الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ال
تمهيد
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: طبيعة الإيمان المؤثر
المبحث الثاني: الفكر الجاهلي في مجابهة الإيمان
المبحث الأول: طبيعة الإيمان المؤثر
من المهم معرفة طبيعة الإيمان الذي نبحث في آثاره في مجال تحصين المؤمنين جماعات وأفرادٍ ضد الفكر الجاهلي الهدام. والمسلم مطالب بمعرفة المفهوم الصحيح للإيمان والالتزام به. وبذلك يبتعد عن المفاهيم المبتدعة المنسوبة للإسلام. كما يتحصل بالالتزام به على الآثار المباركة التي رتبها الله على ذلك، ويكرم بها من جاء به، والتي سيجري الكلام على كثير منها في هذا الكتاب.
والإيمان الذي أراده الله من الناس، وكلفهم به، ورد البيان الواضح لجميع معالمه في آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. فالله لا يرضى ولا يقبل من الناس إلا إيمانهم على الكيفية التي بيَّن لهم. وما عدا ذلك من معتقدات أو شعائر أو مناهج اصطلحوا عليها واستحسنوها ثم عكفوا على ممارستها ونسبوها إلى الإيمان وهو منها براء، فإن الله سبحانه لا يرضاها ولا يتولى من جاء بها. ولا تثمر لصاحبها البركات والكرامات التي يكرم بها من سار على صراطه المستقيم، ولا يتحصن بها من كيد الشياطين. كما أن حسن النية، وصدق التوجه لله لا يغني شيئاً إذا لم يتقيد المسلم بالإيمان الصحيح والسنة المستقيمة. وسيجري الكلام في هذا المبحث على مطلبين هامين:
الأول: تعريف الإيمان بالله كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وبينه السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
الثاني: الأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله.
وسوف أفرد لكل منهما مطلباً مستقلاً.
المطلب الأول: تعريف الإيمان الشرعي
للإيمان مفهوم شرعي دلت عليه نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا المفهوم أجمله السلف رضوان الله عليهم في تعريفهم للإيمان بأنه اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. وفيما يلي عرض لبعض النصوص التي تدل على ذلك:
أولاً: الأدلة على أن الإيمان يكون بالقلب.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] .
وقال: {مَنْ كفر بالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ} [النحل:106] .
وقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "
…
ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب "1.
وصلاح القلب إنما يكون بعمرانه بالعقائد الحق. فإذا أُشْرب القلب الحقائق الإيمانية وانبعثت منها أعماله القلبية كان قلباً سليماً.
وفي حديث جبريل عليه السلام: "قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره
…
" 2.
وهذه الأمور الستة يكون الإيمان بها بالعلم والتصديق والقبول الذي يكون في القلب.
فدلت هذه النصوص على أن الإيمان يدخل القلب ويطمئن به، وأن إيمان القلب هو الأصل وأنه شرط في صحة الإيمان، ولا عبرة لغيره بدونه، وأن أساس الإيمان هي الاعتقادات التي تقوم بالقلب.
1 رواه البخاري، كتاب الإيمان، ح (52) . الصحيح مع فتح الباري الطبعة السلفية ج1/126.
2 رواه مسلم، كتاب الإيمان، الباب الأول، ح (8) صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ج1/36.
ثانياً: النصوص الدالة على أن الإيمان يكون باللسان.
قال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله
…
"1.
وقال عليه الصلاة والسلام: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعرة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان "2.
ففي هذين الحديثين دلالة واضحة على اشتراط النطق بالشهادتين لصحة الإيمان.
وأن الإيمان الذي يدخل في الإسلام والذي يُنجي من الخلود مكوّن من قول اللسان مع عقد القلب.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإيمان: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "3.
1 رواه مسلم. كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ح (20) ج1/51.
2 رواه البخاري، كتاب الإيمان. باب زيادة الإيمان ونقصانه، ح (44) الصحيح مع الفتح 1/103.
3 رواه مسلم. كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان. ح (35) ج1/63.
فيه دليل على أن التلفظ بلا إله إلا الله أفضل شعب الإيمان سواء قالها عقداً أو ذكراً.
ثالثاً: النصوص الدالة على أن الإيمان يكون بالأعمال الظاهرة:
كل النصوص المتقدمة في المجموعة الثانية داخلة في هذا النوع، وذلك أن النطق باللسان عمل ظاهر. ويضاف إلى ذلك: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] . أي صلاتكم، فسمى الصلاة إيماناً.
قال البخاري1 رحمه الله في الصحيح: وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم عند البيت، ثم أورد بسنده إلى البراء2 أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 3.
1 الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، صاحب الجامع الصحيح، والتاريخ الكبير، والأدب المفرد، وغيرها. توفي سنة256. انظر: سير أعلام النبلاء 12/391، ومقدمة فتح الباري.
2 البراء بن عازب الأنصاري أبو عمارة. صحابي جليل توفي سنة 72 وقيل 71?.
انظر: سير أعلام النبلاء 3/164، والإصابة 1/142.
3 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان ح (40) ج1/95.
ومن أقوى الأدلة وأصرحها في القرآن على أن الأعمال من الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4] .
حيث جعل سبحانه إقام الصلاة والإنفاق من صفات المؤمنين حقاً.
أما من الأحاديث، فقد تقدم في حديث شعب الإيمان أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان وهو عمل ظاهر.
ومن ذلك حديث وفد عبد القيس1، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ".. هل تدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وأن تؤدوا خُمْساً من المغنم
…
"2.
1 بنو عبد القيس: قبيلة تنتسب إلى عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد ابن ربيعة بن نزار. كانت ديارهم في تهامة ثم خرجوا إلى البحرين. قدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا ومقدمهم يومئذ المنذر بن عائذ. انظر: جمهرة أنساب العرب لابن حزم 295.
2 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى.. ح (17) ج1/48.
فهذا الحديث من أقوى الأدلة وأصرحها على أن الأعمال من الإيمان وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأداء خمس المغنم، وهذه أعمال ظاهرة.
رابعاً: النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه:
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] .
قال ابن كثير1–رحمه الله في تفسيره لهذه الآية:"وقد استدل البخاري وغيره بهذه الآية وأشباهها على زيادة
الإيمان وتفاضله في القلوب كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي2 وأحمد بن حنبل3 وأبي
1 الإمام الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الشافعي ألف تفسير القرآن العظيم، والبداية والنهاية، وطبقات الشافعية وغيرها توفي سنة 774هـ.
انظر: شذرات الذهب 6/237، والبدر الطالع 1/153.
2 الإمام الفقيه محمد بن إدريس الشافعي القرشي المشهور بالشافعي. إمام المذهب المعروف. صاحب كتاب الرسالة توفي سنة 204هـ. سير أعلام النبلاء ج1/5 وتهذيب التهذيب9/25.
3 إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، صاحب المذهب المشهور مصنف المسند، وفضائل الصحابة، والزهد وغيرها توفي سنة 241هـ. سير أعلام النبلاء ج11/177، والبداية والنهاية 1/340.
عبيد1
…
"2.
وأشباه هذه الآية التي أشار إليها كثيرة منها:
قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125] .
وقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] . ونحوها.
أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "3.
1 الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله مصنف غريب الحديث وفضائل القرآن والأقوال، توفي سنة 224. سير أعلام النبلاء 10/490 والبداية والنهاية 10/391.
2 تفسير القرآن العظيم -للحافظ ابن كثير ج3/552. تحقيق: عبد العزيز غنيم ومحمد أحمد عاشور ومحمد إبراهيم البنا ط-الشعب.
3 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان. ح (49) ج1/69.
فدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعب الإيمان وخصاله1 وأن بعضه أعلى من بعض.
وقال صلى الله عليه وسلم: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان.."2.
فدل هذا الحديث على أن الإيمان يتفاوت قوة وضعفاً في القلوب. كما دل الحديث الذي قبله على أن شعب الإيمان بعضها أقوى وأعلى من بعض.
ومما تقدم من النصوص يتضح لنا تعريف الإيمان في الكتاب والسنة وأنه قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن بعض خصاله أعلى من بعض، وأن أهله يتفاوتون فيه قوة وضعفاً.
وعلى هذا القول السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أهل الذكر الذين لازموا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واستمدوا علومهم منهما.
1 جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن شهاب الدين بن رجب الحنبلي ص306 مكتبة الرسالة الحديثة- عمان، ط. ت: بدون.
2 تقدم تخريجه ص (33) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية1 رحمه الله: "والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية
…
"2 وقال ابن حجر3 رحمه الله: "
…
وروى اللالكائي4 بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر
1 الإمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، جاهد بيده ولسانه، تصانيفه الكثيرة تدل على قوة فهمه وسعة علمه وتمسكه بالكتاب والسنة؛ ومن أشهرها: منهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، ونقض التأسيس، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، واقتضاء الصراط المستقيم، وجمعت فتاواه في مجموع ضخم. توفي سنة 728هـ.
انظر: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية للبزار- والبداية والنهاية 14/141.
2 مجموع الفتاوى ج7/505.
3 الحافظ العلامة أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المصري الشافعي، صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري والإصابة في معرفة الصحابة، ولسان الميزان، وغيرها، توفي سنة 852هـ. انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي 2/36، وشذرات الذهب لابن العماد ج7/280.
4 الإمام الحافظ أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي الشافعي، صنف شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وأسماء رجال الصحيحين، وكرامات الأولياء. توفي سنة 418هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 17/419، والبداية والنهاية 12/26.
من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وأطنب ابن أبي حاتم1 واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين.."2.
وقد عرف الإمام ابن القيم3 رحمه الله الإيمان تعريفاً وافياً فقال:
"وهو حقيقة مركّبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان.
وكماله في الحب في الله والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن
1 الإمام الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الحنظلي الرازي، صنف الجرح والتعديل، والرد على الجهمية، وتفسير القرآن، توفي سنة 327هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 13/263، والبداية والنهاية 11/203.
2 فتح الباري ج1/74.
3 الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي الحنبلي المشهور بابن قيم الجوزية. صنف أعلام الموقعين، والصواعق المرسلة، وإغاثة اللهفان، وزاد المعاد، وغيرها. توفي سنة 751هـ. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/447، وشذرات الذهب 6/168.
يكون الله وحده إلهه ومعبوده.
والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله وبالله التوفيق" 1.
1 الفوائد لابن القيم، ص140، دار النفائس، بيروت، ط: السابعة 1986م.
المطلب الثاني: أهم الأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله
لا بد من التأكيد على أن الإيمان الذي يجري بيان طبيعته هو الإيمان المؤثر الذي يقرب من الله ويجلب ولايته ويتحصن به المؤمن من كيد شياطين الإنس والجن، وأفكارهم العفنة وأفعالهم القبيحة.
وهذا الإيمان يقوم على عدة أسس أهمها:
1-
الكفر بالطاغوت.
2-
الإيمان بالغيب.
3-
القيام بمقتضى التكليف بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
4-
الإخلاص لله في العبادة.
5-
صدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
6-
العلم.
وسوف أتكلم على كل منها بما أرى أنه يفي بالغرض والله المستعان.
الأساس الأول: الكفر بالطاغوت
الطاغوت في اللغة: مشتق من طغا يطغو: إذا عدا وتجاوز قدره1.
ومنه قول الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] .
وقد قدم الله تعالى الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله في بعض النصوص لكونه شرطاً لصحته. كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] .
وقوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17] . وفي ذلك إشارة إلى أن التطهير مقدم على التزكية، وأن تخليص القلب من أدرانه ونجاساته المتمثلة بالمعتقدات الباطلة وما يترتب عليها من محبة الطواغيت أو التعلق بهم واجب لحلول الإيمان بالقلب.
1 انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ج3/19 مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه-مصر، ط: الثالثة 1388هـ.
والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني أبي القاسم الحسين بن محمد، تحقيق محمد سيد كيلاني ص304. دار المعرفة بيروت. ط، ت: بدون.
وفي بعض النصوص نجد تقديم الإيمان والأمر بالعبادة على الكفر بالطاغوت، كما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " وفي رواية: " من وحد الله " ثم ذكر بمثله1.
وتقديم الأمر بالتوحيد على الكفر بالطاغوت يتضمن الإشارة إلى أمرين هامين:
الأول: أن عبادة الله وحده لا شريك له هي الأساس الأهم للإيمان، وهي حق الله على عباده. والكفر بالطاغوت شرط لها. فدعوة الرسل تنصب على المقصد الأهم وهو العبادة الخالصة ثم بيان شرطها. فتقديم الغاية على شرطها هو الأنسب في مقام التبليغ والبيان.
أما في فعل العبد وامتثاله لما كلف به، فلا بد أولاً أن يخلع ثوب الشرك ويكفر بالطاغوت ثم يدخل الإيمان نقياً طاهراً فيتزكى، كما قال تعالى في فعل العبد:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللهِ} .
وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [الزمر:17] .
1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس
…
ح (23) ج1/53.
الثاني: أن تأخير {وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوت} في الآية، و"كفر بما يعبد من دون الله" في الحديث تفيد وجوب الاستمرار. فكما أن الكفر بالطاغوت مقدم في المجال العملي، إلا أنه يجب أن يستمر إلى أن يلقى العبد ربه. فعلى المؤمن طول حياته أن يستقيم على عبادة الله الخالصة، ويجتنب الطاغوت، وذلك كالصلاة والطهارة لها. فالطهارة تكون قبل الصلاة وتستمر حتى نهايتها. والله أعلم.
والكفر بالطاغوت أصل تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله.
قال الشيخ سليمان1 بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله مبيناً حقيقة التوحيد: "وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال بالقلب والعبادة على الله. وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله وهو معنى: لا إله إلا الله"2.
1 الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. صنف تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، وأوثق عرى الإيمان. قتل رحمه الله سنة 1233هـ على يدي إبراهيم باشا بعد استيلائه على الدرعية.
انظر: الأعلام للزركلي 3/191، ومشاهير علماء نجد 44.
2 تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص139. المكتب الإسلامي ط الثالثة، 1397هـ.
المراد بالطاغوت في خطاب الشارع:
فُسر الطاغوت بالشيطان، والساحر، والكاهن، والأصنام1.
وهذا تفسير له ببعض أفراده، وإلا فالطاغوت يطلق على كل من طغى وتجاوز حده، وادّعى حقاً من حقوق الله التي تفرد بها.
قال ابن جرير2 رحمه الله: "والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله فعُبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً، أو وثناً، أو صنماً كائناً ما كان من شيء"3.
فالضابط إذاً لمعنى الطاغوت:
أنه كل مخلوق تجاوز حده وادّعى لنفسه أو لغيره شيئاً مما تفرد الله به4، أو نُسب إليه ورضي بذلك، أو كان في حكم الراضي.
ويخرج من هذا الأنبياء والملائكة وصالحو الإنس والجن الذين عُبدوا
1 انظر: جامع البيان لابن جرير 3/18، 19، والتفسير الكبير لمحمد بن عمر الرازي ج7/16. دار الكتب العلمية طهران. ط: الثانية، ت: بدون.
2 الإمام الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، صنف التفسير والتاريخ وتهذيب الآثار. توفي سنة 310هـ.
3 جامع البيان لابن جرير ج3/19.
4 سيأتي بيان الأمور التي تفرد الله بها عند الكلام على الأساس الثاني: "الإيمان بالغيب".
في حياتهم أو بعد موتهم، أو أسند إليهم دون رضاهم شيء مما اختص الله به. وذلك أنهم لم يدّعوا ذلك ولن يُقروا من ادعاه. وسيتبرؤون منه إن علموا به في حياتهم أو يوم القيامة كما قال تعالى مبيناً ذلك:
فهم لا يعبدونهم في حقيقة الأمر، إنما يعبدون الشياطين الذين زينوا لهم ذلك، والذين يتلاعبون بهم بما يظهرون لهم من خوارق العادات ونحوها.
ويدخل في مسمى الطاغوت الجمادات التي عُبدت من دون الله، كالقبور والأحجار والأشجار والعتبات والمشاهد، ونحوها.
وذلك أنه نُسب إليها وفُعل عندها ما لا يجوز إلا لله وحده، فهي في حكم الطواغيت. وسوف تُلقَى في النار مع من عبدها زيادة في تبكيت المشركين، كما قال تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] .
وقد استثنى الله عبادة الصالحين الذين عُبدوا من دونه من الدخول في جهنم وذلك أنه نُسِب إليهم ذلك زوراً وبهتاناً. فلم يدْعوا لذلك ولن
يرضوا به، وسيتبرّؤون منهم يوم القيامة فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء 101، 102] .
والإيمان بالطاغوت: يكون بتصديقه فيما ادعاه من حق الله. أو تصديق ما نسب إليه من ذلك حتى لو لم يعمل به.
وعبادة الطاغوت: تكون بالعمل بموجب ذلك التصديق، بصرف شيء من العبادة له كالصلاة أو الدعاء أو الرجاء
…
ونحو ذلك.
والكفر بالطاغوت: يكون باعتقاد بطلان عبادة غير الله، وتكذيب ما يدّعون أو ما ينسب إليهم من حق الله.
ويدخل في ذلك بغض الطواغيت وأتباعهم ومللهم وكراهتهم والبراءة منهم ومما يعبدون وعداوتهم1 وقد بين الله تعالى أهمية الكفر بالطاغوت وكيفيته وممن يكون في سياق واحد في سورة الممتحنة فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
1 انظر: مجموعة التوحيد: مجموعة رسائل لنخبة من علماء المسلمين، الرسالة الأولى ص11، ط: السلفية. وانظر تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ص34.
كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:4-6] .
فقوله تعالى في أول السياق: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..} وفي آخر السياق: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..} بيان لأهمية هذا الأمر وتأكيد له وأنه من الأسس التي تقوم عليها الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، وأن الكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك وأهله لازم لمن أراد أن يلقى الله وهو راض عنه فيفوز في اليوم الآخر.
وفي قوله: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بيان أن البراءة تكون من الشرك وأهله، من الطواغيت وأتباعهم وأعمالهم وكل خصائصهم وأحوالهم المنحرفة.
وفي قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا} بيان لكيفية الكفر بالطاغوت، وأنها تكون بجحد وتكذيب ما هم عليه من
الشرك والعقائد الباطلة، وإظهار العدواة والبغضاء لهم.
وفي قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} بيان لغاية الكفر بالطاغوت وأنها مستمرة ما دام الكافر على كفره، لا حد لها إلا رجوعه عن باطله.
فالكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك وأهله أساس هام للإيمان بالله، وخطوة مقدمة لتطهير القلب، وتهيئته لاستقبال الإيمان وعقائده المباركة.
الأساس الثاني: الإيمان بالغيب
الإيمان بالغيب هو حقيقة الإيمان بالله وتصديق المرسلين.
وقد ذكره الله في مطلع سورة البقرة أول وأهم صفة يتميز بها المتقون. قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:1-3] .
والغيب: هو كل ما غاب عنك من شيء.
والإيمان به هو: التصديق والإقرار1.
قال ابن جرير رحمه الله في بيان المراد بالإيمان بالغيب: "الإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل"2.
1 جامع البيان لابن جرير ج1/101.
2 جامع البيان لابن جرير ج1/101.
والإيمان بالغيب هو: التصديق والإقرار بكل ما أخبر به الله من الأمور المغيبة.
ويشمل ما أخبر به عن نفسه تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، وأخبار الأمم السابقة، وما سيكون في مستقبل الزمان، واليوم الآخر، والقدر.
قال الربيع بن أنس1 رحمه الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} : "آمنوا بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت"2.
وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصول الأمور الغيبية بتعريفه للإيمان في حديث جبريل عليه السلام حيث قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره "3.
وسأتكلم -باختصار- على تعريف هذه الأركان الستة بما يحصل به المقصود من تجلية الأسس التي يقوم عليها الإيمان، وأهم معالمها دون قصد الشرح والتفصيل، فذلك له مواضعه من كتب أهل العلم.
1 الربيع بن أنس بن زياد البكري، عالم مرو في زمانه، توفي سنة 239هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 6/169، وتهذيب التهذيب 3/238.
2 جامع البيان ج1/101.
3 سبق تخريجه ص (32) .
الأول: الإيمان بالله.
وهو التصديق والإقرار الجازم بكل ما أخبر الله به عن نفسه وما يجب له من الأسماء والصفات والأفعال، وسننه وحكمته في خلقه وحقه على عباده.
وهو توحيده سبحانه، الذي يكون باعتقاد تفرده بما أخبر بأنه متفرد به من الأمور.
وهي تنحصر إجمالاً في ثلاثة أمور:
1-
تفرده بالذات المقدسة، وصفات الكمال، والأسماء الحسنى الواردة في نصوص الكتاب والسنة.
