الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في بحر الزنج
وهو بحر الهند بعينه
وبلاد الزنج منه في جانب الجنوب تحت سهيل وراكب هذا البحر يرى القطب الجنوبي ولا يرى القطب الشمالي ولا بنات نعش، وهو متصل بالبحر المحيط، موجه كالجبال الشواهق وينخفض كأخفض ما يكون من الأودية وليس له زبد مثل سائر البحار، وفيه جزائر كثيرة ذوات أشجار وغياض لكنها ليست بذوات ثمار، مثل شجر الآبنوس والصندل والساج، والعنبر يصاد ويلقط من ساحلها، وبها يوجد منه كل قطعة كالتل العظيم.
فمن جزائره المشهورة الجزيرة المحترقة: وهي جزيرة واغلة في هذا البحر قل أن يصل إليها أحد. قال بعض التجار: ركبت في هذا البحر فدارت بي الأوقات حتى نزلت في هذه الجزيرة فرأيت فيها خلقاُ كثيراً وأقمت بها زماناً وتأنست بأهلها وتعلمت لغتهم، فلما كان في بعض الأيام رأيت الناس مجتمعين ينظرون إلى كوكب طلع من أفقهم وهم يبكون ويلطمون ويتودعون، فسألت عن السبب فقالوا: إن هذا الكوكب يطلع بعد كل ثلاثين سنة مرة حتى إذا وصل إلى سمت رؤوسهم يركبون البحر ومعهم جميع ما يخافون عليه من المال والقماش والأمتعة فسامت الكوكب رؤوسهم فركبوا البحر وركبت معهم وصحبوا في المراكب جميع ما كان في الجزيرة مما يحمل وينقل، وسرنا وغبنا عن الجزيرة مدة ثم عدت معهم فوجدنا جميع ما كان بها من الأماكن والبنيان والأشجار وغيرها قد احترق وصار رماداً، فشرعوا في العمارة ثانياً ولا يزالون كذلك على الدوام، في كل ثلاثين سنة تحترق الجزيرة ويجددون بناءها.
ومن جزائره جزيرة الضوضاء: وهي مما يلي الزنج. حكى بعض التجار أن بها مدينة من حجر أبيض ولا ساكن بها، غير أنهم يسمعون بها جلبة وضوضاء يدخلها البحريون ويشربون من مائها ويحملون منه إلى المراكب، وهو ماء طيب عذب وفيه رائحة الكافور، وبقربها جبال عظيمة تتوقد منها نار عظيمة في الليل وحواليها حية
تظهر في كل سنة مرة واحدة فيحتال عليها ملوك الزنج ويصيدونها ويتخذون من جلدها فراشاً يجلس عليه صاحب السل فيبرأ.
جزيرة العور: وهي جزيرة كبيرة حكى يعقوب بن إسحق السراج قال: قال لي رجل من أهل رومية: ركبت في هذا البحر فألقتني الريح في هذه الجزيرة فوصلت إلى مدينة أهلها قاماتهم طولها ذراع وأكثرهم عور، فاجتمع علي منهم جمع وساقوني إلى ملكهم فأمر بحبسي في قفص، فكسرته فأمنوني وتركوا الاحتجاز علي. فلما كان في بعض الأيام رأيتهم قد استعدوا للقتال فسألتهم عن ذلك فقالوا لنا عدو يأتينا في كل سنة مرة ويحاربنا وهذا أوانه فلم ألبث إلا قليلاً حتى طلعت علينا عصابة من الطيور والغرانيق وكان ما بهم من العور من نقر الغرانيق فحملت الطيور عليهم وصاحت بهم، فلما رأيت ذلك شددت وسطي وأخذت عصاً وشددت عليهم وحملت فيهم وصحت فيهم صيحة منكرة ورميت منهم جماعة، فصاحوا وطاروا هاربين مني. فلما رأى أهل الجزيرة ذلك أكرموني وعظموني وأفادوني مالاً وسألوني الإقامة عندهم فلم أفعل، فحملوني في مركب وجهزوني.
وذكر أرسطاطاليس أن الغرانيق تنتقل من بلاد خراسان إلى بلاد مصر حيث مسيل النيل، فتقاتل أولئك العور في طريقهم، وهم قوم في طول ذراع.
