المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: العناية بأهم سبب لحصول الولاية - أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة - جـ ١

[عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الباب الأول: الإيمان سبب لتحصيل ولاية الله " الأثر الخارجي

-

- ‌الفصل الأول: صفات المستحقين لولاية الله

-

- ‌المبحث الأول: مراتب أهل الإيمان

- ‌المطلب الأول: بيان أصل الإيمان

- ‌المطلب الثاني: مرتبة الظالم لنفسه

- ‌المطلب الثالث: مرتبة المقتصد

- ‌المطلب الرابع: مرتبة السابق بالخيرات

- ‌المبحث الثاني: أهل ولاية الله

- ‌المبحث الثالث: العناية بأهم سبب لحصول الولاية

-

- ‌الفصل الثاني: أثر ولاية الله في تخليص المؤمنين وتحصينهم من الأفكار الهدامة

- ‌المبحث الأول: مظاهر ولاية الله لعبده المؤمن

- ‌المطلب الأول: إخراجه من الظلمات إلى النور

- ‌المطلب الثاني: تثبيت المؤمن عند الشدائد

- ‌المطلب الثالث: الحيلولة بينه وبين ما قد يقوم في قلبه من الإرادات السيئة

- ‌المطلب الرابع: مظاهر الولاية الكاملة للكُمّل من عباد الله

- ‌المبحث الثاني: مظاهر ولاية الله للجماعة المؤمنة

-

- ‌الباب الثاني: أثر الإيمان في تحصين القلب ضد الأفكار الهدامة " الأثر القلبي

-

- ‌الفصل الأول: وظائف القلب وأحواله

- ‌المبحث الأول: الوظائف القائمة بالقلب

- ‌المطلب الأول: وظيفة التعقل

- ‌المطلب الثاني: الاعتقادات

- ‌المطلب الثالث الإرادات

- ‌المطلب الرابع: العواطف

- ‌المطلب الخامس: الانفعالات

- ‌المبحث الثاني: العلاقة بين الوظائف القلبية

- ‌المبحث الثالث: أحوال القلوب

- ‌المبحث الرابع: أثر الإيمان في القلوب دائر بين التطهير والتزكية

-

- ‌الفصل الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلوب

- ‌المبحث الأول: أثر الإيمان في تطهير القلوب من العقائد الباطلة والظنون السيئة

- ‌المبحث الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الران ودَرَن المعاصي

-

- ‌المبحث الثالث: أثر الإيمان في تطهير القلب من العواطف الفاسدة

- ‌المطلب الأول: أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة غير الله

- ‌المطلب الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الشهوات المحرمة

- ‌المطلب الثالث: أثر الإيمان في تحصين القلب من الحقد والحسد

الفصل: ‌المبحث الثالث: العناية بأهم سبب لحصول الولاية

‌المبحث الثالث: العناية بأهم سبب لحصول الولاية

تقدمت الإشارة إلى أن إخلاص العبادة لله، أهم دعائم الإيمان والتقوى التي هي الطريق لولاية الله، ومن المناسب أن أذكر بعض النصوص التي تبين أهمية هذا الأمر، وأن الله أولاه عناية خاصة، وأكد على أنه الخطوة الأولى والأساس في السعي لتحصيل ولايته.

ومما يزيد الحاجة للتركيز على هذا الأمر حاجة المسلمين اليوم إليه لاستجلاب ولاية الله، وتغافل بعض الدعاة والعاملين لنصرة هذا الدين عنه أو جهلهم بأهميته.

فقد بين الله تعالى أنه خلق الجن والإنس لعبادته، أراد هذا منهم إرادة شرعية تعلقت بها حكمته، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .

وأعلمَهم في كتبه، وعلى ألسن رسله، أنه لا يكفي مجرد العبادة، بل يجب أن تكون خالصة، من ذلك قوله تعال:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] .

وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ

ص: 229

وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] .

وبين ذلك خاتم رسله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث منها حديث معاذ وفيه قال صلى الله عليه وسلم: " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً "1.

والإخلاص وقصد الله وحده، بالتأله والعبادة، هو تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله.

وأما أنواع العبادة، وكيفية أدائها، وكيف يكون الإخلاص فيها، وما هي خوارم العبادة ومبطلاتها، فتؤخذ مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي ومن فعله.

قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54] .

وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:3] .

وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .

وجاء التحذير الشديد من مخالفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ

1 تقدم تخريجه ص180.

ص: 230

سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] .

وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .

وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا ما ليس منا فهو رد "1.

