الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الغرب الأدنى: وهو الواحات وبرقة وصحراء الغرب والإسكندرية
فأما الواحات: فإن بها قوماً من السودان يسمون البربر، وهم في الأصل عرب مخضرمون وبها كثير من القرى والعمائر والمياه وهي أرض حارة جداً، وهي في ضفة الجبل الحائل بين أرض مصر والصحارى، وينتج بهذه الأرض وما اتصل بها من أرض السودان حمر وحشية منقوشة ببياض وسوداء بزي عجيب لا يمكن ركوبها، وإن خرجت عن أرضها ماتت في الحال. وكان في القديم يزرع بأرضها الزعفران كثيراً وكذلك البليلج والعصفر وقصب السكر، وبها حيات في رمال تضرب الجمل في خفة فلا ينقل حدوة حتى يطير وبره من ظهره وينهري.
شنترية: بها قوم من البربر وأخلاط العرب، وبها معدن الحديد والبريم، وبينها وبين الإسكندرية برية واسعة. يقولون: إن بها مدناً عظيمة مطلسمة من أعمال الحكماء والسحرة، ولا تظهر إلا صدفة.
فمنها ما حكي أن رجلاً أتى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، وعمر رضي الله عنه يومئذ عامل على مصر وأعمالها، فعرفه أنه رأى في صحراء الغرب
بالقرب من شنترية، وقد أوغل فيها في طلب جمل له ند منه، مدينة قد خرب الأكثر منها وأنه قد وجد فيها شجرة عظيمة بساق غليظ تثمر من جميع أنواع الفواكه، وأنه أكل منها كثيراً وتزود. فقال له رجل من القبط: هذه إحدى مدينتي هرمس الهرامسة وبها كنوز عظيمة. فوجه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مع ذلك الرجل جماعة من ثقاته واستوثقوا من الزاد والماء عن شهر، وطافوا تلك الصحارى مراراً فلم يقفوا على شيء من ذلك.
ويحكى: إن عاملاً من عمال العرب جار على قوم من الأعراب فهربوا من عنفه وجوره ودخلوا صحراء الغرب ومعهم من الزاد ما يكفيهم مدة، فسافروا يوماً أو بعض يوم فدخلوا جبلاً فوجدوا فيه عنزاً كثيرة وقد خرجت من بعض شعاب الجبل، فتبعوها فنفرت منهم فأخرجتهم إلى مساكن وأنهار وأشجار ومزارع وقوم مقيمين في تلك الناحية قد تناسلوا وهم في أرغد عيش وأنزه مكان، وهم يزرعون لأنفسهم ويأكلون ما يزرعون بلا خراج ولا مقاسمة ولا طلب. فسألوهم عن حالهم فأخبروهم أنهم لم يدخلوا إلى بلاد العرب ولا عرفوها. فرجع هؤلاء القوم
الذين هربوا من العامل إلى أولادهم وأهليم ودوابهم فساقوها ليلاً وخرجوا بهم يطلبون ذلك المكان، فأقاموا مدة طويلة يطوفون في ذلك الجبل فلم يقفوا لهم على أثر، ولا وجدوا لهؤلاء من خبر.
ويحكى أن موسى بن نصير لما قلد الغرب ووليها في زمان بني أمية، أخذ في السير على ألواح الأقصى بالنجوم والأنواء وكان عارفاً بها فأقام سبعة أيام يسير في رمال بين مهبي الغرب والجنوب، فظهرت له مدينة عظيمة لها حصن عظيم بأبواب من حديد، فرام أن يفتح باباً منها فلم يقدر وأعياه ذلك لغلبة الرمل عليها، فأصعد رجلاً إلى أعلاه فكان كل من صعد ونظر إلى المدينه صاح ورمى بنفسه إلى داخلها ولا يعلم ماذا يصيبه ولا ما يراه، فلم يجد له حيلة، فتركها ومضى.
وحكي أن رجلاً
من صعيد مصر أتاه رجل آخر وأعلمه أنه يعرف مدينة في أرض الواحات بها كنوز عظيمة. فتزودا وخرجا، فسافرا في الرمل ثلاثة أيام ثم أشرفا على مدينة عظيمة بها أنهار وأشجار وأثمار وأطيار ودور وقصور، وبها نهر محيط بغالبها وعلى ضفة النهر شجرة عظيمة، فأخذ الرجل الثاني من ورق الشجرة ولفها على رجليه وساقيه بخيوط كانت معه وفعل برفيقه كذلك، وخاضا النهر فلم يتعد الماء الورق ولم يجاوزه، فصعدا إلى المدينة فوجدا من الذهب وغيره ما لا يكيف ولا يوصف، فأخذا منه ما أطاقا حمله ورجعا بسلامة وتفرقا؛ فدخل الرجل الصعيدي إلى بعض ولاة الصعيد وعرفه بالقصة وأراه من عين الذهب، فوجه معه جماعة وزودهم زاداً يكفيهم مدة، فجعلوا يطوفون في تلك الصحارى ولا يجدون لذلك أثراً، وطال الأمر عليهم فسئموا ورجعوا بخيبة.
وأما أرض برقة فكانت في قديم الزمان مدناً عظيمة عامرة، وهي الآن خراب ليس بها إلا القليل من الناس والعمارة، وبها يزرع من الزعفران شيء كثير.
وأما الإسكندرية فهي آخر مدن الغرب، وهي على ضفة البحر الشامي وبها الآبار العجيبة والروم الهائلة التي تشهد لبانيها بالملك والقدرة والحكمة. وهي حصينة الأسوار عامرة الديار كثيرة الأشجار غزيرة الثمار؛ وبها الرمان والرطب والفاكهة والعنب، وهي من الكثرة في الغاية، ومن الرخص في النهاية. وبها يعمل من الثياب الفاخرة كل عجيب، ومن الأعمال الباهرة كل غريب، ليس في معمور
الأرض مثلها؛ ولا في أقصى الدنيا كشكلها، يحمل منها إلى سائر الأقاليم في الزمن الحادث والقديم، وهي مزدحم الرجال ومحط الرحال ومقصد التجار من سائر القفار والبحار، والنيل يدخل إليها من كل جانب، من تحت أقبية إلى معمورها، ويدور بها وينقسم في دورها بصنعة عجيبة وحكمة غريبة، يتصل بعضها ببعض أحسن اتصال لأن عمارتها تشبه رقعة الشطرنج في المثال. وإحدى عجائب الدنيا فيها وهي المنارة التي لم ير مثلها في الجهات والأقطار، وبين المنارة والنيل ميل واحد وارتفاعه مائة ذراع بالشاشي لا بالساعدي، جملته مائتا قامة إلى القبة. ويقال إنه كان في أعلاها مرآة ترى فيها المراكب من مسيرة شهرة، وكان بالمرآة أعمال وحركات لحرق المراكب في البحر، إذا كان عدواً، بقوة شعاعها. فأرسل صاحب الروم يخدع صاحب مصر ويقول: إن الإسكندر قد كنز بأعلى المنارة كنزاً عظيماً من الجواهر واليواقيت واللعب والأحجار التي لا قيمة لها خوفاً عليها، فإن صدقت فبادر إلى استخراجه، وإن شككت فأنا أرسل لك مركباً موسوقاً من ذهب وفضة وقماش وأمتعة، ولا يقوم، ومكني من استخراجه ولك من الكنز ما تشاء. فانخدع لذلك وظنه حقاً فهدم القبة فلم يجد شيئاً مما ذكر، وفسد طلسم المرآة؛ ونقل أن هذه المنارة كانت وسط المدينة؛ وأن المدينة كانت سبع قصبات متوالية وإنما أكلها البحر ولم يبق منها إلا قصبة واحدة وهي المدينة الآن، وصارت المنارة في البحر لغلبة الماء على قصبة المنارة. ويقال إن مساجدها حصرت في وقت من الأوقات فكانت عشرين ألف مسجد.
وذكر الطبري في تاريخه أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما افتتحها أرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: قد افتتحت لك مدينة فيها أثنا عشر ألف حانوت تبيع البقل.
وكان يوقد في أعلى هذه المنارة ليلاً ونهاراً
لاهتداء المراكب القاصدة إليها. ويقولون: إن الذي بنى المنارة هو الذي بنى الأهرام.
وبهذه المدينة المثلثان وهما حجران مربعان وأعلاهما ضيق حاد، طول كل واحد منها خمس قامات وعرض قواعدهما في الجهات الأربع كل جهة أربعون شبراً، عليها خط بالسرياني، حكي أنهما منحوتان من جبل برسم الذي هو غربي ديار مصر، والكتابة التي عليهما: أنا يعمر بن شداد، بنيت هذه المدينة حين لا هرم فاش، ولا موت ذريع، ولا شيب ظاهر، وإذا الحجارة كالطين وإذا الناس لا يعرفون لهم رباً، وأقمت أسطواناتها وفجرت أنهارها وغرست أشجارها، وأردت أن أعمل فيها شيئاً من الآثار المعجزة والعجائب الباهرة فأرسلت مولاي البتوت بن مرة العادي ومقدام بن عمرو بن أبي رغان الثمودي خليفة إلى جبل بريم الأحمر، فاقتطعا منه حجرين وحملاهما على أعناقهما فانكسرت ضلع من أضلاع البتوت، فوددت أن أهل مملكتي كانوا فداء له، وهما هذان. وأقامهما إلى القطن بن جارود المؤتفكي في يوم السعادة، وهذه المثلثة الواحدة في ركن البلد من الجهة الشرقية والمثلثة الأخرى ببعض المدينة.
ويقال إن المجلس الذي بجنوب المدينة المنسوب إلى سليمان بن داود عليهما السلام، بناه يعمر بن شداد المذكور، وأسطواناته وعضاداته باقية إلى الآن، وهو سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وهو مجلس مربع في كل رأس منه ست عشرة سارية، وفي الجانبين المتطاولين سبع وستون سارية، وفي الركن الشمالي أسطوانة عظيمة ورأسها عليها، وفي أسفلها قاعدة من الرخام مربعة، جرمها ثمانون شبراً،
وطولها من القاعدة إلى الرأس تسع قامات، ورأسها منقوش مخروم بأحكم صنعة، وهي مائلة من تقادم الدهور ميلاً كثيراً، لكنها ثابتة، وبها عمود يقال عمود القمر، عليه صورة طير يدور مع الشمس.
أرض مصر: وهي غربي جبل جالوت، وهو إقليم العجائب ومعدن الغرائب، وأهله كانوا أهل ملك عظيم وعز قديم، وكان به من العلماء عدة كثيرة وهم متفننون في سائر العلوم مع ذكاء مفرط في جبلتهم وكانت مصر خمساً وثمانين كورة، ومنها أسفل الأرض خمس وأربعون كورة وفوق الأرض أربعون كورة، ونهرها يشقها، والمدن على جانبيه وهو النهر المسمى بالنيل، العظيم البركات المبارك الغدوات والروحات، وهو أحسن الأقاليم منظراً وأوسعها خيراً وأكثرها قرى، وهو من حد أسوان إلى الاسكندرية.
وفي أرض مصر كنوز عظيمة، ويقال إن غالب أرضها ذهب مدفون، حتى قيل إنه ما فيها موضع إلا وهو مشغول بشيء من الدفائن. وبها الجبل المقطم وهو شرقيها، ممتد من مصر إلى أسوان في الجهة الشرقية، يعلو في مكان وينخفض في مكان. وتسمى تلك التقاطيع منه اليحاميم وهو سود، ويوجد فيها المغرة والكلس، وفيه ذهب عظيم، وذلك أن تربته إذا دبرت استخرج منها ذهب خالص، وفيه كنوز وهياكل وعجائب غريبة. ومما يلي البحر الجبل المنحوت المدور الذي لا يستطيع أحد أن يرقاه لملاسته وارتفاعه، وفيه كنوز عظيمة لمقطم الكاهن الذي نسب إليه
هذا الجبل، ولملوك مصر القديمة أيضاً من الذهب والفضة والأواني والآلات النفسية والتماثيل الهائلة والتبر والإكسير وتراب الصنعة ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
ومن مدنه المشهورة الفسطاط وهو فسطاط عمرو بن العاص، وهي مدينة عظيمة وبها جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان مكانه كنيسة للروم فهدمها عمرو بن العاص وبناها مسجداً جامعاً، وحضر بناءه جماعة من الصحابة. وشرقي الفسطاط خراب، وذكر أنها كانت مدينة عظيمة قديمة ذات أسواق وشوارع واسعة وقصور ودور وفنادق وحمامات، يقال إنها كان بها أربعمائة حمام
فخربها شاور، وهو وزير العاضد، خوفاً من الفرنج أن يملكوها.
وسمي الفسطاط فسطاطاً لأن عمرو بن العاص نصب فسطاطه أي خيمته هنا مدة إقامته، ولما أراد الرحيل وهدم الفسطاط أخبر أن حمامة باضت بأعلاه فأمر بترك الفسطاط على حاله لئلا يحصل التشويش للحمامة بهدم عشها وكسر بيضها، وأن لا يهدم حتى تفقس عن فراخها وتطيرهم، وقال: والله ما كنا لنسيء لمن لجأ بدارنا واطمأن إلى جانبنا.
وقبالة الفسطاط الجزيرة المعروفة بالروضة، وهي جزيرة يحيط بها بحر النيل من جميع جهاتها، وبها فرج ونزه ومقاصف وقصور ودور وبساتين، وتسمى هذه الجزيرة دار المقياس، وكانت في أيام بعض ملوك مصر، يجتاز إليها على جسر من السفن فيه ثلاثون سفينة وكان بها قلعة عظيمة فخربت، وبها المقياس يحيط به أبنية دائرة على عمد، وفي وسط الدار فسقية عميقة ينزل إليها بدرج من رخام دائرة وفي وسطها عمود رخام قائم وفيه رسوم أعداد الأذرع والأصابع يعبر إليه الماء من قناة عريضة. ووفاء النيل ثمانية عشر ذراعاً وهذا المبلغ لا يدع من ديار مصر شيئاً إلا رواه، وما زاد على ذلك ضرر ومحل لأنه يميت الشجر ويهدم البنيان. وبناء مصر كلها طبقات بعضها فوق بعض يكون خمساً وستاً وسبعاً، وربما سكن في الدار الواحدة الجامعة مائة من الناس ولكل منهم منافع ومرافق مما يحتاج إليه. وأخبر الجواليقي أنه كان بمصر على أيامه دار تعرف بدار ابن عبد العزيز بالموقف، يصب لمن فيها من السكان في كل يوم أربعمائة راوية وفيها خمسة مساجد وحمامات وفرنان.
القاهرة المعزية: حرسها الله تعالى وثبت قواعد أركان دولة سلطانها وجعلها دار إسلام إلى يوم القيامة آمين. وهي مدينة عظيمة أجمع المسافرون غرباً وشرقاً وبراً وبحراً على أنه لم يكن في المعمورة أحسن منها منظراً ولا أكثر ناساً ولا أصح هواء ولا أعذب ماء ولا أوسع فناء، وإليها يجلب من أقطار الأرض وسائر الأقاليم من كل شيء غريب، ونساؤها في غاية الحسن والظرف، وملكها عظيم ذو هيبة وصيت
كثير الجيوش حسن الرأي لا يماثله ملك في زيه وترتيبه، تعظمه ملوك الأرض وتخشى بأسه وترغب في مودته وتترضاه وهو سلطان الحرمين الزاهرين والحاكم على البحرين الزاخرين؛ وهي مدينة يعبر عنها بالدنيا، وناهيك من إقليم يحكم سلطانه على مواطن العبادة في الأرض المشرفة والمدينة الشريفة وبيت المقدس؛ ومواطن الأنبياء ومستقر الأولياء وأهل هذه المدينة في غاية الرفاهية والعيشة الهنية والهيئة البهية، وقد ورد في الخبر: مصر كنانة الله ما رماها أحد بسوء إلا أخرج من كنانته سهماً فرماه به وأهلكه.
عين شمس وهي شرق القاهرة، وكانت في القديم دار مملكة لهذا الإقليم، وبها من الأعمال والأعلام الهائلة والآثار العظيمة، وبها البستان الذي لا ينبت
شيء من الأرض إلا وهو فيه، وهو بستان طوله ميل في ميل، والسر في بئره لأن المسيح عليه السلام اغتسل فيه.
وغربيها مدينة قليوب وهي مدينة عظيمة يقولون إنه كان بها ألف وسبعمائة بستان، ولكن لم يبق إلا القليل. وبها من أنواع الفاكهة شيء كثير في غاية الرخص، وبها السردوس الذي هو أحد نزه الدنيا، يسار فيه يومان بين بساتين مشتبكة وأشجار ملتفة وفواكه فاخرة ورياض ناضرة، وهي حفير هامان وزير فرعون. يقال إنه لما حفرها جعل أهل البلاد يخرجون إليه ويسألونه أن يجريها إليهم ويجعلون له على ذلك ما شاء من المال، ففعل وحصل من أهل البلاد مائة ألف
ألف دينار فحملها إلى فرعون؛ فسأله من أين هذا المال الكثير؛ فأخبره أن أهل البلاد سألوا منه اجراء الماء إلى بلادهم وجعلوا هذا المال مقابلة لذلك فقال فرعون: بئس ما صنعت من أخذ هذه الأموال، أما علمت أن السيد المالك ينبغي له أن يعطف على عبيده ولا يأخذ منهم على إيصال منفعة أجراً ولا ينظر إلى ما بأيديهم؟ اردد المال إلى أربابه ولا تأت بمثلها.
الجيزة: وهي مدينة عظيمة على ضفة النهر الغربية ذات قرى ومزارع، وبها خصب كثير وخير واسع، وبها القناطر التي لم يعمل مثلها وهي أربعون قوساً على سطر واحد، وبها الأهرام التي هي من عجائب الدنيا لم يبن على وجه الأرض مثلها في إحكامها وإتقانها وعلوها، وذلك أنها مبنية بالصخور العظام وكانوا حين بنوها يثقبون الصخر من طرفيه ويجعلون فيه قضيباً من حديد قائم ويثقبون الحجر الآخر وينزلونه فيه ويذيبون الرصاص ويجعلونه في القضيب بصنعة هندسية حتى كمل بناؤها، وهي ثلاثة أهرامات، ارتفاع كل هرم منها في الهواء مائة ذراع بالملكي، وهو خمسمائة ذراع بالذراع المعهود بيننا، وضلع كل هرم من جهاته ذراع بالملكي.