وإثباتها على الحقيقة، وِفْقَ منهج السلف الصالح، بعيداً عن المناهج المبتدعة القائمة على التعطيل أو التأويل أو التشبيه.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] .
وقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] .
وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
وقال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] .
ومعرفة ذلك وإثباته هو: توحيد الأسماء والصفات.
2-
تفرده بأفعاله العظيمة الحكيمة.
قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] .
وقال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100] .
واعتقاد ذلك هو: توحيد الربوبية.
3-
تفرده بالألوهية واستحقاقه للعبادة.
قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} [محمد:19] .
وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] .
واعتقاد تفرد الله بالألوهية، وإخلاص العبادة له، هو توحيد الألوهية، الذي هو حق الله على عباده وأساس الدين.
فإذا اعتقد العبد تفرد الله بهذه الأمور، وانقاد لموجبها، فقد حقق التوحيد، وكان إيمانه بالله صحيحاً.
الثاني: الإيمان بالملائكة.
"وهو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى خلَق عالماً أسماه الملائكة. وهم أرواح قائمة في أجسام نورانية، قادرة على التمثل بأنواع مختلفة الشكل، بإذنه تعالى مناسبة للحال التي يأتون بها"1.
"كما يجب التصديق بصفاتهم وأفعالهم الواردة في نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، الدالة دلالة قطعية على وجودهم، وأنهم يتصفون بصفات حميدة وأفعال رشيدة"2.
الثالث: الإيمان بكتب الله:
"وهو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى أنزل على رسله كتباً مشتملة على هدى العباد، مبينة لهم ما يصلح دينهم ودنياهم، موضحة ما عليهم من واجبات، وما لهم من حقوق، بها الأنظمة الشرعية والتوجيهات الخُلُقية"3.
1 منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان. د/علي بن ناصر فقيهي ص21 ط: الأولى 1405هـ.
2 انظر: المرجع نفسه ص23، 27.
3 د/ علي ناصر فقيهي، المصدر السابق ص29.
هكذا يكون الإيمان إجمالاً بالكتب المنزلة على رسل الله السابقين:
كالتوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، وصحف إبراهيم، وكل ما وردت الإشارة إليه في نصوص الوحي.
أما القرآن فيزيد على ذلك باعتقاد حفظ الله له، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والإيمان بعقائده، والتصديق بأخباره، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتنفيذ وصاياه.
واعتقاد أنه كلام الله حقاً سمعه منه جبريل عليه السلام، وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل. وسمعه الصحابة -رضوان الله عليهم- من النبي، وتناقلته الأمة بالنقل الصحيح المتواتر جيلاً بعد جيل وإلى أن يرفعه الله إليه.
الرابع: الإيمان بالرسل:
وهو الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه وتعالى بعث في كل أمة رسولاً منهم يدلهم على الخير ويحذرهم من الشر رحمة بهم1.
قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] .
1 المصدر السابق ص30.
ويتضمن الإيمان بالرسل أربعة أمور1:
1-
الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى، فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع.
2-
الإيمان بمن علمنا اسمه منهم، مثل محمد وإبراهيم وموسى ونوح عليهم السلام وغيرهم مما ذكر اسمه في الكتاب أو السنة على وجه التعيين.
أما من لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به إجمالاً حيث نعتقد أن الله بعث في كل أمة نذيراً.
3-
تصديق ما صح عنهم من أخبارهم.
4-
العمل بشريعة من أُرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
الخامس: الإيمان باليوم الآخر.
قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] .
والإيمان باليوم الآخر: هو الاعتقاد بالبعث بعد الموت وأن هناك يوماً يحاسب فيه الناس على أعمالهم، والتصديق بكل ما أخبر الله به مما
1 انظر: رسائل العقيدة. الشيخ محمد بن صالح العثيمين الرسالة الأولى ص25، 26، دار طيبة الرياض، ط الثانية 1406.
يكون في ذلك اليوم.
ويشمل الإيمان باليوم الآخر أموراً أهمها:
الإيمان بالبعث بعد الموت، وبعد النفخ في الصور، والحساب والجزاء والموازين، ولقاء رب العالمين، والحوض والصراط، وما ورد الخبر به مما يجري على العباد، والجنة والنار وما ورد في صفاتهما وصفات أهلهما.
ويلحق بالإيمان باليوم الآخر التصديق بما يكون بعد الموت، من فتنة القبر والسؤال فيه وعذاب القبر ونعيمه1.
السادس: الإيمان بالقدر:
وهو الاعتقاد الجازم بأن الله سبق في علمه مقادير الخلائق -ويشمل ذلك ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، ومن هو من أهل الجنة، ومَنْ مِن أهل النار- وقد كتب الله ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
كما كتب لهم وعليهم ما تقتضيه حكمته، من المقادير والأحوال التي يستحقونها على أعمالهم التي علم أنهم سيعملونها، وأراد إرادة كونية أن يقع ما عَلِمَه وكَتبه لأجلهِ الذي قدر له. وهو الذي يخلقه إذا حان الأجل، فهو الخالق لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، من الكفر والإيمان
1 الشيخ محمد بن عثيمين. المصدر السابق ص29، 30.
والطاعة والعصيان وغيرها1.
فإذا آمن العبد بهذه الأمور الغيبية الستة أصبح من المؤمنين بالله الذين تصح منهم العبادة، كما قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] .
الأساس الثالث: القيام بمقتضى التكليف بامتثال الأوامر واجتناب النواهي
والمراد أن العبد إذا كفر بالطاغوت، وتبرأ من الشرك وأهله، وآمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر، فعليه بعد ذلك أن يستجيب لله بفعل ما كلفه به من الطاعات، وترك ما نهاه عنه من المحرمات.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . ففي هذه الآية بيان للحكمة الشرعية التي خلق الله من أجلها الناس، وهي أن يكلفهم بعبادته، بالامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه.
1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص24، ورسائل العقيد للشيخ محمد بن عثيمين الرسالة الأولى ص37-40.
قال الشوكاني1 رحمه الله:
"وروي عن مجاهد2 أنه قال: المعنى إلا لآمرهم وأنهاهم ويدل عليه قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة:31] واختار هذا الزجاج 3" 4
وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] .
وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] .
1 هو العلامة الفقيه المحدث محمد بن علي بن محمد الشوكاني من أهل اليمن، صنف نيل الأوطار، وفتح القدير، والسيل الجرار. توفي سنة 1250هـ.
انظر: البدر الطالع 2/214، والأعلام 6/298.
2 هو شيخ القراء والمفسرين أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي توفي سنة 103 وقيل غير ذلك.
انظر: سير أعلام النبلاء 4/449، والبداية والنهاية 9/232.
3 الزجاج: إمام زمانه في النحو، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الزجاج البغدادي. صنف معاني القرآن، والاشتقاق والنوادر توفي 311هـ.
انظر: وفيات الأعيان 1/49، وسير أعلام النبلاء 14/360.
4 فتح القدير لمحمد بن علي الشوكاني، ج5/92. دار المعرفة -بيروت.
وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] .
فقوله: تعبدوا وليعبدوا واعبدوا في النصوص المتقدمة تأكيد لوجوب الامتثال لأمر الله بفعل الطاعات، واجتناب ما نهى عنه بترك المحرمات. وأن ذلك أساس هام يقوم عليه الإيمان الصحيح والعبودية الحق التي لا يتحصل العبد على الإيمان الجالب لولاية الرحمن بدونه.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] .
السلم: هو الإسلام. والمراد بكافة: أي جميع شرائع الإسلام.
ففي الآية يدعو الله المؤمنين إلى الأخذ بجميع شرائع الإسلام، وإقامة جميع أحكامه، وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه1.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] .
وقد حذر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من التفريط في الطاعة وعدم
1 انظر: جامع البيان لابن جرير ج2/324.
الالتزام بالتكليف في نصوص كثيرة، منها قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى "1.
وليس الغرض الكلام على تفاصيل التكاليف، وإنما بيان أن القيام بمقتضى التكليف أساس مهم في الإيمان الصحيح الراسخ الذي يتحصن به العبد ضد الفكر الخبيث، ويتحصل به على الثمرات المباركة التي يكرم الله بها أولياءه.
والقيام بمقتضى التكليف مشروط بشرطين هامين هما الإخلاص والمتابعة. وسوف يجري الكلام عليهما في الأساس الرابع، والخامس.
الأساس الرابع: الإخلاص لله في العبادة
والمراد أن العبد إذا ستبرأ من الشرك وأهله وآمن بالله وما أخبر به من الأمور الغيبية وانقاد لموجب الأمر، واجتنب ما يُنهى عنه، فإنه لا يتحقق الإيمان إلا بالإخلاص لله في عبادته. فالإخلاص في العبادة هو حق الله الذي أمر به عباده.
1 رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح (7280) ج13/249.
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ1 رضي الله عنه: " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً "2.
والإخلاص هو أن يقصد العبد بكل عباداته وجه الله تعالى. فلا يشرك معه في العبادة المعينة أحداً، ولا يصرف جنس العبادة لغيره.
قال تعالى مبيناً نية عباده الذين رضي عنهم وأشاد بصنيعهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] .
والإخلاص في العبادة أساس الحنيفية ملة إبراهيم وهو الأمر الذي تميز به الحنفاء أتباع الأنبياء عن غيرهم من الأدعياء الذين ينتسبون إلى الأديان السماوية وهي منهم براء. فالفارق الأساس هو التوحيد الخالص
1 هو الصحابي الجليل معاذ بن جبل بن عمرو الخزرجي الأنصاري. أعلم الصحابة بالحلال والحرام. توفي سنة 17 وقيل 18هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 1/443 وتهذيب التهذيب 10/186.
2 متفق عليه. البخاري، كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار، ح (2856) الصحيح مع الفتح 6/58. ومسلم كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، ح (30) 1/58.
عند أتباع النبي صلى الله عليه وسلم والذي لا يوجد عند أهل الكتاب الذين حادوا عن منهج الأنبياء. بين ذلك ربنا بقوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة:139] .
فانظر إلى قوله في ختام الآية {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} ولم يقل وأنتم له مخلصونّ مما يدل على أن هذا الأمر تفرد به المسلمون.
والإخلاص هو حقيقة معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب –رحمهم الله:"النوع الثالث: توحيد الإلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء لله وحده. ويبنى على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يُجعل فيها شيء لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهما
…
وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله. فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلق الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة، وأشقياء أهل النار" 1.
1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص36.
وضابط الإخلاص:
أن كل ما ثبت أنه عبادة فهو من الدين. وما كان من الدين فيجب أن يكون خالصاً يقصد به وجه الله وحده: فلا يشرك معه فيه أحد، ولا يصرف جنسه إلى غير الله.
وذلك أن الله تعالى قال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] .
قال: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65] .
فالدعاء -مثلاً- من الدين، فيجب أن يكون خالصاً.
فلا يجوز أن يدعى الله ويدعى غيره في آن واحد.
ولا يجوز أن يصرف جنس الدعاء لغير الله -كأن يدعو الله وحده مرة، وفي مرة أخرى يدعو غير الله.
وهكذا كل العبادات: كالصلاة، والتوبة، والطواف، والاستعانة، والسؤال، والخوف، والرجاء، ونحوها.
فالإخلاص شرط في صحة العبادة. وأساس هام من أسس الإيمان. بدونه لا يدخل العبد في ولاية الله، ولا يقبل منه عمل، ولا يتحصل على ثمرات الإيمان وكراماته التي وعد الله بها عباده المؤمنين.
الأساس الخامس: صدق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم
والمراد أن العبد إذا كفر بالطاغوت وآمن بالغيب، وقام بفعل ما أمر به وانتهى عما نهى عنه، وتوجه لله وحده، فعليه مع ذلك أن يقتدي بالنبي
صلى الله عليه وسلم في أداء العبادات، وأن يتلقى منه وحده بيان العبادات وكيفياتها وكل ما يحتاج إليه في القيام بما كُلف به.
وصدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم هو حقيقة معنى شهادة أن محمداً رسول الله.
قال ابن رجب1–رحمه الله: "وتحقيقه بأن محمداً رسول الله، ألا يعبد الله بغير ما شرعه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم"2.
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
قال ابن كثير رحمه الله:"هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله، وأفعاله، وأحواله"3.
وفي قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} دليل على أهمية الاقتداء
1 الإمام الحافظ العلامة أبو الفرج عبد الرحن بن أحمد بن رجب الحنبلي، صنف شرحاً لصحيح البخاري ولم يتمه، والقواعد الفقهية، وجامع العلوم والحكم. وغيرها. توفي سنة 795هـ.
انظر: شذرات الذهب 6/339، والجوهر المنضد 46.
2 كلمة الإخلاص وتحقيق معناها. للحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ص21.
3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/392.
برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أساس من أسس العبودية التي ينبغي أن يكون عليها من كان يرجو الله، والحصول على ولايته والفوز يوم القيامة.
وهذا الأصل العظيم دلت عليه نصوص كثيرة منها:
قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] .
وقد جمع الله بين هذا الأصل -صدق المتابعة- والذي قبله -الإخلاص- في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] .
"وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون صواباً خالصاً. فالصواب: أن يكون على السنة، وإليه الإشارة بقوله:{فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا} .
والخالص: أن يخلص من الشرك الجلي والخفي، وإليه الإشارة بقوله:{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} "1.
واتباعه صلى الله عليه وسلم يكون بتعلم ما جاء به من الوحي والعمل والاقتداء به.
1 تيسير العزيز الحميد ص525.
قال صلى الله عليه وسلم آمراً بالاقتداء به وبالخلفاء الراشدين السائرين على نهجه المقتفين لأثره، ومحذراً من البدع والمحدثات:" أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "1.
وكما نهى عند البدعة والمحدثات نهى عن الغلو فقال: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثاً2.
وقال أيضاً: " فمن رغب عن سنتي فليس مني "3.
وبهذا يتبين أن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدق المتابعة له شرط في صحة العبادة، وأساس عظيم يقوم عليه الإيمان بالله، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالابتعاد عن الغلو والبدع والمعاصي.
1 رواه الإمام أحمد: المسند 4/126 واللفظ له، مسند العرباض بن سارية، وابن ماجه، المقدمة: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين ح (35) 1/10 تحقيق محمد مصطفى الأعظمي. ورواه الترمذي أبواب العلم، باب 16، 4/149 وقال:" حديث حسن صحيح" وصححه الألباني في إرواء الغليل 8/107.
2رواه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، ح (2670) 4/2055.
3 متفق عليه. البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، ح (5063) الصحيح مع الفتح 9/104. ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح
…
، ح (1401) 2/1020.
الأساس السادس: العلم
والمراد أن الإيمان الصحيح الراسخ المؤثر على صاحبه تطهيراً وتزكية وتحصيناً، هو الذي يقوم على العلم المستقى مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي.
وهو أمر لازم لتحقيق جميع الأسس المتقدمة، فلا يتسنى له -مثلاً- تحقيق الكفر بالطاغوت إلا بالعلم بصفات الطواغيت وخصائصهم وأحوالهم، لذلك جرى بيانها في الكتاب والسنة، أشار إلى ذلك ربنا بقوله:
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] .
وهكذا سائر الأسس وغيرها من المطالب الإيمانية، لا يمكن القيام بها إلا بالعلم بما ورد من تفاصيلها في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالعلم أساس هام في الإيمان بالله، وركن بارز في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] .
هذه الآية وردت في أواخر سورة يوسف عليه السلام، فهي تعقيب وربط بين ما قرر فيها من منهج وطريق المرسلين السابقين، وما ينبغي أن تكون عليه الدعوة الجديدة التي يقوم بها المصطفى صلى الله عليه وسلم:
فهذه الآية تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على طريق يوسف عليه السلام الذي كان على ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام.
تلك الملة القائمة على الكفر بالطاغوت، والالتزام الدقيق بالتوحيد الخالص والتي بينها يوسف عليه السلام بقوله:{قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [يوسف:37، 38] .
فهذه الملة هي طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أيضاً وأساس دعوتهم، كما قال تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] .
فدلت آية سورة يوسف على أن طريق النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على ثلاثة أمور:
الأول: التوحيد الخالص: القائم على فعل الطاعات واجتناب المحرمات، مع الإخلاص لله في ذلك.
الثاني: الدعوة إلى توحيد الله.
الثالث: العلم والبصيرة في ذلك كله.
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته، سبيلي وطريقتي ودعوتي أدعو إلى الله وحده لا شريك له على بصيرة بذلك، ويقين علم مني به أنا ويدعو إليه على بصيرة أيضاً من اتبعني وصدقني، وآمن بي. وسبحان الله يقول تعالى ذكره:
وقل تنزيهاً لله وتعظيماً له، من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه. وما أنا من المشركين يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني" 1.
وقد بين سبحانه أن التعليم من أخص وظائف النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أخرج به المسلمين من الضلال المبين، فقال سبحانه:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] .
(1) جامع البيان 13/79، 80.
فالعلم مقدم على كل قول أو عمل كُلف به الإنسان، أو رام القيام به، وشرط في صحته. قال الإمام البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح:
"باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} فبدأ بالعلم"1.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب2 رحمه الله: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل:
الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
الثانية: العمل به.
الثالثة: الدعوة إليه.
الرابعة: الصبر على الأذى فيه.
الدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا
1 صحيح البخاري مع الفتح 1/159.
2 الإمام العلامة مجدد الدعوة السلفية في الجزيرة العربية محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي، ألف كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، ومختصر السيرة النبوية، وغيرها. توفي رحمه الله في سنة 1206هـ.
انظر: روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، لحسن بن غنام، والأعلام 6/725.
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3]1.
وبهذا يتبين أن العلم والبصيرة في الدين أساس هام لا يتحصل العبد على الإيمان المثمر المحصن بدونه.
وفيما يأتي مزيد بيان لأهمية العلم وآثاره المباركة وبيان لبعض مباحث الإيمان كلما اقتضت الحاجة ذلك. والله المستعان.
1 الأصول الثلاثة وأدلتها، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص5 مكتبة الشباب، مكة المكرمة، ط: الأولى، 1387هـ.
المبحث الثاني: الفكر الجاهلي في مجابهة الإيمان
والمراد بهذا المبحث بيان أن أعداء الإسلام قد شنوا حرباً فكريةً عنيفة ومستمرة استهدفت القضاء على الإيمان، وذلك ضمن كيد ومكر متكامل، استخدموا فيه جميع الوسائل الممكنة في حرب الإسلام.
ومن ذلك توجيههم الكثير من الأفكار الخبيثة نحو العلم المبين للإيمان، بهدف تحريفه وتشويهه ومعارضته بالشبهات، وتوجيهه الوجهات الضالة، ووضع التصورات والتعاريف المنحرفة لجميع مسائله وقضاياه.
وبذلك يعطون من ظفروا به من الناشئة ومعتنقي الإسلام مفاهيم خاطئة ضالة للإيمان من البداية.
ووجهت أفكار ومخططات أخرى نحو قلوب معتنقي الإيمان الصحيح في محاولة لزعزعتها، وتزيين الباطل لها ولبسه بالحق، وإيقاد نار الشهوات وإطفاء نور الإيمان المتأجج فيها.
وبذلك كانت الأفكار الهدامة بمثابة الجراثيم والديدان، التي تنخر في الأبدان فتمرضها، فالأفكار الضالة تنخر في القلوب والعقول، وتتسلط على العقائد الحق، والعواطف الطيبة، والإرادات، فتمرضها وتوجهها نحو الباطل والشر.
وسوف يجري الكلام في هذا المبحث من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: بيان أن الصراع بين الحق والباطل من سنن الله الجارية إلى يوم القيامة.
المطلب الثاني: الصراع الفكري بين الحق والباطل في عصور الإسلام المتقدمة.
المطلب الثالث: الغزو الفكري للأمة الإسلامية في العصر الحديث.
المطلب الأول: بيان أن الصراع بين الحق والباطل من سنن الله الجارية منذ خلق الله الإنسان وإلى يوم القيامة
لقد كرم الله الإنسان فخلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وأعطاه العقل الذي يعرف به الخطاب، ويطلب به الأسباب، ويستفيد مما سخره الله له على وجه الأرض.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .
وهبط آدم أبو البشر عليه السلام إلى الأرض عارفاً بربه، عالماً بما يجب له، مؤمناً نقياً مغفوراً له، واصطفاه الله بالنبوة والوحي.
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] .
وعاش البشر الذين تناسلوا من آدم وحواء مدة من الزمن على دين أبيهم، وكانوا أمة واحدة على التوحيد ودين الحق كما قال تعالى:
قال ابن جرير رحمه الله: "فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به"1.
ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس2 رضي الله عنهما أنه قال: "كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"3.
والعجيب في واقع البشر أن الهدى الرباني - الذي شاء الله بإرادته
1 جامع البيان في تفسير القرآن، لابن جرير 2/196.