وقال: " من رغب عن سنتي فليس مني "2.

والنصوص التي تقرر وجوب الإخلاص في العبادة، ووجوب متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وتحذر من الشرك والبدع كثيرة، أكتفي بما ذُكر لأخلص إلى المقصد، وهو التدبر لبعض ما جاء في ذكر أولياء الله، أو طريقهم، والتعرف على مظاهر الولاية، وما ورد فيها من التنبيه على أن التوحيد هو الأساس والسبب الرئيس لحصولها لهم.

فمن ذلك ما تقدم من النصوص في ذكر أوصاف أولياء الله -بنوعيهم الأبرار والمقربين- والتي يتجلى فيها التأكيد الشديد على ملازمتهم للتوحيد، وكمال تعلق قلوبهم بربهم، وإخلاصهم في عبادته،

1 متفق عليه: البخاري كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فهو مردود، ح (2697) 5/301. ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، ح (1718) 3/1343.

2 متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح ح (5063) 9/ 104. ومسلم، كتب النكاح، باب استحباب النكاح

ح (1401) 2/1020.

ص: 231

وخلاصة ما بينته تلك النصوص من أوصافهم هي:

1-

التوحيد بإخلاص العبادة لله تعالى.

2-

ملازمة طاعة الله واجتناب معاصيه، مع التركيز على الصلاة والصدقة فرضاً ونفلاً.

3-

الإيمان باليوم الآخر وأثره على سلوكهم.

4-

الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره.

ويظهر ذلك جلياً في سورة الإنسان التي ذكر فيها أوصاف الأبرار وفي سورة الفرقان التي ذكر فيها أوصاف المقربين.

وسورة يوسف-عليه السلام لهذا المراد شاملة، حيث اشتملت على قصة ولي من أولياء الله، ذكر فيها مظاهر ولاية الله له وعنايته به، وأسباب تلك الولاية.

وقبل استعراض مظاهر ولاية الله ليوسف عليه السلام والتي هي فعل الرب تبارك وتعالى به، وأسباب تلك الولاية والتي هي فعله عليه السلام الذي تحصّل به على ولاية الله، قبل استعراض ذلك، أرى من المناسب أن أطرح بين يدي ذلك مقدمات مهمة

فسورة يوسف عليه السلام من السور المكية، والتي تميزت بالإكثار من قصص الأنبياء والأمم السابقة1

"ليكون قصصهم عبرة

1 المدخل لدراسة القرآن الكريم، محمد محمد أبو شهبة، ص229، دار الكتب الحديثة للطباعة، القاهرة، ط: الثانية 1973.

ص: 232

وموعظة لأولي الألباب، لبيان أن دعوة الرسل جميعاً واحدة، وأنهم جاؤوا بالتوحيد الخالص، والإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وأن الأنبياء وأتباعهم لاقوا كل أنواع الإيذاء في سبيل عقيدتهم، ومع ذلك صبروا وثبتوا على عقائدهم، وكان النصر والعاقبة لهم والهزيمة والخذلان لأعدائهم

"1.

والقصص القرآني نزل منجماً، ليعالج واقع المسلمين في الدعوة المحمدية، وخاصة في العهد المكي، مهمته الإيحاء السريع والتأثير القوي بضرب القدوة أو الموعظة البليغة.

وبعض القصص يقصد به إنذار الكافرين بذكر ما حل بأسلافهم الأولين من العقاب الأليم في الدنيا، وأن عاقبة الكفر سيئة لا محالة.

والبعض الآخر كشأن سورة يوسف عليه السلام يقصد بها بشارة المسلمين بحسن العاقبة في الدنيا، وعظيم الأجر في الآخرة، وتسليتهم وتثبيتهم بذكر قصص أسلافهم، وعناية الله بهم، كما يقصد بها أيضاً تجلية الطريق إلى ولاية الله، وبيان أهم دعائمه لكي يلازموه.

وسورة يوسف نزلت في ظروف خاصة، ومرحلة متميزة مرّ بها السابقون الأولون في مكة، وقد عالجت هذه القصة القضايا المطروحة في ساحة المواجهة مع الكفار، وفي الخواطر المختلجة في المشاعر والأفكار.

فإن كان المسلمون يعذبون ويتآمر عليهم أهلهم وأقاربهم، وإن

1 أبو شهبة المصدر السابق ص229، 230.

