الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الشهوات المحرمة
الشهوة المحرمة هي عاطفة مستقرة تقوم في القلب نحو أمر ضار مخالف للفطرة، جاءت الشريعة بتحريمه، يحن القلب المريض لذلك الأمر وينبعث إليه ويرتاح لمزاولته وملابسته، ويزيد مرضه بتلك المزاولة والممارسة، ويقوى تعلقه به.
وقد تقوى العاطفة حتى تصبح عاطفة سائدة تستولي على القلب، وتتحكم فيه فتميته.
وهذه العواطف الجانحة المتوجهة إلى أمور مذمومة هي ما غلب عليه اسم الهوى.
وإذا سيطر الهوى على القلب أمرضه أو أماته، وينافسه ويضاده العقل الذي هو ما عقله القلب من العلوم النافعة والعقائد الصحيحة من معرفة الحق والخير، وما يضاده من الباطل والشر، فإذا كانت السيطرة للعقل على العواطف والإرادات، كان ذلك سبب صلاح القلب ومادة حياته.
وإذا سيطر أحدهما أضعف الآخر، وقلل انبعاث القلب لموجبه، فهما يتجاذبان القلب المريض الذي فيه إيمان ومرض، أما القلب الميت فقد استحكم فيه الهوى، والقلب السليم قد سيطر فيه الإيمان والعقل.
فلا يوجد الإيمان ويثمر إلا إذا جاهد نفسه في تطهيرها من هواها وزجرها عنه، قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40، 41] .
"وهذا ثمرة العقل الذي به عُرف الله سبحانه وتعالى وأسماؤه وصفات كماله ونعوت جلاله، وبه آمن المؤمنون بكتبه ورسله ولقائه وملائكته، وبه عرفت آيات ربوبيته وأدلة وحدانيته ومعجزات رسله، وبه امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه، وهو الذي تلمح العواقب فراقبها، وعمل بمقتضى مصالحها، وقاوم الهوى، فرد جيشه مغلولاً، وساعد الصبر حتى ظفر به بعد أن كان بسهامه مقتولاً، وحث الفضائل ونهى عن الرذائل
…
"1.
وإذا قوي الهوى واستحكم، فإن العاطفة عندئذ تكون سائدة فيكون لها السلطان الأقوى على إرادات القلب وعواطفه، بل وتعقله، فيصبح هذا الهوى موجهاً لقلبه، له يوالي وعليه يعادي، وله ينفعل ويثور، ولأمره يأتمر، ولنهيه ينتهي، فيكون ذلك المحبوب الذي توجهت له تلك العاطفة ندّاً لله، يحبه الحب الذي لا ينبغي إلا لله، فقد اتخذه إلهاً من دون الله.
1 روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن قيم الجوزية ص7، دار الباز للطباعة والنشر، مكة المكرمة.
قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43] .
والشهوة ركبها الله في طبيعة الناس، قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] .
وجعل الله العقل للإنسان، وأنزل إليه العلم لتنظيم الشهوات ووضعها في مكانها المناسب، واستخدامها بالقدر المناسب، فقد أحل الله له ما يناسبه ويحصل له به السكن والطمأنينة، ويعود عليه بالخير والصلاح في نفسه ومجتمعه، وحرّم عليه الضار المفسد الذي يقلقه، ويسبب له التعاسة في نفسه أو مجتمعه.
قال ابن القيم رحمه الله: "وإذا كانت الدولة للعقل سالمة الهوى، وكان من خدمه وأتباعه، كما أن الدولة إذا كانت للهوى، صار العقل في يديه، محكوماً عليه، ولما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً -فإن هواه لازم له- كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهلكة إلى مواطن الأمن والسلامة، فما حرم الله على عباده شيئاً إلا عوضهم خيراً منه، كما حرم عليهم الاستقسام بالأزلام، وعوضهم عنه دعاء الاستخارة، وحرم
عليهم الربا، وعوضهم منه التجارة الرابحة، وحرم عليهم القمار، وأعاضهم منه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام، وحرم عليهم الحرير وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن، وحرم عليهم الزنى واللواط، وأعاضهم منهما بالنكاح والتسري بصنوف النساء الحسان، وحرم عليهم شرب المسكر، وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرم عليهم سماع آلات اللهو والمثاني1، وأعاضهم عنها بسماع القرآن والسبع المثاني، وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وأعاضهم منها بالمطاعم الطيبة. ومن تلمح هذا وتأمله هان عليه ترك الهوى المردي، واعتاض عنه بالنافع المجدي، وعرف حكمة الله ورحمته، وتمام نعمته على عباده فيما أمرهم به، ونهاهم عنه، وفيما أباحه لهم، وأنه لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه لهم، ولا نهاهم عنه بخلاً منه تعالى عليهم، بل أمرهم بما أمرهم إحساناً منه ورحمة، ونهاهم عنه صيانة لهم وحمية
…
"2.
العواطف الفاسدة ثغرة في القلب:
وقبل أن أتكلم عن أثر الإيمان في تطهير القلب من سلطان الهوى والعواطف الرديئة الكامنة فيه، أذكر بعض النصوص التي تدل على أن
1 المثاني: جمع مثنى وهو اسم للوتر من أوتار آلة اللهو التي تسمى العود. انظر: لسان العرب لابن منظور 14/120، مادة ثنى.
2 روضة المحبين ونزهة المشتاقين ص12.
العواطف الفاسدة والشهوات المحرمة ثغرة في حصن القلب تردي صاحبها، ويتسلل من خلالها الشيطان لإهلاك الإنسان، وقد يقع الإنسان في المهالك بسبب جريانه لإشباع شهوة من هذه الشهوات، حيث إن الشهوات هي أصول المعاصي والدافع إليها، وهي تختلف عن الران الناتج عن المعاصي، فإن الشهوة تسبق الفعل، وهي صفة لازمة، أما الران فهو أثر المعصية، وناتج عنها.
فهذا نبأ عظيم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على أمته ويقصه عليهم رجاء أن يتفكروا فيه وينتفعوا به.
فهذه قصة رجل آتاه الله العلم والآيات البينات، وكان حقه أن يتولاه الله ويزيده هدى لو عمل بموجب ذلك العلم، كما قال:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16] .
