الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر بقية لطائف مصر:
قال الكندي: ذكر يحيى بن عثمان، عن أحمد بن الكريم، قال: جلت للدنيا، ورأيت آثار الأنبياء والملوك والحكماء، ورأيت آثار سليمان بن داود عليهما السلام ببيت المقدس، وتدمر والأردن، وما بنته الشياطين، فلم أر مثل برابي مصر ولا مثل حكمتها، ولا مثل الآثار التي بها، والأبنية التي لملوكها وحكمائها. ومصر ثمانون كورة، ليس منها كورة إلا وفيها ظرائف وعجائب من أصناف الأبنية والطعام والشراب والفاكهة والنبات وجميع ما ينتفع به الناس، ويدخره الملوك، وصعيدها أرض حجازية، حرها كحر الحجاز، تنبت النخل والأراك والقرظ والدوم والعشر، وأسفل أراضي مصر شامية تمطر مطر الشام، وتنبت نبات الشام من الكرم والتين والموز وسائر الفاكهة، والبقول والرياحين. ويقع به الثلج، ومنها لوبية ومراقية (1) برابي وجبال وغياض، وزيتون وكروم برية بحرية جبلية، بلاد إبل وماشية، ونتاج وعسل ولبن. وكل كورة (2) من مصر مدينة، قال تعالى:{وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} ، وفي كل مدينة منها آثار عجيبة من الأبنية والصخور والرخام والبرابي، وتلك المدن كلها تأتي منها السفن، تحمل المتاع والآلة إلى الفسطاط، تحمل السفينة الواحدة ما تحمله خمسمائة بعير.
قال الكندي: وليس في الدنيا بلد يأكل أهله صيد البحر طريًّا غير أهل مصر.
قال: وذكر بعض أهل العلم أنه ليس في الدنيا شجرة إلا وهي بمصر، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
(1) قال ياقوت: "مراقية بالفتح والقاف والياء مخففة؛ إذا قصد القاصد من الإسكندرية إلى إفريقية فأول بلد يلقاه مراقية، ثم لوبية".
(2)
الكورة في اصطلاح القدماء: كل صقع يشتمل على عدة قرى، ولا بد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أو نهر يجمع اسمها، وانظر معجم البلدان 1:36.
ويوجد بمصر في كل وقت من الزمان من المأكول والمأدوم، والمشموم وسائر البقول والخضر؛ جميع ذلك في الصيف والشتاء، لا ينقطع منها شيء لبرد ولا حر (1) .
وذكر أن بخت نصر قال لابنه بلسطان: ما أسكنتك مصر إلا لهذه الخصال. وبلسطان هو الذي بنى قصر الشمع.
وقال بعض من سكن مصر: لولا ماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بؤونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ورطب توت، ورمان بابة، وموز هاتور، وسمك كيهك، ما أقمت بمصر.
وأخرج ابن عساكر من طريق الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: ثلاثة أشياء، دواء للداء الذي لا دواء له، الذي أعيا الأطباء أن يداووه: العنب، ولبن اللقاح، وقصب السكر، ولولا قصب السكر ما أقمت بمصر.
وقال بعضهم: يجتمع بمصر في وقت واحد ما لا يجتمع بمدينة؛ وذلك البنفسج والورد والسوسن، والمنثور والنرجس وشقائق النعمان والبهار والياسمين والنسرين، واللينوفر والنمام والمرزنجووش والريحان والنارنج، والليمون والتفاح الشامي والأترج والباقلي الأخضر، والعنب والتين والموز واللوز الأخضر والسفرجل، والكمثرى والرمان والنبق والقثاء والخيار، والطلع والبلح والبسر الرطب واللفت، والقنبيط والأسفاناخ والقرع والجزر والباذنجان؛ كل ذلك يجتمع في وقت واحد من السنة.
وقال بعض من صنف في فضائل مصر: بمصر الحمير المريسية، والبقر الحسينية، والنجب النجارية، والأغنام النوبية، والدجاج الحبشية، والمراكب الحربية، والسفن الزيبقية، والمناسف الحملية، والستور البهنساوية، والغلائل القصبية، والحرم
(1) ح: "لحر".