ص: 233

كانوا يضطرون إلى الهجرة والغربة عن بلادهم، وإن كان بعضهم يسجن ويحاصر في الشِعب، وفريق منهم يرزح تحت ذل الرق

وإذا كانت الشياطين توسوس في قلوبهم: كيف تعذبون وتضطهدون وتُستذَلّون وأنتم عباد الله وأوليائه؟ كيف وهو الملك الذي لا يعجزه شيء؟

كيف والذين يعذبونكم هم أعداؤه المستحقون بكفرهم عقابه؟ لماذا يتأخر الانتصار لكم والعقاب عليهم مع وجود الموجب لهما فيكم وفيهم؟

إذا كانوا يلاقون صنوف العذاب، والابتلاء الجسمي والمعنوي، فهذا الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف عليه السلام اجتمعت عليه أكثر هذه الأمور

تآمر عليه أقرب الناس إليه، وتغرّب عن بلده، وذاق مرارة الرق، وآثر السجن على الفتنة في الدين

وابتُلي وصبر.

إذاً فالابتلاء سنة الله الجارية لتمحيص أوليائه، فهو دليل الكرامة لا الإهانة، وهو عنوان الصدق في الإيمان.

ومع ما حملته القصة من التسلية والتثبيت، حملت أيضاً البشارة بأن العاقبة سوف تكون لهم، وأنها العزة والتمكين، جاء ذلك تلميحاً من خلال ما آل إليه أمر يوسف، وتصريحاً في قوله:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:56، 57] .

ص: 234

أما مظاهر الولاية فهي ظاهرة في آيات هذه السورة، بل إن القصة كلها استعراض لعناية الله ورعايته لوليه -يوسف عليه السلام حيث تولاه صغيراً بحفظه ورعايته، ثم اجتباه وعلّمه من تأويل الأحاديث، وأتم عليه النعمة كما أتمها على أبويه إبراهيم وإسحاق، وآتاه علماً وحكماً، وصرف عنه السوء والفحشاء، وجعله من عباده المخلصين، ثم مكنه في الأرض وآتاه من الملك، وجمع شمله بأهله بعد أن أظهر فضله ومكانته لهم

أما سبب الولاية فقد ذكره الله بقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] .

وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:56، 57] .

وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] .

فبين سبحانه سبب ذلك، وأنه الإحسان والصبر، وبين الإحسان بأنه الإيمان والتقوى، اللذان هما شرط الولاية.

ثم إنه من أجل حصول التأثير التام من هذه القصة للصحابة الذين

ص: 235

نزلت عليهم أول مرة، والذين يعانون ما يعانون من العذاب والابتلاء أن يذكر السبب بوضوح تام، لكي يلتزموا به ويقتدوا بنبي الله يوسف عليه السلام، فيحصل لهم ما حصل له من حسن العاقبة في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة.

إذاً من الضروري أن توضح هذه القصة طبيعة الإحسان، الذي جاء به يوسف، بياناً يتناسب مع الاستعراض الموسع لأطوار القصة.

فيا ترى ما هي أهم معالم هذا الإحسان، الذي استحق به يوسف عليه السلام هذه الولاية التامة؟ هل هو إعراضه عن الفاحشة مع قوة الدافع إليها؟

لا شك أن السياق لا يوحي بذلك، فقد جعل الله إعراضه عن الفاحشة من آثار ولايته له، فهو الذي عصمه وصرف عنه ذلك بسبب إحسانه السابق، قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] .

لقد بين الله ذلك الإحسان غاية البيان، في سياق يدل على أنه هو السبب الرئيس والأهم لولايته وعنايته بيوسف

قال جل ذكره مخبراً عن يوسف عليه السلام وهو يبين لصاحبية في السجن بعض مظاهر ولاية الله له: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] .

ص: 236

ثم ذكر سبب عناية الله به وتعليمه بقوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:37-40] .

إذاً فسبب الولاية هو التوحيد الخالص، الذي ترتكز عليه الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام. فيوسف عليه السلام لازم ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأتم الله نعمته عليه كما أتمها عليهم.

وكذلك كل من جاء بعدهم عليهم إذا أرادوا ولاية الله، أن يأتوا أولاً وقبل كل شيء بالحنيفية التي لا يلابسها شائبة من الشرك، بين الله ذلك أتم البيان حيث أخبر أن إبراهيم عليه السلام إنما حاز على تلك المرتبة العالية من الولاية بكمال توحيده، ثم أمر النبي محمداً صلى الله عليه وسلم باتباعه في ذلك فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً

ص: 237

لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120-123] .