لكنه انسلخ من العمل بموجب تلك الآيات، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فتخلى الله عنه، وتسلط عليه الشيطان فكان من الغاوين، ففيه أكبر الدلالة على أن اتباع الهوى ثغرة في القلب يتسلل منها المفسدون.
وهو مثل مضروب لكل من تعلم العلم ووعاه، لكنه لم ينتفع به، ولم يعمل بموجبه، بل أخلد إلى متاع من متاع الدنيا، وسار خلف شهواته، وما تهواه نفسه، دون ما يرضي ربه، فهو ملازم لغيه وضلاله حال جهله، وحال تعلمه، لم ينتفع بالعلم فيترك الغي، فهو في ذلك أشبه بالكلب الذي لا ينتفع بالراحة، فيترك اللهث، فهو ملازم للهث حال راحته وحال تعبه، أعاذنا الله من الخذلان، وأسباب الضلال والحرمان.
ومن أخطر العواطف الفاسدة المهلكة الحرص على المال، والشهوة إلى الفاحشة، وقد جمعهما الرسول صلى الله عليه وسلم محذراً عنهما بقوله:" إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل في النساء "1.
والمطلوب اتقاؤه من الدنيا هو التعلق بها والركون إليها، فإنه يقود إلى الحرص والشح، وهو داء قلبي عضال خطير، ينتج عنه ويتفرع منه كثير من المعاصي، وقد يؤدي بصاحبه إلى النفاق أو الردة.
1 رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء ح2742 4/2098.
قال صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه "1.
والحرص على المال والشرف مرضان قلبيان يجمعهما حب الدنيا، والقوة والعلو فيها، قال ابن رجب رحمه الله: "وقد تبين
…
ذكرنا أن حب المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء، حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وأصل محبة المال والشرف حب الدنيا، وأصل حب الدنيا اتباع الهوى، قال وهب2 بن منبه:"من اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة فيها حب المال والشرف، ومن حب المال والشرف استحلال المحارم."وهذا كلام حسن، فإن حب المال والشرف يحمل على الرغبة في الدنيا، وإنما تحصل الرغبة في الدنيا من اتباع الهوى، لأن الهوى داع إلى
1 رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، المسند 3/456، 460 مسند كعب بن مالك. ورواه الترمذي، كتاب الزهد، ح2376 4/588، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وللحديث شواهد ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد وحكم على كل منها 10/250.وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/290.
2 الإمام العلامة وهب بن منبه بن كامل بن سيج بن ذي كبار الصنعاني، أحد التابعين أخذ عن ابن عباس، وأبي سعيد بن بشير وغيرهم توفي سنة عشر ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 4/544، والبداية والنهاية 9/288.
الرغبة في الدنيا وحب المال والشرف فيها، والتقوى تمنع من اتباع الهوى وتردع عن حب الدنيا. قال الله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-41] "1.
وفي هذا الكلام البديع بيّن الإمام ابن رجب ضرر عاطفة حب المال والشرف على الدين، كما بين أثر الإيمان في تطهير القلب منها، بقوله:"والتقوى تمنع من اتباع الهوى، وتردع من حب الدنيا".
والحرص على المال هو شدة محبته الدافعة إلى شدة طلبه، ولا شك أنه لو سلم صاحبه من الحرام، فإنه سيؤدي به إلى بعض المخالفات والتجاوزات والمراهنات التي تستدرجه شيئاً فشيئاً فتبعده عن التقوى، مع ما في ذلك من الغفلة عن طلب العلم، والعمل الصالح، وتضييع العمر في جمع حطام زائل، وحرص لا يغير من قدر الله شيئاً.
أما إذا تجاوز به الحرص إلى الشح الذي يطلب به المال من كل طريق حتى ولو كان محرماً، ويمنع حق المال، فإن هذه قاصمة الظهر.
1 شرح حديث "ما ذئبان جائعان
…
" للحافظ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، تحقيق بدر البدر، ص57، الدار السلفية، الكويت، ط الثانية 1404هـ.
قال صلى الله عليه وسلم: "
…
واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمه م" 1.
فالشح الذي هو شدة الحرص على المال، يكون عاطفة سائدة إذا استولى على القلب وسيطر عليه، فيقدم الهم له والعمل من أجله على كل شيء، فيصبح الإنسان عبداً للمال، لا يتوجه إلا حيث رجا زيادته، ولا يحجم إلا إذا توقع نقصانه، لا مؤثر في قصده وطلبه إلا ذلك، وهذه عبودية المال، قال صلى الله عليه وسلم:"تعس عبد الدينار والدرهم، والقطيفة والخميصة2، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض "3.
قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض " دليل على استحكام هذه العاطفة، حيث أثرت على انفعالاته القلبية الأخرى وسلوكه، ولذلك سمي عبداً لما توجهت إليه تلك العاطفة من متاع الدنيا.
والحاصل أن الحرص على المال والشرف الدافع إليه عاطفة فاسدة تقوم في القلب، وهي ثغرة في حصنه يتسلل منها شياطين الإنس والجن لإفساد الإنسان، بترويج الأفكار الهدامة وغيرها من ضروب الفساد عليه،
1 رواه مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم، ح2578 4/1966.
2 القطيفة: هي الثوب الذي له خمل، والخميصة هي الكساء المربع.
انظر: فتح الباري لابن حجر 11/254.
3 رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، ح2886 6/81 وفي كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة الدنيا ح6435 11/253.
فكثيراً ما استخدم أئمة الضلال ودعاته المال والمناصب في ترويج باطلهم، فإذا وجد الدافع القلبي وعرضت المغريات، فإن انقياده عندئذِ يكون سهلاً، والمعصوم من عصمه الله وعافاه.
قال ابن رجب رحمه الله في معرض شرحه لحديث ما ذئبان جائعان: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف، إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساوياً، وإما أكثر يشير إلى أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين إلا القليل، فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا"1.
ومن العواطف الفاسدة المهلكة: محبة الفاحشة، وهي ميل القلب إلى إشباع غريزة النكاح في غير ما أحل الله، وهي مرض قلبي.
