الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جامع أحمد بن طولون*:
هذا الجامع موضعه يعرف بجبل يشكر، قال ابن عبد الظاهر: وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل: إن موسى عليه صلاة والسلام ناجى ربه عليه بكلمات.
وابتدأ في بناء هذا الجامع الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بعد بنائه القطائع (1) ، وهي مدينة بناها ما بين سفح الجبل حيث القلعة الآن، وبين الكبارة وما بين كوم الجارح وقناطر السباع؛ فهذه كانت القطائع (2) .
وكان ابتداء بنائه في سنة ثلاث وستين ومائتين، وفرغ منه سنة ست وستين، وبلغت النفقة عليه في بنائه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. وقيل: إنه قال: أريد أن أبني بناء إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي، فقيل: تبني بالجير والرماد والآجر الأحمر، ولا تجعل فيه أساطين خام، فإنه لا صبر له في النار؛ فبنى هذا البناء، فلما كمل بناؤه أمر بأن يعمل دائرة منطقه عنبر معجون ليفوح ريحها على المصلين، وأشعر الناس بالصلاة فيه، فلم يجتمع فيه أحد، وظنوا أنه بناه من مال حرام، فخطب
* المقريزي 4: 36-49.
(1)
المقريزي: "في سنة ثلاث وستين ومائتين".
(2)
قال ابن تغري بردي: "القطائع كانت بمعنى الأطباق التي للمماليك السلطانية الآن، وكانت كل قطيعة لطائفة تسمى بها، فكانت قطيعة تسمى قطيعة السودان، وقطيعة الروم، وقطيعة الفراش؛ ونحو ذلك، وكانت كل قطيعة لكن جماعة؛ وهي بمنزلة الحارات اليوم، وسبب بناء ابن طولون القصر والقطائع، لكثرة مماليكه وعبيده، فضاقت دار العمارة عليه، فركب إلى سفح الجبل، وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى، واختط موضعها، وبنى القصر والميدان، ثم أمر لأصحابه وغلمانه أن يختطوا لأنفسهم حول قصره وميدانه بيوتا، واختطوا وبنوا حتى اتصل البناء بعمارة الفسطاط -أعني مصر القديمة- ثم بنيت القطائع، وسميت كل قطيعة باسم من سكنها". النجوم الزاهرة 3: 15.
فيه، وحلف أنه ما بني هذا المسجد بشيء من ماله، وإنما بناه بكنز ظفر به، وإن العشار الذي نصبه على منارته وجده في الكنز (1) .
فصلى الناس فيه، وسألوه أن يوسع قبلته، فذكر أن المهندسين اختلفوا في تحرير قبلته، فرأى في المنام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: يا أحمد، ابن قبلة هذا الجامع على هذا الموضع؛ وخط له في الأرض صورة ما يعمل. فلما كان الفجر مضى مسرعا إلى ذلك الموضع؛ فوجد صورة القبلة في الأرض مصورة، فبنى المحراب عليها، ولا يسعه أن يوسع فيه لأجل ذلك، فعظم شأن الجامع، وسألوه أن يزيد فيه زيادة، فزاد فيه.
قال الخطيب: ركب أحمد بن طولون يومًا يتصيد بمصر، فغاصت قوائم فرسه في الرمل، فأمر بكشف ذلك الموضع، فظهر له كنز فيه ألف ألف دينار، فأنفقها في أبواب البر والصدقات، وبنى منها الجامع، وأنفق عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وبنى المارستان، وأنفق عليه ستين ألف دينار.
وقال صاحب مرآة الزمان (2) : قرأت في تاريخ مصر أن ابن طولون كان لا يعبث قط،
(1) المقريزي: "كان أحمد بن طولون يصلي الجمعة في المسجد القديم اللاصق للشرطة، فلما ضاق عليه بنى الجامع الجديد مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون، ومنه بني العين، فلما أراد بناء الجامع قدر له ثلاثمائة عمود، فقيل له: ما تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياق والضياع والخراب، فتحمل ذلك؛ فأنكر ذلك ولم يختره، وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصراني الذي تولى له بناء العين، وكان قد غضب عليه وضربه، ورماه في المطبق، فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلا عمودي القبلة، فأحضروه وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، فقال له: ويحك! ما تقول في بناء الجامع؟ فقال: "أنا أصوره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمد إلا عمودي القبلة، فأمر بأن تحضر له الجلود فأحضرت، وصوره له، فأعجبه واستحسنه وأطلقه وخلع عليه، وأطلق له للنفقة عليه مائة ألف دينار، فقال له: أنفق، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك، فوضع النصراني يده في البناء في الموضع الذي هو فيه، وهو جبل يشكر، فكان ينشر منه، ويعمل الجير، ويبني إلى أن فرغ من جميعه، وبيضه وعلق فيه القناديل، والسلاسل الحسان الطوال، وفرش فيه الحصر، وحمل إليه صناديق المصاحف، ونقل إليه القراء والفقهاء".
(2)
مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، لسبط ابن الجوزي، في التواريخ القديمة الإسلامية وأخبار الأمم الماضية، رتبه على السنين إلى سنة 654، وهي السنة التي مات فيها المؤلف.