السمطاوية، والنعال السندية، والسلال الوهبانية، والمضارب السلطانية. ويحمل إلى العراق وغيرها من مصر زيت الفجل والعسل النحل، ويفخر به على أعسال الدنيا.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم بارك فيه لما أهداه إليه المقوقس.
وبمصر يزرع البلسان، ودهنه يستعمل في أكثر العلاج، والنفط وهو من آلة الحرب التي بها قهر الأعداء، ودهن الخروع وزيت البزر والدهن الصيني، وزيت الخردل وزيت الخس، ودهن القرطم، وزيت السلجم، وخشب اللبخ، وهو أصلح من الأبنوس اليوناني.
وفي صعيد مصر خشب الأبنوس الأبلق، وسائر العقاقير التي تدخل في الطب والعلاج. وكل ما زرع في أرض مصر ينبت.
وفيها من نبات الهند والسند مثل الأهليلج والخيار شنبر والتمر هندي وغيره مما لا يوجد في بلد من البلاد الإسلامية.
وبها الشب الواحي؛ وهو أبلغ من اليماني، والأفيون والشاهترج والصفر والزجاج والجزع الملون والصوان؛ وهو حجر لا يعمل فيه الحديد؛ وكانت الأوائل تعمده وتقطعه بأسوان؛ ومنه العمد الجافية، التي لا تكون بسائر الدنيا، وكل حمامات مصر بالرخام لكثرته عندهم، وكذلك صحون دورهم.
وبها الحجارة المسماة بالكذان؛ يبلط بها الدور ويعقد بها الدرج.
وبها من الحصر العبداني، ومن سائر أصناف الحصر ما لا يوجد في غيرها، ويجلب من مصر البز الأبيض من الديبقي وغيره الذي يعمل بدمياط وتنيس. وبالإسكندرية يعمل الوشى الذي يقوم مقام وشي الكوفة.
وبالصعيد يعمل من الجلود الأنطاع، وبالبهنسا الستور التي هي أحسن ستور الأرض
والبسط وأجلة الدواب والبراقع وستور النسوان في المضارب والأكسية والطيالسة.
وكان يعمل بإخميم الفرش التي تسمى نطوع الخز.
وبمصر من أصناف الرقيق ما ليس ببلد من البلدان، وأصناف الطير الحسن الصوت (1) في صعيدها مثل القمري والنوبي، والنواح والدبسي الأحمر والأبلق، والكروان الذي ليس مثله في بلد.
ومنها يحمل الطير إلى البلدان في الشرق والغرب، والأشماع المتخذة من الشهد وعسل الأسطروس والنبيذ المعمولة من القمح والقند والأباليج والطبرزد، وماء طوبة الذي لا يعدله شيء، ولا يتغير على ممر الايام، والسمك الذي هو ملك الأسماك، والبوري الطري والمملوح، والبلاطي الذي كأنه دروع من الفضة، وطير الماء، وطير الحوصل يعمل من جلده الخفاف الناعمة والفراء الأبيض الذي يقوم مقام الفنك في لينه ورقته. وبها الكتان، ومنها يحمل إلى سائر الأرض، والقراطيس، وبها من العلم القديم ما ليس ببلد، كعلم الطب اليوناني والمساحة، والنجوم والحساب القبطي، واللحون والشعر الرومي.
وفيها من سائر الثمار والأشجار، والمشمومات والعقاقير والنبات والحشائش ما لا يحصى. والعصفور يفرخ بمصر في كانون، وليس ذلك في بلد إلا بها.
وقال الكندي: بمصر معدن الزمرد، وليس في الدنيا زمرد إلا معدن بمصر، ومنها يحمل إلى سائر الدنيا.
قال: وبها معدن الذهب، يفوق على كل معدن.
قال: وفيها القراطيس، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
وقال غيره: من خصائص مصر القراطيس، وهي الطوامير، وهي أحسن ما كتب
(1) ح: "الصورة".
فيه، وهو من حشيش أرض مصر، ويعمل طوله ثلاثون ذرعا وأكثر في عرض شبر. وقيل: إن يوسف عليه السلام أول من اتخذ القراطيس، وكتب فيها.
قال الكندي: وبها من الطرز والقصب التنيسي والشرب والدبيقي ما ليس بغيرها، وبها الثياب الصوف والأكسية المرعز (1) ، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
ويحكى أن معاوية لما كبر كان لا يدفأ، فاتفقوا أنه لا يدفئه إلا أكسية تعمل في مصر، من صوفها المرعز العسلي غير مصبوغ، فعمل له منها عدد، فما احتاج منها إلا إلى واحد. وبها طراز البهنسا من الستور والمضارب ما يفوق ستور الأرض.
