الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في خصائص البلدان
لم تذكر في ترجمة العنوان لأبي منصور الثعالبي رحمة الله تعالى عليه. فمنها: الشام جعلها الله دار الإسلام على التأبيد والدوام، ومن خصائصها أنها كانت مواطن الأنبياء عليهم السلام ومعدن الزهاد وعش العباد؛ ومن خصائصها التفاح الذي يضرب به المثل في الحسن والطيب والرائحة، ومنها الزجاج الذي يشبه به كل شيء رقيق في ألسنة الأنام: أرق من زجاج الشام، ومن خصائصها غوطة دمشق. وأطيب نزه الدنيا أربع: غوطة دمشق، ونهر الأُبلة، وشعب بوان، وصغد سمرقند.
مصر: خلد الله ملك سلطانها؛ ومن خصائصها كثرة الذهب والدنانير، وكان يقال في المثل السائر ما معناه: من دخل مصر ولم يستغن فلا أغناه الله، ومنها
الكتان الذي يبلغ قيمة الحمل منه ألف دينار، ويقال له دق مصر، وهو من الكتان المحض لا غير، ومثل هذا لا يوجد في الدنيا. وحمير مصر موصوفة بحسن المنظر وكرم المخبر حتى لا يخرج من بلد أمثالها ولا أفهم منها.
ومن خصائصها الهرمان ووصفهما يعجز عنه اللسان، ومنها ثعابين لا تكون إلا بمصر وهي عجيبة الشأن في إهلاك بني آدم والحيوان وليس لها عدو إلا النمس، وهي إحدى العجائب لأنها دوبية متحركة إذا رأت الثعبان دنت منه من غير خوف ولا جزع فينطوي الثعبان عليها ويريد أن يأكلها فيزفر النمس زفرة ويقد الثعبان قطعتين أو قطعاً، ولولا النمس لأكلت الثعابين سكان مصر. والنمس بمصر أنفع لأهلها من القنافذ لأهل سجستان.
ومن خصائصها النيل والمقياس. حكي أنه ليس في الدنيا أكبر من نيلها نهراً ولا أحكم من مقياسها أمراً. ومن عيوبها أن أهلها يكرهون المطر كراهية شديدة حتى يخرجون في ذكر كراهيته إلى ما لا فائدة في ذكره لأن المطر لا يوافقهم ويهلك زرعهم
وخصت بالتماسيح التي هي أخبث حيوان في الماء وليس فيها منفعة بوجه من الوجوه.
اليمن: من خصائصها السيوف والبرود والقرود، والزرافة التي فيها شبه من الناقة والثور والنمر، ومن خصائصها العقيق الذي ملأ الدنيا كثرة.
البصرة والكوفة: كان يقال: الدنيا بصرة ولا مثلك يا بغداد. وكان جعفر بن سليمان يقول: العراق عين الدنيا والبصرة عين العراق والمربد عين البصرة وداري عين المربد وقال الحافظ في المد والجزر بالبصرة: ما قولكم وظنكم بقوم يأتيهم الماء صباحاً ومساء فإن شاؤوا أذنوا له وإن شاؤوا حجبوه.
ويحكى أن أمير المؤمنين هرون الرشيد قال لجعفر بن يحيى وزيره وهما بالكوفة في آخر الليل: قم بنا يا جعفر نتنسم هواء الكوفة قبل أن تكدره العامة بأنفاسها. ومن أصدق ما قيل: الكوفي لا يوفي.
بغداد: قال أحمد بن طاهر: هي جنة الأرض وواسطة الدنيا وقبة الإسلام ومدينة السلام وغرة البلاد ودار الخلفاء ومعدن الظرفاء واللطائف، وبها أرباب النهايات في العلوم والدرايات والحكم والصناعات هواؤها ألطف من كل هواء، وماؤها أعذب من كل ماء ونسيمها أرق من كل نسيم، لم تزل مواطن الكاسرة في سالف الزمان، الذين أظهروا المعدلة في الرعايا ووطنوا الأقاليم والبلدان ومنازل الخلفاء الأعلام في دولة الإسلام. ومن عجائبها أنها على كونها حظيرة الخلفاء ومقرها، لا يموت فيها خليفة. قال عمارة بن عقيل فيها:
قضى ربّها ان لا يموت خليفةٌ
…
بها، وبما قد شاء في خلقة يقضي
الأهواز: من خصائصها أن بها ثلاثة بلاد، كل واحدة منها مخصوصة بشيء لا يوجد مثله في البلاد، منها عسكر مكرم الذي لا يكون أحد يقاومه؛ ومنها السكر الذي لا يعادله شيء في الدنيا طيباً وكثرة؛ ولا يكون إلا بها، ومنها تستر التي بها طراز الديباج الفاخر، وهو موصوف مع ديباج الروم. ومنها السوس التي بها طرز الخز النفيسة الملوكية، ومن عيوب الأهواز العقارب الجرارات القاتلة، ولا يوجد بها أحد محمر الوجه، لا رجل ولا أمرأة ولا صبي أصلاً.
فارس: من خصائصها ماء الورد الذي لا يوجد مثله في سائر الأرض طيباً. والجوري منه منسوب إلى إحدى بلادها، والموميات التي تمتحن بأن تكسر رجل ديك ثم يسقى منه وزن شعيرة فإن كان خالصاً انجبر الكسر حتى كأنه لم يكن.