فالسبيل لتحصيل ولاية الله واحد، هو: الحنيفية القائمة على التوحيد الخالص والتي كان عليها إبراهيم عليه السلام وتبعه يوسف عليه السلام، وأُمر محمد صلى الله عليه وسلم باتباعها، لذلك قال تعالى في آخر السورة:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] . أي سبيل يوسف وآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب هي سبيل جميع أولياء الله من النبيين وأتباعهم من لدن آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الدنيا ومن عليها.

وبعد هذا الاستعراض لقصة وليّ من أولياء الله، ومعرفة مظاهر ولاية الله له، وسر تلك الولاية، أستعرض قصة مجموعة من الفتيان تولاهم الله وأشاد بهم في كتابه حامداً صنيعهم.

بين سبحانه مظاهر ولايته لهم بقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:13-14] .

فتجلت ولايته لهم بأن زادهم إيماناً وربط على قلوبهم

ثم ذكر سبب هذه الولاية فقال: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ

ص: 238

نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلَاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:14-16] .

إذاً سبب ولاية الله لهم هو تمسكهم بالتوحيد، ولو أدى بهم الحال إلى الفرار من الأهل والوطن في سبيل المحافظة عليه.

ولا يخفى ما لهذه القصة من عظيم الأثر على المسلمين في العهد المكي، الذين اضطرهم الوضع القائم إلى الهجرة إلى الحبشة وغيرها، حفاظاً على التوحيد، فقد كانوا يجدون في هذه القصة الأُنس وحسن العزاء، مما يزيد في ثباتهم وتطلعهم إلى فَرَج الله.

وإذا كان التوحيد الخالص، ومجانبة الشرك هو الركن الأهم في استجلاب ولاية الله للفتى يوسف عليه السلام، ولفتيان الكهف، نجد أن الله تعالى جعله الشرط الأهم لولايته للجماعة المسلمة، بيّن ذلك قولُه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ

ص: 239

الْفَاسِقُونَ} [النور:55] .

فقد وعد الله الجماعة المؤمنة بولايته وعنايته، وبين مظاهر الولاية بأنها: الاستخلاف في الأرض، والتمكين فيها، فتكون لهم العزة والغلبة، ويبدل خوفهم أمناً، وبيّن السبب الذي إذا جاؤوا به تحصّلوا على تلك الولاية. هذا السبب هو الإيمان والأعمال الصالحة المذكورة في أول الآية، وبين في آخر الآية أنها يجب أن تكون خالصة.

فالإيمان يجب أن يكون خالصاً لا تلابسه أي شائبة من الشرك، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] .

والأعمال الصالحة يجب أن تكون خالصة يُبتغى بها وجه الله وحده، كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] .

وبعد هذا الاستعراض لبعض نصوص القرآن الواردة في ذكر الأولياء، وسبب حصولهم على ولاية الله، وضرورة التوحيد لهذا السبب، أستعرض بعض الأحاديث التي اعتنت بهذه الأمور.

فمن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال لي: " يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله

ص: 240

يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك، ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف "1.

وفي هذا الحديث أوجز الرسول صلى الله عليه وسلم سبب الولاية بقوله: احفظ الله: ومظاهر الولاية بقوله: يحفظك وتجده تجاهك، فقوله: احفظ الله: "يعني احفظ حدوده وحقوقه، وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه"2.فإذا جاء المؤمن بذلك فقد جاء بسبب الولاية.

وقوله صلى الله عليه وسلم: يحفظك: "يعني أن مَن حفظ حدود الله، وراعى حقوقه حفظه الله، فإن الجزاء مِن جنس العمل

وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:

أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده، وأهله

1 رواه الترمذي، وقال:" حديث حسن صحيح" تحفة الأحوذي ح (2635) 7/220.

وقال ابن رجب:" وبكل حال فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة" جامع العلوم والحكم ص174. وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة ح (318) 1/138.

2 جامع العلوم والحكم ص174.

ص: 241

وماله

النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان

"1.

ونوع ثالث من الحفظ، وهو حفظ الله لعبده بعد موته، فيثبّته عند سؤال القبر ويقيه عذابه، ويؤمّنه عند الفزع الأكبر من أهوال يوم القيامة، وكرباتها، ويدخله الجنة وينجيه من النار.

وقوله صلى الله عليه وسلم: تجده تجاهك:"معناه أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل أحواله، حيث توجه، يحوطه، وينصره، ويحفظه ويوفقه ويسدده {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] "2.