2 إمام التفسير وحبر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي سنة سبع أو ثمان وستين. سير أعلام النبلاء 3/331، والبداية والنهاية 8/298.
3 رواه ابن جرير، جامع البيان 2/194.
الشرعية1 أن يكون مزيلاً للخلاف بينهم- تؤول حالهم معه إلى التفرق
1 الإرادة المنسوبة إلى الله نوعان:
الإرادة الشرعية: وهي إرادة الله المتعلقة بالشرع والتكليف، وأمره سبحانه المتوجه إلى المكلفين بما يجب أن يفعلوه وما يرضاه لهم من الشرائع والعبادات والأخلاق، كما في قوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} (يوسف:40) وهي إرادة متعلقة بالحكمة الشرعية، أي أنه يشرع لعباده ما تقتضيه حكمة التكليف من حصول المصالح لهم كما في المعاملات والأخلاق، ودفع المفاسد كما في الحدود، وحصول محبوبات لله كما في العبادات. وقد وردت الإشارة إلى الإرادة الشرعية في بعض النصوص نحو:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} (البقرة:185) أي أن الله شرع لعباده الفطر في رمضان لمن كان مريضاً أو مسافراً، لأنه يحب لهم اليسر، ولكن اليسر لا يحصل إلا لمن امتثل هذه الشرائع فأفطر.
والإرادة الكونية: وهي متعلقة بالخلق والإيجاد، وأمر الله المتوجه إلى سائر المخلوقات بما يريد خلقه وإيجاده، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82) وهي نافذة لا يتخلف عنها المراد {فَعَّالٌ لِمَ يُرِيدُ} (البروج:16) وهذه الإرادة متعلقة بحكمة الله الكونية أي أنه سبحانه يخلق ويوجد ويصرف خلقه كما تقتضيه حكمته من تهيئة الكون بما يصلحه والأرض للعيش عليها وما يحقق حصول الابتلاء والامتحان للعباد، وغير ذلك من الحِكم التي يُعلم بعضها ويقصر العقل عن معرفة الكثير منها.
ويمكن حصر الفروق بين الإرادة الكونية وما يتعلق بها من الأمر والحكمة، وبين الإرادة الشرعية وما يتعلق بها من الأمر والحكمة فيما يلي:
1-
الإرادة الكونية متعلقة بالخلق والإيجاد والشرعية بالشرع والتكليف.
2-
الكونية لا يلزم منها محبة المراد فيخلق سبحانه ما يحبه وما لا يحبه، فخلق الأنبياء مثلاً وهو يحبهم، وخلق إبليس والكفار وهو لا يحبهم، أما الشرعية فهي متعلقة بالمحبة فلا يشرع لعباده إلا ما يحبه ويرضاه.
3-
الكونية نافذة لا محالة لا يتخلف عنها المراد، أما الشرعية فإنها لا تنفذ إلا فيمن جاء بالسبب وامتثل الشرع وانقاد للأمر، وتتخلف عمن أعرض عن الأمر.
4-
الكونية متوجهة إلى جميع المخلوقات، أما الشرعية فهي متوجهة إلى المكلفين.
انظر: مجموع الفتاى 2/159-160، 188-189، وشفاء العليل لابن القيم 559-567، وشرح العقيدة الطحاوية 249-254 ط الثامنة.
والاختلاف.
وقد بين الله ذلك من حالهم بقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] .
وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً} [البقرة:213] .
وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُم} [آل عمران:19] .
فالله سبحانه أنزل الوحي والهدى، رحمة بالناس، ليحققوا به ما
أراده منهم من الحكمة الشرعية لخلقهم وهي عبادته وحده لا شريك له والتي بينها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
ولكن الكثير من الناس يأبى إلا التنازع، والبغي والعدوان، والغرور الذي ينتج عنه الخلاف المذموم الذي يقع بعد البينة والعلم.
فواقع الناس صائر إلى ما أراده الله بحكمته الكونية من اختلافهم وتفرقهم إلى أهل باطل وخلاف مذموم، وأهل حق رحمهم الله فتمسكوا بدينه ولازموه1، بيّن ذلك ربنا بقوله:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118، 119] .
فهذه هي الحال التي علم الله أنها ستكون من الناس، فأرادها وقدرها عليهم، وأذن بحصولها لتتحقق بها حكمته من وقوع الابتلاء والامتحان وتميز الفريقين، ووجود محبوبات له لا تحصل بدون ذلك، من وجود أناس يؤمنون بالغيب، ويعبدون الله عن حرية واختيار لا عن قهر واضطرار، يعرفون الله بالعقل والأخبار دون الحس والمشاهدة بالأبصار.
ويجاهدون النفس والهوى وغيرها، من قوى الباطل، من شياطين
1 انظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية 8/477، تحقيق محمد رشاد سالم. جامعة الإمام محمد بن سعود الرياض ط-الأولى 1401هـ.
الإنس والجن، تصديقاً بالغيب، وثقة بكلام الله ووعده، بل ويقدمون أنفسهم في الدفاع عن دين الله، وذلك أسمى مراتب العبودية وأعظم محبوبات الله1.
وسبب اختلاف الناس بعد أن يأتيهم العلم والبينة، هو البغي كما بيّن الله ذلك بقوله:{بَغْياً بَيْنَهُمْ} [البقرة:213] .
والبغي هو: "طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى، فتارة يعتبر في القدر الذي هو الكمية، وتارة يعتبر في الوصف الذي هو الكيفية"2.
"والبغي المذموم هو تجاوز الحق إلى الباطل أو تجاوزه إلى الشبه"3.
فالاختلاف على هذا يكون سببه الظلم، والاعتداء، والطغيان في طلب العلم، حيث يؤدي إلى تجاوز العلم الذي أنزله الله، وتطلب الحق في غيره مما يقود إلى الاختلاف المذموم.
ومن الدوافع التي تدفع بعض طلاب العلم إلى هذا التجاوز هو تنافسهم في الدنيا وحب الرئاسة وحسد بعضهم لبعض، حيث عمد بعضهم إلى تلك العلوم الغريبة عن الوحي الإلهي ليتفوقوا بها على أقرانهم،
1 انظر: مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية أبي عبد الله محمد بن أبي بكر 1/440، دار الكتب العلمية- بيروت ط: الأولى 1983م.
2 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص55.
3 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص55.
ويأتوا بجديد يتميزون به.
ومن ذلك الاغترار بالعقل الذي كان وما يزال من أقوى الدوافع في تجاوز الوحي الإلهي إلى غيره من العلوم، التي ضررها أكثر من نفعها.
فقد اغتر كثير من الناس بعقولهم، وأعطوها أكبر من قدرها، وظنوا أنهم قادرون على إدراك علم وحقيقة سائر الموجودات، المشاهدات منها والمغيبات، فحملهم ذلك مع شهوة حب الاستطلاع، وطلب المزيد إلى عدم الاكتفاء بالوحي، غير شاعرين أن الله -سبحانه- إنما علّمهم ما يكفيهم للقيام بما خُلقوا من أجله، من تحقيق العبودية والاستخلاف في الأرض، وحجب عنهم الكثير من العلوم، إما لعدم حاجتهم لها، أو لضررها عليهم، أو لعدم قدرتهم على إدراكها.
ولقد انتهى بهم هذا الغرور، إلى الإعجاب بطريقة الفلاسفة، الذين اعتمدوا على عقولهم من البداية، وجردوا أنفسهم -بزعمهم- لمعرفة الكون وخالقه، والحياة والغيب، زاعمين أن العقل وحده قادر على معرفة ذلك، وشغلوا الناس قديماً وحديثاً، بوضع أسس ومقومات ومقدمات تحكم النظر العقلي وتحدد مساراته، وبنظريات وافتراضات لم يستفد منها البشر عبر تاريخهم الطويل، مصالح تذكر. بل إن الشر الذي نتج عن تلك المذاهب الفلسفية يفوق بأضعاف كثيرة، ما زعمه أهلها من مصالحها، وما أقربهم إلى الذين وصفهم الله وحذر أهل الكتاب منهم بقوله: {قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] .
وكم يصدق عليهم قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103-104] .
فقد خاض بعض العلماء في تلك العلوم التي خاض فيها الفلاسفة، وراق لهم زخرف القول، واستهوتهم تلك المصطلحات والمناهج، وظنوا أنهم قادرون على الجمع بين الوحي الإلهي وبين تلك العلوم الفلسفية، وسولت لهم أنفسهم أن الوحي لا يعارض تلك العلوم العقلية، بل يجب أن يؤيدها لأن كلا من العقل والوحي من عند الله، فلا يتصور تعارضهما، وهم بذلك لم يفرقوا بين العلم الذي جاء به الوحي من عند الله، والذي يستمد كماله وصلاحه من كمال الله وشمول علمه، وبين العلم البشري الذي يتميز بالضعف والقصور والحيرة نتيجة لضعف العقل البشري الذاتي وتأثير الشهوات والغرائز والعواطف والموروثات البيئية والفكرية عليه.
ونتج عن هذا الاقتحام لتلك المتاهات الفكرية، أن ضل أصحابها عن الوحي الإلهي، وحرفوا الأديان، ونقصوا منها، وزادوا فيها من التصورات والعقائد والأهواء الجاهلية.
وتنوعت المعتقدات والتصورات المنحرفة، نتيجة لاختلاف العقول والأهواء، واختلف الناس باختلافها، فيرسل الله الرسل ينذرونهم من عاقبة هذا الاختلاف والانحراف، ويبشرونهم بثواب الرجوع إلى دين الله والبقاء عليه، وعدم مجاوزته.
وقد بين الله أنه يهدي المؤمنين إلى الحق الذي اختلف الناس في تعيينه بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213] .
فخص المهتدين بوصف المؤمنين.
وهؤلاء المؤمنون الذين تكفل الله لهم بالهداية عند اختلاف الناس، هم الذين تمسكوا بما جاءت به الرسل ولم يحيدوا ولم يبدلوا، قال الربيع1 ابن أنس رحمه الله:"إن الله هدى المؤمنين الذين أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، لذلك كانوا شهداء على الناس يوم القيامة"2.
1 الربيع بن أنس بن زياد البكري، عالم مرو في زمانه، توفي سنة 139هـ.
سير أعلام النبلاء 6/169، وتهذيب التهذيب 3/238.
2 أورده ابن جرير في جامع البيان في تفسير القرآن 2/197.
وهذا البيان الذي ذكره الربيع بن أنس لأهم صفات المؤمنين الذين هداهم الله عند الاختلاف إلى الحق الذي لا مرية فيه، فتولاهم الله وخصهم بعنايته، جزاء موافقاً لعملهم، حيث رضوا بالله وبدينه ولم يجاوزوه إلى غيره، وهم بهذا الثبات أصبحوا شهداء على معاصريهم بوجود الحق وإمكان معرفته واعتناقه.
وهذه الآية تحمل النور الساطع والدليل القاطع لمن أراد الحق وتحراه، وتثلج صدور المؤمنين الذين حققوا إيمانهم بالثبات على المنهج الأول الذي كان عليه سلف الأمة، ونفروا من المحدثات وحذروا منها، لذلك قال أبو العالية1 رحمه الله:"في هذه الآية مخرج من الشبهات والضلالات والفتن"2.
والحق من جهة ظهوره أو خفائه، يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ففي يعضها يكون ظاهراً يعلن به أهله ويجاهرون به، وفي بعضها يكون مستتراً مضطهداً، يصعب على الناس تعلمه والاهتداء إليه، فيبعث الله عند ذلك من رسله وأنبيائه مَن يبين للناس الحق في أمور دينهم، ويزيل عنهم تلك الظلمات، التي رانت على قلوبهم وعقولهم.
1 هو الإمام المقرئ الحافظ المفسر أبو العالية، رفيع بن مهران الرياحي، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم في زمن أبي بكر، وثقه أبو زرعة وأبو حاتم، توفي 93هـ على الراجح. انظر: سير أعلام النبلاء /2074، وشذرات الذهب 1/102.
2 رواه ابن جرير في جامع البيان 2/339.
وفي رسالة خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم، تكفّل الله بحفظ الحق في فئة من الناس لا يزالون ظاهرين حتى قيام الساعة. وعند استحكام الجاهلية في بعض الأماكن في وقت من الأوقات، أو التباس الحق بالباطل وصعوبة الاهتداء إلى الحق، يبقى تحقيق وصف الإيمان هو سبب الهداية بإذن الله ويكون -والحالة هذه- بالتجرد لطلب الحق وإسلام الوجه لله، وسلوك طريق العلم الصحيح، والالتجاء إلى الله والاستعانة به وسؤاله الهداية للحق، فإن من فعل ذلك، وعلم الله من قلبه الصدق، فإنه سبحانه يهديه للحق كما دل على ذلك عموم قوله:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] .
وقوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] .
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه إذا قام من الليل: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "1.
1 رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، ح (200) 1/534.
وإذا كان البغي والغرور، وعدم الاكتفاء بالوحي الإلهي، والتطلع إلى ما وراء الوحي من العلوم، أهم دافع لاختلاف الناس بعد مجيء البينة والعلم، إلا أنه ليس بالدافع الوحيد لاختلافهم.
فهناك فئات من الناس لها طبائع شيطانية، قد انتكست فطرها وقست قلوبها، لا يحبون الخير بل يعادونه، قد زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وختم الله على سمعهم وأبصارهم، كما قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] .
وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] .
هذا النوع من الناس هم الذين قال الله فيهم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] .
فليس لهم هَم إلا الانغماس في الشهوات، والإفساد في الأرض، لا ينتفعون بعلم ولا هدى، فهم كالكلب الذي لا ينتفع بالراحة فيترك اللهث وإنما هو ملازم للهث، سواء تعب أو ارتاح، كما بين الله حال
فهم بدافع طبائعهم الفاسدة، ومن أجل تحقيق شهواتهم ومصالحهم، يعادون الحق من أول يوم، ويسلكون كل سبيل لمحاربته، ومن ذلك استغلالهم للخلاف الذي يقع من أتباع الحق، فيروجون لتلك الاختلافات، وينشرونها بقصد نشر البلبلة وتوسيع الخلاف.
وهناك طائفة ثالثة جمعت بين الداءين، داء الاختلاف بعد البينة، وداء الطبائع الشريرة، والأغراض الدنيوية الفاسدة، أولئك هم اليهود الذي جاءهم الهدى والنور، فلم يلتزموا به، ولم يحافظوا عليه، بل زادوا فيه ونقصوا، وحرفوا وبدلوا، ولبسوا الحق بالباطل، وكتموا الحق، ثم ازداد أمرهم سوءاً وضلالاً، عندما زعموا أن الله إله اليهود وحدهم، وكرهوا أن تنزل الهداية والوحي على غيرهم قال الله تعالى:{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105] .
قلما اصطدمت أطماعهم الشريرة الباغية، بمشيئة الله وقضائه المحكم، ونزل النور والرحمة على غيرهم، شرقوا بغيظهم، وأحرق الحسد قلوبهم، وعزموا بغرورهم أن يقاوموا إرادة الله القوي العزيز، وانضمّوا إلى جند الشيطان، وبذلوا أقصى ما يستطيعون {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] .
فقتلوا في ذلك الأنبياء، واضطهدوا أتباعهم، وتصدوا للرسالة الخاتمة بكل ما أوتوا من قوة، وسلكوا في سبيل الإفساد في الأرض كل الوسائل.
وطائفة ضالة أخرى بَعُد بها العهد عن مشكاة النبوة والنور الإلهي، فخضعت للأوهام والخرافات، والعادات والتقاليد، وجعلت منها ديناً ألفته وتربّت عليه، وربت أجيالها، حتى صعب عليها فراقه، وخالفت الحق وناصبته العداء، محافظة على ميراثها وسِمَةِ أجدادها، وقد أشار الله
إلى هذا النوع بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170] .
وانتشرت هذه الطوائف المخالفة للحق، وتوزعت في أرجاء المعمورة، وأصبح لكل منها أتباع وأنصار، يتعصبون لها، ويدافعون عنها بدافع من الانتماء الفكري، أو العرقي أو المكاني.
وبعد أن كان الناس في بداية عهدهم أمة واحدة، اجتالتهم الشياطين وهوى الأنفس، والبغي والوهم، حتى أصبحوا فرقاً مختلفة، تتخبط في ظلمات الجهل والضلال {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] .
حيث قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] وسيبقى هذا شأنهم إلى يوم القيامة، أمم تائهة ضالة، وطائفة على الحق ظاهرين.
ونتيجة لوجود هذه الطوائف الضالة بين الناس من جهة، ووجود أهل الحق والنور الإلهي من جهة أخرى، وجد الصراع بين قوى الحق والباطل، سنة جارية أرادها الله إرادة كونية، فكان الناس كما اقتضت حكمته مختلفين.
وقد بين الله تعالى أن الاختلاف هو الدافع للصراع بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقر:253] .
ومن يستعرض واقع مسيرة البشر من آدم عليه السلام، وإلى اليوم يجد نماذج واضحة تؤكد هذه الحقيقة، حقيقة ملازمة الاختلاف والصراع بين الحق والباطل للناس إلى يوم القيامة.
وقصص الأنبياء والمرسلين عليهم السلام مليئة بالشواهد على ذلك، كذلك قصص العلماء العاملين، والقادة المجاهدين، والدعاة والمصلحين.
وقد دل الدليل الشرعي، والدليل الواقعي على أنه كلما ازداد البيان والإيضاح ازداد الخلاف والتفرق والصراع، فهذه الرسالة الخاتمة جاءت ببيان واضح مفصّل تفصيلاً دقيقاً شاملاً لجميع نواحي الحياة.
قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] .
وظل الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عاماً يبين للناس الدين عقائده وشرائعه، على تؤدة وروية يبين لهم ما نزل إليهم من ربهم:{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106] .
حتى بلغ البلاغ المبين، وترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
وشربت نفوس الصحابة -رضوان الله عليهم- ذلك العلم، فعملوا به وعلّموه لمن بعدهم. وظل هذا العلم والنور الإلهي ينقله من كل عصر عدوله، وبقي ظاهراً جلياً سليماً في جماعة من الناس محفوظاً بحفظ الله إلى أن يأتي أمر الله.
ورغم هذا البيان الواضح والحفظ للرسالة، سرت في الأمة الإسلامية سنة الله الجارية، وقضاؤه النافذ بوقوع الاختلاف بعد العلم والبينة، بسبب بغي الناس وتعديهم، وبفعل الطبائع الشريرة الحاقدة المعادية للخير.
فكان الخلاف في هذه الأمة أوسع منه فيمن قبلها، كما كان البيان فيها أوضح، وقد وردت الإشارة لذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم:" ألا إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة "1.
1 رواه الإمام أحمد، المسند 4/102، مسند معاوية بن أبي سفيان.
ورواه أبو داود - واللفظ له -،كتاب السنة، باب شرح السنة ط الحلبي 2/503.
وأخرجه الحاكم وقال: "هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث" ووافقه الذهبي. المستدرك 1/128.
وقال الألباني: "فقد تبين بوضوح ان الحديث ثابت لا شك فيه، ولهذا تتابع العلماء خلفاً عن سلف على الاحتجاج به" السلسلة الصحيحة ج1 ح (204) .
ففي هذا الحديث دليل على أن الخلاف داء متأصل في الأمم التي جاءها الكتاب، وأن هذا الداء سينتقل إلى هذه الأمة، وأنها ستتشبه بالأمم الضالة اليهودية والنصرانية والفارسية.
قال صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فقيل يا رسول الله: كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك "1.
وقال عليه الصلاة والسلام: " لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموه، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "2.
والتشبه بهذه الأمم عام في كل شيء فيشمل الاختلاف والتفرق في الدين، وقد نبه الله على هذه الناحية من التشبه بقوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ
1 رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب لتتبعن سنن من كان قبلكم ح (7319) 13/300.
2 متفق عليه. البخاري -واللفط له- وتفاصيله كسابقه ح (7320) . ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى ح (2669) 4/2054.
كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة:69] .
فقد أخبر الله سبحانه أن من هذه الأمة من سوف يتشبه بالأمم السابقة في الاستمتاع بالشهوات، والخوض بالشبهات، فإذا كان وقع هذا من بعض الأمم المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، فوقوعه ممن بعدهم من باب أولى-فهو أخبر عن أمر دائم مستمر، فيكون كل من حصل منه الاستمتاع والخوض إلى يوم القيامة مخاطباً بذلك1.
وقد حذر الله من التشبه بالأقدمين في الاختلاف والتفرق بقوله: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] .
فأخبر سبحانه أنه سيكون في المسلمين مضاهاة لليهود والنصارى والفرس، وليس هذا إخباراً عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا يزال ناس من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون "،2
1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية تحقيق ناصر بن عبد الكريم العقل 1/105 ط الأولى 1404هـ.
2 رواه البخاري، كتاب المناقب، باب 28 الصحيح مع الفتح 6/632.