أصفهان: هي موصوفة بصحة الهواء وجودة التربة وعذوبة الماء؛ وقلما تجتمع هذه الصفات في بلدة.
ويحكى أن الحجاج ولى بعض خواصه أصفهان؛ وقال له: وليتك بلدةً حجرها الكحل، وذبابها النحل، وحشيشتها الزعفران.
الري: من خصائصها الثياب المسيرة والمقاريض الوثيقة.
طبرستان: يقال إنها قد شانها مازان غيرها من كثرة الأشجار والخضرة والمياه. ومن خصائصها النارنج والأُترج.
جرجان: وهي جبلية سهلية برية بحرية، يعدون بها مائة نوع من أنواع الرياحين والبقول والحشائش الصفراوية والثمار والحبوب السهلية والجبلية التي هي مبذولة بها يتعيش منها الغرباء والفقراء باجتنائها وبيعها وجمعها. وفيها حب الرمان وبزر قطونا. والتين مباح لهم.
ومن خصائصها: العناب الذي لا يكون في سائر البلدان مثله. وتلقى حتى في الصيف والشتاء في أسواقها من الخيار والفجل والجزر والرياحين كالخزامى والخيري والبنفسج والنرجس والأترج والنارنج. وهي مجمع السمك وطير الماء والدراج والحجل، حتى يقال لها بغداد الصغيرة إلا أنها وبيئة مختلفة الهواء كثيرة الإيذاء، قتالة الغرباء، ويقال إن جرجان مقبرة لأهل خراسان. وكان أبو تراب النيسابوري يقول: لما قسمت البلاد بين الملائكة وقعت جرجان في قسم ملك الموت، أي لكثرة الموتى بها.
نيسابور: يقال إن كل بلدة موسومة بسابور فهي جليلة نفيسة، كسابور من فارس وجند سابور من الأهواز، وقرى سابور من الهند، ولا كنيسابور التي هي سرة خراسان وغرتها. ويقال إن كل بلد لها اسمهان فناهيك بها شرفاً وعظمة، كمكة يقال لها بكة، والمدينة يقال لها يثرب، ومصر يقال لها الفسطاط، وحلب يقال لها الشهباء، وبغداد يقال لها مدينة السلام، وبيت المقدس يقال لها إيلياء؛ ودمشق يقال لها الشام، والري يقال لها المحمدية؛ وأصفهان يقال لها حي، ويقال لها اليهودية أيضاً، وسجستان يقال لها زرنج، وخوارزم يقال لها كاث. ونيسابور يقال لها أبرشهر.
وكان المأمون يقول: عين الشام دمشق، وعين الروم قسطنطينية، وعين العراق بغداد، وعين خراسان نيسابور، وعين ما وراء النهر سمرقند. وكان ابن الليث صاحب نيسابور يقول: ألا أقاتل عن بلدة حشيشها البرساس، وحجرها الفيروزج، وترابها طين الأكل الذي لا يوجد مثله في الأرض، ويحمل من زورن نيسابور إلى أدنى الأرض وأقصاها ويتحف به الملوك والسادات.
أما الفيروزج: فلا يكون إلا بنيسابور، وربما بلغ فيمة الفص المثقال والمثقالين وفوق ذلك. وقد جمع الخضرة والنضارى والخاصية، وكونه لم يتغير بالماء الحار. وتبلغ القطعة المتميزة منه مائة دينار. ولما دخل إليها أحمد بن طاهر قال: يا لها من بلدة جليلة، لو لم يكن لها عينان، وكان ينبغي أن تكون مياهها التي في باطن الأرض على ظاهرها، وأن تكون مسالخها التي على ظاهرها في باطنها. وأنشد:
ليس في الأرض مثل نيسابور
…
بلد طيب ورب غفور
طوس: من خصائصها الشيح الذي لا يكون إلا بها، والحجر الأبيض الذي يتخذ منه القدور والمقالي والمجامر، وقد يتخذ منه كل ما يتخذ من الزجاج: كالأقداح والكيزان وغيرها. وقيل: قد ألان الله لأهل طوس الحجر كما ألان لداود عليه السلام الحديد.
هراة: مدينة عظيمة ينشد فيها:
هراة أرضٌ خصبها واسع
…
ونبتها التفّاح والنرجس
ما أحدٌ منها إلى غيرها
…
يخرج إلا بعد ما يفلس
ومن خصائصها: الكشمش وهو نوع من الزبيب الذي لا يوجد ببلد غيرها مثله، والطائفي أيضاً وهو نوع فاخر من الزبيب، وهو الذي يقال فيه:
وطائفيّ من الزبيب به
…
تنقّل الشّرب حين تنتقل
كأنه في الإناء أوعيةٌ
…
من السحاريّ ماؤها عسل
مرو: وهي مدينة جليلة بناها ذو القرنين؛ ويقال لها أم خراسان: وينشد فيها:
بلد طيب وماءٌ معين
…
وثرى طيبه يفوح عبيرا
وإذا المرء قدّر السير منه
…
فهو ينهاه باسمه أن يسيرا
بلخ: وإليها ينسب جيحون، ويقال له نهر بلخ، ويقال: العيش في الصيف ببلخ كتصحيفه. ومن خصائصها النيلوفر والبنفسج والبجاد.