وبها من النتاج العجيب من الخيل والبغال، والحمير ما يفوق نتاج أهل الدنيا، وليس في الدنيا فرس في نهاية الصورة في العنق غير الفرس المصري، وليس في الدنيا فرس لا يردف غير المصري، وسبب ذلك قصر ساقيه وبلاغة صدره وقصر ظهره. ويحكى أن الوليد عزم على إجراء الحلبة، فكتب إلى الأمصار أن يوجه إليه بخيار خيل كل بلد، فلما اجتمعت عرضت عليه، فمرت عليه المصرية، فلما رآها دقيقة العصب، لينة المفاصل والأعطاف، قال: هذه خيل ما عندها طائل، فقال له عمر بن عبد العزيز: وأين الخير كله إلا لهذه! فقال له: ما تترك تعصبك لمصر يا أبا حفص! فلما أجريت الخيل جاءت المصرية كلها سابقة ما خالطها غيرها.
قال: وبها زيت الفجل ودهن البلسان والأفيون والأبرميس وشراب العسل والبسر البرني الأحمر، واللبخ والخس والكبريت والشمع والعسل وخل الخمر والترمس، والجلبان والذرة والنبيذ والأترج الأبلق والفراريج الزبلية. وذكر أن مريم عليها السلام شكت إلى ربها قلة لبن عيسى، فألهمها أن غلت النيدة فأطعمته إياها.
وذكر بعضهم أن رهبان الشام لا يكادون يرون إلا عمشا من أكل العدس، ورهبان مصر سالمون من ذلك لأكلهم الجلبان.
(1) في اللسان: "المرعز كالصوف، يخلص من بين شعر العنز".
والبقر الذي بمصر أحسن البقر صورة، وليس في الدنيا بقر أعظم خلقا منها، حتى إن العضو منها يساوي أكبر ثور من غيرها.
وبها الحطب الصنط والأبنوس الأبلق والقرط الذي تعلفه الدواب.
وذكر أنه يوقد بالحطب الصنط عشرين سنة في الكانون أو التنور، فلا يوجد له رماد طول هذه المدة.
وجيزتها في وقت الربيع من أحسن مناظر الدنيا.
وقال صاحب مباهج الفكر: يقال: إن بمصر سبعمائة وخمسين معدنًا، توجد بجبل المقطم: الذهب والفضة والخارصين والياقوت؛ إلا أنه لطيف جدًّا، يستعمل في الأكحال والأدوية، وفي أسوان يغاص على السنفاوح ومعدن الزمرد؛ وليس في الدنيا غيره، وبجبال القلزم المتصلة بجبل المقطم حجر المغناطيس.
ومن خصائص مصر بركة النطرون. وينبت في أرض مصر سائر ما ينبت في الأرض. انتهى.
وقال صاحب غرائب العجائب: بمصر بئر البلسم بالمطربة، يسقى بها شجر البلسان، ودهنه عزيز والخاصية في البئر؛ فإن المسيح عليه السلام اغتسل فيها، وليس في الدنيا موضع ينبت فيه البلسان إلا هذا الموضع، وقد استأذن الملك الكامل أباه العادل أن يزرعه فأذن له، ففعل ولم ينجح، ولم يخلص منه دهن، فسأل أباه أن يجري له ساقية من المطرية إليه، ففعل فلم ينجح.
قال: بأرض مصر حجر القيء، إذا أخذه الإنسان بيده غلب عليه الغثيان، حتى يتقيأ جميع ما في بطنه، فإن لم يلقه من يده خيف عليه التلف.
وقال الكندي: جعل الله مصر متوسطة الدنيا، وهي في الإقليم الثالث والرابع، فسلمت من حر الإقليم الأول والثاني، ومن برد الإقليم الخامس والسادس، فطاب
هواؤها وبقي حرها. وضعف حرها، وخف بردها، فسلم أهلها من مشاتي الجبال ومصائف عمان وصواعق تهامة، ودماميل الجزيرة وجرب اليمن، وطواعين الشام وغيلان العراق، وعقارب عسكر مكرم، وطلب البحرين وحمى خيبر، وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم وطوائف العرب، ومكابرة الديلم، وسرايا القرامطة، وبثوق الأنهار، وقحط الأمطار، وقد اكتنفها معادن رزفها؛ وقرب تصرفها، فكثر خصبها، ورغد عيشها، ورخص سعرها.