وقد تكون العاطفة مستقرة، فتدفعه إلى هذا العمل، ويزاوله كلما تيسر له، وقد تتوجه العاطفة إلى ذات وصورة معينة، ويحب ذلك الشخص كأشد ما يكون الحب، وهذه عاطفة سائدة تستولي على القلب وتعميه، وتصبغ حياة ذلك الإنسان بصبغتها فإراداته وانفعالاته وحركاته وسكناته خاضعة لها، وبذلك تصبح عبودية لغير الله تميل بالقلب عن التوحيد.
1 شرح حديث ما ذئبان جائعان ص11.
قال صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء "1.
ضرر الفاحشة المحرمة على القلوب:
إن العواطف الفاسدة المتوجهة نحو الفواحش محبةً وتعلقاً، تضعف الإيمان، وقد تزيله إذا أُشربها القلب، وفي كلا الحالين يفقد العبد ولاية الله التي اختصها للمتقين، كما يفقد حصانته، ولا يزال يتردى حتى يهلك، فالفواحش سبيل مظلم نكد.
قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "2.
قال ابن القيم رحمه الله مبيناً المفاسد التي تنتج عن هذه العواطف الفاسدة: "والزنى يجمع خلال الشر كلها، من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة.
ومنها أن الزنى يُجرِّؤُه على قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين،
1 متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، ح5096 الصحيح مع الفتح 12/81.
ومسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء
…
ح2741 4/2098.
2 متفق عليه: البخاري، كتاب الحدود، باب السارق حين يسرق، ح6782 الصحيح مع الفتح 12/81.
ومسلم، كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي
…
ح100 1/76.
وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسراً إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان بالسحر وبالشرك وهو يدري أو لا يدري، فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أخر من المعاصي بعدها" 1.
أما محبة فاحشة اللواط فهي أشد خطراً وأعظم قبحاً، لما ينتج عنها من عُقم من ابتلي بها من كل خير، وقربه من كل شر، ولا يقال إن اللواط طريق للأفكار الخبيثة إلى قلب متعاطيه فحسب، بل إن غاية الأفكار الهدامة هي أن يكون المسلم بهذا المنحدر، فأهل هذا الفعل مجمع لكل فساد فكري وخلقي وسلوكي، قد جردوا من الخلق والحياء، وجندوا أنفسهم لنشر بذور الفساد، لذلك كانت عقوبتهم القتل، وتخليص البلاد والعباد من شرهم.
قال الله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:80،81] .
1 روضة المحبين.. ص360.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف على أمتي، عمل قوم لوط "1.
وما خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من هذا الداء الخبيث، إلا لأنه مجمع للشر والفساد، ولا يستمر عليه ويستمرئه إلا من فسد قلبه بالشرك أو الكفر والنفاق، لذلك كانت صلة أهل الفاحشة بالشرك، وقربهم منه أمراً ظاهراً يدركه كل من اطلع على أحوالهم، ونظر في أقوالهم وأشعارهم.
قال ابن القيم رحمه الله مبيناً العلاقة بين محبة الفاحشة والشرك: "ولكن الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جداً، ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً، فكلما كان الشرك في العبد أغلب، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر.
وكلما كان أعظم إخلاصاً، كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] .
فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها، بل هو من أعلى أنواع
1 رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، المسند 3/382، مسند جابر بن عبد الله، سنن الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في اللوطي ح1482 3/9، ورواه الحاكم وقال:"صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، المستدرك 4/357.
وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 28/44.
التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب، وتمكن منه صار تتيماً، والتتيم: التعبد، فيصير العاشق عابداً للمعشوق، وكثيراً ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه، والسعي في مرضاته، وإيثار محابه على حب الله، وذكره والسعي في مرضاته بل كثيراً ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، فيصير معلقاً بمعشوقه من الصور، كما هو مشاهد، فيصير المعشوق هو إله من دون الله.
ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد بُلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه
…
فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثاً ازداد من الله بعداً
…
ولما كانت هذه حال الزنى كان قريناً للشرك في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى:{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] "1.
1 إغاثة اللهفان.. لابن القيم 106، 107.
فهذه العاطفة الفاسدة -حب الشهوات- إذا قامت في القلب، فإن صاحبها يتهاوى في نوادي الفساد، ويقوده شياطين الإنس والجن كيفما أرادوا، ويلبسون عليه دينه.. وقد يستخدمونه لأغراضهم في نشر الأفكار المنحرفة، والمبادئ الملحدة، فكم استخدموا النساء الساقطات ومن تشبه بهن في هذا الغرض، وما ذاك إلا لأنهن حبائل الشيطان، ومعاقل الفساد، فهن أعظم طعم استعمله المفسدون وأقدمه.
فإذا وجدت الفتنة وتيسرت أسبابها ودُعي إليها، ووافقت فتنة في القلب، كان التجاوب إليها سريعاً، بين ذلك ربنا بقوله:{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] .
ولا سبيل إلى استئصال هذا الداء إلا بالإيمان بالله، والعمل الصالح الذي يوجب ولاية الله ورحمته، فيخلص برحمته القلب من دائه، كما سيأتي إن شاء الله.
ومن العواطف الفاسدة: شهوة شرب الخمر والمسكرات والمخدرات.
إن شرب الخمر والمخدر كغيره من المعاصي، قد يزاولها الإنسان دون تعلق القلب، بل حتى دون أي شهوة في أول الأمر، كأن يشرب مجاملة لرفاقه، أو بدافع الاستطلاع، لكن سرعان ما يألف القلب هذه القاذورات مع تكرار التعاطي حتى يحبها ويتعلق بها، فتقوم في قلبه عاطفة
المحبة المتوجهة نحوها، وبذلك تصبح زماماً يقاد به إلى المهالك.
وأضرار الخمر والمخدرات الصحية والدينية والاجتماعية كثيرة جداً، إلا أن الذي يهمنا في هذا البحث هو الأثر الديني، المتمثل في إسهام هذا الداء بتسلل الفكر الخبيث إلى صاحبه حتى يصبح أُلعُوبة بأيدي أعدائه.
