الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: مرتبة الظالم لنفسه
إذا جاء العبد بأصل الإيمان والصلاة وبعض الطاعات، لكن عصى الله بالإخلال ببعض الطاعات، أو فعل بعض المحرمات، كان إيمانه ناقصاً بقدر مخالفته، ولا يستحق اسم الإيمان المطلق، بل هو في مرتبة الظالم لنفسه الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
قال ابن كثير رحمه الله: " فمنهم ظالم لنفسه وهو المفرِّط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات"1.
فالظالم لنفسه: هو الذي جاء بأصل الإيمان صحيحاً، وأدى الصلاة، ولكن ظلم نفسه بأن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ومات وهو مصرّ على بعض الكبائر، ولم تبلغ كبيرته الكفر.
وتُسمى مرتبة الظالم لنفسه، ويُسمى من كان من أهلها: مرتكب الكبيرة، أو الفاسق الملي، أو المسلم الظالم لنفسه.
وأهل هذه المرتبة عندهم من الإيمان المجمل ما كانوا به مسلمين، وإن ماتوا عليه دخلوا الجنة، لكن لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، وليس عندهم من المعرفة بالله ورسوله وبدينه ما يوجب لهم رسوخ الإيمان وقوة اليقين الذي يحصنهم ضد الشبهات المضللة، ويخمد الشهوات المحرمة، إلا أن يشاء الله لهم ذلك ويهيئ لهم أسبابه، قال ابن تيمية رحمه الله:
1 تفسير القرآن العظيم 6/532.
"فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون وعندهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان في قلوبهم إنما يحصل لهم شيئاً فشيئاً إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شُكّكوا لشكّوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفاراً ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب1، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله، ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتُلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع النفاق
…
فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق، ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا، وأكثرهم إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان، ينقص إيمانهم كثيراً، وينافق أكثرهم أو كثير منهم، ومنهم من يُظهر الردة، إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة، وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسول باطناً وظاهراً، لكن
1 الريب: يكون في علم القلب ويكون في عمل القلب، بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم. انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية ص241.
إيماناً لا يثبت على المحنة. ولهذا يكثر من هؤلاء ترك الفرائض، وانتهاك المحرمات" 1.
وهؤلاء في عداد المسلمين، تجري عليهم أحكامهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لكنهم على خطر -إذا لم يتوبوا من ظلمهم ويكملوا إيمانهم- من أمرين:
الأول: أن تتسلط عليهم شياطين الإنس والجن -بسبب ظلمهم- فتستجرهم بالشهوات والشبهات إلى الكفر أو النفاق.
الثاني: تعرضهم للعقوبات في الدنيا والآخرة.
وقد صدر التحذير من المولى القدير، بهذين الأمرين لمن عصاه وتعدى حدوده، فقال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] .
قال ابن كثير رحمه الله: "أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الدنيا بقتل أو حد وحبس، أو نحو ذلك"2.
1 كتاب الإيمان لابن تيمية ص 240، 241، 242.
2 تفسير القرآن العظيم 6/97.
وقد بين الله بعض أنواع العذاب الدنيوي الذي قد يعاقب به العصاة بقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65] .
أما في الآخرة فهم تحت مشيئة الله، إذا لم يأت أحدهم بشرك أو كفر.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] .
ثم هم بعد ذلك أقسام، وقد لخص أحوالهم في ذلك اليوم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله فقال:
"أما الظالم لنفسه فهو المؤمن الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وترك من واجبات الإيمان ما لا يزول معه الإيمان بالكلية، وهذا القسم ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: من يرد يوم القيامة وقد كفّر عنه السيئات كلها، إما بدعاء أو شفاعة أو آثار خيرية ينتفع بها في الدنيا، أو عذاب في البرزخ بقدر ذنوبه، ثم رفع عنه العقاب، وعمل الثواب عمله، فهذا أعلى هذا القسم، وهو الظالم لنفسه.
القسم الثاني: من ورد يوم القيامة وعليه سيئات، فهذا توزن حسناته وسيئاته، ثم هم بعد ذلك ثلاثة أنواع:
أحدها: من ترجح حسناته على سيئاته، فهذا لا يدخل النار، بل يدخل الجنة برحمة الله، وبحسناته وهي من رحمة الله.
ثانيهما: من تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فهؤلاء أصحاب الأعراف، وهي موضع مرتفع بين الجنة والنار، يكونون عليه ما شاء الله، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة
…
ثالثهما: من رجحت سيئاته على حسناته فهذا قد استحق دخول النار، إلا أن يمنع من ذلك مانع من شفاعة أحد من أقاربه، أو معارفه ممن جعل الله لهم في يوم القيامة شفاعة، لعلوّ مقاماتهم عند الله وكرامتهم عليه، أو تدركه رحمة الله المحضة بلا واسطة، وإلا فلا بد له من دخول النار يعذب فيها بقدر ذنوبه، ثم مآله إلى الجنة، ولا يبقى في النار أحد في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها" 1.
وخلاصة القول أن أهل هذه المرتبة -مرتبة الظالم لنفسه- هم الذين جاؤوا بأصل الإيمان، وأدوا الصلاة، ثم زادوا على ذلك أعمالاً صالحة لكنهم خلطوها بأخرى سيئة، وإن معهم من الإيمان ما يدخلون به في
1 فوائد قرآنية، عبد الرحمن السعدي ص60، 61.
زمرة المسلمين، وينفعهم في دخول الجنة إن ماتوا عليه، لكن ليس معهم من قوة الإيمان ورسوخه ما يحصنهم أمام الشهوات والشبهات، ومنها الأفكار الهدامة، لذلك يكثر منهم النفاق العملي، وتنقص ولاية الله لهم بقدر بُعدهم عن تكميل إيمانهم، كما نخلص إلى أنهم ليسوا من المعنيين بقوله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] .
أما في الآخرة فإنهم من أهل الجنة، لكن منهم من يدخلها ابتداء برحمة الله ومغفرته، بعد شفاعة أو سبب آخر، ومنهم من يدخلها بعد أن يعذب في النار، والله أعلم.