الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطور اللغة بين ابن جني وابن فارس:
يرى ابن جني أن تطور اللغة دعت إليه الحاجة وهو بهذا يخالف ابن فارس في رأيه من أن اللغة تطورت على يد الأنبياء، نبيًّا نبيًّا، إلى أن ختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم ويتفق مع ابن فارس في أن اللغة لم توجد دفعة واحدة.
3-
ثم تكلم ابن جني عن الاسم والفعل والحرف متسائلًا أي الأجناس الثلاثة تقدم؟ وهل وقع جميعها في وقت واحد أم تتالت وتلاحقت قطعة قطعة وشيئًا بعد شيء وصدرًا بعد صدر؟ وذكر في ذلك مذهب أستاذه أبي علي الفارسي وهو وقوع كل صدر منها في زمان واحد وإن كان تقدم شيء منها على صاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدم على الفعل الاسم ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل، وإن كانت رتبة الاسم في النفس أن يكون قبل الفعل والفعل قبل الحرف، وذلك أن المتواضعين عندما علموا أنهم محتاجون إلى التعبير عن
المعاني وإن هذا التعبير لا بد له من الأسماء والأفعال وللحرف فأتوا بهما جميعًا ولا عليهم بعد هذا بأيها بدءوا أبالاسم، أم بالفعل، أم بالحرف.
ثم ذكر بعض التعديلات التي تمنع تقدم أيها على الآخر منها:
1-
وجود أسماء مشتقة من الأفعال نحو قائم من قام ومنطلق من انطلق، فكيف يكون الاسم متقدمًا على الفعل ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه.
2-
وأيضًا فالمصدر مشتق من الجوهر كالنبات من النبت، والاستحجار من الحجر وكلاهما اسم.
3-
وأيضًا فإن كثيرًا من الأفعال مشتق من الحروف: نحو قولهم سألتك حاجة فلوليت لي، أي قلت لي: لولا، وسألتك حاجة فلا ليت لي، أي قلت لي: لا. وسوّف الرجل، أي قلت له: سوف.
4-
واشتقوا أيضًا المصدر وهو اسم، من الحرف فقالوا: اللالاة واللولاة، وإن كان الحرف متأخرًا في الرتبة عن الأصلين قبله الاسم والفعل.
5-
ثم تكلم ابن جني عن مسألة أخرى هي وضع المبنيات وما غير لكثرة استعماله وعرض لرأيين لأبي الحسن الأخفش ورجح أحدهما فقال: وكان أبو الحسن يذهب إلى أن ما غير لكثرة استعماله إنما تصورته العرب قبل وضعه وعلمت أنه لا بد من كثرة استعمالها إياه فابتدوا بتغييره "وهذا هو الرأي الأول" الرأي الثاني: وقد كان أيضًا أجاز أن يكون "أي ما غير" قد كانت قديمًا معربة فلما كثرت غيرت فيما بعد. ويرجح ابن جني الرأي الأول قائلًا والقول عندي هو الأول ويعلل ذلك بقوله: لأنه أدل على حكمتها وأشهد لها بعلمها- بمصاير أمرها فتركوا بعض الكلام مبنيًّا غير معرب نحو أمس وهؤلاء.. إلخ، واحتملوا ما لا يؤمن معه من اللبس؛ لأنهم إذا خافوا ذلك زادوا كلمة أو
كلمتين فكان ذلك أخف عليهم من تكلفهم على مشقة اختلاف الإعراب وإتقائهم الزيغ والزلل فيه، ألا ترى أن من لا يعرف فيقول ضرب أخوك لأبوك قد يصل باللام إلى معرفة الفاعل من المفعول، ولا يتجشم خلفًا الإعراف ليفاد منه المعنى- ثم يضيف ويشهد للمعنى الأول أنهم قالوا أقتل فضموا الأول توقعًا للضمة تأتي من بعد. فعلى ذلك يكونون قدموا بناء نحوكم، وكيف وحيث وقبل، وبعد لأنهم سيستكثرون منها فيما بعد فوجب أن يغيروها.
5-
مما تعرض له ابن جني عدم اشتقاق الحروف من غيرها، فالحرف يشتق منها ولا تشتق هي أبدًا؛ لأنها جامدة غير متصرفة فأشبهت أصول الكلام التي وضعت في أول الأمر، والتي لا تكون مشتقة من شيء؛ لأنه ليس قبلها ما تكون فرعًا له مشتقة منه، فلا يمكن أن يقال: إن الحرف "نعم" مشتق من النعمة والنعيم، أو الحرف "بجل" من البجال والبجيل.
6-
ثم ينتهي ابن جني إلى النتيجة لكل ما سبق فيثبت أن اللغة كلها وضعت مرة واحدة لقوة تداخل الأصول الثلاثة مما جعل أبا علي الفارسي يذهب إلى أن هذه اللغة وقعت طبقة واحدة، كالرقم تضعه على المرقوم.
