الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: أثر الإيمان في القلوب دائر بين التطهير والتزكية
الهداية إلى صراط الله المستقيم تتم بإرادته وخلقه سبحانه، فحياة القلب تبدأ بفعل يفعله الله به، وبين ذلك سبحانه بقوله:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 125] .
فبين سبحانه أنه من أراد هدايته فإنه يقذف نور الإيمان في قلبه، فينشرح له القلب بالقبول والإذعان1.
وفعل الله هذا جار على مقتضى علمه وحكمته سبحانه، فهو يعلم ما العباد عاملون، وإلى أي حال صائرون، كما اقتضت حكمته أنْ يجازي كلا منهم بما يتناسب مع عمله، وما جاء به من السبب، فمن اهتدى وسلك أسباب الهداية هداه.
كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
1 انظر: جامع البيان لابن جرير 8/26، 27، وتفسير القرآن العظيم ط الشعب 3/326، 327.
الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] .
ومن ضل وسلك أسباب الغواية أضله الله وأرداه، كما قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] . {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم} [النساء:155] .
وعلى هذا فإن الله بين أنه يشرح صدر من أراد هدايته وبين في مواضع أخرى من هو الذي اقتضت حكمته أن يُهْدى، وأنه الذي أناب إلى ربه، وانتفع بما أعطاه الله من العقل، وما جاءه من العلم وركب فيه من القوى، وهُيّأ له من الأسباب في معرفة الحق ومحبته وطلبه، فمن جاء بذلك هداه الله، وشرح صدره للإسلام.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27] .
وقال: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13] .
فقد بين سبحانه في هاتين الآيتين أنه يهدي من اتصف بالإنابة، والإنابة صفة يوصف بها من أقبل على الحق ورجع عن الباطل.
وقد حصر ابن جرير رحمه الله ما ورد في تعريف الإنابة في: الرجوع والإقبال1.
1 انظر: جامع البيان 12/80، 103 و25/16.
فمن كان بهذه الصفة مقبلاً على الحق إذا تبين له، راجعاً تائباً عن ضده من الباطل، فإن الله يهديه حيث اقتضت حكمته أن يهدي من طلب الهداية وسعى لها.
أما الذي ليس له همة في معرفة الحق، أو عرفه ولم يقم به شوق ولا طلب له، ولم يرفع به رأساً، فهبة الله أغلى من أن تعطى لمن لا يقدرها، ولم ينبعث لطلبها.
ونور الهداية الذي يقذفه الله في قلب المؤمن يحدث أثراُ عظيماً على وظائف القلب، أهمها توجيه وظيفة التعقل الوجهة الصحيحة، حيث يركن إلى الوحي وحده، يستقي منه العقائد والشرائع، فلا يزال القلب يتعقل المعارف والحكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتبنى عقائده على أساس ثابت، وتُغذى عواطفه بمعين الخير الصافي، ويخرج ما يضاد ذلك من ظلمات الجاهلية، ويزداد ذلك بازدياد العلم الوارد إلى القلب، فلا يزال الخير إليه واصل، والشر منه نازل، حتى يصلح القلب ويستنير، فتنبعث الجوارح بالعبودية لله عن علم به وبحقه سبحانه.
فالقلب الذي رسخت عقائده بالدلائل البينات، وتوجهت عواطفه إلى الله بالحب والرغبات ميلاً إليه، وإعراضاً عمن سواه، وأصبحت إراداته وانفعالاته طوعاً لمراد الله وشرعه، هذا القلب هو المحصن بإذن الله من الشبهات التي يزخرفها شياطين الإنس والجن أو الشهوات التي يزينونها.
وحصانة القلب وعمرانه بالخير لا بد لها من أن يكون طاهراً زكياً،
فصلاح القلب قائم على التطهير والتزكية.
قال ابن القيم رحمه الله: "والمقصود: أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة"1.
وقال أيضاً:"
…
فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة، فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة، والمواد الردية، فزكا ونما وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت، فلا سبيل إلى زكاته إلا بعد طهارته
…
" 2.
فأثر الإيمان على القلوب دائربين تطهيرها وتزكيتها، وكلا هذين الأمرين من التطهير والتزكية لهما دور هام في تحصين القلب من الأفكار الفاسدة.
والتطهير مقدم على التزكية من باب: التخلية قبل التحلية فالتطهير هو إخراج دغل القلب وفساده، فيكون مهيأ لاستقبال الخير والترقي فيه.
وقد وردت الإشارة إلى تقديم التطهير على التزكية في كثير من
1 إغاثة اللهفان 1/81.
2 نفس المرجع ص77.
النصوص منها: قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:156] .
وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] .
وإذا تبين هذا فإن أهم وأول أثر للإيمان هو تطهير القلب، ثم تزكيته، وسوف أتكلم على كل منهما في فصل مستقل، أبين فيه الآثار التي يحدثها الإيمان من خلال كل منهما، والله المستعان.