وهذه الطائفة هي الجماعة، وهي التي ضمن لها الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة في حديث معاوية المتقدم: "
…
وواحدة في الجنة، وهي الجماعة " 1.
هذه الطائفة هي التي بقيت على الأمر الأول، واستمسكت بالكتاب والسنة وجانبت البدع والمحدثات، وهي التي يهديها الله إلى الحق بإذنه ويثبتها عليه.
وقد فسر كثير من السلف الطائفة المنصورة الظاهرة الباقية على الحق إلى أن يأتي أمر الله بأنهم: أصحاب الحديث منهم علي بن المديني2، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأحمد بن حنبل، وعبد الله بن المبارك3.. وغيرهم4.
1 تقدم تخريجه ص (93) .
2 الإمام الحافظ على بن عبد الله بن جعفر البصري المعروف بابن المديني، إمام أهل زمانه في معرفة الحديث والعلل توفي سنة 234هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 11/41، وشذرات الذهب 2/81.
3 الإمام الحافظ عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، صاحب كتاب الزهد، توفي سنة 181هـ.
سير أعلام النبلاء 8/387، وتهذيب التهذيب 5/382.
4 شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، تحقيق د، محمد سعيد خطيب ص26، 27 دار إحياء السنة النبوية، أنقره، ط الأولى 1971م.
وأهم صفة لهم أنهم تمسكوا بما كان عليه السلف الصالح في العقيدة والشريعة، مستمدين دينهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قائمين بالدعوة إلى ذلك، قد فارقوا البدع والمحدثات وحذروا منها.
قال الخطيب البغدادي1 مبيناً شرف أصحاب الحديث وثباتهم على الحق:"فقد جعل الله الطائفة المنصورة حراس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين، فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى لا يعوجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً، حتى أثبتوا بذلك أصلها وكانوا أحق بها وأهلها، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها والقوامون بأمرها وشأنها إذا صدف الناس عن الدفاع عنها، فهم دونها يناضلون.. أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون"2.
فالفرقة الناجية هم أهل الحديث أتباع السلف الذين سلكوا منهجهم، باستمداد العلوم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم
1 الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت البغدادي صاحب تاريخ بغداد وغيره، توفي سنة 263هـ انظر: وفيات الأعيان 1/92، وسير أعلام النبلاء 18/270.
2 شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي ص10.
يقدموا بين يدي ذلك بدعة ولا هوى، ولا رأياً ولا كشفاً، ولا وجداً ولا غيره.
وهذه الفرقة باقية فيمن سار على نهجهم إلى يوم القيامة.
ونتيجة لهذا الخلاف الشديد الذي وقع داخل الأمة الإسلامية، ولذلك الخلاف العنيف القديم الذي حصل من الأمم الأخرى التي رفضت الإسلام وناصبته العداء من أول يوم، كان الصراع عنيفاً شديداً بين دعاة الحق ودعاة الباطل في تاريخ الأمة الإسلامية، ساعد على قوته وشدته على أهل الحق وجود طوائف المنافقين والذميين، بين صفوف المسلمين والذين يساعدون على اتساع الخلاف الداخلي، ويعينون العدو الخارجي، ويمهدون لمخططاتهم الهدامة داخل جسد الأمة الإسلامية.
وقد جرت سنة الله تعالى أن يكون اللقاء الأول بين دعاة الحق، ودعاة الباطل صراعاً فكرياً يبدأ بالمحاجة والمجادلة، يقدم كل من الفريقين دليله على دعواه.
وهذا النوع من الصراع مشروع لكل أحد، فكل إنسان من حقه أن يظهر وجهة نظره التي يعتقد أنها الحق، ولكن مع التزامه بشرطين أساسيين:
أحدهما: أن يكون طالباً للحق.
ثانيهما: أن يجادل بالحق، وذلك أن يقدم أدلة صحيحة معقولة، ويقبلها إذا قُدمت إليه، فإذا توفر هذان الشرطان كانت المجادلة مشروعة،
ودائماَ تكون النتيجة ظهور الحق على أيدي دعاته وتفوق حجتهم، أما بالنسبة لأهل الباطل ففي كثير من الأحيان يهتدي طالب الحق، ويتبين له الرشد من الضلال، وفي أحيان كثيرة أخرى يتحول الأمر إلى صراع فكري آخر، قائم على المكر والكيد ومكابرة الحق من قبل أهل الضلال، ومحاربته والصد عنه عن طريق نشر الأفكار الهدامة من الأكاذيب على تعاليم الدعوة وعلى صاحبها وأتباعها تشويهاً للحقائق، ومجادلة بالباطل، ومن ذلك نشر الشبهات، وتزيين الفواحش والدعوة إليها، والاستهزاء بالدعاة وأتباعهم وتحقيرهم بالفعل والقول.
ويختلف رد فعل جماعة المؤمنين على هذه الأعمال العدوانية والحرب الفكرية الخبيثة، حسب حال الجماعة من جهة القوة والضعف، فتارة يكون بالصبر والاحتساب وانتظار فرج من الله، كما قال تعالى:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109] .
وتارة يكون الرد بالمعاقبة بالمثل كما قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126] وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالذين حاربوا الدعوة بافتراء الكذب، وهجاء المسلمين من اليهود والشعراء الكفار والقينات وغيرهم، حيث أجلى بعضهم، وأهدر دم بعض.
وقد بين حسان بن ثابت1 رضي الله عنه بلاء الأنصار في الدعوة المحمدية، وأنهم ردوا على طوائف الضالين بأساليبهم بقوله:
لنا في كل يوم من معد
…
سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا
…
ونضرب حين تختلط الدماء2
وهذا الصراع أحياناً ينتهي بعذاب من الله ينزل على الكافرين المعاندين، كما حصل لقوم نوح، ولوط، وهود، ولفرعون.. وغيرهم.
وتارة يتحول إلى صراع مسلح حيث يكلّف الله الزمرة المؤمنة بجهاد الكفار وقتالهم بعدما يهيّئ لهم أسباب ذلك.
ومن هذا العرض الموجز تبين أن الصراع بين الحق والباطل يأخذ أشكالاً متعددة أهمها ما يلي:
1-
الصراع الفكري القائم على المحاجة والجدال.
2-
الصراع الفكري القائم على المكر، والكيد ونشر الأفكار الهدامة، من قبل قوى الضلال.
3-
الصراع المسلح.
1 الصحابي الجليل حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:" أهجهم وهاجهم وجبريل معك"، توفي سنة 54هـ.
سير أعلام النبلاء 2/512، وتهذيب التهذيب 2/247.
2 ديوان حسان بن ثابت الأنصاري ص9، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت ط الأولى 1398هـ.
وقد بين الله سبحانه في كتابه الكريم وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الأنواع الثلاثة من الصراع، وبين موقف المؤمنين تجاه كل نوع منها، وبين علماء الأمة في كتب التاريخ والتفسير والعقائد والفرق
…
ما لاقته الأمة الإسلامية من الصراع المرير والحرب المسعورة من أنصار الباطل بجميع الوسائل، وفي مختلف العصور، كما بينوا في كتب الحديث والأحكام المعاملات ما ينبغي للمسلم عمله في مجابهة هذه التحديات.
والصراع الفكري -القائم على المكر، والكيد والتآمر في الخفاء ونشر الأفكار الهدامة- هو أشد تلك الأنواع خطراً وأعظمها فتكاً، لملازمته للدعوة الإسلامية من بدايتها، إذ لم ينفك عنها يوماً من الأيام، ولازدياد خطره وعظم ضرره على مر الأيام، ولتطور أساليبه، واعتماده على النفاق والسرية والخبث، والتهرب من المسئولية والتظاهر بخدمة الإسلام والتمسك به مع التخطيط لمحاربته.
وسوف أخصص المطلبين القادمين للكلام على هذا النوع في المكر، والله والمستعان.
المطلب الثاني: الصراع الفكري بين الحق والباطل في عصور الإسلام المتقدمة
لقد كان العالم قبل الإسلام يموج بتيارات فكرية مختلفة اختلافاً شديداً، وكانت تلك الأفكار الضالة السائدة، وذلك الاختلاف القائم على أساسها، أهم أسباب تصارع البشرية وضلالها وشقائها.
قال سيد قطب1 رحمه الله:" جاء الإسلام وفي العالم ركام هائل
1 الكاتب المفكر الأديب، سيد قطب، ولد عام 1906م، في إحدى قرى محافظة أسيوط بمصر، عاش حياة قلقة مضطربة، وتنقل في المدارس الأدبية، ثم استقر به المطاف على التأليف والدراسات الإسلامية بمنظور فكري أدبي.
من مؤلفاته: في ظلال القرآن، وخصائص التصور الإسلامي، ومعالم في الطريق.. وغيرها.
وقد تضمنت تلك الدراسات بعض البحوث الجيدة في مجال التصوير الأدبي، ونقد الحضارة الغربية المادية، والفكرة الشيوعية، والنظم المالية. وقد نقلت قطوفاً منها في هذا الكتاب.
كما وقع -بسبب ضعف حصيلته العلمية، وجهله بمنهج السلف الصالح في العقيدة والحديث والأصول، واعتماده على المنهج الفكري الأدبي في فهم القرآن ومسائل الدين- في أخطاء كثيرة.
قال الدكتور يوسف القرضاوي، عن سيد قطب وأخطائه:"ولكن المسألة هنا تتعلق باتجاهات، وهذا اتجاه
…
وهذا الاتجاه يجب أن يُقوَّم، ولا نستطيع أن نهمش إلا إذا كانت المسألة جزئية، وإنما هو صاحب أفكار متسلسلة مرتبط بعضها ببعض، الأمة الإسلامية انقطعت من الوجود، وهو له رأيه المتطرف في مسألة بني أمية وعثمان، وغيره. ورد عليه الأستاذ محمود شاكر من قديم في مسألة الصحابة، ولا تسبوا أصحابي، ورأيه في المجتمع الإسلامي على طوال التاريخ [حيث يرى أنه انقطع من عهد الخلفاء الراشدين] ، ورأيه في المجتمع الحالي، وأنه لا يوجد على وجه الأرض مجتمع مسلم قط، في أي بلد من البلاد، حتى المجتمع الذي يعلن ارتباطه بالإسلام، ويقول: إن المجتمع جاهلي، وهذا في الظلال في عشرات المواضع.
ودعونا نتكلم بصراحة: إن من حق الأجيال المسلمة أن تعرف هذا الأمر على حقيقته، ولقد كنت لا أعرف هذا!
…
ولقد اضطررت أن أرد على هذا الكلام، وذلك من سنين طويلة
…
إن سيد قطب قدم الكثير للفكر الإسلامي
…
ولهذا: فمن الإنصاف لسيد قطب، ومن الإنصاف للفكر الإسلامي، ومن الإنصاف للحركة الإسلامية، ومن الإنصاف للمسلمين، ومن الإنصاف للإسلام نفسه أن نُقوّم فكر سيد الآن
…
يمكننا أن نراجع تفكيره، وإنتاجه، ونقومه بميزان الكتاب والسنة، وبميزان الأصول عندنا، ونسأل الله أن يغفر له ويرحمه".
كما دعا إلى تقويم فكر وكتب سيد قطب كل من: محمد سعيد البوطي، وجعفر شيخ إدريس، وغيرهم.
انظر: ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، البحرين، من ص547 إلى560، وأول من استجاب للدعوات التي تنادي بتقويم فكره وبيان أخطائه الشيخ عبد الله ابن محمد الدويش رحمه الله في كتابه:"المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال" ثم تلاه الشيخ د. ربيع بن هادي المدخلي في كتابه: "أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب وفكره" وكتابه:"مطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قتل سيد قطب رحمه الله سنة 1966م الموافق 1386هـ.
انظر: سيد قطب، حياته وأدبه، لعبد الباقي محمد حسين.
وندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر ص531-565.
من العقائد والتصورات، والفلسفات، والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال
…
يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة
…
والضمير البشري -تحت هذا الركام الهائل- يتخبط في ظلمات وظنون، لا يستقر منها على يقين، والحياة الإنسانية -بتأثير هذا الركام الهائل- تتخبط في فساد وانحلال، وظلم وذل، وفي شقاء وتعاسة، لا تليق بالإنسان، بل لا تليق بقطيع من الحيوان"1.
لقد كان الإنسان -بعقله القاصر وعلمه المحدود- الينبوع لهذه الأفكار الضالة المتخبطة، فلم يكن -باستثناء أتباع الرسل- يستند إلى أصل ثابت ومنطلقات محددة صحيحة، تحكم سيره وتحدد هدفه.
فقد كان للوهم والخرافة، والظن، وتأثير الشهوات والانفعالات
1 خصائص التصور الإسلامي، سيد قطب، ص22، دار الشروق، القاهرة ط العاشرة، 1408هـ.
على العقول، وما توسوس به شياطين الجن في صدور الناس من زخرف القول
…
تأثير في ابتكار ونمو تلك الأفكار الضالة التي سيطرت على عقول الناس قديماً وحديثاً.
ومما لا شك فيه أن الجاهلية تكون في مكان أشد منها في مكان آخر، تبعاً لوجود العوامل التي تساعد على تركيزها في عقول الناس.
ولعل أخف الجاهليات هي جاهلية العرب قبل الإسلام، وذلك أنه لم تكن قائمة على تلبيسات منطقية، وزخارف فلسفية، ولم تكن قد توغلت فيهم عقائد التناسخ والحلول، فقد كانت عقائدهم وهماً وخرافات، وعادات منها الطيب والخبيث، قلدوا فيها الآباء دون أن يعملوا فيها العقول، وألفوها حتى أصبحت ديناً لازماً لهم.
فكانوا مع جاهليتهم أقرب إلى الفطرة، وأخف من غيرهم جاهلية، فكان ذلك -والله أعلم- مع فصاحتهم وسلامة فهمهم لمدلولات الكلام، وإقرارهم بربوبية الله وتعظيمهم له، من حكمة اختيار الله لهم لحمل الرسالة الخاتمة {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] .
أما المجتمعات التي تمركزت فيها الحضارات القديمة، ووجد فيها الفلاسفة والنظارة، فإن جاهليتها أوسع وأعمق، ذلك أن الفلاسفة صاغوا العقائد الجاهلية صياغة تقربها من العقول، وزخرفوها، ونسجوا الأدلة والمبررات والأساطير الوهمية حولها، مما زاد من استحكامها في عقول الناس، وأصبحت مع مرور الأيام أدياناً مقدسة، وتوسعت نتيجة اختلاف
أولئك النظارة وتعدد مذاهبهم.
فظهرت المدارس الإغريقية في بلاد اليونان، وتنوعت الأديان الهندية والفارسية والصينية والمصرية، وأثرت هذه الوثنيات في الديانتين السماويتين اليهودية والنصرانية، كما أن كثيراً من عقائدهما انتقلت إلى الأديان الوثنية، والفلسفات العقلية نتيجة لاحتكاك البشر عبر الهجرات والتجارة وغيرها.
هذا حال العالم عندما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة في أعلى مراتب النقاء والصفاء والوضوح، فيها البيان الشافي لكل ما يحتاجه البشر لتحقيق وظيفتهم على الأرض، من الاستخلاف فيها، وتحقيق العبودية لله، وتحصيل أسباب السعادة في الدارين.
فقد تميزت الرسالة الخاتمة بالشمول لجميع متطلبات البشر، والعموم لجميع أجناسهم في كل مكان وزمان، فهي تحمل التعريف الصحيح بالله وحقه والكون والحياة، وعن مبدأ الإنسان ودوره في الحياة، ومصيره بعد الممات.
كما تضمنت النظام الكامل السديد لعلاقة البشر مع خالقهم ومع بعضهم البعض {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15، 16] .
فهذه الشمولية تجلي للفرد والمجتمع التوازن والانسجام في الفكر والنفس والعمل، الذي هو أهم مقومات الحياة السعيدة المثمرة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] .
فكانت الرسالة المحمدية رحمة من الله للناس لتخليصهم من تلك الجاهليات التي جثمت على قلوبهم، ولوثت أفكارهم دهراً طويلاً.
لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة النبوية يؤسس للمجتمع المسلم، ويقيم جميع شئونه على منهج الله، ولم ينتقل صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلا وقد تحول الإسلام بكل ما فيه من عقائد وتعاليم وأخلاق إلى واقع حي، تظهر مظاهره وثماره في الأفكار والقلوب والسلوك.
وبعده صلى الله عليه وسلم رسّخ الخلفاء الراشدون هذا الواقع، ووسعوا دائرته بالفتوحات الإسلامية، سعياً لتخليص البشر من الجاهليات، وما نتج عنها من ظلم وشقاء، وما هي إلى سنوات قليلة، حتى خلص المسلمون كثيراًَ من شعوب الأرض من الحكومات والجيوش التي كانت تحول بينهم وبين نور الإيمان، فدخل كثير من الناس في دين الله أفواجاً، وحل الأمن والعدل مكان الخوف والظلم والطغيان، وظهرت آثار تلك العقائد السامية الصافية، والتعاليم السديدة الرشيدة، صفاء في العقول، وسلامة في التفكير، وطمأنينة في القلوب، وصلاحاً في السلوك والأعمال، ونتج عن ذلك أعظم وأسمى حضارة عرفتها البشرية.
إلا أن الانتصار السريع في المجال العسكري لم يكن نهائياً، فقد كانت الجاهلية تخطط لجولة ثانية من الحرب، اتخذت من الفكر ميداناً لها، بعد أن أدرك قادتها قوة تأثر الأفكار على السلوك، وأن الحرب الفكرية هي السبيل الوحيد المتاح لهم في ذلك الوقت لمقاومة الإسلام.
وسبب ذلك أن مواقف الناس في الشعوب التي دخلت في الإسلام، لم يكن واحداً، فمنهم من استبشر بهذا الدين، وانشرح صدره له، ومنهم من أذعن للوضع القائم دون أن يتفهم ويتحمس له، ومنهم من أخذ موقفاً معادياً وأخذ يعمل ضده. وأصحاب هذا الموقف الأخير هم عادة الملأ من أبناء الملوك والأمراء، وقادة الجيوش وأصحاب الجاه، ورجال الدين الذين سلبت منهم المناصب والمصالح الدنيوية فشرقوا بغيظهم، وزاد من غيظهم زوال ملكهم على أيدي العرب المسلمين الفاتحين، واقتسامهم لأموالهم ومزارعهم ونسائهم، وعزّ عليهم كثيراً هزيمة دينهم الذي ألفوه دهراً طويلاً.
قال محمد محيي الدين عبد الحميد: "وقد دخل في الإسلام قوم خلصت قلوبهم من أدران التقليد والعصبية، وصفت نفوسهم لما يدعوهم إليه رسول الإيمان، واطمأنت خوالجهم إلى أمانة هذا الرسول الكريم وصدقِه فعضوا على ما دعاهم إليه بالنواجذ، واستمسكوا منه بالعروة الوثقى لا انفصام لها
…
ودخل في الإسلام -بجانب هؤلاء- أصناف من الناس أولهم جماعة من العرب شاقهم إلى الإسلام -حين جاء فتح الله والنصر- دخول قومهم فيه، فدخلوه تقليداً وانسياقاً مع الجمهور، ولم تكتحل أعينهم برؤية صاحب الرسالة، ولا انشرحت صدورهم بسماع تعاليمه منه، ولا صفت قلوبهم من آثار جاهليتهم، ولا نظفت من أدرانها، فكان سواء لديهم انتصرت الدعوة الإسلامية أم لم تنتصر.
وثانيهم جماعة من عامة أهل الأديان الأخرى -على الأخص اليهودية والمجوسية- دخلوا في هذا الدين أيام الفتوح التي أخضعت الدولتين الكبيرتين اليونانية والفارسية، فراراً من حكم الإسلام على من يبقى على دينه منهم1، ولم تخالط بشاشة هذا الدين قلوبهم
…
ولا استأصلت من أنفسهم أعلاق الحنين إلى دينهم القديم
…
وثالثهم جماعة من دهاة الأديان الأخرى ذوو الخبث والمكر منهم-وعلى الأخص اليهودية والمجوسية أيضاً- تظاهروا بالدخول في الدين الجديد، وهم يضمرون في أنفسهم الكيد والمكر والخديعة، ويتحينون الفرصة للانقضاض على هذا الدين الذي بسط سلطانه على رقعة الأرض المعروفة يوم ذاك، ويعملون في الخفاء لإيجاد هذه الفرصة إن لم تواتهم من تلقاء نفسها، ويهيئون أذهان الطائفتين السابقتين وقلوبهم وجهودهم،
1 أي فراراً من الجزية التي يدفعها الذمي أو المجوسي للدولة المسلمة.