قال الدكتور أحمد بن عطية الغامدي مبيناً أضرار المسكرات والمخدرات الدينية: "وإذا تأملنا النص القرآني الذي حرم الخمر، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90، 91] لعرفنا هدف الشيطان وغاية كيده من إيقاع العدواة والبغضاء في صفوف المسلمين بكل الوسائل وكافة الطرق، إلا أن أشدها تأثيراً وتحقيقاً لهذا الهدف إغراؤهم بإدمان الخمر والميسر، الذي لا يقف تأثيره عند ذلك، بل يتعدى إلى ما هو أخطر وأنكى، هو صدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ولا ريب أن للمخدر التأثر ذاته، لأنه إذا كانت الخمر أم الخبائث، فإن المخدرات أخبث الخبائث، ولها من التأثير ما للخمر وزيادة، كما قال عنها الإمام ابن تيمية رحمه الله: "والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج
والعقل، وفتح باب الشهوة وما توجبه من الدياثة، مما هي من شر الشراب المسكر" 1 فأي مكيدة أعظم من هذه، وأي وسيلة لإبعاد الإنسان عن الخير وإيقاعه في حبائل الشر أبلغ من هذه الوسيلة؟
ومكائد الشيطان بين المسلمين ملموسة مشاهدة، وإغراء المسلمين بتعاطي الخمور وما شابهها من المخدرات -التي هي أبشع آثاراً في هذا المجال منها- كان له أثره السيئ في تفريق كلمة المسلمين وإبعادهم عن دينهم، وفساد عقولهم، وذهاب هيبتهم، وضعف كيانهم وتفكك مجتمعاتهم"2.
وبعد الإشارة إلى أهم العواطف الفاسدة التي تعود إلى مرض الشهوة والتنبيه على أثرها في دفع صاحبها إلى الأفكار الخبيثة، وإضعاف حصن القلب عن التصدي لها، بعد ذلك، أصل بعون الله تعالى إلى المقصود وهو بيان أثر الإيمان في تخليص القلب منها، واقتلاعها من جذورها، وأبدأ بذكر أثره في تطهير القلب من الشح والحرص على المال.
أثر الإيمان في تطهير القلب من الشح والحرص على المال:
تقدم أن الشح والبخل سلوك مشين ينتج عن داء قلبي هو شدة المحبة
1 مجموع الفتاوى 34/211.
2 أثر المخدرات على الأمة وسبل الوقاية منها، د. أحمد عطية الغامدي، مجموعة بحوث في المخدرات، البحث الثالث، ص19، 20 الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط الأولى، 1410هـ.
للمال، وتعلق القلب به، والحرص الشديد على جمعه، والمحافظة عليه، فيصبح القلب عابداً للمال متوكلاً عليه، فلا يهون عليه إنفاقه. وقد جعل الله أسباباً لإزالة هذا الداء من القلب، هذه الأسباب تتمثل في بعض شعب الإيمان التي لها أثر عظيم في تطهير القلب من هذا المرض المفسد.
وأول هذه الأسباب هو التوحيد، فإذا كان الحرص والشح والبخل ناتجاً عن سوء الظن بالله، وضعف التوكل عليه، وعدم الثقة بوعده بالخلف للمنفقين، وقلة إيمانه بالقدر وأن الرزق مقسوم لكل حي، إذا كان كذلك فإن تقوية الإيمان بدراسة التوحيد وانقياد القلب له كفيلة باجتثاث هذا الداء من أصوله.
وسوء الظن بالله -كما تقدم- ناتج عن جهل أو ضلال في معاني صفات الله التي تدل عليها أسماؤه تبارك وتعالى، وطرد هذا الظن يكون بدراسة توحيد الأسماء والصفات وفق نهج السلف الصالح واستشعار القلب لها.
وفي هذا المجال إذا استشعر القلب معاني أسماء الله: الرزاق، والكريم، والمنعم، ونحوها، وإدراك القلب معاني الآيات التي تدل على أن الرزق بيد الله وحده لا يزيده حرص حريص، ولا يؤخره حقد حاسد. كقوله تعالى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] .
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] .
ونحوها، فهذه المعرفة بأسماء الله، ومدلول آياته، مع ما يشاهده من آثار رحمته من نزول المطر، وحياة الأرض بمختلف الأصناف من الثمار، وأنواع الحيوان الذي سخره الله لأهل الأرض رزقاً لهم، وكيف هيأ للمخلوقات الضعيفة أرزاقها
…
، كل ذلك يوجب للقلب محبة الله، وحسن الظن وتعلق القلب به، والركون إليه. وكذلك إذا وقر في القلب ثقة وتصديق بوعد الله للمتصدقين بالخلف والنماء كقوله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] .
فإن ذلك كله يكسر حدة الحرص على المال، ويصرف القلب عن التعلق به، كما يجلب للقلب حسن الظن بالله والثقة بما عنده.
ومن جهة أخرى فإن نمو التوكل على الله يصرف القلب عن التوكل والتعلق بالمال، وذلك أن الإنسان إنما يحرص على المال رجاء نفعه واتقاء الشر به، وإذا قوي يقينه على ربه باستشعار آيات التوحيد التي أفاضت في تقرير هذا المعنى، وأن الإيمان هو السلم والعروة الوثقى للحصول على ولاية الله، ومعيته في الدنيا والآخرة، وأن كل خير يأمله في الدنيا والآخرة، وكل شر يحاذره إنما هو بيد الله، والسبب إلى ذلك هو قوة الصلة به والتوكل عليه.
بين ذلك بقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2، 3] .
وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] .
وكذلك الإيمان بالقدر بمعرفة ما جاء في بيانه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أن الرزق مقسوم بين العباد، وأن إرادة العباد له وحرصهم عليه لا تغير من أرزاقهم شيئاً، وإنما عليهم طلب الرزق بالأسباب المشروعة، والتعلق بالله لا على السبب في حصوله، دون الحرص الشديد على جمعه.
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18] .
وقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء:29-30] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم علقة مثل
ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح
…
" الحديث 1.
وفي رواية لمسلم: " ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا ينقص "2.
