المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: أحوال القلوب - أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة - جـ ١

[عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الباب الأول: الإيمان سبب لتحصيل ولاية الله " الأثر الخارجي

-

- ‌الفصل الأول: صفات المستحقين لولاية الله

-

- ‌المبحث الأول: مراتب أهل الإيمان

- ‌المطلب الأول: بيان أصل الإيمان

- ‌المطلب الثاني: مرتبة الظالم لنفسه

- ‌المطلب الثالث: مرتبة المقتصد

- ‌المطلب الرابع: مرتبة السابق بالخيرات

- ‌المبحث الثاني: أهل ولاية الله

- ‌المبحث الثالث: العناية بأهم سبب لحصول الولاية

-

- ‌الفصل الثاني: أثر ولاية الله في تخليص المؤمنين وتحصينهم من الأفكار الهدامة

- ‌المبحث الأول: مظاهر ولاية الله لعبده المؤمن

- ‌المطلب الأول: إخراجه من الظلمات إلى النور

- ‌المطلب الثاني: تثبيت المؤمن عند الشدائد

- ‌المطلب الثالث: الحيلولة بينه وبين ما قد يقوم في قلبه من الإرادات السيئة

- ‌المطلب الرابع: مظاهر الولاية الكاملة للكُمّل من عباد الله

- ‌المبحث الثاني: مظاهر ولاية الله للجماعة المؤمنة

-

- ‌الباب الثاني: أثر الإيمان في تحصين القلب ضد الأفكار الهدامة " الأثر القلبي

-

- ‌الفصل الأول: وظائف القلب وأحواله

- ‌المبحث الأول: الوظائف القائمة بالقلب

- ‌المطلب الأول: وظيفة التعقل

- ‌المطلب الثاني: الاعتقادات

- ‌المطلب الثالث الإرادات

- ‌المطلب الرابع: العواطف

- ‌المطلب الخامس: الانفعالات

- ‌المبحث الثاني: العلاقة بين الوظائف القلبية

- ‌المبحث الثالث: أحوال القلوب

- ‌المبحث الرابع: أثر الإيمان في القلوب دائر بين التطهير والتزكية

-

- ‌الفصل الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلوب

- ‌المبحث الأول: أثر الإيمان في تطهير القلوب من العقائد الباطلة والظنون السيئة

- ‌المبحث الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الران ودَرَن المعاصي

-

- ‌المبحث الثالث: أثر الإيمان في تطهير القلب من العواطف الفاسدة

- ‌المطلب الأول: أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة غير الله

- ‌المطلب الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الشهوات المحرمة

- ‌المطلب الثالث: أثر الإيمان في تحصين القلب من الحقد والحسد

الفصل: ‌المبحث الثالث: أحوال القلوب

‌المبحث الثالث: أحوال القلوب

إن الكلام على تأثير الإيمان في مجال تحصينه من الأفكار الهدامة، يتطلب معرفة أحوال القلوب، وذلك لكي يتبين أي القلوب التي يجري البحث في أثر الإيمان في تحصينها.

فالقلوب عامة لا تخلو من ثلاث حالات، فإما أن يكون القلب حياً صحيحاً، وإما أن يكون مريضاً، وإما أن يكون ميتاً، وهذه الأحوال قد يمر بها قلب واحد، فيتقلب من حال إلى حال، وقد تلازم حال منها بعض القلوب دائماً.

والكلام على أحوال القلوب وأنواعها قد ورد بيانه في الوحي المطهر، ولذا سوف يكون الكلام في هذا المبحث من خلال استعراض بعض النصوص التي تكلمت عن القلوب.

فالحال الأولى: هي حال القلب السليم.

قال تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال في دعائه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87، 89]، وقال:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الصافات:83، 84] .

ص: 325

والقلب السليم هو الذي عمر بالعلم والإيمان، والعقائد والعواطف المستمدة منها، وسلم من ضد ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: إنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره

هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة وتوكلاً، وإنابة وإخباتاً وخشية، وخلص عمله لله، فإن أحب، أحب في الله، وإن أبغض، أبغض في الله، وإن أعطى، أعطى لله، وإن منع، منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله صلى الله عليه وسلم فيعتقد قلبه معه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد

" 1.

والقلب السليم هو الذي لا يشوب اعتقاده شيء من رجس الشرك أو الشك، ولا تميل عواطفه إلى محبة غير الله، أو محبة ما يمقته ولا تتوجه إراداته إلى الأعمال القبيحة، فهو طاهر من الشبهات الموجبة للشك في العلم والاعتقاد، ومن الشهوات الموجبة للميل إلى الفواحش والقبائح.