وهي مهندسة من كل جانب محددة الأعالي من أواخر طولها على ثلثمائة ذراع. يقولون إن داخل الهرم الغربي ثلاثين مخزناً من حجارة صوان ملونة مملوءة بالجواهر النفيسة والأموال الجمة والتماثيل الغريبة والآلات والأسلحة الفاخرة التي قد دهنت بدهان الحكمة فلا تصدأ أبداً إلى يوم القيامة. وفيه الزجاج الذي ينطوي ولا ينكسر، وأصناف العقاقير المركبة والمفردة والمياه المدبرة. وفي الهرم الشرقي الهيئات الفلكية والكواكب، منقوش فيها ما كان وما يكون في الدهور والأزمان إلى آخر الدهر. وفي الهرم الثالث أخبار الكهنة في توابيت صوان مع كل كاهن لوح من ألواح الحكمة وفيه من عجائب صناعاته وأعماله. وفي الحيطان من كل جانب أشخاص كالأصنام تعمل بأيدها جميع الصناعات على المراتب. ولكل هرم منها خازن. وكان المأمون لما دخل الديار المصرية أراد هدمها فلم يقدر على ذلك فاجتهد وأنفق أموالاً عظيمة حتى فتح في أحدها طاقة صغيرة، يقال إنه وجد خلف الطاقة من الأموال قدر الذي أنفقه لا يزيد ولا ينقص، فتعجب من ذلك وقال:
انظر إلى الهرمين واسمع منهما
…
ما يرويان عن الزمان الغابر
لو ينطقان لخبّرانا بالذي
…
فعل الزمان بأوّلٍ وبآخر
وقال غيره:
خليلي ما تحت السماء بنيّةٌ
…
تناسب في إتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه
…
وكل على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
وقال آخر:
أين الذي الهرمان من بنيانه
…
ما قومه، ما يومه، ما المصرع؟
تتخلّف الآثار عن أصحابها
…
حيناً ويدركها الفناء فتصرع
الفيوم: وهي مدينة عظيمة بناها يوسف الصديق عليه السلام، ولها نهر يشقها. ونهرها من عجائب الدنيا، وذلك أنه متصل بالنيل وينقطع منه في أيام الشتاء وهو يجري على العادة. ولهذه المدينة ثلثمائة وستون قرية عامرة آهلة، كلها مزارع وغلال. ويقال إن الماء في هذا الوقت أخذ أكثرها. وكان يوسف عليه السلام قد جعلها على عدد أيام السنة فإذا أجدبت الديار المصرية كانت كل قرية تقوم بأهل مصر يوماً، وبأرض الفيوم بساتين وأشجار وفواكه كثيرة رخيصة وأسماك
زائدة الوصف، وبها من قصب السكر شيء كثير، ويقال إنه كان على الفيوم وإقليمها كلها سور واحد.
سخا: مدينة حسنة، ولها إقليم واسع، بجامعها حجر أسود عليه طلسم بقلم الطير، إذا أخرج ذلك الحجر من الجامع دخله العصافير، وإذا دخل إليه خرجت العصافير.
وأما أنصنا والأشمونان وأبو صير: فمدن أزلية وبها آثار عجيبة وأعلام هائلة. ويقال إن سحرة فرعون كانوا من مدينة أبي صير، وبها الآن بقية منهم.
وأما أسيوط وأخميم ودندرا: فمدن أزلية بها آثار عجيبة وأعلام هائلة.
وزماخر: وهي مدينة حسنة كثيرة الفواكه يقرب منها جبل الطليمون وهو يأتي من جهة المغرب فيعترض مجرى نهر النيل، والماء ينصب إليه بقوة حتى يمنع المراكب فلا يقدرون على الجواز عليه إلى أسوان. ذكروا أن كرهية الساحرة كانت ساكنة بأعلى هذا الجبل في قصر عظيم، وكانت تتكلم على المراكب المقلعة في البحر فتقف.
وأسوان: وهي آخر الصعيد الأعلى، وهي مدينة صغيرة عامرة كثيرة اللحوم والأسماك والغزلان. وليس يتصل بأسوان من جهة المشرق بلد للإسلام إلا جبل العلاقي، وهو جبل في واد جاف لا ماء به لكن يحفر عليه فيوجد الماء قريباً فيسمى معيناً، وبه معدن الذهب والفضة وعلى جنوبه من النيل جبل في أسفله معدن الزمرد في برية منقطعة عن العمارة ليس في الأرض كلها معدن للزمرد سواه. ويتصل بأسوان من جهة المغرب أرض الواحات، وبديار مصر معدن الملح والنطرون، وهما من عجائب الدنيا.
وأما رمال الضليم: فإنها آية من آيات الله عز وجل، فإنه يؤخذ العظم فيدفن في ذلك الرمل سبعة أيام فيعود حجراً صلداً. وكان على أسوان وأرضها سور محيط من جانبيها فتهدم ويقال له حائط العجوز الساحرة.
أرض القلزم: وهي بين مصر والشام وهو بحر في ذاته، وفيه جبال فوق الماء، وفيه قروش وحيوانات مضرة ظاهرة ومخفية. وكانت القلزم مدينتين عظيمتين فتهدمتا من تسلط العرب على أهلهما وشربهما من عين سدير وهي وسط الرمل، وماؤه زعاق، وبين القلزم وهو منتهى بحر فارس الآخذ من المحيط الشرقي من الصين وبين البحر الشامي مسافة أربع مراحل يسمى بحصين التيه، وهو تيه بني
إسرائيل، وهي أرض واسعة ليس بها وهدة ولا رابية ولا قلعة، ومسافتها خمسة أيام في خمسة.
ومن مدنه المشهورة عقبة أيلة وهي قرية مشهورة على جبل عال صعب المرتقى، يكون ارتفاعه والانحدار منه يوماً كاملاً. وهي طريق لا يمكن أن يجوز فيها إلا واحد واحد، على جانبها أودية بعيدة المهوى.
والحوزى: وهي قرية صغيرة بها معدن البرام، ويحمل منها إلى سائر أقطار الأرض. وشربهم من آبار عذبة. وهي على ساحل بحر القلزم.
مدينة مدين: وهي خراب، وبها البئر التي استسقى منها موسى لغنم شعيب عليهما السلام، وهي الآن معطلة.
أرض البادية: هي ما بين أرض الشام والحجاز وتسمى أرض الحجر.
أرض الشام: وهو إقليم عظيم كثير الخيرات جسيم البركات ذو بساتين وجنات وغياض وروضات وفرج ومنتزهات وفواكه مختلفة رخيصة. وبها اللحوم كثيرة، إلا أنها كثيرة الأمطار والثلوج. وهو يشتمل على ثلاثين قلعة وليس فيها أمنع من قلعة الكرك. وإقليم الشام يشتمل على مثل كورة فلسطين وكورة عمدان بينيا، وكورة يافا، وكورة قيسارية، وكورة طرابلس، وكورة سبيطة، وكورة عسقلان، وكورة حطين، وكورة غزة، وكورة بيت جبريل، وفي جنوبه فحصى التيه وكورة الشويك، وكورة الأردن وكورة لبنان، وكورة بيروت وكورة صيدا، وكورة التبينة،
وكورة السامرة، وكورة عانة، وكورة ناصرة وكورة صور.
وأرض دمشق: من كورها كورة الغوطة وكورة البقاع وكورة بعلبك، وكورة جولان، وكورة ظاهر، وكورة الحولة، وكورة طرابلس، وكورة البلقاء، وكورة جبريل الغور، وكورة كفر طاب، وكورة عمان، وكورة السراة.
ومن مدن الشام الشهيرة دمشق المحروسة وهي أجمل بلاد الشام مكاناً وأحسنها بنياناً وأعدلها هواء وأغزرها ماء. وهي دار مملكة الشام ولها الغوطة التي لم يكن على وجه الأرض مثلها، بها أنهار جارية مخترقة وعيون سارحة متدفقة وأشجار باسقة وثمار يانعة وفواكه مختلفة وقصور شاهقة. ولها ضياع كالمدن.
وبدمشق الجامع المعروف ببني أمية الذي لم يكن على وجه الأرض مثله، بناه الوليد بن عبد الملك وأنفق عليه أموالاً عظيمة، قيل: إن جملة ما أنفق عليه أربعمائة صندوق من ذهب، وكل صندوق أربعة عشر ألف دينار. واجتمع في ترخيمه اثنا عشر ألف مرخم. وقد بني بأنواع الفصوص المحكمة والمرمر المصقول والجزع المكحول. ويقال إن العمودين اللذين تحت قبة النسر اشتراهما الوليد بألف وخمسمائة دينار، وهما عمودان مجزعان بحمرة لم ير مثلهما. ويقال إن غالب رخام الجامع كان معجوناً، ولهذا إذا وضع على النار ذاب. وفي وسط المحيط الفاصل بين الحرم والصحن عمودان صغيران يقال إنهما كانا في عرش بلقيس. ومنارة الجامع الشرقية يقال: إن المسيح ينزل عليها، وعندها حجر يقال إنه قطعة من الحجر الذي ضربه موسى بعصاه فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً. قال بعض السلف الصالح: مكثت أربعين سنة ما فاتتني صلاة من الخمس بهذا الجامع وما دخلته قط إلا وقعت عيني على شيء لم أكن رأيته قبل ذلك من صناعة ونقش وحكمة.
ومن باب دمشق الغربي وادي البنفسج، طوله اثنا عشر ميلاً في عرض ثلاثة أميال، مفروش بأجناس الثمار البديعة المنظر والمخبر، ويشقه خمسة أنهار. ومياه الغوطة كلها تخرج من نهر الزبداني وعين الفيجة، وهي عين تخرج من أعلى جبل وتنصب إلى أسفل بصوت هائل ودوي عظيم، فإذا قرب إلى المدينة تفرق أنهاراً وهي بردى ويزيد وتورة وقناة المزة وقنوات الصوف وقنوات بانياس وعقربا. واستعمال هذا النهر للشرب قليل لأن عليه مصب أوساخ المدينة. وهذا النهر يشق المدينة وعليه قنطرة. وكل هذه الأنهار يخرج منها سواق تخترق المدينة فتجري في شوارعها وأسواقها وأزقتها وحماماتها ودورها وتخرج إلى بساتينها.
والشام خمس شامات هكذا قرر في كتاب العقد الفريد: فالشام الأولى: غزة والرملة وفلسطين وعسقلان وبيت المقدس، ومدينتها الكبرى فلسطين. والشام الثانية: الأردن وطبرية والغور واليرموك وبيسان، ومدينتها الكبرى طبرية. والشام الثالثة الغوطة: ودمشق، وسواحلها. ومدينتها الكبرى دمشق. والرابعة: حمص وحماة وكفر طاب وقنسرين وحلب. والخامسة: أنطاكية والعواصم والمصيصة وطرسوس.
فأما فلسطين فهي أول أجواز الشام من الغرب، وماؤها من الأمطار والسيول وأشجارها قليلة لكنها حسنة البقاع. وهي من رفح إلى اللجون طولاً ومن
يافا إلى زعر عرضاً، وهي مدينة قوم لوط، والبحيرة التي بها يقال لها البحيرة المنتنة. ومنها إلى بيسان وطبرية يسمى الغور لأنها بقعة بين جبلين وسائر مياه الشام تنحدر إليها.
نابلس: هي مدينة السامرية؛ وبها البئر التي حفرها يعقوب عليه السلام، وجلس عليه السلام يطلب من المرأة ماء للشرب. وعلى ذلك المكان كنيسة معهودة.
عسقلان: هي مدينة حسنة، ولها سوران، وهي ذات بساتين وثمار وبها من الزيتون والكروم واللوز والرمان شيء كثير. وهي في غاية الخصب.
بيت المقدس: ويسمى إيلياء وهي حسنة ولها سوران عظيمان بين جبلين. وفي طرفها الغربي باب المحراب وعليه قبة داود عليه السلام. وفي طرفها الشرقي باب
الرحمة، وكان يقفل فلا يفتح من عيد الزيتون إلى عيد الزيتون. ومن الباب الغربي يسار إلى الكنيسة العظمى المسماة بكنيسة القيامة وهي المعروفة بكنيسة قمامة، وتحج إليها الروم من سائر الأقطار. ويقابلها من المشرق كنيسة الحبس الذي فيه المسيح عيسى عليه السلام. وبها مقابر الفرنج وشرقيه المسجد المعظم المسمى بالأقصى، وليس في الدنيا كلها مسجد على قدره إلا جامع قرطبة من بلاد الأندلس. وطول المسجد الأقصى مائتا باع في عرض مائة وثمانين. وفي وسطه قبة عظيمة تسمى قبة الصخرة. ويقال إن سقف جامع قرطبة أكبر من سقف الأقصى وصحن الأقصى أكبر من صحن جامع قرطبة. وبالقرب من باب الأسباط كنيسة حسنة كبيرة
وفيها قبر مريم أم عيسى عليهما السلام وتعرف بالجسمانية. وهناك جبل يقال له جبل الزيتون، وبهذا الجبل قبر العاذر الذي أحياه الله للمسيح عليه السلام. وعلى الميامن من جبل الزيتون قرية منها جلب حمار المسيح. وقريب من قبر عاذر مدينة أريحاء وعلى الأردن كنيسة عظيمة على اسم يوحنا المعمدان. والأردن نهر يخرج من بحيرة طبرية ويحط في بحيرة سدوم وعامودا مدائن لوط. وبجنوب بيت المقدس كنيسة صهيون وهي التي فيها قلاية يقال إن المسيح أكل فيها مع حوارييه من المائدة لما أنزلت عليه؛ ويقال إن المائدة باقية فيها. وهي كنيسة حصينة وفيها على طرف الخندق كنيسة بطروس، وبهذا الخندق عين سلوان وهي التي أبرأ فيها المسيح الضرير الأعمى، ويقرب منها الحقل وهو مقابر الغرباء، وبها بيوت كثيرة منقورة في الصخر، وفيها رجال مقيمون قد حبسوا أنفسهم لله تعالى فيها.
وأما بيت لحم: فهي كنيسة حسنة البناء متقنة الصنعة، وهو الموضع الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، وبينه وبين بيت المقدس ستة أميال، وفي وسط الطريق
قبر راحيل أم يوسف الصديق عليه السلام. ويقرب من ذلك مسجد الخليل عليه السلام، وهو قرية ممتدة بها قبر الخليل إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام. وكل صاحب قبر من قبورهم تجاهه امرأته، وهو في وهدة بين جبلين، ملتفة الأشجار كثيرة الثمار.
طبرية: هي مدينة جليلة على جبل مطل، وأسفلها بحيرة عذبة، وبها مراكب سابحة ولها سور حصين ويعمل بها من الحصر السامان كل حسن بديع وبها
حمامات حامية من غير نار وبها حمام يعرف بحمام الدماقر كبير وأول ما يخرج ماؤه يسمط الحدأة والدجاج ويسلق البيض، وهو مالح، وبها اللؤلؤ، وهو أصغر حماماتها وليس فيها حمام يوقد فيه نار إلا الصغير. وفي جنوبها حمام كبير مثل عين يصب إليها مياه حارة من عيون كثيرة، وإنما يقصده أهل البلاد ويقيمون به ثلاثة أيام فيبرؤون.
وأما حمص: فهي مدينة حسنة في مستوى من الأرض حصينة، مقصودة من سائر النواحي، وأهلها في خصب ورغد عيش، وفي نسائها جمال فائق. وكانت في قديم الزمان من أكبر البلاد. ويقال إنها مطلسمة لا يدخلها حية ولا عقرب، ومتى وصلت إلى باب المدينة هلكت. ويحمل من تراب حمص إلى سائر البلاد فيوضع على لسعة العقرب فتبرأ. وبها القبة العالية التي في وسطها صنم من نحاس على صورة انسان راكب على فرس تدور مع الريح كيفما دارت. وفي حائط القبة حجر فيه صورة عقرب، يأتي إليه الملدوغ والملسوع ومعه طين فيطبعه على تلك الصورة ويضعه على اللدغة أو اللسعة فتبرأ لوقتها. وجميع شوارعها وأزقتها مفروشة بالحجر الصلد؛ وبها جامع كبير. وأهلها موصوفون بالرقاعة وخفة
العقل.
وأما بعلبك: فهي مدينة حسنة حصينة على رأس جبل مسفح، والماء يشقها ويدخل كثيراً في دورها. وعلى نهرها أرحية كثيرة وبها أنواع الفاكهة ووجوه الخصب والرخاء، وفيها قلعة من ثلاثة أحجار، وهي أعجوبة الزمان.
وأما حلب: فهي المدينة الشهباء. كانت في قديم الزمان من أوسع البلاد قطراً. قيل أوحى الله عز وجل إلى خليله إبراهيم عليه السلام أن يهاجر بأهله إلى الشونة البيضاء فلم يعرفها، فسأل الله تعالى في ارشاده إليها، فجاءه جبريل عليه
السلام حتى أنزله بالتل الأبيض الذي عليه الآن قلعة حلب المحروسة، حماها الله من الغير والآفات، فاستوطنها وطابت له مدة، ثم أُمر بالمهاجرة إلى الأرض المقدسة فخرج منها، فلما بعد عنها ميلاً صلى هناك. والآن يعرف المكان بمقام الخليل قبلي حلب؛ فلما أراد الرحيل التفت إلى مكان استيطانه كالحزين الباكي لفراقها؛ ثم رفع يديه وقال: اللهم طيب ثراها وهواءها وماءها وحببها لأبنائها. فاستجاب الله دعاءه فيها وصار كل من أقام في بقعة حلب ولو مدة يسيرة أحبها، وإذا فارقها يعز ذلك عليه، وربما إذا فارقها التفت إليها وبكى. وهذا نقله الصاحب كمال الدين بن العديم في تاريخه المسمى بتاريخ حلب.
ولهذه المدينة أعني حلب نهر يأتيها من الشمال يقال له قويق فيخترق أرضها؛ وبها قناة مباركة تخترق شوارعها ودورها وحماماتها وسبلانها، وماؤها عذب فرات. ولها قلعة حصينة راسخة يقال إن في أساسها ثمانية آلاف عمود، وهي ظاهرة الرؤوس بسفحها. ولها قرية تسمى براق يقال إن بها معبداً يقصده أرباب الأمراض وينامون به؛ فإما أن يبصر المريض في نومه من يمسح بيده عليه فيبرأ، وإما أن يقال له استعمل كذا وكذا، فإذا أصبح واستعمله فإنه يبرأ.
وأما حماة: فهي مدينة قديمة على عهد سليمان بن داود عليهما السلام، واسمها باليونانية حاموثا؛ ولما فتحها أبو عبيدة رضي الله عنه جعل كنيستها جامعاً وهو جامع السوق الأعلى، وجدد في خلافة المهدي، وكان فيه لوح من الرخام مكتوب فيه أنه جدد من خارج حمص، وكانت حماة وشيزر من أعمال حلب، وكانت حمص في القديم كرسي هذه البلاد.
وأما بلاد الأرمن: فإقليمها عظيم واسع ممتنع القلاع والحصون، كثير الخصب والخير والفواكه الحسنة اللون والطعم، يقال إن بإقليمها ثلثمائة وستين قلعة، منها ست وعشرون قلعة لا تكاد أن ترام لشدة امتناعها، لا يصل أحد إلى واحدة منها لا بقوة ولا بحيلة البتة. ومن مدنها المشهورة أرمينية وهي أرمينيتان: الداخلة والخارجة، وهي مدينة عظيمة بها بحيرة تعرف ببحيرة كندوان، بها تراب تتخذ منه البوادق التي يسبك فيها.
وخلاط: وهي مدينة حسنة. وكانت في القديم قاعدة بلاد الأرمن فلما تغلبت الأرمن على الثغور انتقلوا إلى سيس. وبها يعمل من التكك البديعة الحسنة
الغالية الثمن كل غريب. وبقرب خلاط حفائر يستخرج منها الزرنيخ الأحمر والأصفر.