للقيام معهم فيما يعتزمون القيام به
…
فيلبسون للناس مسوح1 الصلاح تارة، ومسوح الحرص على تعاليم الدين تارة أخرى، ثم يلبسون لهم مسوح محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين
…
فينفث هؤلاء سمومهم، فيؤولون تعاليم الشريعة، ويدخلون فيها ما ليس منها، ويضعون على الرسول أحاديث تؤيد دعواهم، ويطالبون الأغرار -وهم الطائفتان الأولى والثانية- بالقيام لنصرة الدين، أو لنصرة آل الرسول الذي جاء بهذا الدين، هذا فيما نعتقد هو الأصل الأصيل في الفُرقة التي حدثت في الإسلام، وهو غض طري، لم يكتمل عليه قرن واحد" 2.
فشن الحاقدون على الإسلام حرباً عليه من داخله، تستهدف الأصل الذي به ظهر وعز أهله، ألا وهو الإيمان بالله والالتزام بتعاليم الإسلام.
ولم تكن هذه الحرب حرباً عشوائية، بل منظمة مدروسة، خطط لها
1 المسوح: نوع من الكساء المصنوع من الشعر. لسان العرب 2/596.
والمراد أنهم يتصنعون ويظهرون للناس الحرص على الدين والنصيحة لأهله، وهم ليسوا كذلك، كالذي يتزيا بزي الصالحين، ويظهر بمظهرهم وهو ليس منهم، ويأتون لكل أناس بالحال التي تناسبهم.
2 كتاب الفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، مقدمة المحقق محمد محي الدين عبد الحميد ص4، 5.
المفسدون من أبناء الفرس واليهود في اجتماعات ومشاورات عقدوها لهذا الشأن، تمخضت عن تنظيم مكر كان له أثر بالغ في تفريق المسلمين وإضلال كثير منهم عن دينه.
كشف خبر هذا الكيد ابن حزم1 في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل، حيث قال:
"والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى أنهم كانوا يسمون الأحرار والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى.. فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع
1 أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الإمام الظاهري، ولد بقرطبة سنة 384هـ، عالم الأندلس في عصره له من المؤلفات: المحلى، والإحكام لأصول الأحكام، والفصل في الملل والأهواء والنحل، وغيرها كثير، توفي سنة 456هـ.
انظر: وفيات الأعيان 3/13 ومقدمة كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/ 4 وما بعده.
بإظهار محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشناع ظلم علي رضي الله عنه1، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن الإسلام".
ثم قال:"وقد سلك هذا المسلك أيضاً عبد الله بن سبإ الحميري2 اليهودي، فإنه لعنه الله أظهر الإسلام ليكيد لأهله"3.
"فابن حزم رحمه الله يوضح لنا أن المجوس اجتمعوا لمحاربة الإسلام وأهله، بأسلوب الخداع والمكر، حين عجزوا عن مواجهته علناً فأظهروا الإسلام للكيد وأظهروا للناس محبة أهل البيت لما يعلمون من تقدير المسلمين لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.
1 الخليفة الراشد والصحابي الجليل أول من أسلم من الفتيان، أبو الحسن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة استشهد سنة 40هـ.
انظر: البداية والنهاية 7/233 وتهذيب التهذيب 7/334.
2 عبد الله بن سبإ يقال له ابن السوداء، كان يهودياً ثم أظهر الإسلام نفاقاً، وصار مع علي بن أبي طالب، وأظهر الغلو فيه، فهمّ أن يحرقه، ثم نفاه إلى المدائن، وله أتباع يقال لهم السبئية من غلاة الروافض، يعتقدون الهية علي رضي الله عنه، ويقال أن علياً حرقهم في خلافته.
انظر: لسان الميزان 3/289، والأعلام 4/88.
3 الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 2/273، 274.
4 د. علي ناصر فقيهي، كتاب الإمامة، والرد على الرافضة لأبي نعيم الأصفهاني، مقدمة المحقق، ص14، مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة ط الأولى 1407هـ.
وقد اختاروا بعد تأمل ودراسة لأحوال المسلمين أهل التشيع، وذلك لوجود ثغرتين خطيرتين فيهم مكّنتا المفسدين من التلاعب بهم، وبث ما يريدون من الفكر الهدام.
الثغرة الأولى: عدم التزامهم بمنهج أهل الحديث القائم على تلقي العلم والحديث بالسند المتصل عن الثقات، فقد كانوا يأخذون قول كل من أعجبهم قوله، وأثار عواطفهم نحو أهل البيت، وتباكى على ما حصل عليهم من الظلم بزعمهم.
الثغرة الثانية: عدم عرض أقوال الرجال على ميزان الشرع، وإنما الحق عندهم يعرف بالرجال، فمن ارتضوا ما ظهر من حاله، وأعجبوا بقوله قبلوا منه، وجعلوه حجة، فسهل على أهل الكيد والمكر التلاعب بهم وخداعهم.
كما أن هذين المبدأين -وهما: تلقي العلم بالسند المتصل عن الثقات، وعرض أقوال الناس مهما كانوا على ميزان الكتاب والسنة-كانا بعد توفيق الله السبب الأهم في حفظ الله أهل الحديث على الصراط المستقيم، وتحصينهم من الأفكار المضللة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً حال هؤلاء وتلاعب المفسدين بهم حتى أصبحوا مأوى لكل فكر هدام، وغرض خبيث: "وهم من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل، ويكذبون بالمعلوم من
الاضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلاً بعد جيل، ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأخبار بين المعروف بالكذب، أو الغلط، أو الجهل بما ينقل، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم والآثار، وعمدتهم في نفس الأمر على التقليد وإن ظنوا إقامته بالبرهانيات، فتارة يتبعون المعتزلة والقدرية1، وتارة يتبعون المجسمة2 والجبرية3، وهم من أجهل هذه الطوائف بالنظريات، ولهذا كانوا عند عامة أهل العلم والدين من أجهل الطوائف الداخلين في المسلمين، ومنهم من أدخل على الدين من الفساد
1 هم أتباع واصل بن عطاء الذي ابتدع القول بأن مرتكب الكبيرة من المسلمين في منزلة بين المنزلتين، واعتزل على ذلك مجلس الحسن البصري، فسموا المعتزلة لذلك، واستقر أمرهم على أصول خمسة مشهورة هي: العدل، التوحيد، المنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والوعد والعيد، وهم يجمعون بين نفي الصفات ونفي القدر. ولهم ضلالات أخرى، وسموا بالقدرية لنفيهم القدر.
انظر: شرح الأصول الخمسة، والملل والنحل 1/43، 44، والفرق بين الفرق117.
2 المجسمة: هم الذين يقولون إن الله جسم من الأجسام؛ له طول وعرض وعمق وطعم ورائحة.
انظر: الفرق بين الفرق 65-69، ومقالات الإسلاميين 1/106.
3 الجبرية هم الجهمية وكل من قال بأن الخلق مجبورون على أفعالهم، وليس لهم حرية ولا اختيار، وسواء أكانوا لا يثبتون للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً، أم كانوا يثبتون قدرة غير مؤثرة.
انظر: الملل والنحل 1/85، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان 42.
ما لا يحصيه إلا رب العباد. فملاحدة الإسماعيلية1 والنصيرية2، وغيرهم من الباطنية المنافقين من بابهم دخلوا، وأعداء المسلمين من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا، واستولوا بهم على بلاد الإسلام، وسبوا الحريم وأخذوا الأموال، وسفكوا الدم الحرام، وجرى على الأمة بمعاونتهم من فساد الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا رب العالمين"3.
1 الإسماعيلية: هم المنتسبون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وقالوا: إن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل، ثم بعد إسماعيل ابنه محمد وهم من الباطنية، ويزعمون أن لكل ركن من أركان الشريعة تأويلاً، فيزعمون أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته.. الخ، وهم زنادقة دهريون يقولون بقدم العالم، وإنكار الإله، واستحلال المحرمات، وغير ذلك.
انظر: الفرق بين الفرق 281، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان 81، والملل والنحل 1/191.
2 النصيرية: هم أتباع محمد بن نصر النميري من غلاة الرافضة، الذي ادعى النبوة ثم الربوبية، ويزعم أتباعه أن الله يحل في علي، ويعتقدون إباحة المحرمات، ولهم ضلالات أخرى، وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأنهم أكفر من اليهود والنصارى، بل ومن كثير من المشركين.
انظر: المل والنحل للشهرستاني 1/188، والفرق بين الفرق 255، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 35/245 وما بعده.
3 مختصر منهاج السنة لابن تيمية، اختصار الشيخ عبد الله الغنيمان 1/8، 9 ط الأولى 1410هـ.
وعلى هذا فالتشيع "كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية أو نصرانية أو زرادشتيه1 وهندية، ومن كان يريد استقلال بلاده، والخروج على مملكته.
كل هؤلاء كانوا يتخذون حب أهل البيت ستاراً يضعون وراءه كل ما شاءت أهواؤهم" 2.
وكان رائد هؤلاء المفسدين عبد الله بن سبإ الحميري؛ الذي أنشأ فرقة السبئية، بل إن كل فرق الشيعة إنما حدثت من جراء ما أحدثه من الأفكار، وهو أول من قال بالنص على ولاية على رضي الله عنه، وبرجعته في آخر الزمان، والقول بتناسخ3 الجزء الإلهي في الأئمة بعد
1 هم طائفة من المجوس ينتسبون إلى رجل يقال له زرادشت بن يورشب، وضع له كتاباً اسمه:"زندا أو ستا" وهم يوافقون بقية فرق المجوس في القول بأصلين، ويخالفونهم ببعض التفاصيل.
انظر: الملل والنحل 1/236 وما بعده، ودائرة معارف القرن العشرين محمد فريد وجدي 8/451، دار المعرفة بيروت ط الثالثة 1971م.
2 فجر الإسلام لأحمد أمين ص276، مكتبة النهضة القاهرة، ط الحادية عشرة 1975م.
3 التناسخ: هو ادعاء انتقال الروح من الميت وولادتها في شخص آخر، ويتخبط التناسخية في كيفية التناسخ، وسببه وحدوده، تخبطاً عظيماً.
انظر: الفرق بين الفرق ص271-276، وتناسخ الأرواح لمصطفى الكيك ص17-24 منشأة المعارف الإسكندرية ط، ت، بدون.
علي رضي الله عنه1، كما كان ابن سبإ السبب في إثارة الناس على عثمان2 رضي الله عنه3.
وبدعة التشيع هي مفتاح باب الشرك والغلو في الصالحين وعبادتهم والتبرك بقبورهم، قال ابن تيمية رحمه الله:"ومن هنا أدخل أهل النفاق في الإسلام ما أدخلوه، فإن الذي ابتدع دين الرافضة كان زنديقاً4 يهودياً، أظهر الإسلام وأبطن الكفر، ليحتال في إفساد دين المسلمين -كما احتال بولص5 في إفساد دين
1 الملل والنحل للشهرستاني 1/174.
2 الخليفة الراشد عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته رقية، ولما توفيت زوجه بأختها أم كلثوم، استشهد رضي الله عنه سنة 35هـ.
انظر: البداية والنهاية 7/208، وشذرات الذهب 1/40.
3 الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/274.
4 زنديق: كلمة معربة أخذاً من المصطلحات الإيرانية، وجمعها زنادقة، وتطلق على الملحدين وكل من خرج عن الدين وسعى لنشر فكره الخبيث.
انظر: دائرة المعارف الإسلامية 10/440-446.
5 بولس أو شاؤل كان يهودياً شديد العداوة لأتباع المسيح عليه السلام، وله دور كبير في قتلهم واضطهادهم.
تحول في عهد الحواريين بعد رفع المسيح إلى المسيحية وأصبح معلماً لها، وأبطل دين المسيح عليه السلام، وأدخل الشرك، وأهم الأصول التي أحدثها، والتي أصبحت بعد ذلك أسس الديانة المسيحية: عالمية المسيحية، والقول بالتثليث، وألوهية المسيح، والروح القدس، والقول بأن عيسى ابن الله، وبدعة الصليب من أجل التكفير، وأن عيسى يجلس على يمين أبيه تعالى الله عن ذلك.
انظر: مقارنة الأديان: المسيحية د. أحمد شلبي ص104-115 مكتبة النهضة -القاهرة ط الخامسة 1977م.
النصارى - سعى في الفتنة بين المسلمين حتى قتل عثمان، وفي المؤمنين من يستجيب للمنافقين، كما قال تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47] .
ثم إنه لما تفرقت الأمة، ابتدع ما ادعاه في الإمامة من النص والعصمة، وأظهر التكلم في أبي بكر وعمر، وصادف ذلك قلوباً فيها جهل وظلم، وإن لم تكن كافرة، فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكن الزنادقة أمروا ببناء المشاهد، وتعطيل المساجد محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم.
ورووا في إنارة المشاهد، وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب، ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب
…
وكذبوا..
على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب"1.
ولم يمض القرن الأول إلا وقد أثمرت جهود المفسدين الحاقدين عن قيام فرق الشيعة الضالة، التي استحوذت على عدد كبير من المنتسبين للإسلام، وتبنت كثيراً من الأفكار الهدامة، والعقائد الضالة، وتفرقت في البلاد، وأصبح لها علماؤها ودعاتها، الذين يهدمون في جسد الأمة من داخلها.
وفي مقابل الشيعة الذين غلوا في علي رضي الله عنه، ظهرت فرقة الخوارج2، التي أُسست على أفكار ضالة: كتكفير علي وعثمان رضي الله عنهما، والإكفار بارتكاب الكبائر، ووجوب الخروج على الإمام الجائر3.
1 مجموع الفتاوى 27/161.
2 هم الذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم تفرقوا إلى فرق كثيرة، ولا يزال لهم وجود إلى الآن، ومن فرقهم الإباضية، وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، وأن الله يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات لم يقولوا بذلك.
انظر الفرق بين الفرق 72، ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، تصحيح هلموت ريتر ص87 ط الثالثة.
3 انظر: الفرق بين الفرق ص73، ومقالات الإسلاميين ص86 وما بعدها.
فلما رأى الحاقدون ذلك وأنهم نجحوا في كيدهم هذا، كروا كرة أخرى على أهل السنة، ونفذوا إليهم من طريق التصوف والزهد المنحرف، الذي ظهرت بوادره في بداية القرن الثاني الهجري، والذي كان من أهم ركائزه الزهد في العلم، والتفرغ للذكر والعبادة -بزعمهم-.
وهذا مقتل عظيم، ومنفذ خطير للأفكار الهدامة.
وكان لدى هذه الطائفة ثغرة خطيرة، وهي تفريطهم في منهج أهل الحديث في التلقي، واعتمادهم في قبول المعارف على الذوق والإعجاب والعاطفة، والاغترار بأحوال الرجال وما ظهر لهم، فكانوا في هذا أشبه بأهل التشيع.
وهي الحال التي تُعجب الشياطين، وتمكنهم من عملهم اللعين.
قال ابن الجوزي1 رحمه الله يصف حال هؤلاء القوم، وكيف تلاعبت بهم شياطين الإنس والجن، فأوقعوهم في الأفكار الضالة والعقائد الفاسدة: "وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم، وأراهم أن المقصود العمل، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم، تخبطوا في الظلمات، فمنهم من أراه المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة، فرفضوا ما يصلح
1 الإمام العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، الحنبلي، صنف زاد المسير، والموضوعات، والمنتظم، توفي سنة 597هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 21/365، والبداية والنهاية 13/31.
أبدانهم
…
وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة، وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري.
ثم جاء قوم فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات
…
وجاء آخرون فهذّبوا مذهب التصوف، وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة، والسماع والوجد والرقص والتصفيق
…
ثم ما زال الأمر ينمو، والأشياخ يضعون لهم أوضاعاً ويتكلمون بواقعاتهم.
ويتفق بعدهم عن العلماء، لا بل رؤيتهم ما هم فيه أوفى العلوم حتى سموه علم الباطن، وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر، ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة، فادعى عشق الحق والهيمان فيه، فكأنهم تخايلوا شخصاً مستحسن الصورة فهاموا به، وهؤلاء بين الكفر والبدعة، ثم تشبعت بأقوام منهم الطرق، ففسدت عقائدهم، فمن هؤلاء منقالبا بالحلول1
1 الحلول فكرة شيطانية مفادها: أنه يجوز أن يظهر الله في صورة بعض خلقه، وعلى ذلك أطلقوا الإلهية على البشر، ومن الحلولية النصارى حيث قالوا: حل الباري في عيسى، والسبئية، وغلاة الشيعة، وغلاة المتصوفة.
انظر: كشاف اصطلاحات الفنون، محمد على الفاروقي التهانوي، تحقيق د. لطفي عبد البديع، 2/108، المؤسسة المصرية للتأليف والنشر القاهرة ط، ت: بدون.
ومنهم من قال بالاتحاد1، وما زال إبليس يخبّطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سنناً" 2.
فهذا الكلام الرصين من هذا العالم المستبصر، يبين لنا كيف يتعاون شياطين الإنس والجن على إضلال الناس، وكيف يكمل بعضهم عمل بعض، فالشيطان يوسوس في القلوب، ويقذف بها الشبهات، ويزين الباطل، ويغري به، وشياطين الإنس يأتون الناس بزي أهل الإيمان، والزهد والورع، وهم دعاة دين الشيطان، فيلبسون الحق بالباطل، ويجعلون من أنفسهم قدوة في فعل ما زينته الشياطين في القلوب من الباطل، ولا يزالون يستجرون الغُفّل من الناس حتى يخرجوهم من الإيمان ويقذفوهم في ظلمات الباطل، وهم -مع ذلك- يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
1 الاتحاد: في اللغة: امتزاج شيئين واختلاطهما، حتى يصيرا شيئاً واحداً، وعند غلاة الصوفية هو الاتحاد والاستهلاك كليه في الإله، والفناء عما سواه. فهو يتصل بعقيدة الحلول، وبينهما فرق يسير، فالحلول بزعمهم يكون من الله في عبده، والاتحاد يكون سببه من العبد حيث يترقى في الكمال، حتى يتحد في الله، فهي عقيدة قائمة على أن الكون منبثق عن الله -كما في الديانة الهندوكية- والاتحاد هو عود الفرع إلى الأصل، والجزء إلى الكل.
انظر: الموسوعة العربية الميسرة، بإشراف محمد شفيق غربال ص45، مؤسسة فرنكلين، القاهرة ط الأولى 1965. وانظر أديان الهند الكبرى 67.
2 تلبيس إبليس لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ص163، 164، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط الأولى 1396هـ.
فالتصوف أصبح المنفذ الثاني -بعد التشيع- الذي نفذ من خلاله أعداء الإسلام لمحاربة الإسلام والهدم فيه من الداخل.
قال إحسان إلهي ظهير رحمه الله: "فظهر التصوف بصورة مذهب مخصوص، وبطائفة مخصوصة اعتنقه قوم، وسلكه أشخاص ساذجون بدون تفكير كثير، وتدبر عميق، كمسلك للزهد، ووسيلة للتقرب إلى الله، غير عارفين بالأسس التي قام عليها هذا المشرب، والقواعد الني أسس عليها هذا المذهب، بسذاجة فطرية، وطيبة طبيعية، كما تستّر بقناعه، وتنقّب بنقابه.. آخرون لهدم الإسلام وكيانه، وإدخال اليهودية والمسيحية في الإسلام وأفكارهما من جانب، والزرادشتية والمجوسية والشعوبية1 من جانب آخر، وكذلك الهندوكية2
1 هي حركة تتمثل من مجموعة الآراء والأشخاص والمواقف التي عبرت عن نظرة عنصرية أساسها تفضيل الأجناس غير العربية على العرب، عن طريق ذمهم والحط من حضارتهم والعمل على إزالة سلطانهم وتتفرع عنها الشعوبية الدينية، وهي محاولة أحياء أديان الشعوب الأخرى عن طريق نشر أفكارها، ومحاربة الإسلام.
انظر: الشعوبية د. عبد الله سلوم السامرائي ص8 المؤسسة العراقية للطباعة والنشر، بغداد 1984م.
2 الهندوكية: أشهر الديانات الهندية القديمة، وتسمى البرهمية، نسبة إلى معبودهم براهما، وهو دين قائم على وحدة الوجود والتناسخ.
انظر: أديان الهند الكبرى لأحمد شلبي ص77-143 مكتبة النهضة المصرية القاهرة، ط: الرابعة 1976م. ودائرة معارف القرن العشرين محمد فريد وجدي 2/159، 164.
والبوذية1 والفلسفة اليونانية الأفلاطونية من ناحية أخرى، وتقويض أركان الإسلام، وإلغاء تعاليم سيد الرسل صلى الله عليه وسلم، ونسخ الإسلام وإبطال شريعته، بنعرة وحدة الوجود2، ووحدة الأديان3
…
وترجيح من يسمى
1 البوذية: فرقة من فروق الهندوكية، أسسها "بوذا" وهي خليط من العقائد الهندية والصينية.
أديان الهند الكبرى ص137 وما بعدها، ودائرة معارف القرن العشرين 2/388.