وقال الجاحظ في مصر: إن أهلها يستغنون عن كل بلد، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا سور لغني أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا، وفيها ما ليس بغيرها، وهو حيوان السقنقور والنمس، ولولاه لأكلت الثعابين أهلها، وهو لها كقنافذ سجستان لأفاعيها، والسمك الرعاد والحطب الصنط الذي أوقد منه يوما أجمع ما وجد من رماده ملء كف، صلب العود، سريع الوقود، بطيءالخمود. ويقال: إنه الأبنوس؛ لكن البقعة قصرت عن الكتان، فجاء أحمر شديد الحمرة، ودهن البلسان، والأفيون وهو عصارة الخشخاش واللبخ، وهو ثمر في قدر اللوز الأخضر؛ إلا أن المأكول منه الظاهر، والأترج الأبلق والزمرد. وأهلها يأكلون صيد بحر الروم وبحر فارس طريًّا، وفي كل شهر من شهورها القبطية صنف من
المأكول والمشروب والمشموم، يوجد فيه دون غيره، فيقال: رطب توت، ورمان بابة، وموز هتور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بئونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى. وإن صيفها خريف، وشتاءها ربيع، وما يقطعه الحر في سائر البلاد من الفواكه يوجد فيها في الحر والبر؛ إذ هي في الإقليم الثالث والإقليم الرابع، فسلمت من حر الأول والثاني وبرد الخامس والسادس. ويقال: لو لم يكن من فضل
مصر إلا أنها تغني في الصيف عن الخيش والثلج وبطون الأرض، وفي الشتاء عن الوقود والفراء لكفاها.
ومما وصفت به أن صعيدها حجازي كحر الحجاز، ينبت النخل والدوم وهو شجر المقل، والعشر، والقرظ والإهليلج والفلف والخيار شنبر، وأسفل أرضها شامي يمطر مطر الشام، ويقع فيه الثلوج، وينبت التين والزيتون والعنب والجوز واللوز والفستق وسائر الفواكه، والبقول الرياحين وهي ما بين أربع صفات، فضة بيضاء أو مسكة (1) سوداء، أو زبرجدة خضراء أو ذهبة (2) صفراء، وذلك أن نيلها يطبقها فتصير كأنها فضة بيضاء، ثم ينضب عنها فتصير مسكة سوداء، ثم تزرع فتصير زبرجدة خضراء، ثم تستحصد فتصير ذهبة صفراء.
وحكى ابن زولاق في كتابه، أن أمير مصر موسى بن عيسى كان واقفًا بالميدان عند بركة الحبش، فالتفت يمينا وشمالا، وقال لمن معه من جنده: أترون ما أرى؟ قالوا: وما يرى الأمير؟ قال: أرى عجبًا، ما في شيء من الدنيا مثله، فقالوا: يقول الأمير، فقال: ارى ميدان أزهار، وحيطان نخل وبستان شجر، ومنازل سكنى، وجبانة أموات، ونهرًا عجاجًا وأرض زرع ومراعي ماشية، ومرابط خيل، وساحل بحر، وقانص وحش، وصائد سمك، وملاح سفينة، وحادي إبل، ومقابر (3) ورملا وسهلا وجبلا، فهذه سبعة عشر؛ مسيرها في أقل من ميل في ميل، ولهذا قال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي يصف الرصد الذي بظاهر مصر:
يا نزهة الرصد التي قد نزهت
…
عن كل شيء خلا (4) في جانب الوادي
فذا غدير وذا روض وذا جبل
…
فالضب والنون والملاح والحادي
(1) المسكة: نوع من الطيب.
(2)
كذا في ح، ط، وفي الأصل:"ذهبية".
(3)
ط: "معاير"، وصوابه ما في الأصل.
(4)
كذا في الأصل، وفي ط، ح:"حلا".