سجستان: يقال ماؤها وشل ولصها بطل. ويروى في أفاعيها عن شبيب بن شبة أنه قال: صغار أفاعيها سيوف وكبارها حتوف. ومن شروط أهلها أن لا يصيدوا شيئاً من قنافذها أصلاً لأنها تأكل أفاعيها وحياتها. وقد ذكرنا أفاعي سجستان مع ثعابين مصر آنفاً، وجرارات الأهواز، وعقارب شهر زور، كما يذكر حكماء اليونان، وصاغة حران، وحاكة اليمن، وأطباء جند نيسابور، ولصوص طوس، ورماة الترك، وسحرة الهند.
بست: يقال إن هواءها كهواء العراق وماءها كماء الفرات. وسئل بعض الفضلاء عنها فقال: صفتها تثنيتها يعني أنها بستان.
غزنة: هي مخصوصة بصحة الهواء وعذوبة الماء، فالأعمار بها طويلة والأمراض بها قليلة. وما ظنك بأرض تنبت الذهب ولا تلد الحيات ولا الحشرات المؤذية؟ فهي أذكى أرض وأطيبها وأنظفها.
ومن خصائصها أن يخرج منها الرجال الأنجاد الأجلاد. وكان أبو مسلم يكتب إلى داود صاحب غزنة أن أنفذ إلي الرجال من يزوالستان، والخيل من تخارستان، ومن مناقبها أنها قليلة الثمار لأن كثرة الثمار تقترن بكثرة الأمراض، وكلما كانت الثمار أقل ببلدة كانت الأمراض بها أقل، والهواء بها أصح والتربة أخف والماء أهنأ وأمرأ.
بلاد الهند: ناهيك بها دياراً يأتي من بحرها الدر، ومن جبلها الياقوت، ومن شجرها العود، ومن ورقها العطر والكافور؛ وأنشد الثعالبي في غلام هندي:
هذا غزال الهند في الغزلان
…
كمثل عود الهند في العيدان
وجه بديع الحسن في الغلمان
…
مصوّر من حدق الحسان
كأنه في ناظر الإنسان
…
إنسان عين الحسن في الزمان
ومن خصائصها الفيل والكركند والببر والببغاء والطاووس والعاج والساج والتوتيا، والقرنفل والسنبل والتنبل والنارجيل، وجوز الطيب والسيوف والحراب والذهب والعطر، وهي أكثر خصائص من كل البلدان على الإطلاق.
سمرقند: لما أشرف عليها قتيبة بن مسلم قال: كأنها السماء في الخضرة، وكأن قصورها النجوم اللامعة، وكأن أنهارها مجرة. وكان يقول: سمرقند جنة في الأرض ترعاها الخنازير. ومن خصائصها الكواغد التي أزرت بكواغد الأرض في الطول والعرض، والجلود الرقاق التي لا توجد في الدنيا، وكان الأوائل يكتبون كتب العلوم والحكمة والتواريخ فيها لحسنها ولينها وقامتها، وقال الشاعر:
للناس في أُخراهم جّنة
…
وجنة الدنيا سمرقند
يا من يساوي أرض بلخٍ بها
…
هل يستوي الحنظل والقند
الصين: ومن خصائصها الظروف الصينية، ولهم الفخار الفاخر الذي لا يوجد في غيرها. ولهم الإبداع في خرط التماثيل وإتقانها، وعمل التصاوير والنقوش
المدهشة كالأشجار والوحوش والطيور والأزهار والثمار وصور الإنسان على اختلاف الحالات والأشكال والهيئات، حتى لا يعجزهم شيء إلا الروح والنطق، ثم لا يرضون بذلك حتى إن مصورهم يفصل بين الشخص الضاحك من الغضب والضاحك من العجب والضاحك من سرور والضاحك من الخجل، ولهم الحرير المثمر، وبها المماطر التي لا تبل بالمطر، ولهم الستائر التي يستتر بها الفارس والفرس في الحرب ولا تؤثر السهام فيها ولا الجروح، ويكون زنة كل واحدة منها دون الرطل الشامي، ولهم مناديل الغمر التي إذا اتسخت ألقيت في النار فتعود جديدة ولم تحترق.
بلاد الترك: هي بلاد توازي بلاد الهند في كثر خصائصها كالمسك والسمور والسنجاب والقماقم والفنك، والثعالب السود والحذنك واليشم، والحزحار الذي يتخذ من ذنبه وعرفه المطارد.
فأما تبت فهي أيضاً من بلاد الترك، وقد خصت بجوهر شريف وعرض لطيف. فأما الجواهر فالذهب الذي ينبت فيها. وأما العرض فمن أقام بها اعتراه الفرح والسرور، ولو مات له عشرة من الأولاد لا يعتريه حزن ولا هم ولا يدري ما سبب ذلك، وإن الغريب الذي يدخلها لا يزال مسروراً منبسطاً حتى يخرج منها. وهذه خصوصية عظيمة.
خوارزم: تناسب بلاد الترك أيضاً في الخصائص، ويجلب منها السمور والوبر الفاخر والسموك المملحة والبطيخ الغريب النوع والطعم والحلاوة، وهي أشد بلاد الله برداً وشتاء، حتى إن جيون يجمد مع عمقه وعظمته فتمشي على متنه الجامد
القوافل والعجل والفيول، وربما بقي جامداً مدة تزيد على الشهرين لكنها تصير كالأرض اليابسة الجلدة.
