسلة (1/365) .
4 سورة الشورى، الآية [11] .