مليطية: مدينة عظيمة كثيرة الخير والأرزاق، ليس في بلاد تلك المملكة أحسن منها. وأهلها ذوو ثروة ورفاهية عيش. ذكر أنه كان بها اثنا عشر ألف نول تعمل الصوف، ولكن قد تلاشى أمرها.
ميافارقين: مدينة عظيمة، وهي من حدود الجزيرة وحدود أرمينية.
نصيبين: مدينة حسنة في مستوى من الأرض، وماؤها يشق دورها وقصورها. وإليها ينسب الورد النصيبي، وبها عقارب قتالة. وبأرض الأرمن النهران الكبيران المشهوران، وهما نهر الرأس ونهر الكرج المعروف بالكر، ومسيرهما من المغرب إلى المشرق، وعليهما مدن كثيرة وقرى متصلة من الجانبين. وبأرض الأرمن بركة فيها سمك كثير وطير عظيم، وماؤها غزير عميق، ويقيم بها الماء سبع سنين متوالية، وينشف منها سبع سنين أيضاً ثم يعود الماء. وهذا دأبه أبداً، وبها جبل يسمى غرغور، وفيه كهف وفي الكهف بئر بعيدة القعر إذا رمي فيها حجر يسمع لها دوي كدوي الرعد ثم يسكن ولا يعلم ما هو. وفي هذا الجبل معدن الحديد المسموم، متى جرح به حيوان مات في الحال.
أرض الجزيرة: وهي جزيرة ابن عمرو، وتشتمل على ديار ربيعة ومضر، وتسمى ديار بكر، وهي ما بين دجلة والفرات وكلها تسمى بالجزيرة، وبها مدن وقرى عامرة. وأكثر أهلها نصارى وخوارج. ومن مدنها المشهورة الموصل وهي قاعدة بلاد الجزيرة، وهي مدينة كبيرة صحية الهواء طيبة الثرى، ولها نهر حسن عميق في عمق ستين ذراعاً. وبساتينها قليلة إلا أن لها ضياعاً ومزارع ورساتيق ممتدة، وكورها كثيرة وهي المدينة التي بعث إليها يونس عليه السلام وهي غربي دجلة.
الرها: مدينة عظيمة قديمة واسعة الأقطار، وكانت عامرة الدير، وتتصل بأرض حران. والغالب على أهلها دين النصرانية، وبها من الكنائس ما يزيد على مائتي كنيسة ودير، ولم يكن للنصارى أعظم منها. وكان بكنيستها العظمى منديل المسيح الذي مسح به وجهه فأثرت فيه صورته فأرسل ملك الروم إلى الخليفة رسولاً وطلبه منه وبذل فيه أسارى كثيرة فأخذه وأطلق الأسارى.
مدينة الخضر: وهي الآن خراب. وكانت مدينة عظيمة في قديم الزمان وكان اسم صاحبها الساطرون، فحاصرها سابور بن أردشير بن بابك أربع سنين فلم يقدر عليها، وكانت مركبة على قناطر يدخل الماء من تحتها، وكان لساطرون ابنة جميلة في غاية الجمال بحيث إذا نظرها أحد حصل في عقله خبل وخلل، وكان اسمها نضيرة. وكانت عادة الروم إذا حاضت المرأة عندهم أنزلوها إلى ربض المدينة، فحاضت ابنة الساطرون فأنزلوها إلى الربض وسابور المذكور محاصر المدينة وهو راكب في جيشه دائر من خارج المدينة فرأت نضيرة بنة الساطرون سابور وهو في غاية الحسن فأحبته لأول نظرة، فأرسلت إليه تقول: إن أنا أخذت لك المدينة وأرحتك من العناء أتتزوج بي؟ فقال سابور: نعم، قالت: فخذ حمامة زرقاء فاخضب رجليها بحيض جارية زرقاء بكر وأطلقها، فإنها تطير وتحط على السور فيسقط في الحال وتأخذ المدينة. ففعل سابور ذلك الأمر كما قالت نضيرة. فدخل المدينة وأخذها وهدم ما بقي من سورها وقتل الساطرون وسبى وغنم وتزوج نضيرة، فنامت عنده ليلة وهي تميل طول الليل إلى الصباح، فنظر سابور فإذا في الفراش ورقة آس فقال لها: كل هذا التميل من هذه الورقة؟ قالت نعم. قال: فما كان أبوك يطعمك؟ قالت كان يطعمني مخ العظم وشهد أبكار النحل والزبد ويسقيني الخمر المصفى أربعين مرة فقال: أهذا كان جزاؤه منك، ثم أمر بها فربطت بين فرسين جموحين، فضرباها حتى تمزقت أعضاؤها.
وأما جزيرة العرب: فهي ما بين نجران والعذيب.
أرض عراق العرب: وهي أرض طيبة ممتدة ذات أقاليم وقرى، وطولها من تكريت إلى عبادان، وعرضها من القادسية إلى حلوان. ومن مدنها المشهورة بغداد وهي مدينة عظيمة قاعدة أرض العراق، بناها المنصور في الجانب الغربي على الدجلة، وأنفق عليها أموالاً عظيمة، يقال إنه أنفق عليها أربعة آلاف دينار، ونقل أبواب واسط وركبها عليها وجعلها مدورة حتى لا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، وبنى بها قصراً عظيماً بوسطها يقال إن دوره اثنا عشر ألف قصبة، والجامع في القصر، وقصر المهدي يقابل قصر المنصور في الضفة الأخرى وهما مدينتان يسقيهما نهر الدجلة وبينهما جسر من السفن، وبساتينها في الجانب الآخر الشرقي تسقى بماء النهروان وماء سامر، وهما نهران عظيمان. وأما نهر عيسى فتجري فيه السفن من بغداد إلى الفرات. وأما نهر السراة فلا تركبه سفينة أصلاً لكثرة الأرحية التي عليه.
وكانت بغداد في أيام البرامكة مدينة عظيمة يقال إن حماماتها حصرت في وقت من الأوقات فكانت ستين ألفاً. وكان بها من العلماء والوزراء والفضلاء والرؤساء والسادات ما لا يوصف. قال الطبري في تاريخه: أقل صفة بغداد أنه كان فيها ستون ألف حمام، كل حمام يحتاج على الأقل إلى ستة نفر، سواق ووقاد وزبال وقائم ومدولب وحارس، كل واحد من هؤلاء في مثل ليلة العيد يحتاج إلى رطل صابون لنفسه ولأهله وأولاده، فهذه ثلثمائة ألف رطل وستون ألف رطل صابوناً برسم فعلة الحمامات لا غير، فما ظنك بسائر الناس وما يحتاجون إليه من الأصناف في كل يوم؟
المدائن: وهي مدينة قديمة جاهلية وبها آبار هائلة وبها إيوان كسرى المضروب به المثل في العظم والشماخة والارتفاع والإتقان، واقليمها يعرف بأرض بابل. وكان المنصور لما قصد أن يبني بغداد استشار خالد بن برمك في نقض الإيوان ونقله من المدائن إلى بغداد، فقال له خالد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فقال له المنصور ملت إلى بقاء آثار أخوالك الفرس، لا بد من هدمه. وأمر المنصور بنقض القصر الأبيض، وهو شيء يسير من جانب الإيوان. فنقضت ناحية من القصر الأبيض فكان ما غرموا على نقضه أكثر من قيمة المنقوض فأزعج ذلك المنصور فقال لخالد: قد عزمت على ترك النقض، فقال له خالد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فغضب المنصور وقال: أما والله إن أحد رأييك غش. فقال خالد بلى والله كلاهما نصح، فقال: صحح ما قلت، فقال: أما قولي في الأول: لا تنقض، حتى إن كل جيل يأتي في الدهر ويرى الإيوان ويستعظم أمره وأمر بانيه ثم يقول إن أمةً وملوكاً أزالت ملك الفرس وأخذت بلادها وأبادتها لأُمة عظيمة ولملوك عظيمة، فذلك من تعظيم الملة الإسلامية، وأما قولي الآخر: لا تفعل، يعني لا تترك النقض حتى إن من يأتي من الأجيال والخلق ويرى بعض النقض، والنقض أسهل من البنيان، فيقول إن أمة بنت
هذا البنيان فأعجز نقضه من أتى بعدهم لأمة عظيمة فذلك تعظيم للفرس واستهانة بالملة الإسلامية. فلم يلتفت إلى مقاله وترك النقض.
والنيل: وهي مدينة حسنة وهي على الفرات العظمى، بين بغداد والكوفة وأصل تسميتها بالنيل أن الحجاج بن يوسف حفر نهراً من الفرات وسماه النيل باسم نيل مصر، وأجراه إليها وعليه مدن عظيمة وقرى ومزارع.
ونينوى: وهي مدينة أزلية قبالة الموصل وبينهما دجلة. ويقال إنها المدينة التي بعث إليها يونس بن متي عليه السلام.
الكوفة: مدينة علوية بناها علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهي كبيرة حسنة على شاطئ الفرات، لها بناء حصين وحصن حصين، ولها نخل كثيرة وثمره طيب جداً. وهي كهيئة بناء البصرة وعلى ستة أميال منها. وفيها قبة عظيمة
يقال إن بها قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما استدار بتلك القبة مدفن آل علي، والقبة بناء أبي العباس عبد الله بن حمدان في دولة بني العباس.
البصرة: وهي مدينة عمرية بناها المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي مدينة حسنة رحبة. حكى أحمد بن يعقوب أنه كان بالبصرة سبعة آلاف مسجد. وحكى بعض التجار أنه اشترى التمر فيها خمسمائة رطل بدينار، وهو عشرة دراهم. وغربي البصرة البادية وشرقيها مياه الأنهار وهي تزيد على عشرة آلاف نهر تجري فيها السامريات، ولكل منها اسم ينسب إلى صاحبه الذي حفره، وإلى الناحية التي يصل إليها، وبها نهر يعرف بنهر الأيكة وهو أحد نزهات الدنيا، طوله اثنا عشر ميلاً وهو مسافة ما بين البصرة والأيكة، وعلى جانب النهر قصور وبساتين وفرج ونزه كأنها كلها بستان واحد وكأن نخلها كلها قد غرس في يوم واحد، وجميع أنهارها يدخل عليها المد والجزر، والغالب على هذه الأنهار الملوحة. وبين عمارات البصرة وقراها آجام وبطائح ماء معمورة بزوارق وسامريات.
واسط: وهي بين البصرة والكوفة، وهي مدينتان على جانبي دجلة، وبينهما قنطرة كبيرة مصنوعة على جسر من سفن يعبر عليها من جانب إلى جانب، فالغربية تسمى كسكران، والشرقية تسمى واسط العراق، وهما في الحسن والعمارة سواء، وهما أعمر بلاد العراق وعليهما معول ولاة بغداد.
وعبادان: وهي مدينة عامرة على شاطئ البحر في الضفة الغربية من الدجلة، وإليها مصب ماء الدجلة ويقال في المثل: ما بعد عبادان قرية. ومن عبادان إلى الخشبات وهي خشبات منصوبات في قعر البحر بإحكام وهندسة وعليها ألواح مهندسة يجلس عليها حراس البحر ومعهم زوارق، وهو البحر الفارسي شاطئه الأيمن للعراق والأيسر لفارس.
أرض الفرس: وهي بلاد فارس، ومسكنهم وسط المعمورة. وهي مدن عظيمة وبلاد قديمة وأقاليم كثيرة وهي ما دون جيحون ويقال لها إيذان، وأما ما وراء جيحون فهور أرض الترك ويقال لها قزوين. وأرض فارس كلها متصلة العمائر وهي خمس كور: الكورة الأولى: أرجان، وهي أصغرهن وتسمى كورة سابور، والكورة الثانية اصطخر وما يليها، وهي كورة عظيمة وبها أعظم
بلاد الفرس. والكورة الثالثة: كورة سابور الثاني. الكورة الرابعة: الشاذروان وقاعدتها شيراز. الكورة الخامسة: كورة سوس.
أرض كرمان: هي بين أرض فارس وأرض مكران، وهو إقليم واسع ومن مدنها المشهورة يم، وهرمز.
أرض الجبال: أرض واسعة وإقليم عظيم، ويسمى إقليم خراسان وعراق العجم وله نحو خمسمائة مدينة قواعد، خارجة عن القرى والرساتيق، ومن مدنها همذان والسوس وششتر، وزرنج ونيسابور وسرخس
وغزنة ومرو، والطالقان، وبلخ وفاراب وبدخشان وقم وقاشان وأصبهان، وجرجان والبيلقان وراعة، وأردبيل وطوس.
أرض طبرستان: وهي مشتملة على إقليم عظيم ومياه غزيرة وأشجار ملتفة، ومدينتها العظمى تسمى أيضاً طبرستان.
أرض الري: هي آخر الجبال من خراسان، وهو إقليم عظيم كثير القرى والأعمال والرساتيق.
جبال الديلم: وهي ثلاثة جبال منيعة يتحصن أهلوها بها. أحدها يسمى تردوسيان والثاني يسمى المرونج، والثالث يسمى واران. ولكل جبل منها رئيس. والجبل الذي فيه الملك يسمى الكروم وبه رياسة الديلم ومقام آل حسان، وبهذا الجبل والأولين أمم عظيمة من الديلم، وهي كثيرة الغياض والشجر والمطر وهي في غاية الخصب، ولها قرى وشعاب كثيرة وليس عندهم من الدواب ما ينقلون بها.
أرض خوارزم: إقليم عظيم منقطع عن أرض خراسان وبعيد عما وراء النهر، ويحيط به مفاوز من كل جانب، وأول أعماله الظاهرية: خوارزم، وهي قاعدة هذه الأرض، وهي مدينة عظيمة، وفي الوضع مدينتان شرقية وغربية، فالأولى على ضفة نهرها الشرقية تسمى درغاشا، والثانية على ضفته الغربية وتسمى الجرجانية.
بخارى: مدينة عظيمة ومملكة قديمة ذات قصور عالية وجنان متوالية وقرى متصلة العمائر، ودورها سبعة وثلاثون ميلاً في مثلها ويحيط بها جميعاً سور واحد وداخل هذا السور المحيط سور آخر يدور على نفس المدينة ومدائنها من الرساتيق، ولها قلعة حصينة ونهر يشق ربضها وعلى النهر أرحية كثيرة، وأهلها متمولون وذوو ثروة.
سمرقند: وهي مدينة تشبه بخارى في العمارة والحسن، لها قصور عالية شاهقة ونهور دافقة تخترق أزقتها ودورها وتشق جهاتها وقصورها، وقل أن تخلو من بقاعها المياه الجارية ويقال إنها بناء تبع الكبر وأتمها ذو القرنين.
وبحيرة خوارزم دورها ثلاثمائة ميل وماؤها ملح أجاج وليس لها مصب ولا مغيض، ويقع فيها جيحون على الدوام وسيحون وقتاً دون وقت، ويقع فيها أيضاً نهر الشاش ونهر الترك ونهر سرمازعا، وأنهار كثيرة صغيرة غيرها ولا يعذب ماؤها ولا يساغ ولا يزيد بما يقع فيها ولا ينقص. ويجمد نهر جيحون في الشتاء بالقرب من هذه البحيرة حتى تجوز عليه الدواب وعلى شطها جبل يعرف بحفرا نموية، يجمد فيه
الماء فيصير ملحاً لأهل تلك المملكة، وفي هذه البحيرة شخص يظهر في بعض الأوقات عياناً على صورة إنسان يطفو على وجه الماء ويتكلم ثلاث كلمات أو أربع كلمات مقفلات غير مفهومات ثم يغوص في الماء في الحال وظهوره يدل على موت ملك من الملوك الأعزاز.
أرض خورستان: وهي من بلاد الجبال، وهي أرض سهلة معتدلة الهواء كثيرة المياه واسعة الخير والخصب، وبها مدن كثيرة وقرى عامرة. ومن مدنها المشهورة الأهواز وهو القطر الكبير الواسع، المعمور النواحي، وهي قاعدة هذه المملكة وبها أرزاق وخيرات زائدة الوصف، وبها تعمل الثياب الأهوازية التي لا نظير لها في الدنيا وكذلك البسط والحلل والستور وملابس ومراكيب الملوك، وبها يصنع كل نوع غريب.
أرض طخارستان: وهي أرض الهياطلة؛ وإقليمه واسع؛ وهو بين أرض الجبال وبلاد الأتراك، وبها مدن كثيرة وقرى عامرة وخصب.
أرض الصغد: وهي أرض واسعة ذات بساتين وأشجار وفواكه ومياه ومدن عامرة ولها نهر يسمى الصغد يخرج من جبال التيم ويمتد على ظهرها،
ومدينتها العظمى تسمى الصغد وهي ذات قصور عالية وأبنية شاهقة والمياه تخترق أزقتها وشوارعها، وقل أن يكون بها قصر أو دار أو بستان بغير ماء.
أرض أشروسنة: وهي أرض قبل أرض فرغانة؛ وهي إقليم عظيم كالعراق، وبه مدن وقرى وخيرات وافرة وخصب إلى الغاية.
أرض التيم: وهي غربي بلاد فرغانة وهي أرض واسعة وبها جبال شاهقة بها معادن الذهب والفضة والنوشادر والزاج، وبها جبال شاهقة وطرق ممنعة، وفي الجبال خسوف تخرج منه النار في الليل فترى على مسافة خمسة أميال وفي النهار يخرج منه الدخان. وفي جبال التيم حصن شبيك الذي لم يطمع في الوصول إليه من يرومه من الأعداء؛ وهو كثير الخيرات وبه تعمل آلات الحديد والفولاذ وأنواع الأسلحة لتلك المملكة وغيرها.
أرض فرغانة: وهي مجاورة أرض التبت، وهي أرض واسعة ذات كور وأقاليم ومدن وقرى وضياع. ومن مدنها المشهورة فرغانة وهي إقليم واسع وهي قاعدة ذلك الملك وبها أمم عظيمة وأسواق وخيرات.
أرض التبت: إقليم واسع ومدينته تسمى به، وهو آخر مدن خراسان وهو مجاور بلاد الصين وبعض بلاد الهند، وهو بلاد الأتراك التبتية وهو إقليم على نشز من الأرض عال؛ وفي أسفله واد يمر على بحيرة نزوان مشرقاً. ويعمل بها ثياب ثخان
الأجرام لها قيمة غالية. وأهلها يتجرون في الفضة والحديد والحجارة الملونة والمسك التبتي وجلود النمور، وليس على معمور الأرض أحسن ألواناً ولا أنعم أبداناً ولا أجمل أخلاقاً ولا أرق بشرة ولا أذكى رائحة من الترك الذين بتلك البلاد وهم يسرق بعضهم بعضاً ويبيعونه في البلاد.