جزيرة سكسار: وهي جزيرة عظيمة، وهم قوم لا عظام لأرجلهم وسوقهم. حكى المؤرخ ابن إسحق قال: لقيت رجلاً في وجهه خموش كثيرة فسألته عنها فقال: كنت في بحر الزنج مع جماعة فألقتنا الريح إلى جزيرة سكسار فلم نستطع أن نخرج منها لشدة الريح، فأتانا قوم وجوههم وجوه الكلاب وأبدانهم أبدان الناس، فسبق إلينا واحد منهم بعصاً كانت معه ووقف جماعة من ورائنا فساقونا إلى
منازلهم فرأينا فيها جماجم وقحوفاً وسوقاً وأذرعاً وأضلاعاً كثيرة فأدخلونا بيتاً فيه إنسان ضعيف وجعلوا يأتوننا بأكل كثير وطعام غزير وفواكه طيبة، فقال لنا ذلك الرجل الضعيف: إنما يطعمونكم لتسمنوا وكل من سمن أكلوه.
قال: فجعلت أقلل أكلي دون أصحابي وصار كلما سمن واحد ذهبوا به وأكلوه، حتى بقيت وحدي وذلك الرجل الضعيف، فقال لي الرجل يوماً: إن هؤلاء قد حضرهم عيد يخرجون إليه ويغيبون مدة ثلاثة أيام فإن استطعت أن تنجو بنفسك فانج منهم، وأما أنا فكما تراني لا أستطيع الحركة ولا اقدر على الهرب فانظر في تدبير نفسك. فقلت: جزاك الله الجنة. وخرجت فجعلت أسير ليلاً وأختفي نهاراً. فلما رجعوا من عيدهم فقدوني فتتبعوني حتى يئسوا فرجعوا.
فلما أيست منهم سرت في تلك الجزيرة ليلاً ونهاراً فانتهيت إلى أشجار بها ثمار وفواكه وتحتها رجال حسان الصورة إلا أنه ليس لسوقهم عظم، فقعدت لا أفهم كلامهم ولا يفهمون كلامي، فلم أشعر إلا وواحد منهم ركب على رقبتي وأكتافي وطوق برجليه علي وأنهضني، فذهبت به وجعلت أعالجه لأتخلص منه وأطرحه عني فلم أقدر، وجعل يخمش وجهي بأظفاره المحددة، فجعلت أدور به على الأشجار وهو يأكل من فواكهها وثمارها ويطعم أصحابه وهم يضحكون علي. فبينما أنا أطوف به بين الأشجار إذ دخلت في عينه شوكة من شجرة فانحلت رجلاه عني فرميته عن رقبتي وسرت فنجاني الله بكرمه. وهذه الخموش منه فلا رحم الله عظامه.
وأما عجائب هذا البحر فكثيرة:
منها المنشار: وهي سمكة عظيمة كالجبل العظيم، ومن رأسها إلى ذنبها كالمنشار من عظام سود مثل الأبنوس، كل سن منها أطول من ذراعين، وعند رأسها عظمان
طويلان طول كل واحد عشرة أذرع، تضرب بالعظمين يميناً وشمالاً في الماء فيسمع لها صوت عظيم، ويخرج الماء من فيها ومناخرها ويصعد نحو السماء رمية سهم، وينعكس على المركب كالسيل وهي بعيدة عن المركب. وإذا عبرت تحت المركب قطعتها نصفين، فإذا رآها أصحاب المركب يبكون ويضجون إلى الله تعالى بالدعاء ويتأللون ويتودعون ويصلون صلاة الموت خوفاً منها.
وسمكة البال: وهي سمكة طولها أربعمائة ذراع إلى خمسمائة ذراع، وستمائة. تظهر في بعض الأوقات طرف جناحها كالشراع العظيم، وتخرج رأسها من الماء وتنفخ فيصعد الماء كرمية سهم في العلو، فإذا أحس بها أهل المراكب ضربوا الطبول والصنوج وصاحوا حتى تذهب، وهي تحوش بذنبها وأجنحتها السمك إلى فمها فإذا زاد بغيها في البحر على دوابه أرسل الله عليها سمكة طول ذراع تسمى اللشك فتلتصق بأذنها فلا تجد البال منها خلاصاً فتطلب قعر البحر وتضرب برأسها الأرض حتى تموت، فتطفو على وجه الماء كالجبل العظيم فيجرونها بالكلاليب والحبال ويشقون بطنها فيخرج منها العنبر كالتل العظيم لأنها تأكله ويعرفه التجار بشوكته.