وأنه أخذ يومًا درجًا من الكاغد، وجعل يعبث به، وبقي بعضه في يده، فعجب الحاضرون فقال: اصنعوا منارة الجامع على هذا المثال، وهي قائمة اليوم على ذلك. قال: ولما تم بناء الجامع رأى ابن طولون في منامه كأن الله تجلى للقصور التي حول الجامع، ولم يتجل للجامع، فسأل المعبرين، فقالوا: يخرب ما حوله، ويبقى الجامع قائما وحده. قال: ومن أين لكم هذا؟ قالوا: من قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (1) . وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا تجلى الله لشيء خضع له"، فكان كما قالوا.
وفي الخطط للمقريزي: بنى أحمد بن طولون جامعه على بناء جامع سامراء، كذلك المنارة، وبيضه وحلقه وفرشه بالحصر العبدانية، وعلق فيه القناديل المحكمة لسلاسل النحاس المفرغة الحسان الطوال، وحمل إليه صناديق المصاحف، وكان في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها، وهي مذهبة على عشرة عمد رخام مفروشة كلها بالرخام، وتحت القبة قصعة رخام سعتها أربعة أذرع، وسطها فوارة تفور بالماء، وكانت على السطح علامات للزوال وأسطح بدرابزين ساج، فاخترق هذا كله في ساعة واحدة في ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، فلما كان في محرم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة؛ أمر العزيز بالله بن المعز ببناء فوارة عوضا عن التي احترقت.
قال المقريزي: ولما كمل بناء جامع بن طولون صلى فيه القاضي بكار (2) إمامًا، وخطب فيه أبو يعقوب البلخي، وأملى فيه الحديث الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي، ودفع إليه أحمد بن طولون في ذلك اليوم كيسا فيه ألف دينار (3) . وعمل الربيع
(1) سورة الأعراف آية: 143.
(2)
المقريزي: "بكار بن قتيبة القاضي".
(3)
المقريزي: "فلما فرغ المجلس خرج إليه غلام بكيس فيه ألف دينار وقال: يقول لك الأمير: نفعك الله بما علمك؛ وهذه لأبي طاهر -يعني ابنه- وتصدق أحمد بن طولون بصدقات عظيمة فيه، وعمل طعاما عظيما للفقراء والمساكين وكان يومًا عظيمًا".
كتابًا (1) فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة"، ودس أحمد بن طولون عيونا لسماع ما يقوله الناس من العيوب في الجامع، فقال رجل: محرابه صغير، وقال آخر: ما فيه عمود، وقال آخر: ليس له ميضأة، فجمع الناس وقال: أما المحراب فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خطه لي، وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إما أن تكون من مسجد أو كنيسة، فنزهته عنهما؛ وأما الميضأة، فها أنا أبنيها خلفه، ثم عمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب فيها، جمع الأشربة والأدوية، وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث من الحاضرين للصلاة، وأوقف على الجامع أوقافًا كثيرة سوى الرباع ونحوها، ولم يتعرض إلى شيء من أراضي مصر ألبتة.
ثم لما وقع الغلاء في زمن المستنصر خربت القطائع بأسرها، وعدم السكن هنالك، وصار ما حول الجامع خرابًا.
وتوالت الأيام على ذلك، فتشعث الجامع، وخرب أكثره، وصارت المغاربة تنزل فيه بإبلها ومتاعها عند ما تقدم الحج، وتمادى الأمر على ذلك.
ثم إن لاجين لما قتل الأشرف خليل بن قلاوون هرب، فاختفى بمنارة هذا الجامع فنذر إن نجاه الله من هذه الفتنة ليعمرنه، فنجاه الله، وتسلطن، فأمر بتجديده، وفوض أموره إلى الأمير علم الدين سنجر الزيني، فعمره ووقف عليه وقفًا، ورتب فيه دروس التفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة والقراءات والطب، والميقات حتى جعل من جملة ذلك وقفا على الديكة تكون في سطح الجامع في مكان مخصوص بها؛ لأنها تعين الموقتين وتوقظهم في السحر. فلما قرئ كتاب الوقف على السلطان أعجبه،
(1) المقريزي: "بابا".
كل ما فيه إلا أمر الديكة، فقال: أبطلوا هذا لا تضحكوا الناس علينا، فأبطل.
وأول من ولي نظره بعد تجديده الأمير علم الدين سنجر العادلي، وهو إذ ذاك دوادار السلطان لاجين.
ثم ولي نظره قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ثم وليه أمير مجلس في أيام الناصر محمد بن قلاوون؛ فلما مات وليه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة. ثم ولاه الناصر للقاضي كريم الدين، فجدد فيه مئذنتين، فلما نكبه السلطان عاد نظره للقاضي الشافعي إلى أيام السلطان حسن، فتولاه الأمير صرغتمس؛ وتوفر في مدة نظره من مال الوقف مائة ألف درهم فضة، وقبض عليه وهي حاصلة، فباشره قاضي القضاة إلى أيام الأشرف شعبان، ففوض نظره إلى الأمير الجاي اليوسفي إلى أن غرق، فتحدث فيه القاضي الشافعي إلى أن فوض الظاهر برقوق نظره إلى الأمير قطلوبغا الصفوي، ثم عاد نظره إلى القضاة بعد الصفوي، وهو بأيديهم إلى اليوم.
وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جدد الرواق البحري الملاصق للمئذنة البازدار مقدم الدولة عبيد بن محمد بن عبد الهادي، وجدد فيه أيضًا ميضأة بجانب الميضأة القديمة.