ومن مدنه المشهورة يتنج وهي مدينة على رأس جبل، وعليها سور حصين ولها باب واحد لا غير، وبها صناعات كثيرة وأعمال بديعة. وبالجبل المتصل بالتبت ينبت السنبل، وفي غياضه دواب المسك ترعى منه وهي كغزلان الفلاة غير أن لها نابين معتقفين كأنياب الفيلة يخرج المسك من سرتها كالدمل فتحك سرتها في الحجر
فينفجر وتجمد فتخرج التجار فتجمعه ويضعونه في النوافج. وبها فأرة المسك وهي فأرة يخرج المسك من سرتها أيضاً. وهذا المسك هو الغاية في قوة الرائحة وغاية الثمن. وبهذا الجبل من الراوند الصيني شيء كثير ويقرب منه جبل معطوف عليه كالدال وبه بئر بعيد القعر يسمع من أسفله خرير الماء ودوي جريانه ولا يدرك له قعر. ويتصل طرفا هذا الجبل بجبال الهند، وفي وسطه أرض وطيئة وفيها قصر عظيم مائل مربع البناء ولا باب له، وكل من قصد ومشى نحوه يجد في نفسه طرباً وسروراً كما يجد شارب الخمر من نشوة الخمر. ويقال إن من تعلق بهذا القصر وصعد إلى أعلاه ضحك ضحكاً شديداً ثم رمى بنفسه إلى داخله لا يدرى لأي شيء، ولا يمكن أحد أن يعلم ما سبب ذلك وما الذي في داخله؟
أرض اللان: وهي أرض واسعة عامرة. ومن مدنه المشهورة برذعة وهي مدينة عظيمة كثيرة الخصب، ويقرب منها موضع يقال له الاندروان مسيرة يوم في يوم، وهو من نزه الدنيا، كله عمارات وقصور وبساتين ومناظر وفواكه وثمار، وبه البندق والشاهبلوط الذي ليس له في الدنيا نظير في الطعم والكثرة حتى لو حمل ذلك إلى البلاد شرقها وغربها لكفاهم، وبها الريعان وهو نوع من العنبر الذي لا يوجد مثله في الدنيا. وهي على نهر الكر. وبها باب يعرف بباب الأكراد له سوق يعرف بسوق الكركي مقداره ثلاثة أميال.
أرض التغزغز: وهي بين أرض التبت والصين كما تقدم. ومن مدنها المشهورة أخوان وهي مدينة عظيمة آخذة من جهة المشرق على ضفة نهر وحولها مياه جارية
ومزارع كثيرة، وهي مرابع الأتراك، وبها يعمل من الآلات الحديد الصيني كل غريب، وبها من الآنية الصينية ما لا يوجد في غيرها.
وأما أرض الصين: فإنها طويلة عريضة، طولها من المشرق إلى المغرب نحو ثلاثة أشهر، وعرضها من بحر الصين إلى بحر الهند في الجنوب، وإلى سد يأجوج ومأجوج في الشمال. وقد قيل إن عرضها أكثر من طولها. وهي تشتمل على الأقاليم السبعة. ويقال إن بها ثلثمائة مدينة قواعد كبار عامرة، سوى الرساتيق والقرى والجزائر. وعندهم معدن الذهب. قال الهروي: أبواب الصين اثنا عشر باباً وهي جبال في البحر، بين كل جبلين منها فرجة تصير إلى موضع بعيد من بلاد الصين فإذا جاوزت السفينة تلك الأبواب جازت في بحر فسيح وماء عذب فلا تزال كذلك حتى تصير إلى الموضع الذي تريد من بلاد الصين.
وأهل الصين أحسن الناس سياسة وأكثرهم عدلاً وأحذق الناس في الصناعات والنقوش والتصوير. وإن الواحد منهم ليعمل بيده من النقش والتصوير ما يعجر عنه أهل الأرض وكان من عادات ملوكهم أن الملك منهم إذا سمع بنقاش أو مصور في أقطار بلاده أرسل إليه بقاصد ومال ورغبه في الإشخاص إليه، فإذا حضر عنده وعده بالمال والرزق والصلات، وأمره أن يصنع تمثالاً مما يعلمه من النقش والتصوير، ويبذل في ذلك غاية جهده ومقدرته ويحضر به إليه، فإذا فعل وأحضره علق ذلك الصنع والتمثال بباب قصر الملك وتركه سنة كاملة، والناس يهرعون إليه في تلك المدة، فإذا مضت السنة ولم يظهر أحد من الناس على عيب به وخلل في صنعه، أحضر ذلك الصانع وخلع عليه وجعله من خواص الصناع في دار الصناعة، وأجرى عليه ما وعده به من المال والصلة والإدرار.
فبلغه عن نقاش ماهر في النقش والتصوير في بلاد الروم فأرسل إليه وأشخصه وأمره بعمل شيء مما يقدر عليه من النقش والتصوير مثالاً يعلقه بباب القصر على العادة فنقش له في رقعة صورة سنبلة حنطة خضراء قائمة وعليها عصفور، وأتقن نقشه وهيئته حتى إذا نظره أحد لا يشك في أنه عصفور على سنبلة خضراء ولا ينكر شيئاً من ذلك غير النطق والحركة. فأعجب الملك ذلك وأمر بتعليقة وبإدرار الرزق عليه إلى انقضاء مدة التعليق فمضت سنة إلا بعض أيام ولم يقدر أحد على إظهار عيب ولا خلل فيه، فحضر شيخ مسن ونظر إلى المثال وقال: هذا مختل وفيه عيب. فأحضر الملك وأحضر النقاش والمثال، وقال: ما الذي فيه من الخلل والعيب؟ فاخرج عما وقعت فيه بوجه ظاهر ودليل وإلا حل بك الندم وما لا خير فيه. فقال الشيخ: أسعد الله الملك وألهمه السداد، مثال أي شيء هذا الموضع؟ فقال الملك: مثال سنبلة من حنطة قائمة على ساقها وفوقها عصفور. فقال الشيخ: أصلح الله الملك: أما العصفور فليس به خلل، وإنما الخلل في وضع السنبلة. فقال الملك: وما الخلل؟ وقد امتزج غضباً على الشيخ. فقال: الخلل في استقامة السنبلة لأن من العرف أن العصفور إذا حط على سنبلة أمالها لثقل العصفور وضعف ساق السنبلة، ولو كانت السنبلة معوجة مائلة لكان ذلك نهاية في الوضع والحكمة. فوافق الملك على ذلك وسلم.
وأهل الصين قصار القدود عظام الرؤوس، ومذاهبهم مختلفة؛ فمنهم أهل أوثان، وأهل نيران، وعباد حيات وغير ذلك. وأشرف ما يتحلون به قرون الكركند، لأنها إذا بشرت ظهرت منها صور مدهشة عجيبة كاملة النقش
والتخطيط، فيتخذون منها مناطق ويفتخرون بها فتبلغ قيمة المنطقة الواحدة أربعة آلاف دينار. وفي تلك القرون المنشورة خاصية عظيمة إذا شدت على الجسم تحت الثياب فإنها إذا دخل على الملك سم قدم إليه طعام فيه سم تحركت على جسمه واختلجت. وأما صين الصين فهي نهاية العمارة في المشرق، وليس وراءها إلا البحر المحيط. ومدينة الصين العظمى تسمى السبلى، وأخبارهم منقطعة عنا لبعدهم. ويحكى أن الملك عندهم إذا لم يكن له مائة زوجة بمهور، وألف فيل برجالها وأسلحتها، لا يسمى بملك. وإذا كان للملك منهم عدة أولاد ثم مات لا يرث ملكه منهم إلا أحذقهم بالنقش والتصوير.
ومن مدن الصين المشهورة خانقو وهي أعظم مدن الصين وهي على نهر عظيم أعظم من دجلة والفرات، وبها أمم لا تحصى كثرة، ولها ملك ذو هيبة على مربطه ما يزيد على ألف فيل، وجنوده كثيرة وهي على خور من البحر الأعظم تدخل فيه المراكب إلى مسيرة شهرين، وبها الأرز والموز الغزير وقصب السكر والنارجيل.
وخانكو: وهي مدينة عظيمة تشبه خانقو في السعة والعمارة وكثرة الخلق. وهي كثيرة الفواكه الفاخرة وهي على خور من البحر. وبهذه البلاد الحيوانات الغريبة الشكل مثل الفيل والكركند والزرافة وغير ذلك من الصندل والأبنوس والكافور والخيزران والعطر وجميع الأفاويه ما لا يوصف، والليل والنهار في هذه البلاد متكافئان.
وباجة: مدينة عظيمة وبها أمم عظيمة، وبها جميع الفواكه إلا العنب والتين فإنهما لا يوجدان بها ولا ببلاد الصين والتبت والهند، وإنما عندهم شجر يسمى الشكى
والبركى، يطرح ثمراً طول الثمرة أربعة أشبار مدور كالمخروط وله قشر أحمر، وهو لذيذ الطعم وفي جوف تلك الثمرة حب مثل حب الشاهبلوط يشوى في النار ويؤكل فيوجد فيه طعم التفاح وطعم الكمثرى وطعم الموز، وفي بلاد الهند شجر يسمى العنباء كشجر الموز وثمرته كالمقل يعمل بالخل فيكون كطعم الزيتون. وهذه المدينة هي سكنى البغبوغ وهو ملك الصين ومعناه ملك الملوك وله في دسته وموكبه زي عظيم.
وجمدان: وهي مدينة عظيمة يشقها نهرها الأعظم المسمى جمدان وأهلها ذوو أموال غزيرة، وهي قاعدة من قواعد الصين.
كاشغر: وهي مدينة عظيمة على ضفة نهر صغير يأتي من شمالها، يقع من جبل، وبهذا الجبل معادن الفضة الطيبة الفائقة السهلة التخلص.
وخيعون: وهي مدينة حسنة ذات بساتين وفرج، وبها غزال المسك الفائق، ودابة الزباد الفاخر، وهي دابة كالهرة في الخلق وأنفس منها في الجسم، يحك الزباد من آباطها بمعلقة فضة وهو عرق يخرج من آباطها.
اسفيريا: مدينة عظيمة على بركة ماء عذب لا يعرف لها قعر، وبه سمك له وجوه مثل البوم على رؤوسها كقلانس الديوك.
وطوخا: مدينة يعمل فيها ثياب
الحرير الطوخية التي لا نظير لها.
وسوسة: وهي المدينة التي بها الفخار الصيني الفاخر الذي لا يعدله شيء من فخار الصين.
وقد ذكرنا من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق من المحيط إلى المحيط. ونرجع الآن إلى ذكر بلاد الجنوب وهي الواقعة بين المشرق والمغرب إن شاء الله تعالى، وهذه البلاد كلها بلاد السودان، وأولها من المغرب الأقصى إلى المشرق الأقصى، على حكم ربع الدائرة. فأول بلادهم من المغرب الأقصى: أرض مغرارة: ومن مدنها المشهورة المعظمة أولينى وهي في البحر، وبها الملاحة المشهورة التي يحمل منها إلى سائر السودان.
وصلي: وهي مدينة كبيرة على نهر النيل، وهي مجتمع السودان، وأهلها ذوو بأس ونجدة، وملكها مؤمن.
وتكرور: وهي في جنوب النيل وغربيه. وهي مدينة كبيرة وبها أمم عظيمة من السودان وهي مقر ملكهم وببلادهم معدن الذهب، ويسافر إليها أهل
الغرب بالصوف والنحاس والخرز والودع، ولا يجلب منها إلا الذهب العين.
ولملم: وهي مدينة متوسطة. وعندهم معدن الذهب.
وباقي أرض مغرارة صحارى وبراري ومفاوز لا عمارة بها ولا مسالك، لقلة الماء والمراعي. وشمالها أرض غانة، وجنوبها الأرض من الربع الخراب.
وأرض نقارة: وهي شرقي أرض مغرارة، ويه أرض واسعة. ومن مدنها المشهورة ونقرة وهي بلاد التبر والطيب، وهي جزيرة على ضفة المحيط، وطولها ثلاثمائة ميل وعرضها مائة وخمسون ميلاً. والبحر محيط بها من جهاتها الثلاث. والنيل في زيادته يغطي أكثر هذه الجزيرة، وإذا نقص الماء عنها خرج أهل تلك البلاد يبحثون في أرضها على التبر، فيحل لكل واحد منهم ما قسمه الله، ويخرجون وهم أغنياء. ولملكهم أرض محمية مختصة لا يدخلها إلا أجناده فيجمعون له كنوزاً لا توصف، فيأتون به إلى مدينة سلجماسة في الغرب بها تبر فيضربونه دنانير ولذلك أهل سلجماسة جميعهم أغنياء بتلك الواسطة.
وسمقارة: وهي مدينة متوسطة، وفي شمالها قوم يقال لهم تعامة برابر، رحالة لا يقيمون في موضع، ويرعون جمالهم وأبقارهم على ساحل نهر يأتي من جهة المشرق يصب فيه النيل، ومعاشهم من اللحم واللبن والسمك.
وغينارة: وهي مدينة على ضفة النيل، وعليها خندق محيط بها، وأهلها ذوو بأس ونجدة، وهم يغيرون على بلاد لملم ويأسرون منهم ويبيعون في البلاد.
أرض الكرك: وهي مملكة عظيمة واسعة ولها ممالك كثيرة، ومدينتهم تسمى باسم إقليمهم كركرة وهي على نهر يخرج من ناحية الشمال، ويجوز عنها بأيام ويفيض في رمال في الصحراء كما يفيض الفرات، وبها من السودان أمم لا تحصى، وملكهم عظيم كثير الجنود، ولهم زي حسن، وحليهم الذهب الإبريز إلا العوام فإن لباسهم الجلود.
وهي متصلة ببلاد معادن الذهب، يقال إن الأرض عندهم كلها ذهب، ولهم خط لا يتجاوزه من وصل إليهم من التجار ومعه متاع، لكن إذا وصلوا إلى الخط وضعوا متاعهم عليه وانصرفوا، فإذا كان الغد أتوا إلى أمتعتهم فيجدون عند كل متاع شيئاً من الذهب، فإن رضي أحدهم أخذ الذهب وترك المتاع وإن لم يرض ترك المتاع والذهب إلى غد، فإن كان الغد وجد زيادة عند متاعه فإن رضي رفع الذهب وترك المتاع وإن لم يرض تركه إلى ثالث يوم، فمن وجد زيادة أخذ الذهب وإلا رفع متاعه وترك الذهب أو أخذ الذهب مع زيادة. وهكذا يفعل تجار القرنفل في بلادهم في القرنفل، وربما يتأخر بعض التجار بعد فراغه من البيع والمعاوضة ويضع النار في الأرض فيسيل منها الذهب فيسرقه ويهرب فإذا فطنوا لهم خرجوا في طلبهم فإن أدركوهم قتلوهم البتة.
وبأرض الكركر عود ينبت يسمى عود الحية، خاصيته أنه إذا وضع على حجر فيه حية خرجت مسرعة ويمسكها بيده فلا تضره أبداً.
أرض الدهام: يسار إليها من كركر على شاطئ البحر مغرباً، وهي مملكة عظيمة ولها ممالك كثيرة وجنود ذوو شدة ونجدة وتحت يد ملكهم ملوك وفي مملكته قلعة عليها سور، وفي أعلاه صورة امرأة يتألهون لها ويعبدونها ويحجون إليها، وهم أمة كالبهائم مهملون في أديانهم، وكلهم عرايا يأكل بعضهم بعضاً.
أرض غانة: وهي شمالي أرض مغرارة وهي مدينة سميت باسم إقليمها، وهي أكبر بلا السودان وأوسعها شجراً وهم في سعة من المال وهي مدينتان في ضفة النيل ويقصدها التجار من سائر البلاد وأرضها ذهب ظاهر. ولهم في النيل زوارق عظيمة وأهلها يستخرجون الذهب يصنعونه كاللبن ويسافر إليها التين والملح والنحاس والودع، ولا يحملون منها إلا الذهب العين، ولها ملك ضخم في جنود وعدد، وله ممالك عديدة فيها ملوك من تحت يده، وله قصر عظيم النيل، وفي قصره تبرة واحدة من ذهب كالصخرة العظيمة، وهي خلقة الله وفيها ثقب كالمربع وهو مربط فرس الملك ويقال إن ملكها مسلم.
أرض قمندوية: وهي شمال أرض مغرارة متصلة بالمحيط وشرقها صحراء ينسر وبهذه الصحراء حيات طوال القدود غلاظ الأجسام في غلظ الخروف السمين وطول الرمح، وأطول وأقصر، ويصيدها ملوك السودان ويسلخونها ويطبخونها بالملح والشيح ويأكلونها. وبها جبل قابان وهو عال جداً يقال إن السحاب يمر دونه وليس به شيء من النبات وفيه أحجار لماعة إذا طلعت الشمس تكاد تخطف الأبصار وليس لأحد سبيل إلى الوصول إلى ذروته ولا سفحه لأنه مزحلق، وفي أسفله عيون عذبة كأن مياهها قد مزجت بالعسل.
أرض الكاتم: وهي أرض منبسطة واسعة على شاطئ النيل، وأهلها مسلمون إلا القليل منهم، وهم على مذهب مالك رضي الله عنه.
أرض النوبة: أرض واسعة واقليم كبير ومسيرة مملكتهم ثلاثة أشهر، وهي في حدود مصر، وكثيراً ما يغزوهم عسكر مصر. ويقال: إن لقمان الحكيم الذي كان مع داود عليه الصلاة والسلام وهو المذكور في القرآن العظيم من النوبة، وأنه ولد بأيلة. ومنها ذو النون المصري رضي الله عنه، وبلال بن رباح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤذنه.
وعندهم معدن الذهب ودينهم النصرانية، وملكهم ملك جليل كثير الجنود، وهم فرقتان فرقة يقال لها علوة ومدينتهم العظمى ويلولة وهي مدينة عظيمة وبها من السودان أمم لا تحصى، والفرقة الأخرى يقال لها النوبة ومدينتهم العظمى دنقلة وهي مثل ويلولة على ضفة النيل من غربيه، وأهلها أحسن السودان وجوهاً وأعدلهم شكلاً وفي بلادهم الفيلة والزرافات والقرود والغزلان.
ومن مدن النوبة المشهورة نوابية ويقال لها نوبة. وهي مدينة وسط وبينها وبين النيل أربعة أيام، وشرب أهلها من الآبار. وفي نساء هذه المدينة الجمال الفائق والحسن الكامل. ولهم حسن النطق وحلاوة اللفظ وطيب النعمة وليس في سائر السودان من شعورهم مسبلة غيرهم وبعض الهنود وبعض الحبوش لا غير. وقيمة الجارية الحسناء منهن ثلثمائة دينار وما فوقها.
وحكي أنه كان عند الوزير أبي الحسن المروف بالمصحفي جارية منهن لم ير أكمل منها قدراً ولا أحسن خلقاً ولا أملح شكلاً ولا أنعم جسماً ولا أحلى منطقاً ولا أتم محاسن، وكانت إذا تكلمت سحرت الألباب بمنطقها وحلاوة ألفاظها فاشتراها الصاحب بن عباد منه بأربعمائة دينار وأحبها حباً عظيماً ومدحها في
بعض أشعاره. وقيل عنه إنه قبل مشتراها كانت همته قد ذهبت وشهوته انقطعت فلما اشتراها وضاجعها انبعثت شهوته ونهضت همته وتراجعت قوته، لطيب ما وجد عندها.
وطرمي: وهي مدينة كبيرة على البطيحة التي يجتمع بها ماء النيل. وعلى ضفة هذه البطيحة صنم كبير من حجر رافع يده إلى صدره يقال إنه كان رجلاً ظالماً فمسخ حجراً.