ومن أوصافه أنه منيب، قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ

1 إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم 1/12، تحقيق: محمد عفيفي.

ص: 326

بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33] .

والقلب المنيب هو التائب من ذنوبه، الراجع مما يكرهه الله إلى ما يرضيه1.

ومن أوصافه أنه مطمئن.

قال تعالى: {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] .

وقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .

فالقلب المطمئن هو الذي انشرح للإيمان، وركن إليه، وارتاح واستأنس به، قد أدرك من الأدلة المشاهدة والمتلوة -على ما يتطلب الإيمانُ التصديقَ به- ما أكسبه اليقين، وهو الذي يأنس ويرتاح لذكر الله.

ومن أوصافه أنه طاهر.

قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] ومن أوصافه أنه قلب لين.

قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] .

1 انظر: جامع البيان لابن جرير 26/173.

ص: 327

ولين القلوب ضد قساوتها الذي وصفت به قلوب الكفار، فالقلب اللين هو الذي ينتفع بالذكر والمواعظ، فيرق للحق ويقبله ويذعن له، وينقاد.

الحالة الثانية: القلب الميت:

وهو القلب الخالي من الإيمان، قد أقفر من الخير، وأصيح مرتعاً للشر.

قال ابن القيم رحمه الله: "وهو القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه

" 1.

ومن صفاته أنه قد غلفه الران فخُتم وطُبع عليه، فهو مقفل عن كل خير أعمى لا يبصر الهدى.

قال تعالى: {كَلَاّبَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] .

وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] .

وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف:101] .

1 إغاثة اللهفان لابن القيم 1/13.

ص: 328

وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] .

وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] .

قال مجاهد رحمه الله: "الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد ذلك كله"1.

وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الآية: "يقول تعالى ذكره: إذا قرئ عليه حججنا وأدلتنا التي بيناها في كتابنا الذي أنزلناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال أساطير الأولين يقول هذا ما سطره الأولون من الأحاديث والأخبار.

وقوله: {كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم} يقول تعالى ذكره مكذباً لهم قولهم ذلك: كلا، ما ذلك كذلك، ولكنه ران على قلوبهم، يقول غلب على قلوبهم وغمرها، وأحاطت بها الذنوب فغطتها" 2.

ومعنى ذلك -والله أعلم- أن إصرارهم على الكفر والمعاصي سبّب لهم إلفها واستحكام معتقداتهم الباطلة وعواطفهم المائلة، فإنّ العواطف تقوى مع تكرار الممارسة، فتصبح عواطف مستحكمة، والعواطف

1 جامع البيان لابن جرير 1/112 ط 3.

2 المصدر السابق 30/97.

ص: 329

المستحكمة تستولي على القلب، وتغمره وتسيطر عليه، وتتحكم في تعقله وإراداته وانفعالاته، فلا ينبعث بشيء من ذلك إلا لما يلائمها، واستحكام العقائد الفاسدة هو عمي القلب.

قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .

وقال ابن جرير رحمه الله مبيناً العلاقة بين الران وبين الطبع والختم: "والحق في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت له نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه، فذلك الران الذي قال جل ثناؤه: {كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} "1، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى

لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه

1 رواه أحمد، المسند 2/297، والترمذي وقال:" حديث حسن صحيح"، تحفة الأحوذي 9/254، والحاكم وقال:" صحيح على شرط مسلم" المستدرك 2/517، ووافقه الذهبي.

ص: 330

ختم على قلوبهم، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها" 1.

وقلب كهذا عليه أقفال كثيرة تحول بينه وبين تدبر كلام الله، فالعقائد والعواطف المستحكمة أقفال، والران الحاجب للبصيرة قفل، والختم والطبع الذي عاقب الله ذلك القلب به لِمَا قام به من السوء قفل. قال تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] .

قال ابن كثير رحمه الله: "أي بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه"2.

ومن أوصاف القلب الميت أنه لاه غافل، قد أشرب حب اللهو فاشتغل به.

قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ* مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1-3] .

وقال: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] .

1 جامع البيان 3/112، 113.

2 تفسير القرآن العظيم 6/302.

ص: 331

قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار

، بالكفر وغلبة الشقاء، واتبع هواه، وترك اتباع أمر الله ونهيه، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه" 1.