فالإيمان بالقدر وأن ما يجري عليه من الأرزاق وسائر الأحوال بيد الله عز وجل، وأنه سبحانه المانع المعطي، الضار النافع، وأن اجتهاد الخلق جميعاً على خلاف أقدار الله غير مجد البتة، يوجب للعبد توكلاً على الله، وتعلقاً به، فبضعف تعلقه بالأسباب، وبذلك يستقيم توحيده وعبوديته ويسلم قلبه من الآفات الفاسدة، وبهذا يتجلى أثر التوحيد في تطهير القلب من هذا الداء.
أما شعب الإيمان الأخرى كالصلاة، والزكاة، ونحوها، فلها أثر مهم في تخليص القلب من مرض الشح والحرص.
أشار إليه ربنا بقوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَاّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي
1 متفق عليه: واللفظ للبخاري، البخاري، كتاب القدر، الباب الأول ح6594 الصحيح مع الفتح 11/477. ومسلم، كتاب القدر، الباب الأول، ح2643 4/2036.
2 رواه مسلم، كتاب القدر، الباب الأول، 02644 4/2037.
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:19-35] .
الهلع: هو شدة الحرص وقلة الصبر1.
وقد فسره الله تعالى بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} .
قال بعض العلماء: "قد فسره الله، ولا تفسير أبين من تفسيره، هو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنع الناس"2.والمراد بالإنسان في هذا السياق فيه قولان:
قال الرازي: "قال بعضهم المراد بالإنسان ههنا الكافر، وقال
1 انظر: جامع البيان لابن جرير 29/78، والتفسير الكبير للرازي 30/128.
2 التفسير الكبير للرازي 30/128.
آخرون بل هو على عمومه بدليل أنه استثنى منه المصلين"1.
والذي أراه والله أعلم أنه لا تعارض بين القولين، فالذي قال المراد به الكافر، يعني الذي تحقق في هذا الوصف بكماله، والذي قال بعمومه لجميع أفراد الجنس، لاحظ أصل الخلقة وهي قابلية الناس جميعاً بطبيعة خلقهم لقبول هذه الصفة، ولا يتخلصون منها إلى بأسباب تزكيتهم، فمن التزم الأسباب المذكورة في الآيات، تخلص من الهلع وإلا فحاله صائرة إليه لا محالة.
ونظير ذلك كثير في القرآن، نحو قوله تعالى:{وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] .
فالمراد بالإنسان هنا عموم الناس، فهم واقعون في الخسران، واستثنى منهم من جاء بهذه الأمور الأربعة، ومن قال أن المراد به الكافر فهو صحيح، حيث أنه هو الذي تحقق فيه الخسران.
وبهذا يتضح أن الله جعل الإيمان مؤثراً في إخراج هذه الصفة الذميمة من القلب، متمثلاً في هذه الشعب المذكورة في الآيات من قوله:{إِلَاّ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} .
1 المصدر نفسه.
فقد وصف المتخلصين من الهلع بالمصلين، ثم ذكر صفاتهم على وجه التفصيل، فذكر منها في بداية السياق وختامه مداومتهم ومحافظتهم على الصلاة، ومنها إيتاؤهم الزكاة، وتصديقهم بيوم الدين، ثم استرسل السياق في بيان صفاتهم المباركة الخيرة.
والعناية بأمر الصلاة في هذا السياق دليل على شدة أثرها في التطهير من هذا الداء، إلا أن أثرها في التطهير عام لجميع أدواء القلب، بين ذلك ربنا بقوله:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] .
ولا شك أن الشح من أعظم منكرات القلوب، وما ينتج عنه من العمل من أقبح منكرات الأعمال، والمداومة على الصلاة، والمحافظة عليها شرط لحصول هذا الأثر الهام في تطهير القلب من أدرانه، وسيأتي مزيد إيضاح لهذا الأمر إن شاء الله عند الكلام على تطهير القلب من محبة الفواحش.
أما الزكاة، فأثرها في التطهير من هذا الداء بارز ظاهر.
قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] .
فقد أشار تعالى في هذه الآية إلى أثر الزكاة في التطهير والتزكية.
وفي المراد بالتطهير أورد ابن جرير رحمه الله فيما نقله عن بعض
السلف رضوان الله عليهم1، ما يدل على أن أثر الصدقة يكون في ثلاثة مجالات هي:
الأول: أنها تطهير للمال:
فالمال الحلال الذي يكتسبه صاحبه من طرق مشروعة، فيه حق معلوم لله يصرف في مصارفة، ومنع هذا الحق شؤم يدنس المال، ويعرضه للعقوبات والآفات، ولا يطهر المال إلا بإخراجه.
كما أن الإنسان في معاملاته قد يبدر منه بعض التقصير أو المخالفات التي هي من باب المتشابهات، أو المكروهات التي قد تلوث المال دون أن تصل إلى درجة تحريم التكسب، وفي إخراج الزكاة والصدقة تطهير له من ذلك.
والمال الذي يتطهر بالزكاة هو المال الحلال، أما المال الحرام الذي جاء عن طريق غير مشروع من نهب وسلب وسرقة واختلاس ورشوة وربا وقمار، فإنه لا تطهره الزكاة ولا تباركه.
الثاني: تطهيرها لهم من دنس الذنوب وران العصيان:
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من
1 انظر: جامع البيان 11/16، 17.
دنس ذنوبهم
…
"1.
فالزكاة كغيرها من شعب الإيمان لها أثر في تكفير الخطايا ومحو آثارها من القلب، وقد تقدم الكلام على هذا الموضوع في المبحث الثاني من هذا الفصل.
الثالث: تطهيرهم من صفات المنافقين:
قال ابن جرير في الإشارة لهذا: "
…
وتزكيهم بها، يقول: وتنميهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق"2.
وخاصة خُلُق الحرص على المال والشح الذي يتصف به المنافقون حيث أشار الله إلى ذلك من حالهم، بقوله:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67] .
فالمزكي الذي يبذل من ماله الذي جبل على محبته والذي صرف كثيراً من الوقت والجهد في جمعه، وقد أدرك منفعته له في قضاء حاجاته وتيسير أموره، إنما يجود به امتثالاً لأمر الله، وحسن ظن به وثقة بوعده، فهذه المعاني من أقوى الأسباب في تخليص القلب من دائه، بل إن مرض
1 جامع البيان لابن جرير 11/16.