ويلاق: وهي مدينة كبيرة وهي مجتمع تجار النوبة وتجار الحبشة ومن ويلاق إلى جبل الجنادل ستة أيام، وإلى هذا الجبل تصل مراكب مصر والسودان.
الحبشة: وبلادهم تقابل بلاد الحجاز وبينهم البحر، وأكثرهم نصارى وهي أرض طويلة عريضة، مادة من شرقي النوبة إلى جنوبها، وهم الذين ملكوا اليمن قبل الإسلام في أيام الأكاسرة، وخصيان الحبشة أفضل خصيان، وفي نسائهم أيضاً جمال وحلاوة وحسن نغمة. ومن مدنها المشهورة كعبر وهي مدينتها العظمى وهي دار مملكة النجاشي رحمه الله تعالى، وبها من شجر الموز كثير، وأهل تلك البلاد لا يأكلون الموز ولا الدجاج أصلاً.
أرض الزيلع: وهي تجاور الحبشة من
الشمال إلى الجنوب، وهم أمم عظيمة والغالب عليهم الإسلام والصلاح والانقياد إلى الخير.
أرض البجة: وأهلها تجاور الحبشة من الشمال وهي بين الحبشة والنوبة وهم السواد، عراة الأجسام يعبدون الأوثان. ولهم عدة ممالك، وهم أهل أنس مع التجار، وفي بلادهم معدن الذهب، وليس بأرضهم قرى ولا خصب وإنما هي بادية جدبة تصعد التجار منها إلى وادي العلافي، وهو واد فيه خلق كثير كالبلد الجامع، وفيه آبار عذبة يشربون منها. ومعدن الذهب عندهم متوسط في صحراء لا جبل حوله بل رماله لينة وسباسب سيالة، فإذا كان أولى ليالي الشهر العربي خاض الطلاب في تلك الرمال فينظرون التبر يضيء بين الرمال ويعلمون مواضعها ويصيحون فيجيء كل منهم إلى الكوم الرمل الذي علمه فيحمله على هجينة ويمضي إلى آبار فيغسله ويصوله ويستخرج منه التبر، ويلغمه بالزئبق ثم يسبكه في
البوادق، فمن ذلك بلاغهم ومعاشهم وقد انضاف إليهم جماعة من العرب من ربيعة بن نزار وتزوجوا منهم.
عيذاب: وما يتصل بها من الصحراء المنسوبة إلى عيذاب وليس لها طريق معروفة إلا رمال سيالة، ولا يستدل عليها إلا بالحبال والكدي وربما أخطأها الدليل وهو ماهر. وعيذاب مدينة حسنة وهي مجمع التجار براً وبحراً، وأهلها يتعاملون بالدراهم عدداً ولا يعرفون الوزن، وبها وال من قبل البجة ووال من قبل سلطان مصر، يقسمان جباياتها نصفين، وعلى عامل مصر القيام بطلب الأوراق وعلى عامل البجة حمايتها من الحبشة. واللبن والعسل والسمن بها كثير، وبينها وبين الحجاز عرب البحر وبين النوبة قوم يقال لهم البليون أهل عزم وشجاعة يهابهم كل من حولهم من الأمم ويهادنونهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية.
أرض بربرة: وهي تتصل بأرض النوبة على البحر، وهي مقابلة اليمن، بها قرى عامرة متصلة وبها جبل يقال له قانوني وهو جبل له سبعة رؤوس خارجة وتمتد في البحر أربعة وأربعين ميلاً، وعلى رؤوس هذه الجبال بلاد صغيرة يقال لها الهاوية، وبعض أهل بربرة يأكلون الضفادع والحشرات والقاذورات ويتصيدون في البحر عوماً بشباك صغيرة.
ويلي هذه الأرض أرض الزنج وهي مقابل أرض السند وبينهما عرض بحر فارس، وهم أشد السودان سواداً وكلهم يعبدون الأوثان، وهل أهل بأس وقساوة، ويحاربون راكبين على بقر، وليس في بلادهم خيل ولا بغال ولا جمال. قال المسعودي: ولقد رأيت هذه البقرة تبرك كما تبرك الجمال ويحملونها وتثور كالجمال، ومساكنهم من حد الخليج المنصب إلى سفالة الذهب.
وواق الواق: وأرضهم واسعة وقراهم عامرة وكل قرية على خور وهي أرض كثيرة الذهب والخصب والعجائب، ولا يوجد البرد عندهم أصلاً ولا المطر، وكذلك غالب بلاد السودان، وليس لهم مراكب بل تدخل إليهم المراكب من عمان، والتجار يشترون أولادهم بالتمر ويبيعونهم في البلاد، وأهل بلاد الزنج كثيرون في العدد قليلون في العدد ويقال إن ملكهم يركب في ثلثمائة ألف راكب، كلهم على
البقر. والنيل ينقسم فوق بلادهم عند جبل المقسم وأكثرهم يحددون أسنانهم ويبردونها حتى ترق، ويبيعون أنياب الفيلة وجلود النمور والحديد، ولهم خزائن يخرجون منها الودع ويتحلون به وبييعونه فيما بينهم بثمن له قيمة، ولهم ممالك واسعة.
أرض الدمادم: وبلادهم على النيل مجاورة للزنج، والدمادم هم تتر السودان، يخرجون عليهم كل وقت فيقتلون ويأسرون وينهبون وهم مهملون في أمر أديانهم وفي بلادهم الزرافات كثيرة، ومنهم يفترق النيل إلى أرض مصر إلى جهة الزنج.
أرض سفالة الذهب: وهي تجاور أرض الزنج من المشرق، وهي أرض واسعة وبها جبال فيها معادن الحديد يستخرجه أهل تلك البلاد. والهنود تأتي إليهم ويشترون منهم بأوفر ثمن مع أن في بلاد الهنود معادن الحديد، لكن معادن سفالة أطيب وأصح وأرطب، والهنود يصفونه فيصير فولاذاً قاطعاً. وبهذه البلاد معادن لضرب السيوف الهندية وغيرها ومع ذلك لا يتحلون إلا بالنحاس ويفضلونه على الذهب. وأرض سفالة متصلة بأرض واق الواق.
أرض الحجاز: وهي تقابل أرض الحبشة وبينهما عرض البحر. ومن مدنها المشهورة مكة المشرفة وهي مدينة
قديمة. روى الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب البهجة قصة بناء البيت الحرام، قال: وهو حرم مكة وكعبة الإسلام وقبلة المؤمنين، والحج إليه أحد أركان الدين.
ابتداء البيت الحرام
واختلف العلماء في ابتداء بناء البيت الحرام على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الله تعالى وضعه، ليس ببناء أحد. ثم في زمان وضعه إياه قولان: أحدهما قبل خلق آدم عليه السلام. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وكانت الكعبة خشفة على الماء وعليها ملكان يسبحان الله تعالى، الليل والنهار، قبل خلق الأرض بألفي عام. والخشفة الأكمة الحمراء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كان عرش الرحمن على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض بعث الله ريحاً فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة في موضع البيت كأنها قبة، فدحا الأرض من تحتها. وقال مجاهد: لقد خلق الله عز وجل موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي عام، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: كانت الكعبة غشاء على الماء قبل أن يخلق الله الأرض والسموات بأربعين سنة. وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان قبل هبوط آدم عليه السلام ياقوتة حمراء من
يواقيت الجنة فلما هبط آدم إلى الأرض أنزل الله عليه الحجر الأسود فأخذه فضمه إليه استئناساً به. وحج آدم فقالت له الملائكة: لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. فقال آدم: رب اجعل له عماراً من ذريتي. فأوحى الله تعالى إليه: إني معمره ببناء نبي من ذريتك اسمه إبراهيم.
القول الثاني: أن الملائكة بنته. قال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه: لما قالت الملائكة: " أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها " غضب الرب عز وجل عليهم فلاذوا بالعرش مستجيرين يطوفون حوله، يسترضون رب العالمين فرضي سبحانه وتعالى عنهم فقال عز وجل ابنوا لي بيتاً في الأرض يعوذ به كل من سخطت عليه كما فعلتم أنتم بعرشي.
القول الثالث: أن آدم لما أُهبط من الجنة أوحى الله إليه أن ابن لي بيتاً واصنع حوله كما صنعت الملائكة حول عرشي، وافعل كما رأيتهم يفعلون، فبناه.
أبو صالح عن ابن العباس، وروى عطية عنه أيضاً، قال: بنى آدم البيت في خمسة أجبل: لبنان وطورسينا وطوزيتا والجردى وحراء. قال وهب ابن منبه: لما مات آدم بناه بنوه بالطين والحجارة فنسفه الغرق. قال مجاهد: وكان موضعه بعد الغرق أكمة حمراء لا تعلوها السيول، وكان يأتيها المظلوم ويدعو عندها المكروب. وقال عز وجل: " وإذ
يرفع إبراهيمُ القواعدَ من البيت وإسماعيلُ " وهما أول من بنى البيت بعد الطوفان على القواعد الأزلية الأولية، فنسب بناء البيت إلى إبراهيم الخليل وإسماعيل عليهما السلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
يثرب: وهي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ودار هجرته الشريفة، وبها قبره صلى الله عليه وسلم وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وهي مدينة في غاية الحسن في مستوى من الأرض، وعليها سور قديم. وحولها نخل كثير وتمرها في غاية
الطيب والحلاوة. ولها مخاليف وحصون، منها وادي العقيق. وبها نخل مزارع أيضاً وقبائل من العرب، والبقيع كذلك. ووادي القرى وهو حصين بين الجبال وبه بيوت منقورة في الصخور، وتسمى تلك النواحي الأثالب وبها كانت ثمود، وبها الآن بئر ثمود ودومة الجندل، وهو حصن منيع. وتبوك وهي قرية حسنة ولها حصن من حجر. وفدك كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدين مقر شعيب عليه السلام.
أرض نجد: وهي أرض عظيمة واسعة كثيرة الخير، وهي بين الحجاز واليمن، وبها مياه جارية وثمار وأشجار في غاية الرخص.
وأما أرض اليمن: فهي تقابل أرض البربر وأرض الزنج وبينهما عرض البحر. واليمن على ساحل بحر القلزم من الغرب، وكان بين هذا البحر وأرض
اليمن جبل يحول بينهما وبين الماء، وكان بين اليمن والبحر مسافة بعيدة فقطع بعض الملوك ذلك الجبل بالمعاول ليدخل منه خليجاً فيهلك بعض أعدائه وأطلق البحر في أرض اليمن، فاستولى على ممالك عظيمة ومدن كثيرة وأهلك أمماً عظيمة لا تحصى، وصار بحراً هائلاً.
ومن مدنها المشهورة زبيد وهي مدينة كبيرة عامرة على نهر صغير، وهي مجتمع التجار من أرض الحجاز والحبشة وأرض العراق ومصر، ولها جبايات كثيرة على الصادر والوارد.
وصنعاء: وهي مدينة متصلة العمارات كثيرة الخيرات معتدلة الهواء والحر والبرد، وليس في بلاد اليمن أقدم منها عهداً ولا أوسع قطراً ولا أكثر خلفاً وبها قصر غمدان المشهور، وهو على نهر صغير يأتي إليها من جبال هناك. وشمالي صنعاء جبل يقال له جبل المدخير وعلوه ستون ميلاً، وبه مياه جارية وأشجار وثمار ومزارع كثيرة وبها من الورس والزعفران كثير جداً.
عدن: وهي مدينة لطيفة، وإنما اشتهر اسمها لأنها مرسى البحرين، ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين وإليها تجلب بضائع هذه الأقاليم من الحرير والسيوف، والكيمخت والمسك والعود والسروج، والأمتعة والأهليجات والحرارات والعطريات، والطيب والعاج والأبنوس، والحلل والثياب المتخذة من الحشيش الذي يفخر على الحرير والديباج والقصدير، والرصاص واللؤلؤ والحجارة المثمنة والزباد والعنبر، إلى ما لا نهاية لذكره. ويحيط بها من شمالها جبل دائر من البحر إلى البحر، وفي طرفيه بابان يدخل منهما ويخرج، وبينهما وبين اليابس مدينة الزنج مسيرة أربعة أيام.
تهامة: وهي قطعة من اليمن بين الحجاز واليمن، وهي جبال مشتبكة، حدها من الغرب بحر القلزم، ومن الشرق جبال متصلة، وكذا من الجنوب الشمالي وبأرض تهامة قبائل العرب. ومن مدنها المشهورة هجر.
أرض حضرموت: وهي شرقي اليمن وهي بلاد أصحاب الرس وكانت لهم مدينة اسمها الرس سميت بأسم نهرها. ومن أرض حضرموت المشهورة سبأ
التي ذكرها الله تعالى في القرآن وكانت مدينة عظيمة؛ وكان بها طوائف من أهل اليمن. وعمان تسمى مدينة مأرب، وهو اسم ملك البلاد وبهذه المدينة كان السد الذي أرسل الله إليه سيل العرم.
وكان من حديثه أن أمرأة كاهنة رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه؛ فأخبرت زوجها بذلك وكان يسمى عمراً، فذهب إلى سد مأرب فوجد الجرذ وهو الفأر يقلب برجليه حجراً لا يقلبه خمسون رجلاً؛ فراعه ما رأى وعلم أنه لا بد من كارثة تنزل بتلك الأرض، فرجع وباع جميع ما كان له بأرض مأرب وخرج هو وأهله وولده. فأرسل الله تعالى الجرذ على أهل السد الذي يحول بينهم وبين الماء فأغرقهم، وهو سيل العرم، فهدم السد وخرج أهل تلك الأرض فأغرقها كلها.
وهذا السد بناه لقمان الأكبر بن عاد، بناه بالصخر والرصاص، فرسخاً في فرسخ، ليحول بينهم وبين الماء وجعل فيه أبواباً ليأخذوا من مائه بقدر ما يحتاجون إليه. وكانت أرض مأرب من بلاد اليمن مسيرة ستة أشهر متصلة العمائر والبساتين، وكانوا يقتبسون النار بعضهم من بعض، وإذا أرادت المرأة الثمار وضعت على رأسها مكتلها وخرجت تمشي بين تلك الأشجار وهي تغزل، فما ترجع إلا والمكتل ملآن من الثمار التي بخاطرها، من غير أن تمس شيئاً بيدها البتة.
وكانت أرضهم خالية من الهوام والحشرات وغيرها فلا توجد فيها حية ولا عقرب ولا بعوض ولا ذباب ولا قمل ولا براغيث. وإذا دخل الغريب في أرضهم وفي ثيابه شيء من القمل أو البراغيث هلك من الوقت والحين وذهب ما كان في ثيابه من ذلك بقدرة القادر.
وأذهب الله تعالى جميع ما كانوا فيه من النعيم الذي ذكره في كتابه ولم يبق بأرضهم إلا الخمظ والأثل وهو الطرفاء والأراك وشيء من سدر قليل وقد قال الله تعالى: " وبدّلناهم بجَنَّتَيْهِمْ جنتين ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ " الآية وذلك بأنهم كفروا بنعمة الله تعالى وجحدوها فنزل بهم ما نزل من العذاب، قال الله جل ذكره " ذلك جزَيْناهم بما كفروا وهل نُجازي إلا الكفور ". وسبأ الآن خراب وكان بها قصر سليمان بن داود عليهما السلام، وقصر بلقيس زوجته، وهي ملكة تلك الأرض التي تزوجها سليمان، وقصتها مشهورة، وبأرضها جبل منيع صعب المرتقى لا يصعد إلى أعلاه إلا بالجهد العظيم، وفي أعلاه قرى كثيرة عامرة وبساتين وفواكه
ونخل مثمر وخصب كثير، وبهذا الجبل أحجار العقيق وأحجار الحمشت وأحجار الجزع وهي مغشاة بأغشية ترابية لا يعرفها إلا طالبها والعارف بها، ولهم في معرفتها علامات فتصقل فيظهر حسنها.
الأحقاف: هي التلال من الرمل التي بين حضرموت وعمان، وهي قرى متفرقة. وروي عن عبد الله بن قلابة رضي الله عنه أنه خرج في طلب ابل له شردت فبينما هو في صحارى بلاد اليمن وأرض سبأ إذ وقع على مدينة عظيمة بوسطها حصن عظيم، وحوله قصور شاهقة في الجو، فلما دنا منها ظن أن بها سكاناً أو أناساً يسألهم عن إبله، فإذا هي قفر ليس بها أنيس ولا جليس، قال: فنزلت عن ناقتي وعقلتها ثم استللت سيفي ودخلت المدينة ودنوت من الحصن، فإذا ببابين عظيمين لم ير في الدنيا مثلهما في العظم والارتفاع، وفيهما نجوم مرصعة من ياقوت أبيض وأصفر يضيء بها ما بين الحصن والمدينة، فلما رأيت ذلك تعجبت منه وتعاظمني الأمر فدخلت الحصن وأنا مرعوب ذاهب اللب، وإذا الحصن كمدينة في السعة، وبه قصور شاهقة وكل قصر منها معقود على عمد من زبرجد وياقوت، وفوق كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف أيضاً وكلها مبنية بالذهب والفضة مرصعة باليواقيت الملونة والزبرجد واللؤلؤ، ومصاريع تلك القصور كمصاريع
الحصن في الحسن والترصيع. وقد فرشت أراضيها باللؤلؤ الكبار وبنادق المسك والعنبر والزعفران. فلما عاينت ما عاينت من ذلك ولم أر مخلوقاً كدت أن أصعق فنظرت من أعالي الغرف فإذا بأشجار على حافات أنهار تخرق أزقتها وشوارعها، منها ما أثمرت ومنها ما لم تثمر، وحافات الأنهار مبنية بلبن من فضة وذهب. فقلت: لا شك أن هذه الجنة الموعود بها في الآخرة، فحملت من تلك البنادق واللؤلؤ ما أمكن وعدت إلى بلادي وأعلمت الناس بذلك.
فبلغ الخبر معاوية بن أبي سفيان وهو الخليفة يومئذ بالشام فكتب إلى عامله بصنعاء أن يجهزني إليه فوفدت عليه فاستخبرني عما سمع من أمري فأخبرته فأنكر معاوية إخباري فدفعت له من ذلك اللؤلؤ وقد اصفر وتغير، وكذلك بنادق العنبر والزعفران والمسك، ففتحها فإذا فيها بعض رائحة، فبعث معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأخبار فلما حضر قال له: يا كعب إني دعوتك لأمر أنا من تحقيقه على قلق ورجوت أن يكون علمه عندك. فقال: ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال معاوية: هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية من ذهب وفضة عمدها من زبرجد وياقوت وحصباؤها لؤلؤ وبنادق مسك وعنبر وزعفران؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، هي إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، بناها شداد بن عاد الأكبر.