ومن أوصافه أنه قاسٍ:

قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] .

والقسوة هي غلظ القلب وجفافه، وأصله من حجر قاس2.

قال الشوكاني رحمه الله: "والقسوة: الصلابة واليبس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله

" 3.

فالمادة القاسية مثل للقلب القاسي، والأشياء القاسية تنقسم إلى قسمين: قسم صلب لا يحتوي على الماء، ولا يلين بنزول الماء عليه كالحجارة، وقسم لا يحتوي على الماء حال شدته ويبوسته، لكن يؤثر عليه الماء فيلينه، كالطين اليابس.

وكذلك القلوب، منها قلوب قاسية كالحجارة، لا يوجد فيها إيمان ولا تنتفع بالذكر والمواعظ والآيات فتلين، وهذه قلوب نوع من الكفار،

1 جامع البيان لابن جرير 15/236.

2 انظر المفردات للراغب الأصفهاني ص404، وجامع البيان 23/209.

3 فتح القدير 1/100.

ص: 332

أشار الله إلى هذا النوع بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] .

وحيث إنّ الحجارة لا تحتوي على الماء، ولا يلينها الماء إذا نزل عليها، ولكن قد يوجد فيها فجوات يستقر فيها فيخرج من الشقوق التي في الصخور، أو يجري على شكل أنهار فينتفع منه الناس، إلا أن هذه الصفة النافعة الموجودة في الحجارة ليست عندهم، فهم ليسوا بمهتدين، ولا يذعنون للهدى، وليس عندهم خير ينتفع منه الناس. كما أن الحجارة أفضل منهم من وجه آخر، حيث إنها تخشع وتسقط من خشية الله. كما قال تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} [الحشر:21] .

بين الله هذه الفروق التي تدل على أن قساوة قلوب هؤلاء أشد من الحجارة بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] .

ومن القلوب قلوب قاسية، لكنها تنتفع بالعلم والخير والمواعظ إذا

ص: 333

جاءتها، كما يلين الماء الطين اليابس فتزول شدته، ويمكن الانتفاع به، وهذه قلوب المؤمنين الذين تقسو قلوبهم أحياناً بالغفلة والمعاصي.

والحال الثالثة: هي حال القلب المريض.

قال ابن القيم رحمه الله في وصف هذا القلب: "قلب له حياة وبه علة، فله مادتان، تمده هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له، والتوكل عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها والحسد والكبر والعجب، وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة، ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه باباً، وأدانهما إليه جواراً. فالقلب الأول، حي مخبت لين واع، والثاني يابس ميت، والثالث مريض، فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى.

وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِين

ص: 334

أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:52-54] .

فجعل سبحانه وتعالى القلوب في هذه الآية ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلباً ناجياً، فالمفتونان: القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي.

والناجي: القلب المؤمن المخبت إلى ربه، وهو المطمئن إليه الخاضع له، المستسلم المنقاد"1.

وأمراض القلوب نوعان:

مرض شك وريب، يصيب المعتقدات، ويتولد من الخوض في الشبهات، ومنه يكون الكفر والنفاق.

ومرض الشهوات، يصيب العواطف والرغبات، ومنه تكون المعاصي وبعض البدع.

وقد أشار الله تعالى إلى أن هذين الأمرين هما أساس فساد الدين بقوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ

1 إغاثة للهفان لابن القيم 1/14.

ص: 335

الْخَاسِرُونَ} [التوبة:69] .

قال ابن تيمية رحمه الله: "وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض: لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق

والأول: من جهة الشبهات. والثاني: من جهة الشهوات"1.

فبين رحمه الله إنّ الفساد في القول والعمل أصله شبهة، أو شهوة قائمة في القلب.

وقد ذكر الله نوعي مرض القلب في كثير من الآيات:

فقال في مرض الشك والريب: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] .

وقال: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [المدثر: 31] فهذا مرض النفاق2.ومن صفات هذا القلب المريض بمرض النفاق أنه زائغ.

1 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة اصحاب الجحيم تحقيق د. ناصر العقل 1/102، 103.

2 انظر: جامع البيان لابن جرير 29/3.

ص: 336

قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] .

أي: لما عدلوا وجاروا عن قصد السبيل أزاغ الله قلوبهم فأمالها عنه1، عقوبة منه بهم موافقة لفعلهم.