2 وحدة الوجود: هو مذهب الذين يوحدون الله والعالم -تعالى الله عن ذلك- ويزعمون أن كل شيء هو الله، وأن العالم مظهر من مظاهر الذات الإلهية، وأنه صادر عن الله بالتجلي، ويزعمون أن وجود الله هو عين وجود المخلوقات، سبحانك اللهم هذا إفك عظيم.
انظر: المعجم الفلسفي د. جميل صليبا 2/569، دار الكتاب اللبناني، بيروت ط: الأولى 1973م، وانظر: مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي لبرهان الدين البقاعي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل ص62، 63 دار الكتب العلمية، بيروت ط: الأولى 1400هـ.
3 وحدة الأديان: هي عقيدة متفرعة من القول بوحدة الوجود، وأن كل شيء فهو عين الحق، وعلى هذا فالآلهة المعبودة في كل دين هي في حقيقتها الإله الواحد، وإن كانت كواكب أو أحجاراً، أو موتى
…
وكل عابد لأي منها عابد لله، فما ذلك المعبود إلا عين ذات الله تعالى الله عن إفك الزنادقة.
انظر: مصرع التصوف 199، 100 المتن والهامش.
بالولي على أنبياء الله ورسله، ومخالفة العلم، والتفريق بين الشريعة والحقيقة، وترويج الحكايات والأباطيل، والأساطير باسم الكرامات والخوارق، وغير ذلك من الخرافات والترهات" 1.
وكما أن ابن سبإ وغيره من دعاة الباطنية، امتطوا ظهر التشيع لبَثِّ الفكر الهدام، فقد كان التصوف ميداناً لزمرة أخرى أشد وأخبث في المكر والإفساد.
فالحلاج2 بثّ فكرة الحلول في أوكار الطرق الصوفية وشطحاتها الكلامية، ووجد في مصطلحات القوم وأوهامهم ما يمكنه من ترويج فكره الجاهلي الملحد.
1 التصوف: المنشأ والمصادر، إحسان إلهي ظهير ص45، إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، ط: الأولى 1406هـ.
2 الحسين بن منصور الحلاج، فارسي الأصل، أظهر الزهد والورع، واشتغل بكلام الصوفية، قال بالحلول، وتلفظ بألفاظ منكرة شنيعة، كقوله:"أنا الحق" و"ما في الجبة إلا الله". أفتى العلماء بكفره وقتله، فقتل بأمر المقتدر العباسي سنة 309هـ. ذكر عنه الجويني أنه كان يعمل على قلب الدولة وإفساد المملكة.
انظر: وفيات الأعيان 181، والعبر 2/138، والفرق بين الفرق 260، 268.
وتبعه على ذلك ابن عربي1، الذي قال بفكرة وحدة الوجود، وألف كُتباً ضمنها الكفر الصريح، وإنكار وجود الله تعالى بذاته، بائناً عن خلقه، متفرداً بصفات الكمال، وهدم بتلك الكتب أعظم أساس قام عليه الدين، ألا وهو التوحيد.
وتبعهما على هذا الفكر كثير من المفسدين، وضل بفكرهم كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولم يأت القرن السابع الهجري، إلا والفكر الصوفي الفلسفي قد صار كالمستنقعات لكل الشرور الفكرية، والضلالات الموجودة في جميع الأديان والمذاهب، وليس عند كثير من فرق الصوفية شيء من الإسلام إلا أسماء ألبسوها تلك الأصول الجاهلية.
ومن أساليب أهل التشيع والتصوف التي لبسوا بها باطلهم: التأويل ودعوى الظاهر والباطن، والتي تلاعبوا بها بنصوص الكتاب والسنة، وأدخلوا ما أرادوا من الشر والفكر الهدام كتفسير معنوي باطني للنصوص.
1 الملحد الضال شيخ الصوفية الغالية، محمد بن علي بن محمد الطائي، المعروف بابن عربي أحد القائلين بوحدة الوجود وأشهرهم، كفّره عدد من العلماء، صنف: الفصوص والفتوحات المكية. هلك سنة 638هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 23/28، ومصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي لبرهان الدين البقاعي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل
كما يتهربون بهذه الدعوى من تبعات مقالاتهم الكفرية الإلحادية1.
وكان من كيد أعداء الدين التحريض على الفتنة، وإيقاد نار الفرقة، وتعميق الخلاف بين المسلمين، وإحياء النعرات العرقية، وإذكاء النزعة الشعوبية.
ومن كيدهم للإسلام وأهله وضع الأحاديث ونقل الإسرائيليات وأساطير أهل الكتاب وغيرهم.
قال أنور الجندي: "وقد ذهب أغلب الباحثين إلى أن أكثر الأحاديث الموضوعة من الإسرائيليات، إنما وضعت عن تدبير وتخطيط وخصومة وكيد، وأنها من عوامل الحرب الفكرية والعقائدية الضارية، التي شنها اليهود وغلاة النحل المبتدعة على الإسلام والمسلمين بكافة الوسائل من التخفي والتسلل والتمويه، بقصد تمزيق وحدة المسلمين، وتلهيتهم عن دينهم القويم، وتشتيتهم عن صراطه المستقيم.
ويصف بعض الباحثين هذه الظاهرة بأنها ليست إلا حرباً حقيقية لكتاب الله، أرادوا بها صرف كل من يقرأ تفسيراً من التفاسير عما يريده الله في كتابه من هداية البشر إلى حكايات وأعاجيب وأساطير تستهوي البسطاء، ثم تتراكم هذه الأساطير، وتعترض حركة الأفهام السليمة"2.
1 التصوف المنشأ والمصادر، إحسان إلهي ظهير ص243.
2 الإسلام والدعوات الهدامة، أنور الجندي ص236 دار الكتاب اللبناني، بيروت ط الأولى 1974م.
ومن هذا النوع من المكر ترجمة كتب الفلسفة، والأديان المنحرفة والوثنية وآدابها مما كان له الأثر العظيم في انحراف كثير من المسلمين وظهور البدع والفرق الضالة، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"وأظهر الله من نور النبوة شمساً، طمست ضوء الكواكب، وعاش السلف فيها برهة طويلة ثم خفي بعض نور النبوة، فعرب بعض كتب الأعاجم الفلاسفة من الروم والفرس والهند، في أثناء الدولة العباسية.
ثم طلبت كتبهم في دولة المأمون من بلاد الروم، فعُربت، ودرسها الناس وظهر بسبب ذلك من البدع ما ظهر"1.
ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن الترجمة للفلسفة اليونانية كانت عاملاً في إضعاف الدولة الإسلامية، وهزيمتها بعد ذلك عسكرياً أمام أعدائها، فيقول: "وإنني أريد أن أعقب، بصفتي قارئاً ومتخصصاً في الفلسفة الإسلامية2 -بأن الترجمة الفلسفية اليونانية، التي وصلت إلى قمة الجهاز السياسي في عهد المأمون3 كانت إحدى عوامل الهزيمة الثقافية،
1 مجموع الفتاوى 2/84.
2 قوله: "الفلسفة الإسلامية" تعبير غير سليم، حيث إن الإسلام ليس فيه فلسفة، بل هو دين إلهي ووحي رباني في غاية البيان والوضوح، والفلسفة لا يحتاجها إلا أهل التعقيد والتلبيس والتناقض، والأصح لو قال:"الفلسفة المنسوبة إلى الإسلام".
3 الخليفة العباسي عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، تولى الخلافة بعد قتل أخيه الأمين سنة 198هـ، أشعل في آخر خلافته فتنة القول بخلق القرآن. توفي سنة 218.
انظر: سير أعلام النبلاء 10/272، والبداية والنهاية 10/287.
بل الهزيمة العسكرية، فكان الحسم لصالحهم بعد ذلك عبر الغزو التتاري، والغزو الصليبي" 1.
وهذا الربط بين ترجمة الفلسفة، وبين الهزيمة الثقافية، والعسكرية، هو الحق الذي لا مرية فيه، وذلك أن سر ظهور الإسلام وتمكن أهله في الأرض إنما كان بالتزام أهله بالدين الصافي، واستغنائهم عن معارف الجاهلية، ثم بعد الترجمة كان ما أشار إليه ابن تيمية من ظهور البدع، وما تبع ذلك من الخلاف، وذهاب الريح، فضعف السبب الذي به ظهر الإسلام، وكان من أهم أسباب الهزيمة العسكرية.
كما أن قبول المسلمين لتلك الفلسفات واستخدامها في معرفة العقائد، وتقريرها بمثابة شهادة وتزكية لها بالصلاح، وهذا يرفع من شأنها كما أنه في الوقت نفسه يشعر بحاجة المسلمين وفقرهم لها، وهذه هزيمة ثقافية، مع أن الواقع أن الإسلام في أشد الغنى عنها.
1 انظر: تعليق الدكتور راجح الكردي على تعليق على بحث:"موقف الفكر الإسلامي المعاصر من الحضارة الحديثة" للدكتور: إبراهيم زيد الكيلاني ص156 ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، البحرين، مكتب التربية العربي لدول الخليج 1407هـ.
فلا يحتاجون إليها ولا إلى غيرها لمعرفة دينهم، ولو اقتصر استخدام تلك العلوم العقلية على المطالب المادية، كالصناعة والزراعة والطب ونحوها، لكان ذلك حسناً.
أما الزعم بأنها الطريق إلى معرفة العقائد والأخلاق فهذا خطأ كبير وسبب من أسباب ضعف المسلمين وهزيمتهم، بل إن بعض الكتاب الغربيين يرى أن خوض الفلاسفة اليونان أنفسهم في هذه المطالب، كان سبباً في تأخر الحضارة اليونانية حيث قال:"إن الفلسفة التي تخوض فيما وراء الطبيعة، وفي علم الأخلاق من العقبات، التي حالت دون تقدم الحضارة اليونانية القديمة"1.
ولم يقتصر كيد الحاقدين على ما تقدم، بل كروا كرة هوجاء على جميع أصول الإسلام وأسسه، وراموا هدم عقائده، والتحلل من شرائعه، وتفكيك دعائمه الاجتماعية، فحدث في زمن المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر، أخذه معبد الجهني2 عن سوسن3 النصراني
1 قصة الحضارة وُل ديورانت 7/194.
2 معبد بن عبد الله الجهني نزيل البصرة، أول من تكلم بالقدر في زمن الصحابة، قيل إنه أخذ قوله في القدر من رجل نصراني اسمه سوسن، مات قبل سنة 90هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 4/185 والبداية والنهاية 9/36.
3 رجل نصراني أظهر الإسلام وقذف بين المسلمين القول في القدر، ثم لحق بدينه النصراني.
انظر: سير أعلام النبلاء 4/186، والبداية والنهاية 9/36.
الذي أظهر الإسلام ثم تنصر وورثه عن معبد غيلان الدمشقي1 والجعد بن درهم2.
وجاء من بعدهم الجهم بن صفوان3، فنفث في روع أناس من شروره الفكرية، فصبغت تلك الشرور كثيراً من الفرق المنتسبة إلى الإسلام على درجات متفاوته.
1 غيلان بن مسلم الدمشقي القدري من أوائل من قال بإنكار القدر، ناظره الأوزاعي فلم يرجع عن بدعته، فأفتى بقتله فقتله هشام بن عبد الملك. انظر: لسان الميزان 4/424 والأعلام 5/124.
2 الجعد بن درهم مؤدب مروان بن محمد الأموي، أول من ابتدع في هذه الأمة إنكار أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه كلم موسى تكليماً، وأخذ ذلك عن الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الجهمية، وقد قتل الجعد والي العراق خالد بن عبد الله القسري سنة 124هـ على الزندقة. انظر: سير أعلام النبلاء 5/433، والبداية والنهاية 9/364.
3 أبو محرز الجهم بن صفوان الراسبي. تلميذ الجعد بن درهم الذي قتل على الزندقة، والجهم هو أول من جاهر بالقول بخلق القرآن، وتعطيل الباري تعالى عن صفاته وإليه تنسب الجهمية، قال عنه الذهبي:
"الضال المبتدع رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئاً، ولكنه زرع شراً عظيماً"، وكان مع بدعته يحمل السلاح ويخرج على السلطان، قتله سلم بن أحوز في آخر زمان بني أمية.
انظر: الفرق بين الفرق تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ص211، وميزان الاعتدال للذهبي تحقيق على محمد البجادي 1/426.
فتكلم بفكرة الجبر، وتعطيل صفات البارئ تبارك وتعالى، وفكرة الإرجاء1 وأن الإيمان هو المعرفة بالله، والكفر هو الجهل به، وقال بخلق القرآن2، وغير ذلك من الأفكار الخبيثة التي أحدثت جدلاً وفرقة، ونتج عنها فتن داخل الأمة الإسلامية.
1 الإرجاء: معناه في اللغة التأخير، والمراد به تأخير العمل عن الإيمان، حيث زعموا أن الأعمال الصالحة من الأقوال، والأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، وترتب على هذا القولُ بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، والمرجئة فرق كثيرة مختلفة في قولها في الإرجاء. فمنهم الجهمية الذين قالوا: الإيمان هو المعرفة فقط، ومنهم من قال: هو تصديق القلب، كالأشاعرة ومن نحا نحوهم، ومنهم من قال: هو قول اللسان كالكرامية، ومنهم من قال هو: تصديق القلب وقول اللسان.
انظر: الفرق بين الفرق 202، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 7/195.
2 القول بخلق القرآن: عقيدة باطلة، قالت بها الجهمية، وتبعها على ذلك المعتزلة، وهي حقيقة قول الأشعرية والماتريدية، وهي ناتجة عن تعطيل صفات الله، وإنكارهم صفة الكلام لله عز وجل.
والذي دل عليه القرآن والسنة، وعليه السلف الصالح أن الله تعالى يتكلم حقيقة، بكلام بدأ منه بحرف وصوت، يسمع منه متى شاء كيف شاء، والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
وقد استقصى علماء السلف الأدلة على ذلك في كتب السنة والإيمان والتوحيد.
انظر: مثلاً: كتاب التوحيد من صحيح البخاري.
وانظر: مجموع الفتاوى 12/118-125، والإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري تحقيق د. فوقيه حسين محمود ص14، 15، 63 وما بعده دار الأنصار، مصر، ط: الأولى 1397هـ.
ثم ظهرت فرقة المعتزلة على يدي واصل بن عطاء1، وعمرو بن عبيد2 متأثرين بأفكار الجهمية، وراموا الرد على الجهمية بطريقة خالفوا فيها أهل الحق، كما تبنوا بعض أفكار الجهمية، كالقول بخلق القرآن وتعطيل الصفات وغير ذلك، فأخذوا من التجهم بنصيب.
1 واصل بن عطاء البصري الغزال، أول من قال بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، وأحد شيوخ المعتزلة، صنف كتاب المنزلة بين المنزلتين توفي سنة 131هـ.
انظر: وفيات الأعيان 6/7، وسير أعلام النبلاء 5/464.
2 عمرو بن عبيد البصري أبو عثمان كبير المعتزلة وأحد شيوخها الأوائل. تركه عدد من الأئمة لبدعته. صنف كتاب العدل والتوحيد مات سنة 143هـ.
انظر: وفيات الأعيان 3/460، وسير أعلام النبلاء 6/104.
ثم ظهرت الماتريدية1 والأشاعرة2، وزعموا التوسط بين منهج أتباع السلف الصالح، وبين المعتزلة، فوافقوا المعتزلة والجهمية ببعض قولهم، ووافقوا السلف ببعض قولهم، فأخذوا من التجهم بنصيب.
وقد امتطت هذه الفرق -كما فعل المتشيعة والمتصوفة- التأويل لإبطال دلالة نصوص التنزيل، قال ابن القيم رحمه الله: "الفصل الخامس والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربعة الني هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين، وانتهكوا بها حرمة القرآن، ومحوا بها رسوم الإيمان وهي:
قولهم: أن كلام الله، وكلام رسوله أدلة لفظية، لا تفيد علماً ولا يحصل منها يقين.
1 الماتريدية: أتباع أبي منصور محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي الحنفي المتوفي سنة 333هـ. وماتريد محلة من سمرقند، من بدعتهم الإرجاء، ونفي بعض الصفات، وغير ذلك.
انظر: الفرق الإسلامية الكلامية 341، والماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات.
2 الأشاعرة: هم المنتسبون إلى أبي الحسن بن إسماعيل الأشعري بعد أن ترك الاعتزال، وأخذ بمذهب الكلابية، وهم مرجئة في باب الإيمان، معطلة لبعض الصفات، جبرية في باب القدر، ولهم بدع أخرى.
انظر: الفرق الكلامية الإسلامية 278، ومجموع الفتاوى 12/204، 368 و 13/131.
وقولهم: إن آيات الصفات، وأحاديث الصفات مجازات لاحقيقة لها.
وقولهم: إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي رواها العدول، وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد العلم، وغايتها أن تفيد الظن.
وقولهم: إذا تعارض العقل ونصوص الوحي، أخذنا بالعقل، ولم نلتفت إلى الوحي.
فهذه الطواغيت الأربعة التي فعلت بالإسلام ما فعلت، وهي التي محت رسومه، وأزالت معالمه، وهدمت قواعده، وأسقطت حرمة النصوص من القلوب، ونهجت طريق الطعن فيها لكل زنديق وملحد، فلا يحتج عليه المحتج بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله، إلا لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت، واعتصم به واتخذه جُنة يصد به عن سبيل الله، والله تعالى بحوله وقوته، ومَنّه وفضله، قد كسر هذه الطواغيت طاغوتاً طاغوتاً، على ألسنة خلفاء رسله، وورثة أنبيائه فلم يزل أنصار الله ورسوله يصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرجمونهم بشهب الوحي، وأدلة المعقول" 1.
1 الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة لابن القيم، تحقيق د. أحمد عطية الغامدي 2/379، 380 الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط: الأولى 1410هـ.
ومع مرور الأيام انقسمت تلك الفرق على أنفسها، وزاد اختلافها وانحرافها وشقت طريقها بين أفراد المجتمع المسلم وكثر أتباعها، ومما ساعد على ذلك:
1-
ضعف الإيمان وغلبة الجهل، وذلك أن الإيمان الراسخ القائم على التوحيد الخالص، والعلم المستمد من الكتاب والسنة، هو الحصن الحصين الذي يحصن الله به عباده من الفكر الهدام وسائر الفتن.
2-
إظهار القائلين بهذه الأفكار، الداعين إليها للزهد والورع والحماس، وادعاء الحرص على الإسلام، وتحملهم الكثير من التضحيات والمشاق، مما جعل كثيراً من الناس يغترون وينخدعون بهم.
3-
تقبل بعض المعروفين بالعلم لبعض هذه الأفكار، ومدحهم لأساطين الفلاسفة وعلومهم.
4-
تسامح بعض الخلفاء والولاة والسلاطين مع أهل الأهواء والبدع، وعدم الحزم في مقاومتهم، ومناصرة بعضهم لهم وفرضهم لأفكارهم.
5-
استيلاء بعض الحكام المنتمين إلى بعض الفرق الضالة على الحكم، في بعض البلاد الإسلامية.
فهذه الأمور -وغيرها- كانت ثغرات نفذت منها الأفكار الهدامة إلى المجتمع المسلم، وما إن دخلت حتى وجدت آذاناً تستمع إليها، وقلوباً
مفتوحة لها، فتغلغلت وسرت كسريان النار في الهشيم، وأُشربت كثير من القلوب الفتنة.
وحفظ الله الحق في طائفة من الناس، استمسكوا به وتجافوا عن البدع والمحدثات، وقاموا بما استطاعوا من النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم، إلا أن الانحراف استبد وفرض وجوده، واستحكم في المجتمع {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] . {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:41] .
واستمر خطر الفكر الهدام والفرق الضالة يزيد مع مرور الزمن، ويقوى سلطان أهله واستحواذهم على المسلمين، حتى إذا جاء العصر الحديث فإذا الجهل والضلال قد استحكم في عقائد كثير من المسلمين وشرائعهم، وأصبحت البدعة سنة، والسنة بدعة، وألفوا ذلك ودافعوا عنه، وعادوا ما سواه، ولو كان الحق الذي ينطق به الكتاب.
من أصدق الشواهد على هذه الحال، ذلك الوقوف المنكر والمجابهة لأهل التوحيد والدعوة إلى تنقية الدين مما خالطه من الفكر الهدام والانحرافات والرجوع إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم، التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن آزره في دعوته رحمهم الله فرموهم بالبدعة والضلال وحاربوهم باسم الإسلام.
وليس غريباً -وهذه حالهم- أن يتسلط عليهم أعداؤهم من النصارى واليهود، والشيوعيين فيشنوا عليهم حملات استعمارية، وقع في إثرها كثير من البلاد الإسلامية، تحت الاستعمار الصليبي الغادر، والشيوعي الملحد الفاجر، حيث شنّ على المسلمين نوعاً جديداً من الغزو الفكري الرهيب بغرض الإجهاز على الإسلام واقتلاعه من جذوره، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]
وقد جاء المجال للكلام على الصراع الفكري في العصر الحديث، ويكون ذلك في المطلب القادم، والله المستعان.