وبعد أن بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم سبب الولاية، ومظاهرها بكلمات موجزة هي من جوامع الكلم الذي أوتيه، نبه على أمر مهم لا يستقيم للعبد المجيء بسبب الولاية بدونه، خصه بالذكر، وإن كان داخلاً ضمن قوله: احفظ الله لأهميته، وكونه الأساس الذي يقوم عليه ذلك السبب، هذا الأمر هو تحقيق التوحيد، وقصد الله بالعبادة، والالتجاء إليه وحده، بيّن

1 المصدر السابق ص175، 177.

2 نفس المصدر ص177.

ص: 242

ذلك بقوله: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ".

وبيّن له أيضاً: أن تحقيق التوحيد لا يحصل إلا بتعلق القلب بالله، وكمال التوكل عليه، وعدم الالتفات إلى غيره، واليأس من جميع الخلق، وقطع الطمع في حصول النفع أو دفع الضر منهم، فقال:" واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك، ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ".

والسر في ذلك أن من كمل اعتقاده بأن كل ما يرجوه من خير في الدنيا والآخرة فهو بيد الله وحده، وكل ما يخافه من الشر في الدنيا والآخرة فلا يقع إلا بأمر الله وحده، فإنه عندئذ يكمل تعلُّق قلبه بربه، ويتوكل عليه، ولا يقصد إلا هو بالسؤال والاستعانة وسائر العبادات.

ثم بعد ذلك نبهه إلى أمر آخر لا يستقيم الأمر الثاني -تحقيق التوحيد بكمال تعلق القلب بالله والتوكل عليه- إلا به، هذا الأمر هو الإيمان بالقدر.

قال ابن رجب رحمه الله: "واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه، وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة، عَلِم حينئذٍ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده،

فمن يعلم أنه

ص: 243

لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير الله أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال، والتضرع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً

"1.

فالإيمان بالقدر باعث على التوكل، وتعلق القلب بالله، والتوكل على الله، وكمال تعلق القلب به هو أساس التوحيد، والتوحيد بإخلاص العبادة لله، وصدق الالتجاء إليه هو أساس العبودية، والركن الأهم في طريق الولاية.

ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار من أهمية إخلاص العبادة في استجلاب ولاية الله، ومعونته ونصره لعباده عند الشدائد، هذه القصة رواها عبد الله بن عمر2 رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم:

1 جامع العلوم والحكم ص183.

2 الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب الهاشمي، القرشي، أسلم وهو صغير وهاجر مع أبيه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وأحد فقهاء الصحابة توفي سنة 73هـ.

انظر: سير أعلام النبلاء 3/203، وتهذيب التهذيب 5/328.

ص: 244

اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاسيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرّجْ عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرجْ عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدّ إليّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر، والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً. اللهم إنْ كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرجْ عنا ما نحن فيه.

ص: 245

فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون " 1.

ففي هذا الحديث يقص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته قصة نفر تولاهم الله، مبيناً مظاهر ولاية الله لهم، وسبب هذه الولاية، مرغباً في الاقتداء بهم.

فمظاهر ولاية الله لهم أنه قَبِلَ دعاءهم، وفرّج ما هم فيه من الشدة، فأزاح الصخرة عن فم الغار، فخرجوا يمشون.

أما سبب هذه العناية فهو الأعمال الصالحة التي جاء بها كل منهم، من بر الوالدين، والعفة عن الزِّنَى مع قوة الدافع، وتهيُّؤ الأسباب، وحفظ أجرة الأجير وتنميتها ثم أدائها مع ثمرتها دون أن يأخذ مقابلاً على ذلك.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ركز على أمر مهم، وكررّه مع كل فعل من هذه الأفعال، ليبين لهم أنه السبب في صلاحها، ووقوعها ذلك الموقع الحسن عند الله حتى أثمرت لهم تلك العناية الفائقة.

هذا الأمر هو الإخلاص وقصد الله وحده، بفعل الجميل وترك القبيح، بيّن ذلك بقول كل واحد منهم:" اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه ".

مما تقدم يتبين أن التوحيد الخالص هو الأساس والمحور لعلاقة العبد

1 متفق عليه -واللفظ للبخاري، كتاب الإجارة باب من استأجر أجيراً فترك أجره، ح (2272) الصحيح مع الفتح 4/449. ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بالأعمال الصالحة، ح (2743) 4/2100.

ص: 246

بربه، وأن قرب العبد من الله، وحصوله على ولايته، إنما يتحقق إذا عرف العبد ربه معرفة صحيحة، ثم تعلق قلبه به محبة وخوفاً ورجاء، ثم قصده وحده بعبادته، ولم يصرف جنس تلك العبادات لغيره، ملتزماً بما شرع سبحانه من العبادات، مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في أدائها، مستقيماً على ذلك.