2 جامع البيان 11/16.
الحرص والنفاق لا يقوم له قائمة في قلب استشعر هذه المعاني، والزكاة والصدقة بالإنفاق من المحبوب جالبة للبر الذي هو مادة صلاح القلب.
ولا شك أن عمران القلب بهذه العقائد القيمة، وانبعاث الجوارح للعمل بموجبها، لا يكون إلا من قلب قد تخلص من دائه، وتمكن منه حب الله وحب ما يحبه، والفرح بفعل ما يرضيه، فقد ذكر الله أن من أعمال أهل البر أنهم يؤتون المال على حبه، وهذا الفعل ضد الشح الذي يحمل على منع حق المال، فدل على أن الإيمان قد هذب وكسر حدة حبهم للمال إلى بذله لاستجلاب محبوب أهم منه، وهو القرب من الله، والترقي في منازل الإيمان.
وخلاصة ما تقدم: أن أثر الإيمان في تطهير القلب من هذا الداء يتجلى في دراسة التوحيد، وتقوية الاعتقاد بمعرفة أسماء الله وأفعاله، والتوكل عليه، والإيمان بالقدر وفق ما دل عليه كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم،
كما يتجلى ذلك الأثر في إقامة الصلاة والمداومة والمحافظة عليها ضمن أثرها العام في النهي عن الفحشاء والمنكر، وفي أثر الزكاة التي يتخلص من أدَّاها من خلُق الحرص والشح. أما سائر شعائر الإسلام الأخرى فهي مؤثرة في هذا الجانب من جهة أنها تزيد الإيمان الذي هو مادة الخير في القلب، والذي إذا تمكن أخرج ما يضاده من خصال الكفر والنفاق.
أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة الفاحشة:
تقدمت الإشارة إلى أن من ابتلي بحب الفواحش، لا يخلو إما من ضعف توحيده وإيمانه، أو ميله إلى الشرك؛ وبهذا يتبين أن أهم مؤثر في سلامة القلب من هذا الداء -إذا أراد الله له السلامة- هو قوة الإيمان ورسوخ التوحيد.
قال ابن القيم رحمه الله: "ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص، كانت محبته لعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصاً وأشد توحيداً، كان أبعد من عشق الصور، ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها، ونجا منه يوسف الصديق بإخلاصه، قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] "1.
1 إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 2/197، 198.
وقد بين رحمه الله سر ذلك بقوله: "فمحبة الله عز وجل أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والمحبة مع الله أصل الشرك، والمحاب المذمومة
…
"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "
…
وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبودية الله ومحبته له، لم يكن شيء أحب إليه من ذلك، حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .
فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب منيباً خائفاً راغباً راهباً، كما قال تعالى:{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33] .
فلا يكون عبد الله ومُحِبُّهُ إلا بين خوف ورجاء، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
1 المصدر السابق.
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] .
وإذا كان العبد مخلصاً له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء"1.
ومما تقدم من أقوال أهل العلم يتحصل أن عمران القلب بالإيمان والإخلاص لله القائم على قوة المحبة لله، والخوف منه ورجائه، ينتج عنه حياة القلب وانجذابه إلى الله، وما يقرب إليه من العمل الصالح، وانصرافه عما يضاد ذلك من السوء والفحشاء.
فقيام هذه الثلاثة في القلب موجب صلاحه واستقامته، فالمحبة تدفعه إلى فعل ما يرضي الحبيب، والخوف يمنعه من تعاطي الأسباب التي تغضبه وتحجب عنه، والرجاء يقوي الأمل في إقالة العثرات وحصول البركات والمسرات.
وقيام المحبة لله في القلب مع الخوف والرجاء، لا يكون إلا بمعرفة الله، وذلك لا يكون إلا بالتفكر والتعلم لما دلت عليه أسماء الله الحسنى من المعاني واستشعار القلب لذلك.
قال ابن القيم رحمه الله في بيان ذلك: "القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما
1 مجموع الفتاوى 1/215، 216.
يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات، وجمال الأفعال الدال على كمال الذات فيستنفذ حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته؛ وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان، انبعث قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله وقوي طمعه، وسار إلى ربه، وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره.
وكلما قوي الرجاء جد في العمل
…
وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب، واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة رعونتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر"1.
ومما تقدم تبين أن المؤثر الأول في تخليص القلب من هذه العواطف الفاسدة من حب الفواحش هو عمران القلب بالتوحيد والإيمان، حيث تقوى محبته لربه وخوفه منه ورجاؤه له، وأن الطريق إلى ذلك هو معرفة الله بأسمائه وأفعاله، واستشعار القلب لذلك، ثم عبادته تعالى بهذه المعرفة، وأهم العبادات تأثيراً في قطع هذا الداء -بإذن الله تعالى- بعد التوحيد،
1 الفوائد لابن القيم ص91، 92.
الصلاة التي آن أوان الكلام على أثرها في ذلك.
أثر الصلاة في تخليص القلب من حب الفاحشة:
للصلاة أثر عظيم في صلة العبد بربه، لما فيها من إظهار العبودية، والخضوع، والافتقار، والذكر، والدعاء، والاستغفار الذي هو أعظم الأسباب مع التوحيد لنيل ولاية الله تعالى، كما أن للصلاة أثراً في تطهير القلب من ران الذنوب ودرنها -كما تقدم ذكره1- مما يجلب للمصلي طمأنينة قلبه، وسكون نفسه وراحتها.
وقد أخبر سبحانه أن لها أثراً في تطهير العبد من محبة الفاحشة والمنكر، تلك المحبة الدافعة إلى طلبها وسلوك طريقها، فالصلاة سبب لتقوية وازع الخير، وإضعاف الدافع إلى الشر والفواحش، قال تعالى مشيراً إلى هذا الأثر:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45] .