المطلب الثالث: الغزو الفكري للأمة الإسلامية في العصر الحديث
إن استخدام لفظ الغزو في التعبير عن كيد أعداء الأمة في العصر الحديث مناسب لطبيعة ذلك الكيد، وذلك أن جهود أعداء الإسلام في العصور الحديثة تختلف عن تخطيط أولئك الحاقدين في القديم.
ففي القديم كان الإسلام قوياً مهيمناً، وفي الحديث نجد أن أهل الإسلام في أدنى مستويات الانحطاط الفكري والعسكري والاجتماعي.
وفي القديم كان الالتزام قوياً، وكان يكثر وجود العلماء العاملين السائرين المستمسكين بالإيمان الصحيح، وكانت لهم مكانتهم عند العامة والخاصة، أما في الوقت الذي بدأت فيه الجولة الجديدة من الحرب الفكرية في العصور المتأخرة، كان المجتمع المسلم قد تنازعته الأهواء والفرق، فعكرت صفوه، وتدنس بعض العلماء بلوثات الأفكار الهدامة، والمذاهب المختلفة، والمناهج الضالة.
وفي القديم كان الحاقدون يتظاهرون بالإسلام، ويفسدون بدعوى الإصلاح والحرص على الإسلام، أما في الحديث فرواد المجابهة الفكرية هم من النصارى واليهود، وهم يعملون لحساب دول ومنظمات قوية غنية.
لذلك غلب على المواجهة القديمة، لفظ الصراع لوجود المقاومة العنيفة التي قام بها المسلمون من العلماء والخلفاء وغيرهم.
وفي العصر الحديث فالواقع يدل على وقوع الأمة الإسلامية تحت غزو فكري عنيف، سبق الغزو المسلح ومهد له، ورافقه واستمر بعده، وقد كان ميدان هذا الغزو هو المعارف الإسلامية، من العقائد والشرائع، والأخلاق والنظم، والأدب والتاريخ، وجميع المجالات الفكرية.
مفهوم الغزو الفكري:
بيّن بعض الباحثين مفهوم الغزو الفكري بقوله: "هو من شعب الجهد البشري المبذول ضد عدو ما، لكسب معارك الحياة منه، ولتذليل قياده، وتحويل مساره، وضمان استمرار هذا التحويل حتى يصبح ذاتياً إذا أمكن. وهذا هو أقصى مراحل الغزو الفكري بالنسبة للمغلوب، وإن كان في الوقت نفسه هو أقصى درجات نجاح الغزاة.
وسلاح هذا الغزو: الفكرة، والرأي والحيلة، والنظريات والشبهات، وخلابة المنطق، وبراعة العرض
…
ولدادة الخصومة، وتحريف الكلم عن مواضعه، وغير ذلك.
ويتميز الغزو الفكري: بالشمول والامتداد، فهو حرب دائبة لا يحصرها ميدان بل تمتد إلى شعب الحياة الإنسانية جميعاً، وتسبق حروب السلاح وتواكبها، حتى تستمر بعدها لتكسب ما عجز السلاح عن تحقيقه، فتشل إرادة المهزوم وعزيمته حتى يلين ويستكين، وتنقض تماسكه النفسي حتى يذوب كيانه، فيقبل التلاشي والفناء في بوتقة أعدائه، أو
يصبح امتداداً ذليلاً لهم" 1.
والمراد هنا هو ذلك الجهد الفكري المنظم، الذي شنه أعداء الإسلام، وبخاصة اليهود والنصارى والشيوعيون على الأمة الإسلامية في العصر الحديث.
وقد مرت جهود أعداء الأمة في مجال الغزو الفكري في العصر الحديث بثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة الإعداد، وهي ما قبل الاستعمار العسكري المباشر، ويشمل ذلك التخطيط للتفريق بين المسلمين، وإسقاط الدولة العثمانية، وإيجاد الفكرة القومية2، لدى شعوب العالم الإسلامي، وإثارة الكراهية
1 الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام د. عبد الستار فتح الله سعيد ص7 دار الأنصار، القاهرة، ط: الأولى، ت: بدون.
2 القومية: هي فكرة تقوم على التقاء كل شعب على الروابط المشتركة بين أفراده كالجنس، أو اللغة والتاريخ، أو الأرض والوطن، أو الظروف المعيشية والاقتصادية أو عليها جميعاً، واستثنى من ذلك الدين، وقد اختلفت وجهات النظر بين دعاة القومية في تحديد العنصر الأهم والمقوم الأساسي لهذه الفكرة.
وحقيقة القومية التي دعا إليها الاستعمار، هي دعوة كل جنس من شعوب العالم الإسلامي إلى التلاحم والتآخي على أساس اللغة والدم وغيرها من الروابط، دون اعتبار للدين، كما استبعد التاريخ الإسلامي من الروابط المشتركة.
انظر: الاتجاهات الفكرية المعاصرة وموقف الإسلام منها د. جمعة الخولي ص115، 116 الناشر الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط: الأولى 1407هـ.
والمخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام لمحمد محمود الصواف ص23-28 دار الإصلاح، الدمام، ط: الأولى 1979م.
بين العرب والترك، وقد نشطت هذه المرحلة في القرن التاسع عشر الميلادي1.
الثانية: مرحلة الاستعمار العسكري، وقعت معظم البلدان الإسلامية تحت حكم المستعمرين النصارى، في أوائل القرن العشرين الميلادي، وبذلك استلم أعداء الأمة مباشرة مراكز التعليم والتربية، والحكم والإعلام وسائر مؤسسات الدولة، فوجهوها وجهة غربية إلحادية، وأقاموها على الأفكار والنظريات الضالة التي توافق وضع المستعمر وتحقق أهدافه.
وأثيرت الأفكار الجاهلية، والشكوك والطعن في الإسلام، والدعوة إلى مسايرة الغرب علناً في مجالات واسعة، كالإذاعات والمسارح، والسينما والمدارس، والصحف وغيرها2.
الثالثة: مرحلة ما بعد الاستعمار: وهي فترة تعتبر في كثير من البلاد
1 انظر: فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام د. صالح بن عبد الله العبود ص96-143 دار طيبة الرياض، ط الأولى 1401هـ. والاتجاهات الفكرية المعاصرة، ص122-128.
2 حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة د. جميل عبد الله المصري 1/133-155 مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط: الأولى 1407هـ.
استمراراً لمرحلة الاستعمار العسكري، حيث إن المستعمربن يسلمون الحكم لمن ربوهم على أفكارهم واتجاهاتهم، أو تستلمه زمرة -بمساعدة المستعمر- من المنحرفين المنتسبين إلى بعض الأفكار الخبيثة كالشيوعية أو القومية البعثية أو غيرها. ففرض على الشعوب الإسلامية ما غرسه الاستعمار، أو وقعت تحت أوضاع أشد خطراً وكفراً وتسلطاً1.
ويرجع كثير من الباحثين بداية التخطيط للحرب الفكرية الحديثة، إلى توجيهات ملك فرنسا لويس التاسع2 الذي كان يقود بعض الحملات الصليبية بنفسه، حيث أسر في أحدها وسجن في المنصورة بمصر، وقتل في حملة أخرى.
1 انظر: احذروا الأساليب الحديثة في مجابهة الإسلام ص187، وأساليب الغزو الفكري د. علي جريشه، ومحمد شريف الزيبق ص48-49 دار الاعتصام القاهرة، ط: الأولى 1978.
2 لويس التاسع ملك فرنسا من سنة 1226-1270م قاد الحملة الصليبية السابعة عام 1249م التي توجهت إلى مصر والتي باءت بالفشل، وأسر فيها لويس وسجن في سجن المنصورة بمصر، وأطلق سراحه بفدية كبيرة، ثم قاد في آخر حكمه حملة أخرى سنة 1270م توجهت إلى تونس حيث فشلت أيضاً، ومات فيها لويس.
انظر: أوربا العصور الوسطى، التاريخ السياسي د. سعيد عبد الفتاح عاشور 1/260-265 مكتبة الأنجلو المصرية مصر ط: السادسة 1975.
وقد أخذ يفكر بعمق – وهو في معتقله بالمنصورة في السياسة التي كان أجدر بالغرب أن يتبعها إزاء المسلمين.
وبعد ذلك وضع خيوط المؤامرة الفكرية الجديدة على الإسلام، ولخصها في أربعة أمور:
1-
تحويل الحملات الصليبية العسكرية إلى حملات سِلْمية صليبية تستهدف ذلك الغرض، ولا فرق بين الحملتين إلا من حيث نوع السلاح الذي يستخدم في المعركة.
2-
تجنيد المبشرين1 الغربيين في معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام، ووقف انتشاره، ثم القضاء عليه معنوياً، واعتبار هؤلاء المبشرين جنوداً للغرب.
3-
العمل على إنشاء قاعدة للغرب في قلب الشرق
1 مفهوم التبشير المزعوم هو الدعوة إلى النصرانية، إلا أنه في الحقيقة يتقنع بالدين والأعمال الخيرية لتحقيق الغرض الحقيقي، وهو زعزعة عقائد غير النصارى عامة، والمسلمين خاصة، ثم تهيئتهم بشتى الوسائل لقبول النفوذ الغربي، والاستكانة للاستعمار وبسط السيطرة الغربية عليها، ثقافياً ودينياً وسياسياً.
انظر: التبشير والاستعمار في البلاد العربية د. مصطفى خالدية، د. عمر فروخ ص5 المكتبة العصرية، بيروت، ط الثانية 1983، واحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص39.
الإسلامي، يتخذها الغرب نقطة ارتكاز لقواته الحربية ولدعوته السياسية والدينية، وقد اقترح لويس لهذه القاعدة الأماكن الساحلية في لبنان وفلسطين1.
وقد سار الأوربيون بالفعل في طريق تنفيذ وصية لويس، حيث أعدوا جيوشاً من المستشرقين2 والمنصرين، الذين قاموا بحركة تشويه للإسلام بهدف تشكيك المسلمين فيه، كما قاموا بإنشاء قاعدة نصرانية لهم في لبنان، ويهودية في فلسطين3.
والحق أن لويس بقراراته هذه وقع على أمرين هامين:
الأول: أنه أدرك السر في قوة المسلمين، وهي عقيدتهم وتمسكهم بتعاليم دينهم، وأنه لا سبيل للغرب ولا لغيرهم للانتصار على المسلمين
1 انظر: أساليب الغزو الفكري د. علي جريشه ومحمد شريف الزيبق ص19، واحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص33.
2 الاستشراق: هو حركة دراسة العلوم والآداب، والحضارة والثقافة الإسلامية، بهدف معرفة عقلية المسلمين وأفكارهم واتجاههم، وأسباب تفوقهم وقوتهم لضرب هذه القوة من جهة، والاستفادة من علوم المسلمين من جهة ثانية، والتمهيد للاستعمار النصراني لدول الإسلام وإخضاعها لنفوذه وسلطانه من جهة ثالثة.
احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص89.
3 انظر: احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص34، وأساليب الغزو الفكري ص19.
مع تمسكهم به1.
1 يثبت التاريخ أنه كلما قام رجال بالدعوة للدين الصحيح، وتطهير الاعتقاد، وقمع البدع، فإن الإسلام يقوى ويحيى فيه الجهاد، وتعتز الأمة وتسترد ما سلب من أوطانها، ومن شواهد ذلك ما حصل من استرداد بيت المقدس من الصليبيين، ودحر حملاتهم المتأخرة –ومنها الحملات التي قادها لويس- على أيدي رجال أمثال: نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، ومن جاء بعدهم واقتفى أثرهم في الصلاح والجهاد، قال ابن كثير –رحمه الله في ترجمة نور الدين زنكي:"كان مجاهداً في الفرنج آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، محباً للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضاً للظلم، صحيح الاعتقاد مؤثراً لأفعال الخير، ولا يجسر أحد أن يظلم أحداً في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمناً لقيام الليل، إلى أن قال: قال ابن الجوزي: استرجع نور الدين محمد بن زنكي –رحمه الله تعالى- من أيدي الكفار نيفاً وخمسين مدينة".
البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 12/387، دار الفكر العربي.
ففي مثل هذه الأحوال التي يقام فيها الإيمان الصحيح، وينصر تتجلى آثار الإيمان المباركة –التي هي موضوع هذه الدراسة- ومنها ولاية الله لعباده بحفظهم، والدفاع عنهم وتمكينهم في الأرض، كما يشهد لذلك ما حصل للموحدين في نجد، في القرن الرابع عشر الهجري الذين دعوا إلى ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله من تصحيح الاعتقاد ونبذ البدع واتباع السنة والجهاد في سبيل الله، فحفظهم الله في الجزيرة العربية، في وقت اكتسح فيه الاستعمار الصليبي جميع البلاد الإسلامية تقريباً، فحفظهم الله وحفظ بهم منهج السلف الصالح. وإذا قورنت هذه الأحوال بالأحوال التي ضاعت فيها بلاد المسلمين نجد أن السبب الأهم هو الانحراف عن الإيمان، وكثرة البدع والعصيان، ومن شواهد ذلك ما قاله ابن كثير وهو يبين سبب انتصار الروم على المسلمين وانتزاعهم الكثير من بلادهم:"
…
وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدع الشنيعة فيهم، وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشو البدع فيهم، وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم".
البداية والنهاية المصدر السابق 12/343.
وما داموا قد حددوا السبب الحقيقي: "فإن العلاج والمقاومة يكون من السهولة بمكان، وقد عرفوا سر قوة المسلمين وهو: عقيدتهم وشريعتهم وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم الإسلامية.
إذاً -لا بد من توجيه الحرب إلى الإسلام نفسه كدين وعقيدة، ومنهج حياة، وعادات وتقاليد، ولا بد من زعزعة الإسلام في قلب المسلم، وتخريب العقيدة في قلوب المسلمين، أو بمعنى آخر قالوا: لا بد من القضاء على الإسلام كعقيدة وشريعة، ونظام ليسهل القضاء على المسلمين كقوة" 1.
الثاني: أنه وقع على الكيد المؤثر في حرب الإسلام، وهو أسلوب الغزو الفكري، الذي يفوق بعشرات المراحل أسلوب الغزو العسكري، ذلك أنه يمتاز بعدة أمور منها:
1-
الخداع: فالعدو من خلال هذا الغزو لا يقف أمامك عياناً بياناً، بل هو مستخف، يأتيك من وراء حجاب ويداهمك بدون شعور
1 انظر: احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص32.
منك، قد يأتيك في صورة مقال جذاب، أو كتاب بغلاف براق، أو برنامج إذاعي أو تلفزيوني، أو فيلم أو مسلسل، بل إنه قد يأتيك من خلال واحد من أبناء جلدتك ووطنك، بل ودينك أحياناً.
2-
الخطورة: الغزو الفكري أخطر بكثير من الغزو العسكري، لأنه عميق التأثير في الشعوب المغزوّة، إذ يمتد تأثيره عشرات بل مئات السنين أحياناً، والشعب الذي يُحارَب بالغزو الفكري ينصرف بمحض اقتناعه هو كما يريد الغازي
…
3-
البساطة: فالغزو الفكري سهل وبسيط، وأقل تكلفة من الغزو العسكري، الذي يكلف كثيراً من الدماء والطاقات1.
ومما يزيد في ضراوة المعركة أن معظم الطبقة التي تملك زمام البلاد الإسلامية من المفكرين والسياسيين مع القيم الغربية قلباً وقالباً2.
وزاد من خطر هذه الهجمة الفكرية، التقاء المصالح والجهود النصرانية واليهودية في التخطيط للسيطرة على العالم وتدمير الإسلام، والتقاء هؤلاء مع الشيوعيين على عداوة الإسلام، واعتباره الخطر الأول عليهم، وعملهم جميعاً على محاربته بكل الوسائل الفكرية والمادية.
وقد استخدموا لهذا الغرض جيوشاًَ من المبشرين والمستشرقين، الذين
1 المصدر نفسه ص35.
2 المصدر نفسه ص35.
كان دورهم هو نشر الفكر الهدام في صفوف المسلمين، وصرفهم عن المفاهيم الصحيحة التي جاء بها الإسلام في كل المجالات.
وقد أدرك المستشرقون ومَنْ وراءهم من قادة الاستعمار أن عقيدة كثير من المسلمين قد شابها ما شابها من الانحراف، وعملت فيها جهود الحاقدين القديمة، ولولا ذلك ما نجحت مخططاتهم الحديثة بسهولة، ولذلك اتجهت أهدافهم إلى ترسيخ الانحراف، والعمل على منع عودة المسلمين إلى الفهم الصحيح للإيمان المستمد من الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، وقد عملوا لتحقيق ذلك في عدة مجالات:
منها: إحياء تلك الجهود القديمة وإذكاء نارها.
قال أنور الجندي: "إن من أخطر التحديات التي تواجه الإسلام في العصر الحديث ابتعاث الفكر الوثني
…
القديم
…
هذا الفكر الذي يجمع بين الوثنية والإلحاد والتعددية، والإشراق والمادية، والذي عرفه العرب والمسلمون بعد ترجمة الفلسفة اليونانية، والفارسية والهندية، وظهر أثره في الفلسفة وعلم الكلام، والتصوف والدعوات الباطنية المتجددة عن المجوسية وغيرها"1.
ومنها: العمل على استحداث المزيد من الأفكار الضالة، والفرق
1 المؤامرة على الإسلام، أنور الجندي ص5، دار الاعتصام، القاهرة ط: الأولى 1977م.
الهدامة، فلقد شجع الاستعمار قيام عدد من الفرق، والمذاهب والجماعات المنحرفة، والتي تتبنى آراء تهدم مبادئ الإسلام من أساسه، وكان الهدف من إنشاء هذه الجماعات هو:
1-
ضرب الإسلام كعقيدة وشريعة، وتشكيك المسلمين في دينهم بعد أن حاولوا إبعاده عن مجال التطبيق.
2-
أن تساعد هذه الفرق على إسقاط شريعة الجهاد، التي أقضّت مضاجع المستعمرين، وذلك لاستمرار سيطرتهم على بلدان العالم الإسلامي.
3-
أن تساعد على إشاعة الفرقة الفكرية بين المسلمين وشغلهم بالرد على بعضهم، واستنفاد قوتهم في الجدل والمناقشات.
4-
أن تساعدهم على نشر عقائدهم الباطلة، فقد تبنت هذه الجماعات كثيراً من عقائد النصارى واليهود والماركسيين، وبذلك تستخدم هذه الجماعات كمدارس تبشيرية جديدة داخل العالم الإسلامي1.
ومنها: التحريض على ضرب الحركات الإسلامية، وإجهاض الدعوات التي تهدف إلى عودة المسلمين إلى دينهم، وتبصرهم بكيد أعدائهم؛ ومن هذا الباب تشويه سمعة الدعاة، ووصفهم بالتطرف
1 انظر: احذروا الأساليب الحديثة في مجابهة الإسلام ص283.
والإرهاب، ونشر الافتراءات عليهم1.
ومن ذلك تشجيع الدول الاستعمارية على مزاولة الضغوط على الحكومات الإسلامية، بعدم انتهاج وتطبيق أحكامه، والالتزام به في سياساتها المختلفة.
وقد اعتمد المستشرقون في كيدهم الفكري وغدرهم الخفي على حيلة المنهج العقلي المتجرد وادعوا أنهم يلتزمون به، ويبحثون عن الحق في دراستهم وفق أسس منطقية، ونظرة عقلية محايدة، فخدعوا الكثير من كتّاب ورجال الفكر من المسلمين فقبلوا أقاويلهم، ومفترياتهم ظناً منهم أنها نتائج بحث علمي متجرد.
والحق أن دعوى التجرد والحياد، ودعوى المنطقية العقلية لا صحة لها في الواقع، وإنما هي أوهام وظنون وخدع قولية وتلبيسات شيطانية جعلها المستشرقون ومن سار في ركابهم من الحاقدين ستاراً للطعن في الإسلام، والتشكيك في تعاليمه وزخرفة الباطل.
فالباحث والناقد والدارس –مهما كان- لا بد أن يكون له منهج يسير عليه، وميزان يزن به ويُرجع الحكم إليه. فالحكم بالخير والشر، والحق والباطل، والصواب والخطإ، يختلف باختلاف البشر ومشاربهم الفكرية، وقناعاتهم الشخصية، فلا بد أن يكون عند الباحث والناقد تحديد
1 انظر المصدر نفسه، ص269.
مسبق لهذه المفاهيم يحكم به، ويحتكم إليه، لكن بعض الباحثين لا يجهر بمنهجه ويدّعي التجرد من باب التدليس وإعطاء نتائجه قوة وقبولاً.