ولا شك أن القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، وواقع دعوته وسيرته صلى الله عليه وسلم كان المحور الذي يدور عليه كل ما تقرر فيها من قضايا أو أحداث هو توحيد الله عز وجل.

وقد بين تبارك وتعالى أن التوحيد هو الأساس في العبودية الصحيحة، التي تورث ولاية الله لعبده وقربه منه، وبين ما يقابل ذلك من الشرك، وكيف يبعد صاحبه عن ربه، ويهوي به في متاهات الظلمات والحيرة والشرور.

وأوضح النصوص المبينة لبعد المشركين عن ولاية الله وعنايته، قول الله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30، 31] .

قال ابن جرير رحمه الله: "

فإنه من يشرك بالله شيئاً من دونه، فمثله في بُعده عن الهدى، وإصابة الحق، وهلاكه وذهابه عن ربه، مثل من

ص: 247

خرّ من السماء، فتخطفه الطير فهلك، أو هوت به الريح في مكان سحيق"1.

فالمشرك بعيد عن حقيقة الإيمان بالله، بعيد عن ولاية الله، بعد السماء عن ذلك المكان السحيق، قد تخلى الله عنه، ووكله إلى نفسه وشركه، فتردى في مهاوي الهلاك، فإما هوى يتفرق به في شعب الخسار، أو شيطان يطوح به في متاهات الضلال أعاذنا الله من ذلك.

وقد بين سبحانه أن الشرك أعظم أسباب الخذلان، فقال:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء:23] .

وبهذه الآية بدأ الله جملة وصايا وحِكَم هي مقومات الحياة السعيدة الكريمة للناس، أفراداً وجماعات، حيث قال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآيات [الإسراء:23] .

وختم تلك الوصايا بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:39] .

فبدأها بالتحذير من الشرك، وبيان عاقبته في الدنيا، وأنها الذم والخذلان.

1 جامع البيان لابن جرير 9/13.

ص: 248

وختمها كذلك بالتحذير منه، وبيان عاقبته في الآخرة، وأنها دخول صاحبه جهنم ملوماً مدحوراً، وفي ذلك التنبيه على أن التوحيد هو المقصود من جميع التكاليف، فيجب أن يكون ملازماً لكل عمل من أوله وآخره، فالتوحيد هو الأول، والآخر بالنسبة لعمل المؤمن، وهو الأساس الذي يحكم سيره، ويمضي من أجله حياته.

ولعل فيما تقدم كفاية في بيان أهمية التوحيد في استجلاب ولاية الله، وأنه الركن الأول والأساس في الإيمان بالله، والذي لا يمكن الحصول على ولاية الله بدونه، وأن الشرك يؤدي إلى خذلان الله للإنسان، وتلاعب شياطين الإنس والجن به، وهلاكه وتخبطه في متاهات الضلال.

والمقصود من هذا الفصل بيان أثر ولاية الله في حماية المؤمن من الأفكار الضالة التي تستهدف زعزعة إيمانه وسلوكه.

وقد تقدمت الإشارة إلى أن حصول ولاية الله للمؤمن هو أهم وأغلى ثمرات الإيمان، لما ينتج عنها من إمداد الله لعبده بالعون والنصرة، والدفاع عنه وحمايته.

ويمكن تقسيم مظاهر ولاية الله لعباده المؤمنين على وجه الإجمال إلى قسمين:

الأول: نوع محدد معين جعل الله الإيمان سبباً له، يحصل بحصوله ويرتفع بعدمه.

مثل: الطمأنينة، والنور والفرقان، والألفة والمحبة الناتجة عن الأخوة

ص: 249

الإيمانية

ونحوها.

الثاني: قسم غير محدد، وهو أن يحدث الله لعبده من آثار ولايته ما يتناسب مع حاله أو حاجته.

ومثال ذلك: أنه تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويجعل لهم مخرجاً، ويدافع عنهم ويرزقهم من حيث لا يحتسبون

ونحوها.

فالنوع الأول سيجري الكلام عليه -إن شاء الله- في البابين القادمين، كل في موضعه. فالطمأنينة والنور والفرقان -ونحوها- في الباب الثاني الأثر القلبي. والرابطة الإيمانية -الألفة والمحبة- في الباب الثالث الأثر الاجتماعي.

أما النوع الثاني فيجري الكلام عليه في هذا الفصل.

ص: 250