قال ابن كثير رحمه الله حول هذه الآية: "يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين، على ترك الفواحش، أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك
…
وتشتمل الصلاة أيضاً على ذكر الله تعالى وهو المطلوب الأكبر، ولذلك
1 تقدم في المبحث الثاني من هذا الفصل.
قال: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أعظم من الأول"1.
وروى ابن جرير عن قتادة والحسن2 رضي الله عنهم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فإنه لا يزداد من الله إلا بعداً"3.
وبين ذلك أبو العالية رحمه الله بقوله: "إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص والخشية، وذكر الله، فإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله القرآن يأمره وينهاه"4.
وكثيراً ما استخدم شياطين الإنس والجن النساء في تحقيق أغراضهم الخسيسة في نشر الفساد، وإغواء العباد والترويج للأفكار الهدامة.
ومعلوم أنه لا تحصل الفتنة بهن إلا بعد إغوائهن وإفساد قلوبهن ففساد القلب دافع إلى قبول الشر والرذيلة.
لذلك اهتم الإسلام بصلاح قلوب النساء وسلامتها من محبة الفاحشة، وأرشدهن إلى ما له أثر في قطع ذلك.
1 تفسير القرآن العظيم ط الشعب 6/289، 291.
2 الإمام الفقيه الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، روى عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة، وابن عباس وغيرهم، توفي سنة 120هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 4/563، والبداية والنهاية 9/278.
3 جامع اليبان 20/155.
4 تفسير القرآن العظيم 6/291.
فعندما نهى الله سبحانه عن بعض الأسباب المؤدية للفاحشة، أرشد في نفس السياق إلى العلاج المعين على ترك ذلك، فقال تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:30-33] .
فبعد أن نهاهن عن الخضوع بالقول عند مخاطبة الرجال الأجانب، وأمرهن بملازمة البيوت، ونهاهن عن التبرج عند الخروج من البيوت لحاجة تستدعي ذلك -وهي تعليمات تؤدي مخالفتها إلى فتنتهن أو الفتنة بهن، وما خالفتها النساء في مجتمع إلا فشت فيه الفاحشة- أرشدهن بعد ذلك إلى ملازمة القول المعروف عند مخاطبة الرجال الأجانب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين سبحانه أن ذلك الترك لما نهى عنه، والفعل لما أمر به، سبب لذهاب الرجس عنهن
وطهارتهن، فقد شرع سبحانه هذه الأعمال، وأراد أن يحصل لمن التزم بها ما رتبه عليها، وجعلها سبباً له من الطهارة وذهاب الرجس. وقد ذكر منها سبحانه الصلاة، فدل على أن لها أثراً عظيماً في شفاء القلوب من داء محبة الفاحشة، واقتلاع دوافعها.
وعلى هذا فإن النتيجة الحتمية لإضاعة الصلاة هي اتباع الشهوات، من شهوة الفاحشة، أو شهوة الظلم، والبغي والتكبر في الأرض.
قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] .
فللصلاة أثر عظيم في سلامة القلوب وصلاحها وانبعاثها للخير وبُعدها عن الشر، وما ذلك إلا لأنها اشتملت على معان وأفعال عظيمة أشير إلى أهمها:
فمن جهة هي تحقيق للتوحيد، فالمصلي يظهر ذله وخضوعه وافتقاره لربه، يدعوه ويستغفره، يفزع إلى الصلاة، يرجو الخير والسلامة، ويعوذ بربه من الشر والهلاك. فهو يتصل بالله معلناً فقره وحاجته، ومعلناً شكره وامتنانه، عالماً مستشعراً أن ذلك بيد الله وحده، فلا يقصد غيره في ذلك؛ ومن جهة أخرى هي جامعة لأركان الإيمان الثلاثة: القول والعمل والاعتقاد.
فالاعتقاد والتصديق لا يفارق المسلم في جميع أوقاته، ما دام العقل باقياً، فهو ملازم له حال صلاته، والعمل يتمثل بالقيام والركوع والسجود والقعود ونحوها. والقول يتمثل بقراءة القرآن، والذكر والتشهد ونحوها، لذلك سمى الله الصلاة إيماناً في قوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] . أي صلاتكم تجاه بيت المقدس قبل أن تحول القبلة، كما ورد في صحيح البخاري1.
ومن جهة ثالثة، هي جامعة لأنواع الذكر، فالذكر بالعمل حاصل بأداء الفرض، وفي القلب حاصل حيث أن قلب المصلي الخاشع موصول متعلق بمن يقف بين يديه ويناجيه، وبالقول فجميع الأذكار القولية تقريباً تشتمل عليها الصلاة، فقراءة القرآن في القيام والتكبير والتحميد والتسبيح والتشهد في أركانها، والدعاء في قراءة الفاتحة والسجود وبين السجدتين، والتشهد الأخير، والاستغفار بين السجدتين، وبعد الصلاة مباشرة، وغير ذلك من الأذكار العظيمة التي اشتملت عليها.
قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] .
وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14، 15] .
فبالله أي خير جمعت؟! وأي بركة تعود على من حافظ عليها
1 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 1/95، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان.
واستشعر أهميتها وحاجته إليها؟!
ومن أعظم بركتها أن صاحبها -بإذن الله- يكون في حصن حصين من الشياطين وكيدهم، وذلك لاشتمالها على الذكر، كما تقدم، فقد ورد أن الذكر سبب لتحصين العبد من الشياطين، ومن ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فذكر منهن الذكر، ومثله فقال:
"
…
وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى حصناً حصيناً فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله
…
"1.
"فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجاً بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقطع
…
"2.
1 رواه الإمام أحمد المسند 4/202 مسند الحارث الأشعري، ورواه الترمذي وقال:"حديث حسن صحيح غريب" سنن الترمذي، أبواب الأمثال، ج225.
وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/100.
2 الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن قيم الجوزية، ضمن مجموعة الحديث ص 659، مكتبة الرياض الحديثة، ط الخامسة، ت بدون.
فملازمة ذكر الله تعالى تجعل العبد في حصن حصين من الشياطين ووساوسهم وتلبيساتهم. ومردّ ذلك إلى أن الذكر -كغيره من الحسنات- يذهب السيئات، ويكفرها ويجلو القلب، فيبقى منيراً يقظاً يكشف لصاحبه الضلال وينفره منه.