انتهت خواص البلدان.
وهنا نبذة تناسب هذا المكان
حكي أن أبا علي الهاشمي وأبا دلف الخزرجي كانا يوماً في مجلس أنس عند عضد الدولة بن بويه، وكانا شاعرين بليغين، فقال أبو علي لأبي دلف: صب الله عليك الحمى الخيبرية والدمامل الجزرية والقروح البلخية. فقال له أبو دلف من غير ترو: يا مسكين قد بلغ عظمك السكين أتنقل التمر إلى البصرة والعطر إلى اليمن؟ لا بل صب الله عليك ثعابين مصر وأفاعي سجستان، وعقارب شهرزور، وجرارات الأهواز، ووباء جرجان، وصب علي برود اليمن ومقصب مصر، وتفاصيل إسكندرية وحلل الصين، وخزوز الكوفة، وأكسية فارس، وشربناف أصفهان، وصقلاطون الروم وتصافي بغداد، ومنير الري وطوز نيسابور، وملح مرو، وسنجاب خزخيز، وسمور بلغار وثعالب الخزر، وفنك كاشغر، وحواصل هراة وقندس التغزغز وتكك أرمينية، وجوارب قزوين، وأفرشني بسط شيراز، وأخذ مني خصيان الخطا وغلمان الترك وسراري بخارى ووصائف سمرقند، وحملني على نجائب نجد وعتاق البادية وحمير مصر وبغال برذعة، ورزقني تفاح
الشام وموز اليمن، ودبس أرجان وتين حلوان وعناب طبرستان، وإجاص بست ورمان الري وكمثرى نهاوند ومشمش طوس، وسفرجل خلاط وبطيخ خوارزم، وأشمني مسك تبت وعود الهند وكافور قنصور وأترج المربد ونارنج البصرة ومنثور الصغد ونوفر السودان، وورد جور، ونرجس الدست، وشاهسفرم ترمذ.
فلما سمع عضد الدولة ذلك ضحك وتعجب من استحضاره خواص البلدان في الحال، وأمر له بخلعة سنية ومال. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
يتلوه نبذة من أخبار ملوك الزمان السالفة منقول من كتاب الذهب المسبوك في سير الملوك للإمام الحافظ العلامة أبي الفرج بن الجوزي، تغمده الله برحمته.
قال: حكى بعض علماء التاريخ أن قيصر ملك الشام والروم أرسل رسولاً إلى ملك فارس أنوشروان صاحب الإيوان. فلما وصل ورأى عظمة الإيوان وعظمة مجلس كسرى على كرسيه والملوك في خدمته، ميز الإيوان فرأى فيه اعوجاجاً في بعض جوانبه، فسأل الترجمان عن ذلك فقيل: ذلك بيت لامرأة عجوز كرهت بيعه عند عمارة الإيوان، فلم ير ملك الزمان إكراهها على البيع فأبقى بيتها في جانب الإيوان، فذلك ما رأيت وسألت.
فقال الرومي: وحق دينه إن هذا الاعوجاج أحسن من الاستقامة، وحق دينه إن هذا الذي فعله ملك الزمان لم يؤرخ فيما مضى لملك ولا يؤرخ فيما بقي لملك. فأعجب كسرى كلامه وأنعم عليه ورده مسروراً محبوراً.
ولما فتح كسرى بلاد العجم وأحكم البنيان وشيد الحصون ومهد البلاد ونشر العدل والإنصاف في الحاضر والباد، وجند الجنود وحشد الحشود، سار إلى نحو الجزيرة وآمد، وفتح ما هناك من البلاد إلا آمد فإنه عجز عنها لتشييد بنائها وتمكين سورها، فرحل إلى الفرات وافتتح حلب وأعمالها وكثيراً من الشام، وغدر بقيصر ملك الشام والروم؛ وقتل ابن أخته بحمص ثم سار إلى أنطاكية وقتل صاحبها وافتتحها. فخاف قيصر وهادنه وحمل إليه الجزية. وكان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك نزل قوله تعالى:" ألم غُلِبَتِ الرومُ في أدنى الأرض وهمُ من بَعدِ غلَبهم سَيغلِبون ". والقضية قصة مشهورة ليس هذا موضع ذكرها.
قال: وحمل كسرى من الشام من أعاجيب الرخام وبدائع المرمر وأنواع البلاط المجزع والأحجار البهجة؛ فبنى بالعراق مدينة تسمى برومية وزخرفها بأبهى ما قدر عليه، وكان أراد أن يصنع ذلك بآمد فلم يقدر على أخذها وفتحها؛ فجعل رومية على هيئتها وشكلها. واشتد سلطان كسرى وعظم ملكه حتى هابته ملوك الأرض وهادنته وحملت إليه الجزية، وتزوج بشاه روزا ابنة خاقان ملك الترك ولم يكن في زمانها أكمل منها محاسن، ولا أبدع صورةً وشكلاً.
وكتب إليه ملك الصين: من نقفور ملك الصين صاحب قصر الدر والجواهر، الذي يجري في ساحة
قصره نهران يسقيان العود والكافور، الذي يوجد ريح قصره في فرسخين، وتخدمه بنات ألف ملك؛ والذي في مربطه ألف فيل أبيض، إلى أخيه كسرى أنوشروان.