قال معاوية: حدثنا من حديثها، قال كعب: إن عاداً الأول كان له ولدان شديد وشداد، فلما هلك ملكا بعده البلاد، ولم يبق أحد من ملوك الأرض إلا دخل في طاعتهما. فمات شديد بن عاد، فملك شداد الملك بعده على الانفراد، وكان مولعاً بقراءة الكتب القديمة، وكلما مر به ذكر الجنة وما فيها من القصور والأشجار والثمار، وغيرها مما في الجنة، دعته نفسه أن يبني مثلها في الدنيا عتواً على الله عز وجل فأصر على ابتنائها، ووضع مائة ملك تحت يد كل ملك ألف قهرمان. ثم قال: انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها فابنوا لي مدينة من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت ولؤلؤ، واجعلوا تحت عقود تلك المدينة أعمدة من زبرجد وأعاليها قصوراً وفوق القصور غرفاً مبنية من الذهب والفضة، واغرسوا تحت تلك القصور في أزقتها وشوارعها أصناف الأشجار المختلفة والثمار وأجروا تحتها الأنهار في قنوات من الذهب والفضة النضار، فإني أسمع في الكتب القديمة والأسفار صفة الجنة في الآخرة والعقبى وأنا أحب أن أجعل لي مثلها في الدنيا. فقالوا بأجمعهم: كيف نقدر على ما وصفت؟ وكيف لنا بالزبرجد والياقوت الذي ذكرت؟ فقال لهم، ألستم تعلمون أن ملك الدنيا كلها لي وبيدي وكل من فيها طوع أمري؟ قالوا: نعم، نعلم ذلك، قال: فانطلقوا إلى معادن الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والفضة والذهب فاستخرجوها واحتفروا ما بها ولا تبقوا مجهوداً في ذلك، ومع ذلك فخذوا ما في أيدي العالم من أصناف ذلك ولا تبقوا ولا تذروا واحذروا وأنذروا.
وكتب كتبه إلى كل ملك في الدنيا وجهاتها وأقطارها يأمرهم فيها أن يجمعوا ما في بلادهم من أصناف ما ذكر، وأن يحتفروا معادنها ويستخرجوها من التراب والصخور والمعادن والأحجار وقعور البحار، فجمعوا ذلك في عشر سنين وكان عدد الملوك المبتلين بجمع ذلك ثلثمائة وستين ملكاً وخرج المهندسون والفعلة والحكماء والصناع من سائر البلاد والبقاع والبراري، وتبددوا في البراري والقفار والجهات والأقطار حتى وقفوا على صحراء عظيمة فيحاء نقية خالية من الآكام والجبال والأودية والتلال، وإذا بها عيون مطردة وأنهار متجعدة، فقالوا: هذه صفة الأرض التي أمرنا بها ونبذنا إليها. فاختطوا بفنائها بقدر ما أمرهم به شداد ملك الأرض من الطول والعرض، وأجروا فيها قنوات الأنهار ووضعوا أساسات على المقدار، وأرسلت إليهم ملوك الأقطار بالجواهر والأحجار واللؤلؤ الكبار والعقيان النضار على الجمال في البراري والقفار وفي البحر أوسقوا بها السفن الكبار ووصل إليها من تلك الأصناف ما لا يوصف ولا يعد ولا يحصى ولا يكيف.
فأقاموا في عمل ذلك ثلثمائة سنة جداً من غير تعطيل أبداً؛ وكان شداد قد عمر في العمر تسعمائة سنة. فلما فرغوا من عمل ذلك أتوه وأخبروه بالإتمام، فقال لهم شداد انطلقوا فاجعلوا عليها حصناً منيعاً شاهقاً رفيعاً واجعلوا حول الحصن قصوراً، عند كل قصر ألف غلام ليكون في كل قصر منها وزير من وزرائي.
فمضوا وفعلوا ذلك في عشر سنين ثم حضروا بين يدي شداد وأخبروه بحصول القصد والمراد فأمر وزراءه وهم ألف وزير، وأمر خاصته ومن يثق بهم من
الجنود وغيرهم، أن يستعدوا للرحلة ويتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد تحت ركاب ملك الدنيا شداد، وأمر من أراد من نسائه وحرمه وجواريه وخدمه أن يأخذوا في الجهاد. فأقاموا في أخذ الأهبة لذلك عشرين سنة. ثم سار شداد بمن معه من الأحشاد مسروراً ببلوغ المراد حتى إذا بقي بينه وبين إرم ذات العماد مرحلة واحدة أرسل الله عليه وعلى من معه من الأمة الكافرة الجاحدة صيحةً من سماء قدرته، فأهلكتهم جميعاً بسوط عظمته وسطوته. ولم يدخل شداد ومن معه إليها ولا رأوها ولا أشرفوا عليها. ومحا الله آثار طرقها ومحجتها، فهي مكانها حتى الساعة على هيئتها.
فتعجب معاوية من إخبار كعب بهذا الخبر، وقال: هل يصل إلى تلك المدينة أحد من البشر؟ فقال: نعم، رجل من أصحاب محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو بصفة هذا الرجل الجالس بلا شك ولا إبهام.
وروى الشعبي عن علماء حمير من اليمن أنه لما هلك شداد ومن معه من الصيحة، ملك بعده ابنه شداد الأصغر، وكان أبوه شداد الأكبر استخلفه على ملكه بأرض حضرموت وسبأ، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت، وأمر فحفرت له حفيرة في مفازة فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى سبعين حلة منسوجة بقضبان الذهب ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب، وكتب فيه هذا الشعر:
اعتبر بي أيها المغ
…
رور بالعمر المديد
أنا شدّاد بن عاد
…
صاحب الحصن العميد
وأخو القوّة والقد
…
رة والملك الحشيد
دان أهل الأرض لي من
…
خوف قهري ووعيدي
وملكت الشرق والغر
…
ب بسلطانٍ شديد
وبفضل الملك والعدّ
…
ة أيضاً والعديد
فأتى هودٌ وكنّا
…
في ضلال قبل هود
فدعانا لو قبلنا
…
منه للأمر السديد
فعصيناه ونادينا
…
ألا هل من محيد
فأتتنا صيحة تد
…
وي من الأفق البعيد
فترامينا كزرعٍ
…
وسط بيداء حصيد
قال الثعلبي: ولقد وقع على هذه المفازة أيضاً رجل من حضرموت يقال له بسطام، ومعه رجل آخر ذكراً أنهما دخلا هذه المفازة فوجدا في صدرها درجاً فنزلا فيه فإذا هي مقدار مائة درجة، كل درجة قامة، وأسفلها أزج معقود في الجبل طوله مائة ذراع وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه مائة ذراع، وفي صدر الأزج سرير من ذهب وعليه رجل عظيم الجسد قد أخذ طول السرير وعرضه، وعليه الحلى والحلل المنسوجة بقضبان الذهب والفضة، وعلى رأسه لوح من ذهب وعليه كتابة فأخذا ذلك اللوح وحملا ما أطاقا من قضبان الذهب ونظرا إلى طاقة في أسفل الأزج يدخل منها ضوء، فقصداها وخرجا منها فإذا هما على ساحل البحر، فقعدا هناك إلى أن عبر بهما مركب فأشارا إليه ولوحا لأهله، فأتوا إليهما وسألوهما عن أمرهما فأخبرا بالحال، فحملوهما حتى قربوا من أرضهما، فوصلا وأخبرا بما اتفق لهما فتعجبوا منه.
عمان: وأرضها مجاورة لأرض الشمال، وهي أرض عامرة كثيرة الخلائق والبساتين والفواكه، إلا أنها بلاد حارة جداً. وببلاد عمان حية تسمى العربد، وتسمى الكرام، تنفخ ولا تؤذي، فإذا أُخذت وجعلت في إناء وثيق، وأُوثقت رأس ذلك الإناء وسد سداً محكماً، ووضعت في إناء آخر ثان، وأخرجت من بلاد عمان، عدمت من الإناء ولا توجد فيه ولا يعرف كيف ذهبت. وهذا من أعجب العجب. وبهذه الأرض دويبه صغيرة تسمى القراد، إذا عضت الإنسان انتفخ مكانها ودود، ولا يزال الدود يسعى في باطن الإنسان المعضوض حتى يموت. وبجبال أرض عمان قرود كثيرة تضر بأهلها ضرراً كثيراً وربما لا تندفع في بعض الأوقات إلا بالسلاح والعدد الكثيرة لكثرتها؛ وفي أرض عمان مغاص اللؤلؤ الجيد؛ وفي بحر عمان جزيرة قيس طولها اثنا عشر ميلاً في مثلها. وصاحب هذه الجزيرة تصل مراكبه إلى بلاد الهند ويغزوهم في غالب الأوقات ويغير على كفار الهند.
ويحكى أن عنده في الجزيرة المذكورة على مرسى البحر من المراكب التي تسمى السفينات مائتي مركب، وهذه المراكب من عجائب الدنيا وليس على وجه الأرض ومتن البحور مثلها أبداً؛ وهي أن المركب الواحد منها منحوت من خشبة واحدة؛ قطعة واحدة، والمركب الواحد منها يسع مائة رجل وخمسين، وبهذه الجزيرة دواب ومواشي وأشجار وفواكه.
اليمامة: هي بلاد طسم وجديس، وهي بلاد الزرقاء المعروفة بزرقاء اليمامة وأخبارها مشهورة منها: أن طسما وجديسا كانا ابني عم وهم العرب العاربة. وكان الملك في طسم اسمه عمليق، وكان جباراً ظالماً طاغياً، بلغ من طغيانه وتجبره أنه ألزم جديسا أن لا تزف بكر من بناتها إلى بعلها حتى يأتوا بها ليلاً أو نهاراً ووقت زفافها إلى عمليق حتى يفترعها ويأخذ بكارتها ثم يمضوا بها إلى زوجها العريس، وفي صبيحة زفافها يعملون وليمة لعمليق ولأصحابه من طسم. فمكث زماناً على هذا الحال وكان من أكابر جديس رجل يقال له الأسود، وله أخت حسناء مبدعة تدعى سعاد وكانت بكراً، فزوجت برجل من أولاد عمها: فلما حضرت ليلة زفافها ذهبوا بها إلى عمليق فافترعها على العادة ثم خرجت من عنده ودمها ظاهر على أثوابها؛ فنظرت فإذا أكابر جديس وأعيان قومها وأخوها الأسود جلوس في ناحية
من الحي يتشاورون في أمر الوليمة للملك في صبيحة تلك الليلة؛ فما أحسوا بها إلا وهي في وسطهم ثم مزقت أثوابها من طوقها إلى أذيالها وكشفت عن بطنها وفرجها، وأظهرت دمها ونظرت يميناً وشمالاً وقالت:
لا أحدٌ أذلّ من جديس
…
أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا قوم بعلٌ حرّ
…
من بعد ما ساق وسيق المهر
يقبضه الموت إذاً بنفسه
…
حتفا ولا يصنع ذا بعرسه
فقام الأسود أخوها ورمى بثوبه عليها وسترها وبكى وأمر بردها إلى بيتها، فلم تفعل، وقالت وهي تحرض على قتل عمليق والقوم يسمعون:
أترضون ما يعزى إلى فتياتكم
…
وأنتم رجال فيكم عدد النّمل
وتمشي سعاد في الدماء غريقة
…
جهاراً وقد زفّت عروساً إلى بعل
فلو أننا كنا رجالاً وكنتم
…
نساءً لكنا لا نقرّ بذا الفعل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
…
فكونوا نساءً لا تعدّمن الفحل
ودونكم طيب العروس فإنما
…
خلقتم لأثواب العروس وللذل
فبعداً وسحقاً للذي ليس ينتخي
…
ويختال يمشي بيننا مشية الرجل
قال فأخرجوها من بينهم ودبت في رؤوس القوم خمرة النخوة والمروءة فقاموا جميعاً إلى مكان آخر، فابتدأ الأسود أخو سعاد وقال: يا إخوتاه ويا بني عماه، قد رأيتم ماذا يصنع ببناتكم وقد اتفق لأختي ما اتفق لمن تقدمها فما الرأي؟ قالوا: ما ترى، فقال الأسود لو اجتمع رأيكم على واحد من بينكم وليتموه أمركم لا نكشف عنكم العار وانتصفتم من الأغيار، قالوا جميعاً: أنت ذلك الواحد فلا مخالف ولا معاند، وتحالفوا، فقال ائتوني بالغنم والبقر والإبل وانحروا وأكثروا من الذبح
وأوقدوا النيران وعلقوا القدور وأشغلوا النساء بالطبخ ثم ائتوني بسيوفكم تحت ثيابكم. ففعلوا فمضى بهم إلى المكان المعروف بالضيافة وكل أراضيهم رمال.
وكان من عادة عمليق أن كل بكر يفترعها يقف وليها خلف ظهره وهو جالس على السماط في مكان الضيافة لتعلم طسم كلها من هو ولي العروس وتتحققه مبالغة في إهانته.
قال: فدفن الأسود سيفه في الرمل خلف مجلس عمليق وقال لقومه من جديس هكذا فافعلوا، فإذا جلس الملك وقفت خلفه وسيفي تحت قدمي، فإذا اشتغل بالأكل وأخذت سيفي وضربت عنق عمليق يفعل كل منكم بمن هو فوق رأسه كما فعلت، فلا يفلت أحد من القوم. فقالوا. سمعاً وطاعة.
فأصبح عمليق سكران، وكذا أعيان قومه وأنى إلى مكان الضيافة في أعظم زينة وهم مسرورون منشرحون. فلما أخذوا مجالسهم قدموا الضيافة فرأى عمليق ما لم يره من كثرة الضيافة، فشكر الأسود وبش له. فقال واحد من قوم عمليق حين مد يده إلى الأكل: رب أكلة تمنع أكلات. فما استتم كلامه حتى قتل عمليق، وكل من كان معه جالساً على الأكل وحضر الضيافة، قتلةً واحدة وامتلأت الجفان والمناسف بدماء القتلى. وقد قيل: إنه قتل في تلك الساعة من طسم ما يزيد عن ثمانين ألفاً، وما بقي من طسم رجل إلا من غاب عن الوليمة. ووضعت جديس سيوفها فيمن بقي من الرجال ونهبت وسبت وفتكت في طسم فتكاً ذريعاً وهربت شرذمة من طسم إلى حسان بن تبع ملك حمير باليمن فاستغاثت به فأغاثها.
وتوجه حسان بعساكره
قاصداً لجديس وإعانةً لطسم، وكانت امرأة اسمها الزرقاء التي تقدم ذكرها تنظر الراكب مسيرة ثلاثة أميال. فلما كان حسان في أثناء الطريق وهو سائر بعساكره قال رجل من طسم لحسان: أيها الملك أدام الله سعدك إن امرأة من جديس اسمها الزرقاء تنظر الراكب من مسيرة ثلاثة أميال فربما تنظر عساكر الملك وتخبر قومها بذلك فيكيدوا لك كيداً عظيماً. فقال حسان: وما الرأي عندك؟ فقال: الرأي أن تقطع الأشجار فيأخذ كل راكب أمامه شجرة، فإذا رأت الزرقاء تقول لقومها: إن أشجاراً تسير إليكم على الخيل والنجائب فيكذبونها ويهملون أمرها، فتصبحهم وتبلغ الغرض.
فاقتلعوا الأشجار وحمل كل واحد أمامه شجرة وساقوا سوقاً حثيثاً فرأتهم الزرقاء فقالت لقومها: إني لأرى الشجر يسير إليكم سيراً سريعاً، وإني لأرى رجلاً من وراء شجرة يخصف نعلاً وآخر يشرب ماء وآخر ينهش كتفاً. فكذبوها فصبحهم حسان بعساكره وجموعه فأبادهم قتلاً وسبياً. وهرب الأسود فنزل على طيئ فأجاروه، وجيء بزرقاء اليمامة إلى حسان فأمر ينزع عينيها فإذا فيهما عروق سود مملوءة من الأثمد الجيد الخالص.
وأما السند: فهو إقليم عظيم مجاور للبحرين غربي الهند، وهو قسمان، قسم على جانب البحر. ويقال لتلك البلاد بلاد اللان، والمسلمون غالبون على هذا القسم. ومن مدنه المشهورة المنصورة وهي مدينة طولها ميل في ميل، وبها خلق كثير وتجار كثيرون والأرزاق بها دارة ووزن درهمهم خمسة دراهم وليس بها إلا النخل والقصب وتفاح شديد الحموضة. وهي مدينة حارة جداً وسميت هذه المدينة بالمنصورة لأن أبا جعفر المنصور الخليفة من بني العباس بنى أربع مدن على
أربع طوالع يقال إنهم لا يخربون أبداً إلا بخراب الدنيا إحداهن المنصورة هذه، وبغداد بالعراق، والمصيصة على بحر الشام، والرافقة بأرض الجزيرة.
والموليان: ويقال لها المليان وهي مجاورة لبلاد الهند وهي على قدر المنصورة وتسمى فرح بيت الذهب لأن محمد بن يوسف الحجاج وجد بها في بيت واحد أربعين بهاراً من الذهب، والبهار ثلثمائة وثلاثون مناً. وبها صنم كبير تعظمه أهل الهند والسند ومن في أراضيهم، ويحجون إليه ويتصدقون عليه بأموال جمة وحلي وجواهر وله خدم. ويزعمون أن لهذا الصنم مائتي ألف سنة يعبد، وعيناه جوهرتان لا قيمة لهما، وعلى بابه إكليل من ذهب مرصع بأنواع الجواهر الفاخرة.
أرض الهند: أرض واسعة عظيمة في البر والبحر والجنوب والشمال، وملكهم يتصل بملك الزنج في البحر وهي مملكة المهراج، ومن عادة أهل الهند أنهم
لا يملكون عليهم ملكاً حتى يبلغ أربعين سنة، ولا يكاد الملك عندهم يظهر للناس أبداً إلا نادراً في السنة.
وللهند ممالك كثيرة، فمنها مملكة المناكير واللادوت، ومملكة الفتوح، وهي مملكة عظيمة واسعة، ولأهلها أصنام يتوارثونها خلفاً عن سلف، ويزعمون أن لها مائتي ألف سنة تعبد، وملكها عظيم الملك كثير الجنود كثير الفيلة، وليس عند ملك من ملوك الأرض ما عنده من الفيلة، ويقال إن على مربطه ألف فيل، منها مائة فيل بيض كالقرطاس، ومنها ما ارتفاعه خمسة وعشرون شبراً. وقيل مات له فيل فوزن نابه الواحد فكان أربعين مناً.
ومن ممالك الهند مملكة قمار: وهي مملكة عظيمة واسعة، وإليها ينسب العود القماري. ومنها مملكة صيمور: ولها ممالك غير ما ذكر نحو اثنتي عشرة مملكة.
تمت الجهة الجنوبية ولنشرع الآن إن شاء الله تعالى في ذكر الجهة الشمالية وبلادها من المشرق إلى المغرب.
فأول بلاد هذه الجهة من المغرب الأقصى أرض الفرنج: وهي أمم عظيمة كثيرة لا تحصى، وهم غالبون على معظم جزائر الأندلس، ولهم في بحر الروم جزائر عظيمة
مشهورة مثل جزيرة صقلية وقبرص وجزيرة أقريطش وجزيرة كشميلي وجزيرة الخضراء وعدة جزائر، وغيرها.