قال ابن فضل الله في المسالك: مملكة مصر من أجل ممالك الأرض لما حوت من الجهات المعظمة، والأرض المقدسة والمساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وقبور الأنبياء والطور والنيل والفرات؛ وهما من الجنة، وبها معدن الزمرد، ولا نظير له في أقطار الأرض. وحسب مصر فخرا ما تفردت به من هذا المعدن واستمداد ملوك الآفاق له منها، وبينه وبين قوص صمانية أيام بالسير المعتدل، والبجاة (1) تنزل حوله لأجل القيام بحفره، وهو في الجبل الآخذ على شرقي النيل في منقطع من البر لا عمارة عنده، ولا قريبا منه، والماء عنه مسيرة نصف يوم؛ وهذا المعدن في صدر مغارة طويلة في حجر أبيض منه، يضرب فيستخرج منه الزمرد؛ وهو كالعروق فيه.
قال: وأكثر محاسن مصر مجلوبة إليها؛ حتى بالغ بعضهم فقال: إن العناصر الأربعة مجلوبة إليها: الماء وهو النيل مجلوب من الجنوب، والتراب مجلوب من حمل الماء؛ وإلا فهي رمل محض لا ينبت، والنار لا توجد بها شجرتها وهو الصوان إلا إذا جلب إليها، والهواء لا يهب إليها إلا من أحد البحرين، إما الرومي وإما الخارج من القزم إليها.
وهي كثيرة الحبوب من القمح والشعير والفول، والحمص والعدس والبسلة واللوبيا والدخن والأرز، وبها الرياحين الكثيرة كالحبق (2) والآس والورد وغيرها، وبها الأترج والنارنج والليمون والحماض والكباد، والموز الكثير وقصب السكر الكثير والرطب والعنب، والتين والرمان والتوت والفرصاد والخوخ، واللوز والجميز والنبق والبرقوق والقراصيا والتفاح. وأما السفرجل والكمثرى فقليل؛ وكذلك الزيتون مجلوب إلا قليلا في الفيوم، وبها البطيخ الأصفر أنواع والأخضر والخيار والقثاء على أنواع، والقلقاس واللفت والجزر والقنبيط والفجل والبقول المنوعة.
(1) البجاة: من القبائل التي كانت تسكن صعيد مصر.
(2)
في القاموس: "الحبق، محركة: نبات طيب الرائحة، فارسية: الفوتنج، يشبه الثمام".
وبها أنواع الدواب من الخيل والبغال، والحمير والبقر والجاموس والغنم والمعز. ومما يوصف من دوابها بالجودة الحمر لفراهتها، والبقر والغنم لعظمها، وبها الأوز والدجاج والحمام، ومن الوحش الغزلان والنعام والأرنب؛ وأما من أنواع الطير فكثير كالكركي وغيره.
وأوسط الأسعار في غالب أوقاتها الإردب القمح بخمسة عشر درهما، والشعير بعشرة، وبقية الحبوب على هذا الأنموذج؛ وأما الأرز فيبلغ أكثر من ذلك، وأما اللحم فأقل سعره الرطل بنصف درهم.
ويعمل بمصر معامل كالتنانير، ويعمل بها البيض؛ ويوقد بنار يحاكي بها نار الطبيعة في حضانة الدجاجة البيض، ويخرج في تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاجهم. وبها ما يستطاب من الألبان والأجبان، وبها العسل بمقدار متوسط بين الكثرة والقلة، وأما السكر فكثير جدًّا، وقيمته المعهودة على الغالب من السعر الرطل بدرهم ونصف، ومنها يجلب السكر إلى كثير من البلاد، وقد نسي بها ما كان يذكر من سكر الأهواز.
وبها الكتان المعدوم المثل المنقول منه، ومما يعمل من قماشه إلى أقطار الأرض.
ومبانيها بالحجر، وأكثرها بالطوب وأفلاق النخل والجريد. وخشب الصنوبر مجلوب إليهم من بلاد الروم في البحر، ويسمى عندهم النقي.
وبها المدارس والخوانق والربط والزوايا، والعمائر الجليلة الفائقة المعدومة المثل المفروشة بالرخام، المسقوفة بالأخشاب، والمدهونة الملمعة بالدهب واللازورد.