وأهدى إليه فارساً هو وفرسه من الدر المنضود، وعينا فرسه من الياقوت الأحمر؛ وأهدى إليه ثوباً من الحرير الصيني، فيه صورة الملك كسرى وهو جالس على كرسيه في إيوانه، والتاج على رأسه والملوك في خدمته، والخدم بأيديهم المذاب المصورة المنسوجة بالذهب في أرض لازوردية، في صندوق مرصع بأنواع اليواقيت الفاخرة التي لا قيمة لها؛ وأهدى إليه جارية خطائية تغيب في شعرها الحالك إذا أسبلته، يتلألأ جمالاً وبهاءً، وغير ذلك من طرف الصين وأعاجيبه.
وكتب إليه ملك الهند: من ملك الهند وعظيم أراكنة الشرف، صاحب قصر الذهب والزمرد والياقوت والزبرجد، الذي أبواب قصره من الزمرد الزباني. إلى أخيه كسرى أنوشروان ملك فارس. وأهدى إليه ألفاً من العود الهندي الذي يذوب على النار كالشمع ويختم عليه كما يختم على الشمع فتبين فيه الكتابة. وأهدى إليه جاماً من الياقوت البهماني، يفتح شبراً في شبر، سمكه عرض أصبعين. وأهدى إليه أربعين درة يتيمة، كل واحدة تزيد على ثلاثة مثاقيل، وأهدى إليه عشرة أمنان كافور كالفستق، وأكبر جارية طولها عشرة أشبار إلى صدرها، وخمسة أشبار إلى فرقها، تضرب أهداب عينيها على خديها فكأن بين أجفانها لمعاناً كلمعان البرق من بياض مقلتيها وسواد سوادهما مع صفاء لونها ودقة تخاطيطها وإتقان شكلها مقرونة الحاجبين. وكان كتابه في لحاء شجر الكادي والكتابة بالذهب. وهذا شجر يكون بأرض الصين والهند، وهو نوع من نبات الطيب عجيب ذو لون أبيض كالفة مصقول بالمرآة، ينطوي كالورق ولا يتكسر، وريحه أعطر شيء من الطيب.
وأهدى إليه ملك تبت من عجائب بلاده مائة جوشن تبتية ومائة قطعة تخافيف كالبرانس كل واحدة منها تستر الفارس وفرسه ومائة ترس تبتية، لا تعمل في هذه الأتراس والجواشن والتخافيف عوامل الرماح ولا بواتر الصفاح ولا شدائد نصول الجراح، وزنة كل قطعة من المذكورات ما بين أربعين إلى ستين درهماً. وأهدى إليه أربعة آلاف من من المسك التبتي، وتسعين غزالاً من غزلان المسك في الحياة ومائدة عظيمة من الذهب الأحمر مرصعة بأنواع الدر والجواهر يدور حولها نحو ثلاثين رجلاً، قد كتب على حافتها: أشهى الطعام ما أكله الآكل من حله وجاد على ذي الفاقة من فضله. ما أكلته وأنت تشتهيه فقد أكلته، وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك.
وكان لكسرى خواتيم أربعة: خاتم للخراج، فصه ياقوت أحمر يتقد كالنار، نقشه: العدل للعدل. وخاتم للضياع، فصه فيزوزج نقشه: العمارة العمارة. وخاتم للضرب والعقوبة، فصه من زمرد، نقشه: التأني التأني. وخاتم للبرد والرسل فصه درة بيضاء، نقشه: العجل العجل. وكان له مائدة أهداها إليه قيصر ملك الروم من العنبر، فتحها ثلاثة أذرع، على ثلاث قوائم من الذهب مفصصة بأنواع الجواهر، أحد الأرجل الثلاثة ساعد أسد وكفه، والآخر ساق وعل، والثالث كف عقاب ومخلبه وثلاثون جاماً من الجزع اليماني، فتح كل منها شبر في شبر. وكان عنده خمسة آلاف درة، زنة كل واحدة منها ثلاثة مثاقيل. وكان يقول خير الكنوز معروف أودعته الأحرار، وعلم توارثته الأعقاب، وأطول الناس عمراً من كثر علمه فانتفع به من بعده. وكان لكسرى عشرة آلاف غلام من الترك والخطا وهم في غاية الحسن والجمال واستقامة الصور والتخطيط، في آذانهم قروط الذهب الأحمر فيها الدر
والياقوت معلقاً، ولباسهم أقبية الديباج المدثر عشرة صنوف، كل صنف منها على قد واحد وزي واحد ولون واحد من ملابس الديباج، ولا يزالون كذلك وكلما التحى واحد منهم أو مات أتي بغيره مكانه في الوقت والحال. وكان على مربطه تسعة آلاف فيل، منها ألفان وسبعمائة فيل أشد بياضاً من الثلج، ومنها ما ارتفاعه أربعون شبراً، مات منها فيل فوزن أحد نابيه فوجد مائتين وأربعين مناً بالبغدادي.