ثم ختم الباب بأن ذكر أنه كثر اشتقاق الأفعال من الأصوات الجارية مجرى الحروف، نحو هاهيت وحاحيت وعاعيت وجأجأت وحأحأت وسأسأت بين أن هذا كثير في الزجر الذي ألف فيه كتابًا.
ومن الأبواب التي تعرض لها ابن جني وتختص بدارسة اللهجات باب اختلاف اللغات وكلها حجة وسنذكره فيما يأتي ونلقي الضوء عليه.
فلقد عقد ابن جني بابًا في الخصائص سماه "اختلاف اللغات وكلها حجة"1 يقول فيه: اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك، ولا تحظره عليهم، ألا ترى أن
1 الخصائص ج 2 ص10: 12.
لغة التميميين في ترك إعمال "ما" يقبلها القياس، ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك؛ لأن لكل واحد من القومين ضربًا من القياس يؤخذ به ويخلد إلى مثله وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها. لكن غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أبل لها، وأشد أنسابها فأما رد إحدهما بالأخرى فلا.
أولا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف"1 هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين.
فأما أن تقل إحداهما جدًّا وتكثر الآخر جدًّا فإنك تأخذ بأوسعها رواية وأقواهما قياسًا، ألا تراك لا تقول: مررت بك ولا المال لك قياسًا على قول. قضاعة المال
1 ورد أصل هذا الحديث في حديث طويل في البخاري في كتاب فضائل القرآن.
له ومررت به، ولا تقول أكرمتكش ولا أكرمتكس قياسًا على لغة من قال: مررت بكش وعجبت منكس.
حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشة ربيعة وكسكسة هوازن وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء. فأما عنعنة تميم فإن تميمًا تقول في موضع إن: عن، تقول عن عبد الله قائم، وأنشد ذو الرمة عبد الملك:
أعن ترسمت من خرقاء منزلة1
…
.......................................
قال الأصمعي: سمعت ابن هرمة2 ينشد هارون الرشيد:
أعن تغنت على ساق مطوقة
…
ورقاء تدعو هديلًا فوق أعواد
1 عجز هذا البيت هو:
........................................
…
ماء الصبابة من عينيك مسجوم
انظر: خزانة الأدب 4/ 495.
2 هو إبراهيم في البخاري في كتاب فضائل القرآن.
وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون.. تِعلمون وتِفعلون وتِصنعون، بكسر أوائل الحروف. أما كشكشة ربيعة فإنما يريد قوله مع كاف ضمير المؤنث إنكش ورأيتكش وأعطيتكش، تفعل هذا في الوقف، فإذا وصلت أسقطت الشين وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضًا: أعطيتكس ومنكس وعنكس. وهذا في الوقف دون الوصل.
فإذا كان الأمر في اللغة المعول عليها هكذا وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها، وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها، إلا أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه كان يكون مخطئًا لأجود اللغتين فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه، غير منعي عليه. كذلك إن قال: يقول على قياس من لغته كذا كذا، ويقول على مذهب من قال كذا كذا.
وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه.
فلقد أشار ابن جني في هذا الفصل إلى بعض الصفات المشهورة عن لهجات القبائل المختلفة، وبين أن بعض تلك الصفات أشهر من بعضها الآخر، وأكثر شيوعًا في اللغة، ومع ذلك فجميع هذه اللهجات مما يحتج به ولا يوصف الإنسان بالخطأ في اللغة إن استعمل القليلة الاستعمال وإنما يكون مخطئًا لأجود اللغتين، وهذا في غير الشعر أو السجع أما في الشعر أو السجع فإذا اضطر الشاعر أو الساجع إلى استعمال هذه اللهجات فلا ضير عليه حينئذ ولا لوم ويقبل منه ذلك، وابن جني في هذا الفصل يفرق بين نوعين مختلفين من اللهجات.
النوع الأول:
وهو أن تكون العلاقة بين اللغة الفصحى1 القرشية، واللهجة المستعملة متقاربة وحينئذ لا يجوز لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحق بذلك
1 اللغة الفصحى عند ابن حني لغة قريش.
من رسيلتها، لكن غاية ما لك في ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القاسين أقبل لها، وأشد أنسابها. فأما رد إحداهما بالأخرى فلا، أو لا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"نزل القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ" هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين.
النوع الثاني:
وهو أن تكون العلاقة بين العربية الفصحى واللهجة المستعملة متباينة وقد بينه ابن جني بقوله: "فأما أن تقل إحداهما جدًّا وتكثر الأخرى فإنك تأخذ بأوسعها رواية، وأقواها قياسًا". وهو بهذا يرفض اعتبار بعض ظواهر اللهجات من النوع الفصيح الذي يمكن أن يقاس عليه، وقد بنى حكمه برداءة الظاهر أو رقيها على أساس كثرة الاستعمال وقلته.