كما أن الذاكر موصول بالله يجازيه بما يناسب عمله، فيذكره سبحانه كما قال {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] ذكراً خاصاً يوجب معيته وتوفيقه، وحفظه وتسديده، فيصرفه عن المهالك، ويوفقه لما فيه هدايته وصلاحه. ومن ذلك حفظه من الأفكار الخبيثة إذا طرأت على قلبه أو عُرضت عليه.
أثر الصيام في تخليص القلب من الميل للفواحش:
الأصل في هذا الأثر هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "1.
1 متفق عليه: واللفظ لمسلم، البخاري، كتاب النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم، ح5066 9/133. مسلم، كتاب النكاح، الباب الأول ح1400 2/1018 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
قال النووي رحمه الله: "واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد أصحهما أن المراد معناها اللغوي، وهو الجماع فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه، كما يقطعه الوجاء1.وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشبان الذين هم مظنة شهوة النساء، لا ينفكون عنها غالباً
…
"2.
فالرسول أرشد إلى عبادة عظيمة تؤدي إلى تحصين المسلم من ثوران شهوته وجريانه خلفها إذا لم يكن له زوج.
هذه العبادة تؤدي إلى ترك الطعام والشراب الذي يضعف الشهوة ويكسر حدتها لكنه لم يرشد إلى مجرد ترك الطعام والشراب، وإنما أرشد إلى العبادة التي تتضمن ذلك.
قال ابن حجر رحمه الله: "عدل عن قوله فعليه بالجوع وقلة ما يثير الشهوة ويستدعي طغيان الماء من الطعام والشراب إلى ذكر الصوم، إذ ما جاء لتحصيل عبادة هي برأسها مطلوبة
…
"3.
1 قال النووي:"الوجاء: هو رض الخصيتين، والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شر المني، كما يفعله الوجاء". شرح النووي على صحيح مسلم 9/173.
2 المصدر نفسه.
3 فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/110.
فالأثر المتمثل في كسر الشهوة وإضعافها ليس ناتجاً عن الجوع والعطش فحسب، بل هو ناتج مع ذلك عن الإيمان والتقوى في الصيام، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] .
فالصيام يشتمل على أمور هامة تعمل مجتمعة في أحداث هذا الأثر منها:
أنه علة لحصول تقوى الله عز وجل، وزيادة الإيمان، وهو من الصبر على طاعة الله، ويشتمل على ذكره سبحانه؛ وبهذه الأمور تستجلب ولاية الله وعنايته ومعيته الخاصة لأوليائه
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] .
وبذلك يقوى القلب وينصرف فكره عن الشهوة ودواعيها، ويسهل عليه الصبر عن معصية الله، فمن صبر على طاعة الله، أعانه الله على الصبر عن معصيته، والصوم أيضاً يؤدي من جهة أخرى إلى ضعف الشهوة وسكونها، لانقطاع مادة هيجانها وهو الشراب والطعام. وللصيام خاصية عظيمة في ردع القلب عن التهور والعجلة والاندفاع، فهو فعال في تهذيب السلوك، وتعويد من لازمه على التأني والصبر مما يعينه على الروية
والتبصر في أمره، وذلك يقود صاحبه إلى الخير.
قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .
ومن أجل ذلك والله أعلم نجد أن الكفارات المغلظة ككفارة القتل والظهار، والجماع في نهار رمضان، التي كثيراً ما يكون الدافع إليها العجلة وعدم ضبط النفس، والضعف عن كبح الانفعال، شرع فيها الصوم شهرين متتابعين، وما ذلك إلا لتربية من حصل منه شيء من ذلك بالصوم ليحصل على هذا الأثر الهام.
فملازمة الصوم تجعل الإنسان في حصون منيعة تحول دون عدوه والتسلل من خلال شهوة الجماع إلى استدراجه إلى مراتع الرذيلة التي يتوصل بها إلى إفساد دينه ودنياه؛ كما أنه يقوي قلبه على الصبر وكبح جماح النفس عند الانفعال، وذلك من آثار عناية الله بعبده، حيث أن الصوم من التقوى التي تستجلب بها ولاية الله.
ومما تقدم يتبين: أن أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة الفواحش يتجلى في أثر التوحيد الذي يعمر القلب بمحبة الله والخشية منه، وأن ذلك يتحقق بدراسة ومعرفة أسماء الله الموجبة لحبه وخشيته، واستشعار القلب لذلك؛ كما يتجلى في أثر الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفي الذكر الذي يحصن العبد من عدوه ويوجب ذكر الله له، وفي الصيام الذي يزيد في تقواه وقربه من مولاه، ويضعف الشهوة، ويكسر من حدتها،
وفي غير ذلك من الأعمال الصالحة التي تزيد في الإيمان، وتقرب العبد من الرحمن، وتحبب إليه الخير والإحسان، وتنفره من الشر والفحش والطغيان.
وأختتم هذا المطلب بأبيات تعبر عن معان ثارت في نفسي عند كتابة ما يختص بأثر الإيمان في تحصين القلوب من حب الفاحشة.
الحمد لله العلي المنجد
…
لعباده من كل فِكْر ملحد
للشر مكر بالنساء الخُرد
…
صبراً جميلاً صاح لا تتمرد
فيما أحل الله غُنية عاقل
…
ولذيذ عيش المرء في أن يهتدي
وإذا نظرت إلى الحرام وجدته
…
متعاً تزول ووحشة تتلبد
لله در المؤمن المتجلد
…
في دربه يسعى بغير تردد
علم الفتى بالله أصل حياته
…
وربيع قلب العبد حب الأوحد
وبذكره تكسى القلوب حلاوة
…
فهو الشفاء وللهموم يبدد
والعلم نور للفتى في سعيه
…
والعقل يحكم سيره ويسدد
والقلب يأنس للموافق فطرة
…
والنفس إن تجهل تميل وتعتدي
لا يلتقي في القلب حب إلهه
…
ومحبة الفحش المقيت الأنكد
المخلصون مخلصون من الردى
…
في أمر يوسف عبرة للمقتدي