ولما ملك الاسكندر فارس والمغرب والشام وبنى الاسكندرية ودمشق وغيرهما وأحاديثه طويلة ارتحل نحو الهند والسند والصين فوطئ أرضها وأذل ملوكها، وأهديت إليه الهدايا من الترك والتبت وغيرهم إلى أن أنهى مطلع الشمس من العمران، وكان معلمه أرسطاطاليس، فبلغه أن بأقصى الهند ملكاً عادلاً من ملوكهم وهو ذو حكمة وديانة وسياسة وقد أتى عليه مئات من السنين وهو قاهر لطبيعته مميت لشهوات نفسه، يتجمل بكل خلق كريم ويظهر بكل فعل جميل. فكتب إليه الإسكندر يقول: إذا أتاك كتابي هذا فلا تقعد ولو كنت ماشياً، حتى تأتيني وإلا مزقت ملكك وألحقتك بمن مضى.
فلما ورد الكتاب على ملك الهند كتب جواباً للإسكندر بأحسن خطاب وألطف جواب، ولقبه بملك الملوك العادلة وأعلم الإسكندر في جوابه أنه قد اجتمع عنده أشياء لم تجتمع عند ملك من ملوك الدنيا، من ذلك ابنة لم تطلع الشمس على أحسن صورةً وهيئة منها، ومنها فيلسوف يخبرك عن مرادك من قبل أن تسأله؛ ومنها طبيب لا تخشى معه من الأدواء والأمراض والعوارض إلا ما جاء من قبل الموت، ومنها قدح إذا ملأته شرب منه عسكرك بجمعه ولا ينقص من القدح شيء، وإني مهد جميع ذلك إلى ملك الملوك وسائر إليه.
قال: فلما قرأ الإسكندر جوابه وسمع بذكر هذه الأشياء قلق إليها قلقاً عظيماً، فأرسل إليه جماعة من الحكماء أن يشخصوه إليه إن كان كاذباً وأن يخيروه في المقام إن كان صادقاً ويأتوه بهذه الأربع. فمضى القوم إلى ملك الهند فتلقاهم أحسن لقاء وأنزلهم أرحب منزل وأكرمهم أعظم إكرام مدة ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الرابع جلس لهم مجلساً خاصاً وأقبل على الحكماء وباحثهم في أصول الحكمة والفلسفة والعلم الإلهي والمبادئ الأول والهيئة والأرض ومساحتها والبحار وغيرها، حتى ملأ صدورهم من العلم والحكمة. ثم أخرج ابنته إليهم وأبرزها عليهم فلم يقع أحدهم على عضو من أعضائها فأمكنه أن يتعدى ببصره عن ذلك العضو إلى غيره، وشغله تأمل ذلك العضو وحسن تخطيطه واتقان صنعه. فخافوا على عقولهم من الزوال، ثم رجعوا إلى نفوسهم عند سترها وقد اندهشوا، وسير صحبتهم القدح والطبيب والفيلسوف، وودعهم مسافة من الأرض بعد أن خيروه في المقام.
فلما ورد ذلك على الإسكندر أمر بإنزال الطبيب والفيلسوف في دار الضيافة والإكرام، ونظر إلى الجارية فطاش عقله عند مشاهدتها وشغف بها، وكان الإسكندر إذ ذاك ابن خمس وعشرين سنة، وكان من أحسن الناس خلقاً وخلقاً، وأكثر الملوك إنصافاً وعدلاً، وأغزر الخلق معرفة وحكمة، وأعظم الملوك هيبة وصيتاً، فأمر القيمة بإكرامها واحترامها وتعظيمها وتقديمها على سائر حرمه وأهله.
ثم قصت الحكماء ما جرى بينهم وبين ملك الهند من المباحث، فأعجب الإسكندر وامتحن القدح بأن ملأه ماء فشرب منه جميع عسكره ولم ينقص منه شيء. وسار في الحال إلى الفيلسوف يمتحنه فيما قيل عنه بإناء مملوء من السمن يحيث لا يمكن أن يزاد فيه شيء، وقال للرسول: سر به إلى الفيلسوف وضعه بين يديه ولا تخبره بشيء أصلاً. فلما وصل به وضعه بين يديه ووقف ولم يكلمه فأخذه الفيلسوف
بيديه ونظره وتأمله بانفاذ بصيرته فأخذ إبراً صغاراً كثيرة وغرزها في السمن حتى بقي وجه السمن كالقنفذ، وسيرها إلى الاسكندر، فلما رآها الإسكندر ووقف عليها حرك رأسه ثم أمر فجعل من الإبر كرة حديد وسيرها إلى الفيلسوف.
فلما وقف الفيلسوف عليها ضرب منها مرآة مصقولة ترد صورة من تأملها من الأشخاص لشدة تلألئها وصفائها وزوال درنها، وأمر بردها إلى الإسكندر. فجعلها الإسكندر في طست فيه ماء وسيرها إلى الفيلسوف. فلما نظرها الفليسوف جعلها كرة مقعرة حتى طفت على وجه الماء وسيرها إلى الإسكندر. فلما رآها الإسكندر ثقبها وملأها تراباً وردها إلى الفيلسوف. فلما رآها الفيلسوف تغير لونه ودمعت عينه وسيرها إلى الإسكندر على حالها من غير أن يحدث في التراب حادثة.