فأما صقلية: فهي فريدة الزمان وأجمع المسافرون على تفضيلها وحسنها وعظم ملوكها وضخامة دولها. وفي هذه الجزيرة مائة وثلاثون مدينة أمهات قواعد خارجة عن القرى والضياع والرساتيق. فمن مدنها المشهورة يلزم وهي مدينتها العظمى وكرسي السلاطين وموطن الجيوش، وهي على ساحل البحر من الجانب الغربي وهي مدينة حسنة المباني بديعة الإتقان، وهي على قسمين قصور وربض، وهي على ثلاث قصبات: فالقصبة الوسطى تشتمل على قصور رفيعة ومنازل شامخة ومعابد وفنادق وحمامات، والقصبتان الأخريان قصور سامية وأبنية عالية وأسواق، وبها الجامع الأعظم الذي فيه من بدائع الصنعة المتقنة ومن أصناف التصاوير وأنواع التزاويق ما يعجز عن وصفه كل لسان، وليس بعد جامع قرطبة أحسن منه.
وأما الربض: فهو مدينة أخرى محدقة بالمدينة من جميع جهاتها. وبه المدينة القديمة المسماة بالخاصة التي كانت سكنى السلطان. والمياه بجميع جهات صقلية مخترقة والعيون بها متدفقة، وبها بساتين وجنات وفرج ومتنزهات وخارج الربض نهر عباس، وهو نهر عظيم وعليه أرحية كثيرة. ومن مدنها مدينة مسينا وهي مدينة عظيمة وبجبلها معدن عظيم للحديد يحمل منه إلى سائر البلاد.
ومنها أرض
طبرمين: وهي مدينة عظيمة ذات قصور منارة؛ وبساتين وفواكه، وبها جبل يسمى بطور الآيات. وبها معدن الذهب.
ومنها سر قوسة: وهي مدينة عظيمة يقصدها التجار من سائر الأقطار، والبحر محدق بها من جميع جهاتها. والدخول إليها والخروج منها على طريق واحدة.
ومنها نوطس: وهي من أرفع البلاد خصباً واسعة الديار عامرة الأقطار.
ومنها أرض طرلنس: وهي مدينة أهلية والبحر محيط بها من جميع جهاتها، ويوصل إليها على قنطرة، وبها أسماك يعجز الواصف عنها. وببحرها يصاد المرجان، وهو نبت في أرض هذا البحر كالشجر، وبها قنطرة عجيبة طولها ثلاثمائة ذراع في عرض عشرين ذراعاً.
جزيرة قبرص: وهي جزيرة كبيرة مقدار ستة عشر يوماً، بها مدن كثيرة وقرى عامرة ومزارع وأنهار وأشجار وثمار؛ وبها معادن الزاج القبرصي الذي ليس في البلاد مثله شيء، وبها من المواشي ما يكفي بلاد الفرنج.
ومن مدن الفرنج
المشهورة افرنسة: وهي مدينة عظيمة مجاورة لجزيرة الأندلس، وهي للفرنج كرومية للروم، كرسي ملكهم ومجتمع أمرهم وبيت ديانتهم، وبها أمم عظيمة لا تحصى كثرة.
أرض الجلالقة: وهي شمالي الأندلس؛ وهي أرض واسعة؛ وبها أمم لا تحصى كثرةً، ومدن عظيمة وقرى عامرة. والغالب على أهلها الجهل والحمق. ومن زيهم أنهم لا يغسلون ثيابهم أبداً بل يلبسونها وسخة إلى أن تبلى؛ ويدخل أحدهم بيت الآخر بغير إذنه، وهم مهملون في أديانهم كالبهائم بل أضل.
أرض الباشقرد: وهي بلاد الألمان وبلاد الإفرنجة؛ وهي أرض كبيرة واسعة وبها مدن.
أرض الكرج: وهي مجاورة لأرض خلاط، آخذها إلى الخليج القسطنطيني، ممتدة إلى نحو الشمال وهي أرض واسعة، وبها مدن عظيمة وبلاد كثيرة
وجبال شاهقة وقلاع منيعة وأرضهم في غاية الخصب والبركة؛ وبيت الملك عندهم محفوظ يرثه الرجال والنساء.
أرض الروم: وهو إقليم واسع الأقطار فسيح الديار، وبه مدن عامرة وضياع ورساتيق وأشجار وفواكه وثمار؛ وبه الخير الغامر والخصب الوافر؛ وكلها على جانبي البحر القسطنطيني ومن جهة بلاد الأرمن، له أحد عشر عملاً، منها عمل حربية وفيه خمسة حصون، وعمل العصاة وفيه ثلاثة حصون، وعمل الأرسيق وفيه خمسة عشر حصناً، وعمل الأفشين وفيه أربعة حصون وعمل حرسنون وفيه أربعون حصناً، وعمل البلقان وفيه ستة عشر حصناً. وهذه الأرض كانت في القديم بلاد اليونان فغلبت الروم عليها؛ ومن جملة أعمالها عمل كرميان وفيه عشرة حصون، وعمل الفنادق وفيه ثمانية عشر حصناً.
وببلاد الروم أيضاً مائة جزيرة كلها في البحر، وكلها عامرة آهلة. ومن مدن الروم المشهورة قسطنطينية وهي مثلثة الشكل، منها جانبان في البحر وجانب في البر وفيه باب الذهب. وطول هذه المدينة تسعة أميال وعليها سور حصين ارتفاعه واحد وعشرون ذراعاً، ويحيط به سور آخر يسمى الفصيل، ارتفاعه عشرة أذرع، لها مائة باب أكبرها الباب المصمت وهو مموه بالذهب، وبها القصر وهو من عجائب الدنيا وذلك أن فيه بديرون وهو كالدهليز إلى القصر، وهو زقاق يمشى فيه بين صفين من صور مفرغة من نحاس بديع الصنعة على صور الآدميين والخيل والفيلة والسباع وغير ذلك، وهي أكبر من الأشكال الموضوعة على أمثالها. وبالقصر وما دار به ضروب من العجائب.
وفي المدينة منارة موثقة بالحديد والرصاص إذا هبت الريح مالت يميناً وشمالاً وخلفاً وأماماً من أصلها، ويوضع الخزف تحتها فتطحنه كالهباء. وفيها أيضاً منارة من نحاس قد قلبت قطعة واحدة وليس لها باب، وبها أيضاً منارة قريبة من مارستانها قد ألبست جميعها من نحاس أصفر كالذهب محكم الصنعة والتخريم، وعليها قصر قسطنطين باني القسطنطينية، على قبره صورة فرس من نحاس، وعلى الفرس شخص على صورة قسطنطين وهو راكب وقوائم الفرس محكمة بالرصاص ما عدا يده اليمنى فهي موقوفة في الجو؛ وقد فتح كفه يشير نحو بلاد المسلمين، ويده اليسرى فيها كرة. وهذه المنارة ترى على مسيرة يوم في البحر، ونصف يوم في البر. ويقولون إن في يده طلسماً يمنع العدو. وقيل إن على الكرة مكتوباً بالرومي: ملكت الدنيا حتى بقيت في يدي مثل هذه الكرة، وخرجت منها هكذا لا أملك منها شيئاً؛ وبها منارة في سوق استبرين من الرخام الأبيض من رأسها إلى أسفلها صور مبنية ودار يزينها قطعة واحدة من النحاس، وبها طلسم إذا طلع الإنسان عليها نظر. إلى سائر المدينة، وبها قنطرة وهي من عجائب الدنيا سعتها يعجز الواصف عن ذكرها حتى يخرج الواصف إلى حد التكذيب، وبها من النقوش ما لا يحده وصف.
رومية الكبرى: مدينة عظيمة، دورها أيضاً تسعة أميال كالقسطنطينية، ولها أسوار محكمة. لها سوران منيعان من حجر، عرض كل سور منهما وسمكه مقدار معين، فأحدهما وهو الداخلي المحيط بالمدينة عرضه أحد عشر ذراعاً وارتفاعه اثنان وسبعون ذراعاً. وهناك أسطوانات من نحاس أصفر وقواعدها ورؤوسها مفرغ منها. وبها نهر يشقها، وهذا النهر كله مفروش ببلاط من نحاس كهيئة اللبن الكبار. وداخل المدينة كنيسة عظيمة طولها ثلاثمائة ذراع وارتفاعها ثلاثمائة ذراع وأركانها من نحاس مفرغ مغطى كلها بالنحاس الأصفر؛ وبرومية ألف ومائة كنيسة وجميع شوارعها وأسواقها مفروشة بالرخام الأبيض والأزرق، وبها ألف حمام وألف فندق، وبها كنيسة هائلة بنيت على هيئة بيت المقدس وبها مذبح، ظهره كله مرصع بالزمرد الأخضر؛ وعلى هذا المذبح تمثال من الذهب الإبريز طوله ذراع بالرشاشي يكون سبعة أذرع ونصف ذراع بذراعنا المعهود، وعيناه من ياقوت أحمر. ولهذه الكنيسة مائة باب، منها أبواب عشرة مصفحة بالذهب وباقيها مصفحة بالنحاس المحكم. وبها قصر الملك المسمى البابا، وهو قصر عظيم أجمع المسافرون على أنه لم يبن مثله على وجه الأرض؛ ورومية أكبر من أن يحاط بوصفها ومحاسنها ولها مدن قواعد مشهورة منها قشمير: وهي مدينة كبيرة تشبه رومية في الحسن والبنيان، ويقال إنها مدينة أهل الكهف.
وأما أصحاب أهل الكهف: فهم في كهف في رستاق بين عمورية ونيقية، وهم في جبل عال علوه نحو ألف ذراع، وله سرب من وجه الأرض كالمدرج يتعدى إلى الموضع الذي هم فيه. وفي أعلى الجبل كهف يشبه البئر ينزل منه إلى باب السرب ويمشى مقدار ثلاثمائة خطوة، ثم يفضى إلى ضوء هناك فيه رواق على أساطين منقورة فيها عدة بيوت، منها بيت مرتفع العتبة مقدار قامة، وعليه باب من حجر، وفيه أصحاب الكهف وهم سبعة نيام على جنوبهم، وأجسامهم مطلية بالصبر والكافور، وعند أرجلهم كلب راقد مستدير، رأسه عند ذنبه، ولم يبق منه إلا رأسه وعجزه. وفقار الظهور، ووهم أهل الأندلس في أصحاب الكهف حيث زعموا أنهم الشهداء الذين في مدينة لوشة، قال بعض الثقات: لقد رأيت القوم وكلبهم في هذا الكهف بين عمورية ونيقية سنة عشر وخمسمائة.
القرم: مدينة عظيمة بها أسواق ومساجد وفنادق وحمامات، وهي فرضة مملكة الترك وما حولها، وبها اللحم والسمك والعسل واللبن كثير جداً، وبيوتها غالباً خشب.
وأما ما على البحر النيطشي من بلاد الروم فمدن عظيمة مثل أطرابدية وخزية، وقابية وقمانية السوداء، وسميت بذلك لأن لها نهراً يدخل في شعب جبل وماؤه أبيض كالزلال ويخرج منه أسود كالدخان، وقمانية البيضاء وتسمى مطلوقة وماطر خاروسية وأردبيس وفلبسين، وكلها مدن عظام قواعد بلاد الروم، وبين أردبيس وحصن زيادة شجرة عظيمة لا يعرف أحد ما هي وما اسمها؟ ولها حمل يشبه اللوز ويؤكل بقشره وهو أحلى من العسل.
أرض الصقالبة: وهي أرض كبيرة واسعة من ناحية الشمال وبها مدن وقرى ومزارع، ولهم بحر حلو يجري من ناحية المغرب إلى المشرق، ونهر آخر يجري من
ناحية البلغار ليس لهم بحر ملح لأن بلادهم بعيدة عن الشمس، ولهم على البحر مدن وبلاد وقلاع منيعة.
أرض الجنوبة: وهي أرض واسعة، وبها مدن وبلادهم غربي قسطنطينية على بحر الروم. ومن مدنهم المشهورة جنوة وهي مدينة حصينة ذات أسوار.
أرض البنادقة: وهي إقليم عظيم ومدينتهم العظمى تسمى بندقية وهي على خليج يخرج من بحر الروم ويمتد نحو سبعمائة ميل في جهة الشمال، وهي قريبة من جنوة بينها وبين جنوة في البر ثمانية أيام، وأما في البحر فبينهما أما بعيد أكثر من شهرين، والبندقية مقر خليفتهم واسمه البابا وهي شمال الأندلس. ومدنهم كلها على جانبي الخليج البندقي، وهي مدن وقرى عامرة ورساتيق.
أرض برجان: وهي أرض عظيمة واسعة، وبها من البرجان أمم لا تحصى، وهي أمة طاغية قاسية وبلادهم واغلة في الشمال.
الباب والأبواب: وهي شمالي أرض الفرس: أما الباب: فبناها أنوشروان على بحر الخزر، وبها بساتين وفواكه، وبها مرسى الخزر وغيره، وعليها سلسلة تمنع الداخل والخارج.
وأما الأبواب: فهي شعاب في جبل القبق، واسم هذا الجبل في كتب التواريخ القديمة جبل الفتح، وفيها حصون كثيرة، منها باب صول وباب اللان، وباب السابران، وباب الأزقة وباب سجسجي، وباب صاحب السرير، وباب قيلان شاه، وباب كوريان، وباب إيران شاه، وباب ليان شاه، وجبل الفتح هذا المذكور هو جبل عظيم شامخ. وزعم أبو الحسن المسعودي أن فيه ثلاثمائة بلد، كل بلد له لسان لا يشبه الآخر.
قال الجواليقي: وكنت أنكره حتى تحققته، وهذا الجبل فيه كثير من الممالك فمنها: مملكة شروان شاه، وهي ملكة واسعة لها إقليم ومدن وقرى وعمارات.
ومنها مملكة الكر: وهي مملكة واسعة ذات أقاليم ومدن وقرى وعمارات وأمم عظيمة جبارة كفار لا ينقادون لأحد، ومملكة لايذان شاه، ومملكة الموقانية، ومملكة الدودانية وأهلها أخبث العالم، ومملكة طبرستان، ومملكة حيدان، ومملكة عتيق، ومملكة زنكوان، ومملكة الجندخ، ويقال إن لهذه المملكة اثني عشر ألف قرية، ومملكة اللان ومملكة الأنجاز، ومملكة الخزرجية، ومملكة السخطا، وهم قوم جبارون لا ينقادون لأحد، ومملكة الصعاليك ومملكة كشك، ويقال إن أهل هذه المملكة ليس في الممالك أحسن من رجالهم ولا من نسائهم ولا أكمل محاسن ولا أجمل أوصافاً ولا أطيب خلوة ولا مضاجعة لنسائها، من الحسن والتيه والصلف واللذة الزائدة الوصف التي لم توجد في سائر نساء الدنيا، ويبلغ الرجل منهم المائة
وقوته في نفسه وفي مجامعته باقية، وإذا جامع الواحد منهم امرأة فإنه ينسى الدنيا وما فيها إلى أن ينفصل عن المجامعة، ونساؤها إذا بلغت المرأة خمسين سنة أو ستين أو سبعين فلا تتغير محاسنها عما كانت عليه وهي ابنة عشرين سنة، فسبحان الخالق البارئ المصور الفتاح الرزاق.
ومملكة السبع بلدان، ومملكة إرم، وفي هذا الجبل صحراء كالكهف نحو من مائة ميل بين جبال أربعة ذاهبة في الهواء. وفي وسط هذه الصحراء دائرة منقورة كأنها قد خطت ببيكار منحوتة من حجر صلد استدارتها خمسون ميلاً قطعها قائم كأنه حائط مبنى، بعد قعرها نحو من ستة أميال بالتقريب، لا سبيل إلى الوصول إلى مستوى تلك الدائرة، ويرى فيها بالليل نيران عظيمة في جهات مختلفة، ويرى بها أنهار مادة ولكن كرقة الأصابع، ويرى فيها بالنهار وقت الظهيرة أناس لطاف الأجسام جداً كالذباب، ويرى فيها دواب كالنمل، ولا يعلم من البشر هم أم من غيرهم، ولا يزال الضباب عليها والأبخرة تتصاعد منها. وعند الله علمها.
ومن وراء تلك الدائرة دائرة أخرى صغيرة قريبة العقر فيها آجام وغياض، وفيها نوع من القرود منتصبات القامات والقدود مدورات الوجوه كالآدميين، إلا أنهم ذوو شعور، وهم في غاية الفهم والذكاء، وإذا وقع القرد الواحد منهم لأحد من تلك الأرض حمله إلى من شاء من الملوك فيحصل له بواسطة ذلك الخير الكثير، لأن الملوك يرغبون في تلك القرود لخاصية فيها ويبذلون المال الكثير في القرد الواحد منها. فمن ذكائه وخاصيته أنه يقف على رأس الملك بالمذبة ليلاً ونهاراً ينش عليه ولا يضجر ولا يفتر، وإذا قدم إلى الملك طعام وضع منه في إناء وقدم إليه فإن تناوله القرد وأكله أكل الملك من ذلك الطعام وإن تناوله ورده ولم يأكل منه شيئاً علم الملك أن الطعام مسموم.
ويقال إن بين الخزر وبين بلاد المغرب أربع أمم من الترك يرجعون إلى أب واحد وهم ذوو بأس شديد وقوة، ولكل أمة منها ملك وهي: قحلى، ويجعود، ويحناك، وأبو جردد، ويقال إن الفرس لما فتحت تلك البلاد بنى قباذ مدينة البيلقان وبردغة وسد البر، وبنى أنوشروان وابنه مدينة السابران وكسكر والباب، والأبواب، وعمل على أبواب جبل القيق الذي يقال إنه جبل الفتح من خارجه ثلاثمائة وستين قصراً مما يلي أرض الخزر.
أرض الروس: وهي أرض واسعة الأقطار إلا أن العمارات بها منقطعة لا متصلة، وبين البلد والبلد مسافة بعيدة، وهم أمم عظيمة لا ينقادون لأحد من الملوك ولا لشريعة من الشرائع وعندهم معدن الذهب؛ ولا يدخل إليهم غريب إلا قتلوه في الوقت والحال: وأرضهم بين جبال محيطة بها وتخرج من هذه الجبال عيون كثيرة تقع كلها في بحيرة تعرف بطوهي وهي بحيرة كبيرة في وسطها جبل عال فيه وعول كثيرة وتبر كثير؛ ومن طرفها يخرج نهر ديانوس.
وغربي أرض الروس جزيرة دار موشة؛ وفي هذه الجزيرة أشجار أزلية كثيرة منها أشجار إذا دار حول ساقها عشرون رجلاً ومدوا باعاتهم على ساق الشجرة
الواحدة فلا يحرشوا بها. وأهلها يوقدون النار في بيوتهم نهاراً لبعد الشمس عنهم وقلة الضوء. وبهذه الجزيرة قوم مستوحشون يعرفون بالبراري رؤوسهم لاصقة بأكتافهم ولا أعناق لهم، ودأبهم ينحتون الأشجار الكبار، ويتخذون أجوافها بيوتاً يأوون إليها، وأكلهم البلوط. وبها من الحيوان المسمى بالببر شيء كثير، وهو حيوان غريب الوصف ولا يوجد ولا يعيش إلا في تلك الأمكنة.
والروس ثلاث طوائف طائفة تسمى كركيان ومدينتهم تسمى كركانية؛ وطائفة تسمى أطلاوة ومدينتهم تسمى طلو؛ وطائفة تسمى أرتى ومدينتهم تسمى أرتى.