فالقلب الزائغ هو الذي عرف الحق، ثم مال عنه بسبب الشهوات، كحال أهل الأهواء والبدع، لذلك شرع الله للمهتدين سؤال التثبيت بقوله:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] .

ومن صفاته أنه مرتاب.

قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة 45] .

فالريب والشك الحاصل في هذا القلب بسبب الجهل والخوض في الشبهات، هو الداء الحقيقي الذي ترتب عليه الزيغ والنفاق، والسلوك السيئ.

والنوع الثاني من أمراض القلوب: هو مرض الشهوة.

قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] .

1 انظر: جامع البيان 28/86.

ص: 337

والمراد والله أعلم، مرض شهوة الزنَى1.

والقلب المريض هو الذي تمكن حب الشهوة المنحرفة في عواطفه، فينبعث عند ورود دوافعها، فهو مريض يصيب العواطف، كما أنّ مرض الشك والريب يكون في العقائد.

ومن الأمراض التي تصيب العواطف: عاطفة حب المال، الباعث على الحرص عليه، والتعلق به، وحب الرئاسة الباعثة على إرادة العلو والاستكبار، والكبر والعجب، وهي ترجع إلى عاطفة حب الذات.

ويشتد خطر هذه الأمراض عندما يتمكن حب شيء من ذلك في القلب، حتى يصبح عاطفة سائدة ولا يكون متوجهاً إلى الله، فإنه والحالة هذه يكون شركاً، وذلك أن القلب لا ينبعث لشيء إلا وفق هذه العاطفة المستحكمة، وبذلك يكون هوى القلب وميله موافقاً لها، فيسري أثرها على كافة وظائف القلب، وهذا داء خطير يميت القلب.

قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] .

والقلب المريض بشبهة أو شهوة محرمة فيه من صفات القلب الميت بحسب ما فيه من المرض، ففيه من الران والقلق والقسوة والغفلة واللهو ما

1 انظر: جامع البيان 22/3.

ص: 338

يتناسب مع قوة المرض، إلا أنه لم يصل إلى درجة الختم والقفل والطبع، فهو قلب مريض ينفع فيه العلاج بإذن الله، كما أنه في طريقه إلى الموت إن أهمل علاجه، واستمر به داؤه.

مما تقدم تبين أن للقلوب على وجه الإجمال، ثلاث حالات:

القلب السليم وهو الذي عمر بالعلم النافع والمعتقد الصحيح، والإيمان الخالص، والعواطف السليمة، فهو طاهر بذلك سالم من ضده، مطمئن للحق راكن إليه، لين ينتفع بالذكر المواعظ ويتفاعل معها.

وقلب ميت خراب من الإيمان والخير، عقائده باطلة، وظنونه سيئة وعواطفه مائلة، قد استحكم عليه الران فغطّاه، فهو أعمى عن الهدى، غافل عما فيه سعادته وهداه، مشتغل فيما يهواه، قلب غليظ قاس لا يلين للمواعظ والذكر فينتفع بها.

وقلب مريض فيه إيمان وبه داء من جهة الشبهات أو الشهوات أو منهما معاً، ففيه من الشك والريب والزيغ، أو الغفلة والقسوة والران والقلق بقدر تلك الشبهات أو الشهوات الناخرة فيه، فهو قابل للسلامة إن تعاهده صاحبه بالعلاج بإذن الله، وإلا فهو في طريقه إلى الهلاك، أعاذنا الله من ذلك.

والقلب الذي يجري البحث في أثر الإيمان في تحصينه ضد الأفكار الهدامة، هو القلب السليم الذي عمر بالإيمان، ويخشى عليه من تسلل الشبهات أو الشهوات إليه، فجعل الله الإيمان سبباً في تحصينه، ودفع تلك

ص: 339

الأخطار عنه، كما سيأتي إن شاء الله.

أما القلب المريض فليس البحث في تحصينه، حيث إنه قد دخل بعض الداء فيه، وإنما للإيمان أثر عظيم في شفائه وتطهيره إذا سلك صاحبه أسباب ذلك.

أما القلب الميت فإن كان لم يختم عليه، فحياته بالإيمان ممكنة.

قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] .

وأما إن كان قد ختم وطبع عليه فلا سبيل للإيمان إليه، وذلك أن الله لا يختم على قلب إلا عن علم بأنه لن يؤمن أبداً، وأنه سيلازم الغي والضلال، ولو رأى كل آية، بل وعلم الله أنه من الذين لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، بين ذلك سبحانه، وأنه الختم عن علم بقوله:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] .

ص: 340