قال: فلما كان من الغد جلس الإسكندر جلوساً خاصاً وأمر بإحضار الفيلسوف فلما أقبل نحو الإسكندر، رآه الإسكندر شاباً حسناً كأحسن الناس، فتعجب من حسنه وهيئته، فحط الفيلسوف يده على أنفه ثم أتى بتحية الملوك. فأشار الإسكندر إليه بالجلوس على كرسي وضعه له بين يديه فجلس حيث أمره، ثم قال له الإسكندر: ما بالك لما نظرت إليك وضعت أصبعك على أنفك؟ فقال أيها الملك المعظم دام لك الملك والنعم، لما نظرت إلي استحسنت صورتي وخطر بخاطرك هل حكمة هذا الشاب على قدر صورته، فوضعت اصبعي على أنفي أُخبر الملك أنه ليس في الهند مثلي. فقال: صدقت قد خطر ذلك بخاطري.
ثم قال له الاسكندر: يا رئيس حدثني بما كان بيني وبينك من الرسائل، فقال: أيها الملك أرسلت إلي بإناء مملوء من سمن لا يمكن أن يزاد فيه، تخبرني أنك قد امتلأت من الحكم فلا يمكن أن يزاد على حكمتك شيء، فأخبرتك أن عندي من دقائق الحكم ولطائفها ما ينفذ في حكمتك كما نفذت الإبر في السمن. ثم أرسلت إلي بالإبر كرة، فأخبرتني أن نفسك قد علاها من وسخ الصدأ بقتل الأعداء وسفك الدماء ما قد علا هذه الكرة، فأخبرتك أن عندي من الحيلة والملاطفة ما يجعل نفسك مثل صفاء هذه المرآة حتى تشرق على الموجودات، ثم أعلمتني بالطست والماء أن الأيام والليالي قد قصرت عن ذلك فأخبرتك أني سأعمل في الحيلة على إيصالك إلى العلم الكثير في العمر القصير، كما شرفت الحديد الذي من طبعه الرسوب في الماء على وجه الماء فثقبت المقعر وملأته تراباً، تخبرني بالموت والقبر، فلم أغيره مخبراً للملك أن لا حيلة في الموت.
فتعجب الاسكندر وقال: والله ما غادر ما خطر بخاطري. ثم أمر له بخلع وأموال كثيرة فأبى وقال: أنا راغب فيما يزيد في عقلي، فكيف أُدخل على عقلي ما ينقصه؟ أيها الملك أحسن إلى أهل الهند وكف عن معارضتهم.
وقيل: إن القدح الذي شرب منه عسكر الاسكندر وما نقص منه شيء هو قدح آدم أبي البشر عليه السلام، معمول من ضروب الخواص والروحانية؛ وشاهد من الطبيب من لطائف صنائعه ما بهر عقله، ومن عجائب علاجه وتلطفه في إزالة الآفات والأدواء.
وقيل: مر ببابل فأُخبر عن غار هناك وبه آثار عظيمة، فأتاه ووقف على بابه فإذا عليه مكتوب بالسرياني: يا من نال المنى وأمن الفنا وقد وصل إلى هنا، اقرأ وافتكر
وادخل إلى الغار واعتبر، واعلم أني قد ملكت البلاد وحكمت على العباد وما نلت من الدنيا المراد، قال: فدخل الإسكندر الغار وقد أسبل الدموع الغزار، فوجد شيخاً عظيم الهامة طويل القامة على سرير من الذهب ملقى، وقد ترك جميع ما ملك، وألقى يده اليمنى مقبوضة والأخرى مفتوحة، ومفاتيح خزانته عند رأسه مطروحة، وعلى يمينه لوح مكتوب فيه: جمعنا الماء وأمسكناه، وعلى شماله لوح مكتوب فيه: ثم رحنا وتركناه؛ وعند رأسه لوح مكتوب فيه:
لقد عمّرت في زمن سعيد
…
وكنت من الحوادث في أمان
وقاربت الثريّا في علوٍّ
…
فصرت على السرير كما تراني
فقال الإسكندر: سبحان الملك الذي لا عز إلا عزه. ووقع في قلبه الوجل والوله، فترك كل ما كان له وتخلى للعبادة وأصلح عمله وفرق الذخائر والخزائن، وتصدق بماله في الحصون والمدائن، وأعتق العبيد والخدم، وانتصب لعبادة الله على أحسن قدم وقال: أعزل نفسي قبل العزل، وأحاسبها قبل حساب يوم الفصل، ولبس الخشن والمسوح رغبة في ملك الأبد والثواب الممنوح، وجرح نفسه بسكين الجوى، حتى أعرضت عن مهاوي الهوى، لما وجد في الغار الدوا، وترك ما حاز واحتوى؛ واعتزل اللهو وانزوى، ولبساط الرغبة طوى؛ ولسان حاله ينشد لما تم له واستوى:
دع الهوى، فآفة العقل الهوى
…
ومنتهى الوصل صدودٌ ونوى
وراقب الله، فأنت راحل
…
إلى الثرى، ومعظم العمر انطوى
ما ينفع الإنسان يوم موته
…
ما حاز من أمواله وما احتوى
يقسمها وارثه برغمه
…
وهو بنار إثمها قد اكتوى
تب قبل شيب الراس، فالتائب لا
…
يتبع شيب رأسه إلا التوى
ما دام في العمر اخضرارٌ عوده
…
سهل، وصعبٌ عوده إذا ذوى
إذا أُضيع أوّل العمر أبت
…
أعجازه إلا اعوجاجاً والتوا
قيل: ورجع الإسكندر من بابل وقد أحاطت به البلابل وظهرت به آثار السقام، حتى ثقل لسانه بالكلام وكان قد رأى في منامه وطيب لذيذ أحلامه أنه سيموت فوق أرض من حديد وتحت سماء من حديد، ثم أخذه العطش والحمى والتلهب والظمأ ففرشوا تحته دروع الحديد وظللوا فوقه بالجحف الفولاذ استجلاباً للتبريد، فأفاق بعد زمان من الغشوة واللهف، فرأى دروع الحديد تحته وفوقه الجحف، فأيقن بارتحاله، فكتب كتاباً إلى أمه بصورة حاله وأوصاها بأن تعمل له وليمة عجيبة الأسلوب، وأن لا يحضرها إلا من لا أصيب بخليل ولا محبوب.