أرض التركش: وهي طويلة عريضة متاخمة لسد يأجوج ومأجوج، ويجلب من جهتها السنجاب الفاخر، والسمور والحرير والمسك وجلود النمر.
أرض الخزر: وهي أرض واسعة وبها أمم لا تحصى؛ ومن مدنها المشهورة سمندو وهي مدينة حسنة؛ وكانت في القديم مدينة عظيمة وكان بها من الكروم ما يخرج عن حد الوصف، فخربتها الروس. وآخر أعمالها أول أعمال صاحب السرير، وهي مدينة عظيمة وتسمى صاحب السرير؛ لأن صاحبها اتخذ سريراً من ذهب مرصعاً بالجواهر يقصر عنه الوصف صنع له في عشر سنين؛ فلما تغلبت الروم على بلده بقي السرير على حاله، وقيل إنه باق إلى الآن.
أثل: وهي مدينة كبيرة عامرة، وأكثر بيوتها خركاوات ولبود، وهي ثلاث قطع يقسمها نهر عظيم يرد من أعالي البلاد التركية ويسمى نهر أثل يتشعب من هذا النهر ثم يمر نحو بلاد التغزغز، ويصب في بحر نيطش وهو بحر الروس،
ويتشعب من هذا النهر نيف وسبعون نهراً، وليس من الملوك التي في تلك النواحي من عنده جند مرتزقة غير ملك الخزر.
برطاس: أرض طويلة مقدار خمسة عشر يوماً وهم متاخمون الخزر وبيوتهم خركاوات ولبود. ونهر برطاس يأتي من نحو بلاد التغزغز، وعليه مدن كثيرة وبلاد عامرة. ومن بلاد برطاس تحمل جلود الثعالب السود التي تسمى البرطاسي. قال المسعودي؛ تبلغ الفروة السوداء منها إلى مائة دينار. وفي أرض الخزر جبل يسمى باثرة وهو معترض من الجنوب إلى الشمال وفيه معادن الفضة السهلة المأخذ ومعادن الرصاص. وليس على بحر الخزر من الضفة الشرقية عمارة.
أرض البلغار: وهي واسعة ينتهي قصر النهار فيها عند البلغار والروس في الشتاء إلى ثلاث ساعات ونصف ساعة. قال الجواليقي: ولقد شهدت ذلك عندهم فكان طول النهار مقدار ما أصلي أربع صلوات، كل صلاة في عقيب الأخرى مع الأذان وركعات قلائل والإقامة والتسبيح. وعماراتها متصلة بعمارة الروم وهم أمم عظيمة ومدينتهم تسمى بلغار وهي مدينة عظيمة يخرج واصفها إلى حد التكذيب.
أرض الغزية: وهي غربي أرض الأدكش، وهي أرض واسعة متصلة العمائر من جهة الشمال والغرب والشرق ولهم جبال منيعة وعليها حصون حصينة، وينزل إليهم نهر من جبل مرغان، يوجد في هذا النهر إذا زاد التبر الكثير ويخرج من قعره
حجر اللازورد، وفي غياضه التبر الكثير. وبها ثعالب صفر لونها لون الذهب يتخذ منها فراء لملوك تلك الناحية، تبلغ الفروة منها جملة من المال، ولا يدعون أحداً يخرج بشيء منها إلى البلاد، ومن خرج بشيء من ذلك خفية استباحوا دمه وماله، كل ذلك بخلاً بها واستحساناً وافتخاراً بها.
أرض الأدكش: وأهلها صنف من الترك عراض الوجوه كبار الرؤوس صغار العيون كثيرو الشعور، وأرضهم عريضة طويلة واسعة كثيرة الخيرات والخصب، وهي شرقي الغزية، وبها من المواشي واللبن والعسل شيء لا يوصف، حتى إن الرجل يذبح الشاة ولا يجد من يأكلها، وأكثر أكلهم لحوم الخيل وشربهم ألبانها.
وجنوبها بحيرة تهامة وهي بحيرة عظيمة دورها مائتان وخمسون ميلاً وماؤها شديد الخضرة إلا أن ريحه ذكي وطعمه عذب جداً. وبها سمك عريض جداً إذا وقعت هذه السمكة في شبكة الصياد انتشر في الحال ذكره وقام على حيله وأنعظ إنعاظاً شديداً، ولا يزال كذلك حتى يخرج السمكة من شبكته، ولونها مرقش فيه من كل لون عجيب حسن. وتزعم الأتراك أن الشيخ الهرم إذا أكل من لحم هذه السمكة أمكنه أن يفتض الأبكار لقوة خاصية هذه السمكة.
وفي وسط هذه البحيرة أرض كالجزيرة وفي وسط الجزيرة بئر محفورة لا يحس لها قعر ولا منتهى، وليس بها شيء من الماء، وبهذه الجزيرة أنهار كثيرة كبار منها نمامة وهو نهر عميق وخروجه من ثلاث عيون دفاعة. وأهل تلك البلاد يقصدون هذا النهر بأولادهم يغمسونهم فيه قبل البلوغ والاحتلام فلا يصيبهم بعد ذلك من أمراض الدنيا شيء البتة، إلا ما جاء من قبل الموت. وإذا مرض عندهم أحد من هؤلاء المغموسين علموا أن موته في تلك المرضة، صح لهم ذلك في تجاربهم. وإذا سقي العليل من مائه برأ من علته، كائنةً ما كانت، بعد سبعة أيام من وقت شربه.
وإذا غسل الإنسان رأسه بالغاً كان أو غيره، لم يحصل لرأسه صداع في تلك السنة. وقد أكثروا الكلام في هذا النهر حتى إنهم قالوا أشياء يجب السكوت عنها، وقدرة الله عز وجل صالحة لكل شيء خارق.
وشرقي هذه البحيرة جبل مراد وهو جبل مرتفع لا يمكن الصعود إليه من حيث الظاهر بوجه من الوجوه لأنه كالحائط القائم الأملس، وفي أسفله باب كبير فيه بيت متسع يتوصل منه إلى جوف هذا الجبل فيه مدرج يصعد منه إلى أعلى الجبل حيث المدينة. وبوسط هذه المدينة عين نابعة يشربون منها ويفيض باقي مائها فيصب في حفيرة على سور المدينة، لا يعلم أين يذهب ولا أين يستقر.
وشمالي أرض الأدكش جبل مرغان وهو جبل طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ثماني عشرة مرحلة، في وسطه موضع عال مستدير كالقبة، وفي وسطه بركة ماء لا يقدر أحد على العوم فيها، لا من انسان ولا من حيوان، لأن كل شيء نزل فيها ابتلعته، حتى إنهم رأوا فيها أخشاباً كباراً أو صغاراً تبتلعها في الحال. ويقال إن في تلك البركة أسفل الجبل مغارة يسمع فيها دوي عظيم هائل، يعلو دويه في وقت وينخفض في وقت، ومتى تقدم أحد إليها من انسان أو غيره لم ير بعد ذلك، يقال إنه يخرج منها ريح جاذبة للمعترض لها، فتأخذه إلى داخل المغارة. وقد حكى صاحب كتاب العجائب والغرائب عن هذه المغارة أشياء لا يمكن ذكرها ويجب السكوت عنها لعدم قبول العقل لها، ونشهد أن الله على كل شيء قدير.
أرض سحرت: وهي أرض واسعة، وبها جبل إرجيفا، وبها معادن النحاس يعمل فيها أكثر من ألف صانع لصاحب سحرت، ويعمل في هذه الأرض من الفخار والبرام شيء عجيب، وبساحل بحرها ألوان من الحجارة الملونة المثمنة.
أرض خزخيز: وهي متصلة بأرض التغزغز من المشرق شمالاً مما يلي البحر الصيني، وهي أرض واسعة كثيرة المياه وافرة
الخصب، بها نهر يجري إليهم من نحو الصين، وعليه أرحاء وبه أنواع السمك المسمى بالسطرون الذي يفعل في قوة الجماع ما لا يفعله السقنقور وليس له شوك.
وبقربها جزيرة الياقوت ويحيط بهذه الجزيرة جبل صعب المرتقى لا يوصل إلى ذروته إلا بجهد جهيد، ولا يوصل إلى أسفل الجزيرة أصلاً لأن بها حيات قتالة، وبأرضها حجارة الياقوت، وأهل تلك الأرض يتحيلون عليه بأن يذبحوا الدواب ويقطعوها وهي حارة ويلقوا بها في تلك الجزيرة، فتقع على الأحجار ويتعلق بها ما قسم، فيخطفها الطير ويخرج بها من الجزيرة فيتبعون محط الطير فيجدون ما يجدون. وهذه الأمة تحرق موتاها بالنار.
أرض الكيماكية: هي شمال أرض التغزغز، وهم أمم عظيمة وأرضهم عامرة كثيرة الخصب وبأرضهم مفاوز عظيمة ولهم قلعة حصينة وشربهم من الآبار المنقورة. وجميع ساحل الكيماكية يوجد فيه التبر عند هيجان البحر فيجمعونه ويصولونه من الزئبق ويسكبونه في أرواث البقر فيأخذ الملك حصة من ذلك والباقي لصاحبه. وأهل المدينة هذه المعروفة بكيماكية يلبسون الحرير الأصفر والأحمر ويعبدون الشمس، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أرض الخلخية: أرض واسعة ولها قلعة حصينة في رأس جبل شاهق، والماء قد عم ذلك الحصن مستديراً به من جميع جهاته وأهلها ذوو عدد وعدد.
أرض الخزلجية: شمالي بلاد التبت وغربي بلاد التغزغز وهي طويلة عريضة، وبها أمم عظيمة من الترك ومدينتهم العظمى تسمى خاقان الخزلجية وهي في غاية الحصانة ولها اثنا عشر باباً من الحديد الصيني.
الأرض المنتنة: وهي أرض ممتدة طولها عشرة أيام في عرض عشرة وهي خرساء الأطناب سوداء الإهاب، وأهلها جرد الثياب، وماؤها غائر ودليلها جائر ورائحتها منتنة وأهويتها وخمة، وهي غربي الأرض الخراب التي خربها يأجوج ومأجوج، وهي بلاد موحشة.
أرض الخراب: بلاد واسعة الأقطار خالية الديار لا يدخلها سالك، ومن دخلها وقع في المهالك لكثرة وبائها ووحشة أرضها وتغير هوائها وكثرة الأمطار وعدم الساكن والسالك ووجود الأخطار. وقيل إنها في هذا الوقت قد عمرت.
أرض يأجوج ومأجوج: والجبل الذي يحيط بهم يسمى فزنان وهو جبل قائم الجنبات لا يصعد عليه أحد وبه ثلوج منعقدة لا تنحل عنه أبداً، وبأعلاه ضباب لا يزول أبداً، وهو ماد من بحر الظلمات إلى آخر المعمورة لا يقدر أحد صعوده، وخلق هذا الجبل من بلاد يأجوج ومأجوج عدد لا يحصى. وفي هذا الجبل حيات وأفاع عظام جداً، وربما رقي هذا الجبل في النادر من يريد أن ينظر إلى ما وراءه فلا يصل إليه ولا يمكنه الرجوع فيهلك، وربما رجع من الألف واحد فيخبر أنه رأى خلف الجبل نيراناً عظيمة.
يقال إن يأجوج ومأجوج كانا أخوين شقيقين تناسلا وكانت لهم غارات على من جاورهم قبل وصول ذي القرنين إليهم، فأخلوا كثيراً من البلاد وأهلكوا غزيراً من العباد، وكانت منهم طائفة عفيفة ينكرون ذلك عليهم، فلما وصل ذو القرنين إليهم وأغار بجيوشه عليهم شكت الطائفة العفيفة إليه يأجوج ومأجوج وما فعلوه في البلاد والأمم المجاورة لهم من الفساد وأنهم على خلاف مذهبهم وبريئون من معتقدهم ومفتعلهم، وشهدت لهم قبائل كثيرة بذلك، فمال إليهم وتركهم خارج السد، وأقطعهم تلك الأراضي يعمرونها ويأكلونها، وهم الخزلجية والسنية
والخزخيزية والتغزغزية والكيماكية والجاجانية والأدكش والتركش والخفشاخ والجليخ والغز والبلغار، وأمم عظيمة يطول ذكرها، وسد على المفسدين. وكل المفسدين قصار القدود لا يتجاوز أحدهم ثلاثة أشبار، ووجوههم في غاية الاستدارة وعليهم شعور مثل الزغب وآذانهم مستديرة مسترخية، تلحق أذن الرجل منهم طرف منكبيه. وألوانهم بيض وحمر وكلامهم صفير وفيهم زنا فاحش، وبلادهم ذات أشجار ومياه وثمار وخصب كثير ومواش كثيرة إلا أنها بلاد ثلج ومطر وبرد على الدوام.
حكي عن سلام الترجمان، وكان عارفاً بألسن كثيرة حتى قيل: إنه كان يعرف أربعين لغة ويجاري فيها، أنه رأى هذا السد عياناً وذلك أن أمير المؤمنين الواثق بالله من خلفاء بني العباس بعثه إليه ليراه ويتحقق كيفيته
ويخبره بصفته عن حقيقته، فمشى إليه وعاد بعد سنتين وأربعة أشهر فأخبره أنه سار ومن معه حتى وصلوا إلى صاحب السرير بكتاب أمير المؤمنين فأكرمهم وأرسل معهم أدلاء فمضوا حتى دخلوا إلى تخوم سحرت وساروا إلى أرض طويلة ممتدة كريهة الرائحة فقطعوها في عشرة أيام وكان معهم شيء يشمونه لأجل تلك الرائحة التي في تلك الأرض فإنها تأخذ بالقلب، وانفصوا من تلك الأرض ووقعوا في أرض خراب لا حسيس بها ولا أنيس مسيرة شهر، وخرجوا منها إلى حصون بالقرب من جبل السد، وأهل تلك الحصون يتكلمون بالعربية والفارسية.
وهناك مدينة عظيمة اسم ملكها خاقان أتكش، فسألونا عن حالنا فأخبرناهم أن أمير المؤمنين الخليفة على المسلمين أرسلنا لنرى السد عياناً ونرجع إليه بصفته فتعجب هو ومن عنده منا ومن قولنا أمير المؤمنين الخليفة ولم يعرفوا ما هو؟ وبقي السد عنا فرسخين من هذه المدينة.
ثم سرنا ومعنا أناس منهم حتى سرنا إلى باب بين جبلين عظيمين عرضه مائة وخمسون ذراعاً وفيه باب من حديد طوله مائة وخمسون ذراعاً وقد اكتنفه عضادتان، عرض كل عضادة منهما خمسة وعشرون ذراعاً وارتفاعها مائة وخمسون ذراعاً، وعلى أعلاها دروند من حديد طوله مائة وخمسون ذراعاً وهي العتبة العليا، وفوقه شرافات من حديد، في طرف كل شرافة قرنان من حديد منثنيان إلى الشرافة الأخرى يتصل بعضها ببعض، وكل ذلك من لبن حديد مغيب في نحاس مذاب، وللباب مصراعان مغلقان عرض كل مصراع خمسون ذراعاً في ثخن أربعة أذرع، وقائمتان في
ذروتي الجبلين على قدر الدروند. وعلى الباب قفل من حديد طوله سبعة أذرع في غلظ ذراع ونصف وارتفاع القفل من الأرض أربعون ذراعاً وفوق القفل بخمسة أذرع حلقة أطول من القفل بخمسة أذرع، وعليها مفتاح معلق طوله ذراع ونصف، وله اثنتا عشرة سنة من الحديد، معلق في حلقة طولها وعرضها ذراع في ذراع بسلسلة من الحديد المصفى. وعتبة الباب السفلى سمك عشرة أذرع وطولها مائة ذراع من حديد مغموسة الطرفين تحت العضادتين، وكلها بالذراع الرشاشي.
ورئيس تلك الحصون يركب في كل جمعة في كبكبة عظيمة حتى يأتي الباب، وبأيديهم مرزبات من حديد فيضربون بها على ذلك الباب، فتدوي تلك الأرض ليسمع من خلف الباب من يأجوج ومأجوج، فيعلمون أن هناك حفظة وحراساً. وبعد ضرب الباب ينصتون بآذانهم مستمعين فيسمعون من وراء الباب دوياً كدوي الرعد.
وبقرب هذا السد حصن طوله عشرة أذرع في عشرة، ومع هذا الباب من الجانبين حصنان كل واحد منهما مائة ذراع في مائة ذراع. وبين هذين الحصنين عين ماء عذب. وفي أحد الحصنين بقية من آلات البناء، وهي قدور من حديد ومغارف من حديد، وهي فوق دكك مرتفعة، وعلى كل دكة أربع قدور وهي أكبر من قدور الصابون. وهناك أيضاً بقايا من اللبن الحديد وقد لصق بعضها ببعض من الصدأ، طول كل لبنة ذراع ونصف في عرض ذراع وارتفاع شبرين. وأما الباب المذكور والدروند الذي في أعلاه، والقفل، فكأنما فرغ الصانع من عمله الآن، وهي غير صدئة ولا بالية، قد دهنت بأدهان الحكمة المانعة من الصدأ.
قال سلام الترجمان: سألت من هناك هل رأيتم قط أحداً منهم؟ فأخبروا أنهم رأوا منهم عدداً كثيراً فوق شرفات السد، فهبت بهم ريح عاصف فرمت منهم ثلاثة، كل واحد منهم طوله دون ثلاثة أشبار، ولهم مخاليب موضع الأظفار، وأنياب وأضراس كالسباع، وإذا أكلوا بها يسمع لأكلهم حركة قوية، ولهم أذنان عظيمتان يفترشون الواحدة ويلتحفون الأخرى.
فكتب سلام هذه الصفات كلها في كتاب ورجع إلى الخليفة الواثق بالله.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن يأجوج ومأجوج يرزقون التنين، يقذفه عليهم السحاب فيأكلونه، وإنما يقذف عليهم ذلك في أيام الربيع في كل عام، فإذا تأخر ذلك عن وقته المعهود استمطروه كما يستمطر الناس الغيث. وحكى صاحب كتاب العجائب أن في داخل بلاد يأجوج ومأجوج نهراً يسمى المسهر لا يعرف له قعر، وإذا تقاتلوا وأُسر بعضهم طرحوا الأسرى في ذلك النهر فيرون عند ذلك طيوراً عظاماً تخرج إلى من يطرح في ذلك النهر من كهوف هناك في جانبي الوادي، فتخطفهم قبل أن يصلوا إلى الماء وترتفع بهم إلى تلك الكهوف فتأكلهم هناك. ويقال إن بهذا الوادي ناراً تتأجج طول الزمان بقدرة الله تعالى وليس وراء يأجوج ومأجوج إلا المحيط والله سبحانه وتعالى أعلم:" وما يعلمُ جنودَ ربِّك إلا هو وما هيَ إلا ذِكرى للبشَر ". " ويخلُق ما لا تعلمون، وعلى اللهِ قَصْدُ السبيل ".
انتهى فصل البلدان والأقطار ولنسرع الآن في ذكر الجبال والبحار والجزائر والآبار وما بها من العجائب للاعتبار.