وابن جني يمنع القياس على الظواهر الرديئة في لهجات العرب ولا يمنع اللهجات نفسها، بل يعترف بقياسها وقواعدها ويرى أن إحداها ليست بأولى من الأخرى، ولا أحق. فاللهجات جميعها عنده تستوي في ميزان الفصاحة، عندما تجرد من الظواهر الرديئة، التي تنحرف باللهجة عن سنن الفصاحة، تباعد بين اللهجة واللغة الفصحى. وهذه الفروق الخاصة بين اللهجات واللغة الفصحى التي ذكرها ابن جني أطلق عليها ابن فارس في الصاحبي "اللغات المذمومة"1 وأطلق عليها السيوطي في المزهر "الرديء المذموم من اللغات2" وبعد ذلك نرى ابن جني يسرد هذه الظواهر فيما حدث به أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال:"ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء". يعقد
1 الصاحبي في فقه اللغة ص24: 27.
2 المزهر ج1 ص221: 226.
ابن جني فصلًا آخر عنون له بـ"باب في العربي الفصيح ينتقل لسانه" فيقر ابن جني أن الفصيح قد ينتقل لسانه إلى لغة أخرى فصيحة، فيعد فصيحًا في اللغتين، ويؤخذ بلغته في كلتيهما، فأما أن كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها، ويؤخذ بالأولى، حتى كأنه لم يزل من أهلها، ويوضع ذلك بما يحكي من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خيرة لما سأله فقال: كيف أبا خيرة، لان جلدك، فليس لأحد أن يقول: كما فسدت لغته في هذا ينبغي أن أتوقف عنها في غيره، "لما حذرناه" قبل ووصفنا فهذا هو القياس وعليه يجب العمل.
وإليك ما قاله ابن جني في هذا الباب يقول: اعلم أن المعمول عليه في نحو هذا أن تنظر حال ما انتقل إليه لسانه فإن كان إنما انتقل من لغة إلى لغة أخرى مثلها فصيحة وجب أن يؤخذ بلغته التي انتقل إليها، كما يؤخذ بها قبل انتقال لسانه إليها، حتى كأنه إنما حضر غائب
من أهل اللغة التي صار إليها، أو نطق ساكت من أهلها. فإن كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها "ويؤخذ بالأولى حتى كأنه لو يزل من أهلها وهذا واضح. فإن قلت: فما يؤمنك أن تكون كما وجدت في لغته فسادًا بعد أن لم يكن فيها فيما علمت، أن يكون فيها فساد آخر فيما تعلمه فإن أخذت به كنت آخذًا بفاسد عروض1 ما حدث فيها من الفساد فيما علمت، قيل هذا يوحشك من كل لغة صحيحة، لأنه يتوجه2 منه أن توقف عن الأخذ بها، مخافة أن يكون فيها زيغ حادث لا تعلمه الآن، ويجوز أن تعلمه بعد زمان، فما علمت من حال غيرها فسادًا حادثًا لم يكن فيما قبل فيها. وإن اتجه هذا انخرط عليك من ألا تطيب نفسًا بلغة، وإن كانت فصيحة مستحكمة، فإذا كان أخذك بهذا مؤديًا إلى هذا رفضته ولم تأخذ به، وعملت على تلقي كل لغة قوية معربة بقبولها واعتقاد صحتها، وألا
1 العروض: النظير أو الطريقة.
2 يتوجه: يلزم.
توجه ظنًّا إليها، ولا تسوء رأيًا في المشهود بظاهرة من اعتدال أمرها وذلك كما يحكى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خيرة لما سأله فقال كيف تقول: استأصل الله عرقاتهم، ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو هيهات أبا خيرة؛ لأن جلدك: فليس لأحد أن يقول -كما فسدت لغته في هذا ينبغي أن أتوقف عنها في غيره لما حذرناه قبل ووصفنا. فهذا هو القياس، وعليه يجب أن يكون العلم.
ولقد عرض ابن جني لدراسة اللهجات في أبواب أخرى نذكر منها:
1-
باب في الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدا الخصائص ج1 ص370.
2-
باب فيما يرد عن العربي مخالفًا لما عليه الجمهور ج1 ص385.
3-
باب في العربي يسمع لغة غيره أيراعها ويعتمدها، أم يلغيها ويطرح حكمها، ج2 ص14.
وغيرها كثير في كتاب الخصائص مدروسة دراسة علمية موضوعية ينهل كل باحث وكل دارس للهجات العربية فجزى الله ابن جني عن هذا خير الجزاء.