فلما مات رحمه الله وضع في تابوت من ذهب ليحمل إلى أمه بالإسكندرية، واجتمعت له هذه النعم وعمره ست وثلاثون سنة. وكان مدة ملكه تسع سنين. فقال حكيم الحكماء: ليتكلم كل منكم بكلام ليكون للخاصة معزياً وللعامة واعظاً. فقام أحدهم وقال: لقد أصبح مستأسر الملوك أسيراً. وقال آخر: هذا الإسكندر كان يخبأ الذهب فصار الذهب يخبؤه. وقال آخر: العجب كل العجب أن القوي قد غلب والضعفاء مغترون. وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً ولا واعظ أبلغ من وفاتك. وقال آخر: رب هائب لك لا يقدر أن يذكرك سراً وهو الآن لا يخافك جهراً. وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض في طولها والعرض، ليت شعري كيف حالك في قدر طولك؟. وقال آخر: يا من كان غضبه الموت هلا غضبت على الموت؟ وقال آخر: سيلحق بك من سره موتك. وقال آخر: مالك لا تحرك عضواً من أعضائك وقد كنت تزلزل الأرض؟
فلما ورد على أمه في التابوت شرعت في عمل الوليمة، وهيأت المآكل والمطاعم ونادت: لا يحضر الوليمة إلا من لا فجع في الدنيا بمحبوب ولا خليل؛ فلم يحضر الوليمة أحد. فقالت: ما بال الناس لا يحضرون الوليمة؟ قالوا: أنت منعتهم من الحضور. قالت: كيف ذلك؟ قيل لها: قد أمرت أن لا يحضرها من فقد محبوباً ولا من فجع بخليل، وليس في الناس أحد إلا وقد أصيب بذلك مراراً. فلما سمعت بذلك خف ما بها من الحزن وتسلت بعض تسلية وقالت: رحم الله ولدي لقد عزاني بأحسن تعزية، وسلاني بألطف تسلية.
يا هذا أين القرون الأُول والأُخر؟ أين من ملك وقهر؟ أين من حشد وحشر؟ أين من أمر وزجر وخرب آخرته، ودنياه عمر، وأمن الموت المنتظر، هل كان له من الموت مفر؟ فلما جاءه المنون بالأمر الأمر حطه من القصور إلى الحفر، وعوضه عن الحرير بالمدر، وسلط عليه الدود إلى أن اضمحل واندثر، ولم يبق منه عين ولا أثر إلا ذل وفتر، ووهن وخور، وعنف على ذنبه المحتقر، ونبئ بما قدم وأخر من العجر والبجر.
تبني وتجمع والآثار تندرس
…
وتأمل اللّبث والأرواح تختلس
ذا اللب فكّر فما في الخلد من طمع
…
لا بد أن ينتهي أمر وينعكس
أين الملوك وملاّك الملوك، ومن
…
كانوا إذا الناس قاموا هيبةً جلسوا
ومن سيوفهم في كل معركة
…
تخشى، ودونهم الحجّاب والحرس
أصمّهم حدثٌ وضمّهم جدثٌ
…
باتوا وهم جثث في الرمس قد حبسوا
أضحوا بمهلكة في وسط معركة
…
صرعى، وماشي الورى من فوقهم نطس
كأنهم قطّ ما كانوا وما خلقوا
…
ومات ذكرهم بين الورى ونسوا
والله لو شاهدت عيناك ما صنعت
…
يد البلاء بهم والدود تفترس
لعاينت منظراً تشجى القلوب به
…
وعاينت منكراً من دونه البلس
من أوجهٍ ناظرات حاز ناظرها
…
ورونق الحسن منها كيف ينطمس
وأعظمٍ باليات ما بها رمقٌ
…
وليس تبقى بهذا وهي تنتهس
وألسنٍ ناطقات زانها أدب
…
ما شأنها؟ شانها بالآفة الخرس
تبسّهم ألسنٌ للدهر فاغرةٌ
…
فاها، فآها لهم إذ بالردى وكسوا
عروا من الوشى لما أُلبسوا حللاً
…
من التراب على أجسامهم وكسوا
وعاد ترب المنايا من ملابسهم
…
جون الثياب، وقدماً زانها الورس
إلام يا ذا النّهى لا ترعوي أبداً
…
ودمع عينك لا يهمي وينبجس
هذا آخر الكلام عن أخبار الملوك الماضية. والله سبحانه وتعالى أعلم.