قال: وحاضرة مصر تشتمل على ثلاث مدن عظام: الفسطاط، وهو بناء عمرو بن العاص؛ وهي المسماة عند العامة بمصر العتيقة، والقاهرة بناها جوهر القائد لمولاه الخليفة المعز، وقلعة الجبل بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب، وأول من سكنها أخوه العادل. وقد اتصل بعض هذه الثلاثة ببعض بسور بناه قراقوش بها
إلَّا أنه قد تقطع الآن في بعض الأماكن، وهذا السور، هو الذي ذكره القاضي الفاضل في كتاب كتبه إلى السلطان
صلاح الدين، فقال: والله يحيي الموتى حتى يستدير بالبلدين نطاقه، ويمتد عليهما رواقه، فهما عقيلة ما كان معصمهما بغير سوار، ولا حضرهما ليجلي بلا منطقة نضار (1) .
قال: وبها المارستان المنصوري المعدوم النظير، لعظم بنائه وكثرة أوقافه. وبها البساتين الحسان والمناظر النزهة والآدار المطلة على البحر، وعلى الخلجاناة الممتدة فيه أوقات مدها.
وبها القرافة تربة عظمى لمدفن أهلها، وبها العمائر الضخمة، وهي من أحسن البلاد إبان ربيعها للغدر الممتدة من مقطعات النيل بها، وما يحفها من زرع أخرجت شطأها وفتقت أزهارها، وبها من محاسن الأشياء ولطائف الصنائع ما تكفي شهرته ومن الأسلحة، والقماش والزركش والمصوغ والكفت (2) وغير ذلك ما لا يكاد يعد تفردها به، والرماح التي لا يعمل في الدنيا أحسن منها. انتهى كلام ابن فضل الله.
وقال الكندي في فضل مصر: بمصر العجائب والبركات، فجلبها المقدس، ونيلها المبارك، وبها الطور الذي كلم الله عليه موسى؛ فإن أهل العلم ذكروا أن الطور من المقطم، وأنه داخل فيما وقع عليه القدس؛ قال كعب: كلم الله موسى عليه السلام من الطور إلى أطراف المقطم من القدس. وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه، وبها فلق البحر لموسى، وبها ولد موسى وهارون، وبها ولد عيسى، وبها كان ملك يوسف، وبها النخلة التي ولدت مريم عيسى تحتها بريف من كورة أهناس، وبها اللبخة التي أرضعت عندها مريم عيسى بأشمون، فخرج من هذه اللبخة الزيت، وبها مسجد
(1) ح، ط:"نصار" تحريف.
(2)
الكفت: ما تطعم به أواني النحاس من الذهب والفضة.
إبراهيم، ومسجد يعقوب، ومسجد موسى، ومسجد يوسف، ومسجد مارية سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم حفن (1) ، أوصت أن يبنى بها مسجد فبني، وبها مجمع البحرين وهو البرزخ الذي قال الله:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} (2) وقال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} (3) .
وقال غيره: لأهل مصر القلم المعروف بقلم الطير، وهو قلم البرابي، وهو قلم عجيب الحرف.
قال: ومصر عند الحكماء العالم الصغير، سليل العالم الكبير؛ لأنه ليس في بلد غني غريب إلا وفيها مثله وأغرب منه، وتفضل على البلدان بكثرة عجائبها ومن عجائبها النمس؛ وهو أقتل للثعابين بمصر من القنافد للأفاعي بسجستان.
وبمصر جبل يكتب بحجارته كما يكتب بالمداد، وجبل يؤخذ منه الحجر، فيترك في الزيت فيقد كما يقد السراج.
ويقال: إنه ليس على وجه الأرض نبت ولا حجر إلا وفي مصر مثله، وليس تطلب في سائر الدنيا الأموال المدفونة إلا بمصر.
ويقال: إن بمصر بقلة؛ من مسها بيده ثم مس السمك الرعاد لم ترعد يده، وبها حجر الخل يطفأ على الخل. وبها حجر القيء إذا أمسكه الإنسان بيديه تقيأ كل ما في بطنه، وبها خرزة تجعلها المرأة على حقوقها فلا تحبل. وبها حجر يوضع على حرف التنور فيتساقط خبزه، وكان يوجد بصعيدها حجارة رخوة تكسر فتقد كالمصابيح.
ومن عجائبها حوض كان بدلالات مدون من حجارة.
(1) انظر فتوح مصر.
(2)
الرحمن: 20.
(3)
الفرقان: 53.