أما دعوى تحكيم العقل ومنطقه، وأن هناك منطقاً عقلياً مشتركاً بين جميع الناس يزنون به الأمور ويحتكمون إليه، فهي دعوى باطلة، وفتنة قديمة متجددة، ولا وجود لمثل هذا العقل أصلاً.
وإنما الموجود هو إعمال الناظر العقل في أمر ما لينظر هل يستقيم على منهجه أو لا، قال سيد قطب رحمه الله:
"إن العقل المبرأ من النقص والهوى لا وجود له في دنيا الواقع، وإنما هو مثال!.. فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل علان
…
وليس هناك عقل مطلق لا ينتابه النقص والهوى، والشهوة والجهل يحاكم النص القرآني إلى مقرراته، وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثير، فإننا ننتهي إلى فوضى! " 1.2
1 خصائص التصور الإسلامي، سيد قطب، ص19، دار الشروق، ط العاشرة 1408هـ.
2 هذه الومضة المنهجية القيمة في فكر سيد قطب، مفادها خطأ من يزعم وجوب تحكيم العقل في نصوص الكتاب والسنة، إذا لم توافق دلائل العقول القاصرة.
إلا أن سيداً عندما كتب في التفاصيل، وخاصة في التفسير، خالفها من جهتين:
الأولى: وقع في التأويل المذموم، وقدم العقل ورد الآثار الصحيحة.
انظر أمثلة ذلك في كتاب: المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال، للشيخ عبد الله بن محمد الدويش، العناوين الآتية من فهرس أخطاء الظلال:
-أسباب النزول. ص335.
-تقديمه الرأي والاستحسان على الأثر ص338.
الثانية: موافقته لأهل التأويل في بعض ما ذهبوا إليه من تأويل: صفات الله تعالى، كتأويل صفة الاستواء، وكلام الله عز وجل، ورؤيته، ونحوها.
انظر: المصدر السابق ص329.
وبالإضافة إلى قصور العقل في القوة، وقصوره في العلم، وتأثير الشهوة والعواطف والانفعالات عليه، فهو أيضاً متأثر بالتصورات الفكرية، والقناعات الموروثة من البيئة أو الدين، أو التعصب للجنس أو الوطن أو نحوها.
ومع ذلك فإن الكافر والفاسق ميدان لوسوسة الشياطين، وإمدادهم لأعوانهم بزخرف القول والباطل، كما قال رب العالمين:
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221، 222] .
فكيف بعد هذا تقبل دعوى من هذه حاله، بالنظر الصحيح، والتجرد والحياد العلمي.
وليس الغرض هو التأريخ أو استقصاء الحركات الهدامة، وجهود
الأعداء، وإنما بيان خطورة الغزو الفكري الحديث، واعتماده على الأفكار الهدامة، مما يبين أهمية العناية بالإيمان ليتحقق أثره، في تحصين الأمة ضد الأفكار الضالة بمختلف أنواعها.
وسوف أورد أهم الأساليب التي استخدمها الغرب الصليبي خاصة، وتعاون على تحقيقها أعداء الأمة عامة، وجندوا أنفسهم لمحاربة الإسلام والمسلمين بها، وقد لخص هذه الأساليب صاحب كتاب: المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام فيما يلي1:
1-
فتح المدارس الأجنبية في ديار المسلمين وتكثيرها وتنويعها، وإرسال القُسوس والرهبان.. ليشرفوا على هذه المدارس، ويربوا أجيال المسلمين على أعينهم، ففتحوا المدارس التي كمن التبشير والاستعمار في طيات كتبها المسمومة، وفي صور أساتذتها الحاقدين على الإسلام، والذين وهبوا أنفسهم لمكافحة الإسلام ودحر المسلمين.
2-
ومنها إرسال البعوث، وتكثير الإرساليات التبشيرية لتنشر مكامن التبشير في كل مكان، وتشكك الشباب المسلم في دينه وعقيدته، وتحيطه بسياج من أوهامها وضلالاتها، ومن وسائلهم فتح المستشفيات والمستوصفات ودور التمريض لنفس الغرض الخبيث.
1 المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف ص17-21، دار الإصلاح، الدمام، ط: الثالثة 1399هـ.
3-
ومنها إرسال أكبر قدر ممكن من شباب المسلمين وأبنائهم، إلى ديار الغرب لينهلوا من ثقافته المسمومة هناك، ويعودوا إلى ديارهم وقد ودعوا هناك دينهم، وخُلقهم ومبادئهم، ورجعوا يحملون هم الأمانة1.
أمانة التبشير وحرب رسالة الإسلام.
4-
ومنها نشر الكتب المفسدة العابثة المضللة، التي تشغل الشباب عن ثقافتهم الأصلية، وتلهيهم بالعبث والخيال الماجن الذي سيجرهم إلى المجون والجنون.
5-
ومن هذه المخططات السيطرة قدر المستطاع على برامج التعليم في الديار الإسلامية، وتوجيه التعلم توجيهاً علمانياً2 لا يؤمن بدين ولا يصدق برسول وينطلق نحو الإلحاد والفساد.
6-
ومنها نشر المجلات الخليعة، والسينمات المسمومة، والتلفزيون المشحون بما يثير غرائز الشباب، ويشغلهم بالتفكير في إشباع غرائزهم عن التفكير في مصالح أمتهم، ومستقبل دينهم وعقيدتهم وحرية
1 ليست بأمانة، وإنما هي عين الخيانة.
2 العلمانية: ترجمة مضللة لمصطلح أجنبي وترجمته الصحيحة: اللادينية أو الدنيوي، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، والفصل الكامل بين الدين والحياة ولا صلة لها بالعلم.
انظر: الاتجاهات الفكرية المعاصرة د. جمعه الخولي ص91، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص367.
أوطانهم وأمتهم.
7-
ومنها العمل المتواصل لإفساد شبابنا ورجالنا بزجاجة الخمر، وفتاة الهوى، والصورة الخليعة، والقصة الماجنة، وإرسال القينات1 والفاتنات أفواجاً أفواجاً، إلى ديار المسلمين ليفسدن باسم الفن، ويهدمن باسم الحرية، ويخربن باسم الترفيه.
8-
ومنها فتح نوافذ للحضارة الغربية، والثقافة الغربية وتمجيدها، والدعاية لها، لينظر منها شباب الإسلام فيفتن بمباهجها، وتأخذه مظاهرها الخلابة الكاذبة، فيبدأ يأخذ بثقافتها ويعجب بحضارتها، ويحتقر بعد ذلك أمته وبلاده، لسوء حاضرها الماثل أمام عينيه، وقد جهل ما هو ماضيها، وفُتِن بحاضر الغربيين.
حتى أصبح قلبه معهم هناك، وإن كان جسمه هنا، وروحه مع الغرب، وإن عاش في الشرق وسكنه وولد فيه.
9-
ومنها السيطرة الاقتصادية والتحكم في الأسواق، وامتصاص أكبر قدر ممكن من ثروة البلاد الإسلامية، وإشاعة الفقر والبطالة بين المسلمين، وهم أي المسلمون إن اشتغلوا بدنياهم لمعالجة عوزهم، وسد حاجاتهم وفقرهم نسوا دينهم، وأُشغلوا عنه، وأهمتهم أنفسهم وأهلوهم واحتاجوا إلى الغرب يستجدونه ويستقرضون منه ويسترضونه.
1 القينات: المغنيات.
10-
ومنها تمجيد وإحياء الحضارات القديمة كالحضارة الآشورية1، والحضارة الفينيقية2، والحضارة الفرعونية3، وتسليط الأضواء عليها، لينبهر بها الشباب المسلم، وينسى حضارته الإسلامية الأصلية، وقد طمسوا عنه أخبارها، وشوهوا له حقائقها، وفتحوا عينيه على حضارتهم وأمجادهم ومدنيتهم الحاضرة.
11-
ومنها العمل على إلغاء المحاكم الشرعية في ديار المسلمين، وإلغاء دور الإفتاء والسيطرة على أوقاف المسلمين، ونشر القوانين الوضعية ودراستها، حتى أنشئت كليات للحقوق في أكثر البلاد
1 الآشورية: نسبة إلى الآشوريين، وهم الشعوب التي استوطنت العراق وما حوله من بلاد الأكراد قبل الميلاد بقرابة ألف ومائتي عام، وأقاموا دولة واسعة.
انظر: الموسوعة الثقافية د. حسين سعيد ص91، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر-القاهرة 1972م.
2 الفينيقية: نسبة إلى الفينيقيين، وهم الشعوب التي سكنت لبنان وسواحل بلاد الشام قبل الميلاد بقرابة ألفي عام.
انظر: نفس المصدر ص539.
3 الفرعونية: نسبة إلى الفراعنة، وهم ملوك مصر القدامى، الذين حكموا مصر قبل الميلاد، بأكثر من ألف سنة.
انظر: المصدر 712.
والمراد حضارة الدول التي حكمها الفراعنة في مصر والتي ينسب إليها بناء الأهرامات، وكثير من الآثار العمرانية الموجودة الآن.
الإسلامية، ويدرس القانون الروماني والقانون الفرنسي وغيرهما من القوانين الأجنبية، ولا تدرس الشريعة الإسلامية إلا في زاوية من زواياها وهي الأحوال الشخصية فقط، أما حقائق الشريعة الإسلامية وتشريعاتها المختلفة فلا نعلم عنها شيئاً، ونجهل حتى أبسط مبادئها وأحكامها.
12-
ومنا إضعاف سلطان الإسلام في نفوس المسلمين، ويقوم هذا الأسلوب على السخرية بعلماء الدين، وتصويرهم بصورة الجهلاء، الجامدين تارة، والمنافقين المستغلين لسلطان وظائفهم ونفوذهم تارة أخرى، وبت الإشاعات ونشر الاتهامات المختلفة حولهم لتقليص نفوذهم وسيطرتهم على نفوس المسلمين. ولقد نجح الأعداء إلى حد كبير في الحقبة الأخيرة من هذا القرن، حتى شوهوا سمعة العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين وتكتسب منهم الدعوة، ويقتبس منهم نور الإسلام وحقائقه، حتى زهدوا الناس في طلب العلم الديني، وأصبح العالم الإسلامي اليوم لا يشكو نقصاً في شيء، كما يشكو النقص في علماء الدين في معظم ديار الإسلام.
13-
ومن هذه المخططات تشويه حقائق الإسلام ووضع الإسلام في قفص الاتهام، والتركيز على القرآن الكريم وتوجيه الهجوم عليه، وترجمته لغرض محاربته.
14-
ومنها توجيه الأدب والصحافة وجهة علمانية، لا دينية، والسيطرة على دور النشر والتوزيع، وإنشاء دور ضخمة للطباعة والنشر والتأليف، تتولى نشر ما يريد الاستعمار ورجاله في أوساط المسلمين، وقد
أنشئت فعلاً في بعض العواصم الإسلامية كثير من هذه الدور.
15-
ومنها تشويه التاريخ الإسلامي، والتشكيك في حوادثه، وإبراز الجوانب الضعيفة أو المؤسفة فيه.. كما فعل كثير من المستشرقين في هذا الميدان حتى أشبعوا شبابنا حقداً على الإسلام، وكرّهوهم ونفّروهم من تراثهم وتاريخهم.
16-
ومن هذه المخططات إنشاء المذاهب والمبادئ الهدامة، كالماسونية1 والبهائية2 والقاديانية3 وغيرها، وإشغال المسلمين بها
1 الماسونية: منظمة يهودية سرية إرهابية، غامضة محكمة التنظيم، تهدف إلى ضمان سيطرة اليهود على العالم، وتدعو إلى الإلحاد والإباحية، والفساد، وجل أعضائها من الشخصيات المرموقة في العالم، يوثقهم عهد بحفظ الأسرار، ويقومون بما يسمى بالمحافل للتجمع والتخطيط والتكليف بالمهام.
انظر: الموسوعة الميسّرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص449-453، واليهودية لأحمد شلبي 325-330.
2 البهائية: حركة أسسها المرزا على محمد رضا الشيرازي عام 1260هـ، تحت رعاية الاستعمار الروسي، واليهودية العالمية، والاستعمار الإنجليزي بهدف إفساد العقيدة وتفكيك وحدة المسلمين، وصرفهم عن قضاياهم المعاصرة.
انظر: المرجعين السابقين. الموسوعة الميسرة ص63-65، واليهودية ص349-358.
3 القاديانية: حركة أسسها مرزا غلام أحمد القادياني عام 1900 في القارة الهندية، بتخطيط من الاستعمار الإنجليزي، وتهدف إلى إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص حتى لا يواجهوا المستعمر.
انظر: الموسوعة الميسرة ص389-391، والمخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام ص354-359.
وإخراجهم من دينهم بزعامات فارغة، يوجهها رجال من الشرق والغرب وهم جميعاً أعداء الإسلام.
17-
ومنها العمل على إلغاء الخلافة الإسلامية، وتفريق كلمة المسلمين وجعلهم أمماً وشعوباً مختلفة، بعد أن كانوا تحت لواء الخلافة أمة واحدة.
18-
ومنها العمل على إفساد المرأة المسلمة، ثم إخراجها باسم الثقافة والحرية والديمقراطية1 سافرة ومتبرجة، وجعلها أحبولة الفساد في المجتمعات الإسلامية، ومن ثم تعطيل الأسرة، وهدم كيان المجتمع الإسلامي.
19-
ومنها محاربة اللغة العربية الأصلية، والدعوة إلى العامية، أو الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية، لقطع الصلة بين ماضي المسلمين وحاضرهم، وضياع كنوزهم العلمية التي تركها سلفهم الصالح، وكانوا بها خير أمة أخرجت للناس.
1 الديمقراطية: كلمة من أصل يوناني –معناها حكم الشعب-، وتنصرف إلى كل نظام سياسي يكون الشعب فيه مصدر السلطة والتشريع، وصاحب السيادة.
انظر: الموسوعة الثقافية ص466.
20-
اتفاق الاستعمار والصهيونية1 العالمية على مكافحة الإسلام، ووضع قدم للاستعمار في فلسطين قلب البلاد الإسلامية بواسطة اليهود، وباسم العطف على قضاياهم وشعبهم المنكوب، وتحويل قضية فلسطين من قضية إسلامية مقدسة، إلى قضية قومية لا ارتباط لها بالإسلام؛ وحربهم لنا في القدس إنما هي امتداد للحروب الصليبية.
21-
ومن هذه المخططات وأهمها وأخطرها إحياء العاطفة القومية وإثارة النعرات القومية بين المسلمين.
وبعد هذا الاستعراض الموجز لأهم مخططات الاستعمار الصليبي، لهدم الإسلام، أرى أنه ينبغي الوقوف عند نقطة هامة، وهي ما ورد في رقم 20 من الإشارة إلى اتفاق الاستعمار والصهيونية العالمية على مكافحة الإسلام.
وهذا الاتفاق ما تم إلا بعد التقاء المصالح اليهودية، والصليبية والذي
1 الصهيونية: هي حركة يهودية سياسية، عنصرية دينية، تهدف إلى جمع الملايين من يهود العالم في كيان يهودي قومي في فلسطين، استناداً إلى مزاعم تاريخية، ودينية، واتخاذ فلسطين نقطة انطلاق لدولة كبيرة تمتد من الفرات إلى النيل، ومن ثم تكوين إمبراطورية صهيونية عالمية، تكون وريثة للحضارة الغربية.
انظر: حاضر العالم الإسلامي د. جميل المصري 1/84، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص321، الندوة العالمية للشباب الإسلامي الرياض ط: الثانية 1409هـ.
تم بعد أن استطاع المحتكرون والفلاسفة اليهود، السيطرة على الاقتصاد والفكر الأوربي، فوجهوه وجهة تتلاءم مع مخططاتهم التي وضعوها لإفساد العالم تمهيداً للسيطرة عليه وإقامة دولة اليهود الكبرى1، كما ورد ذلك في تعاليم التلمود2 والبروتوكولات الصهيونية3.
1 انظر: حاضر العالم الإسلامي د. جميل المصري 1/87، 88.، والإسلام والدعوات الهدامة أنور الجندي ص109-11 دار الكتاب اللبناني، ط: الأولى.
2 التلمود: معناه في اللغة العبرية التعاليم، وهو علم على ثاني كتب اليهود بعد التوراة، وهو يجمع بزعمهم التعاليم الشفهية للديانة اليهودية التي يسمونها "المشناة" وشروحها المسماة "جمارا"، وهي تشتمل على كثير من المبادئ الهدامة التي أنكرها عيسى بن مريم عليه السلام.
انظر: التلمود، تاريخه وتعاليمه، ظفر الإسلام خان دار النفائس، بيروت ط: السابعة 1405هـ، واليهودية أحمد شلبي ص265 مكتبة النهضة، القاهرة ط: السابعة 1984م.
3 اشتهرت باسم بروتوكولات حكماء صهيون، وهي عبارة عن محاضر جلسات أو قرارات اتخذها المخططون اليهود في مؤتمر بال الذي عقد سنة 1897م بسويسرا سرقت بعض هذه البروتوكولات من مكتب أحد زعماء اليهود في وكر الماسونية بباريس، ونشرت لأول مرة عام 1902م، وهي عبارة عن مخططات شريرة لهدم كل ما عند الأمم غير اليهودية من الخير والفضيلة، والتخطيط لسيطرة اليهود على وسائل النفوذ والضغط والتأثير تحقيقاً لهذا الغرض، وتمهيداً لإقامة دولة اليهود الكبرى التي تسيطر على العالم.
انظر: بروتوكولات حكماء صهيون، واليهودية لأحمد شلبي ص272-268.
وأرى من المناسب أن أذكر أهم المخططات اليهودية لتتبين شدة الهجمة الفكرية الموجهة إلى الإسلام، ومدى التوافق بين التخطيط الصليبي الاستعماري، واليهودي الصهيوني، وقد لخص أهم هذه المخططات صاحب كتاب الإسلام والدعوات الهدامة وسوف أذكر منها ما له صلة بكيد اليهود ضد الإسلام خاصة، فمن ذلك1:
1-
محاربة الأديان بصورة عامة، وبث روح الإلحاد والإباحية بين الشعوب، والغض من قدْر وقدرة العلماء والمتخصصين في العقائد والأديان.
2-
تدمير القوى البشرية، ومعنويات الأمم، واستذلالها واستعبادها.
3-
السيطرة على الشباب والأطفال من أول الغايات، وتنشئتهم على الكذب، والتمويه والمخادعة وعلى الأنانية، وحب المنفعة والسعي وراءها بكل الطرق، وكسر سلطة الآباء عليهم، والاستعانة على ذلك بالأندية، والفرق الرياضية الموسيقية والفن.
4-
إشعال الثورات والفتن والاضطرابات، وإنفاق الأموال الطائلة في سبيل الأغراض الهدامة.
5-
إيجاد جيل من العلمانيين في العالم، لمعالجة القضايا على أساس مادي وإبعاد الآثار العقائدية والدينية عن مخططات السياسة والاجتماع.
1 نقلاً بتصرف عن كتاب الإسلام والدعوات الهدامة، أنور الجندي ص104-111.
6-
التركيز على المذاهب والفلسفات، وبث الدعاية للمبادئ المستقاة منها –والتي تحارب الدين- وتسميتها بأسماء جذابة كعلم السياسة، والاجتماع والاقتصاد بحيث تسود هذه المبادئ على تعاليم الدين.
7-
التركيز على المرأة، والدعوة إلى تحريرها، ونزعها من الدين والأسرة واجتذابها إلى المرقص والمحافل، وتدمير الأسرة، وإفراد الرجل من عائلته وإفساد أخلاقه، وترغيبه في المعيشة المتفلّتة.
8-
الدعوة إلى التعليم العلماني اللاديني، الذي يفسد قلوب الشباب، ويغرس مقوّمات الرذيلة، واقتلاع العفة من عقول الفتيات، ويجهر فيه بالإلحاد وإنكار الخالق تبارك وتعالى.
9-
التحريض على الفساد: عن طريق الثقافة، والصحافة، وذلك بنشر الروايات والصور الخليعة، والأغاني البذيئة، ونشر الخرافات، وإشاعة الأدب المكشوف الإباحي، وتسهيل أسبابه عن طريق نشر الرذائل والخمر، ومحلات البغاء والملاهي.
10-
إحياء الوثنيات القديمة، ومحاربة تعاليم الدين.
11-
الترويج للفلسفات المادية، وبناء جميع العلوم على أساسها، وتمجيد العقل، والزعم بأن العلم العقلي هو الأساس الوحيد لكل معتقد، ورفض كل عقيدة بُنيت على أساس الوحي، والدعوة إلى الإلحاد عن طريق حرية العقيدة.
12-
السيطرة قدر الإمكان على الإعلام والتعليم، ودور النشر ووكالات الأنباء، واستخدامها في إثارة الرأي العام، وإفساد الأخلاق، وتحطيم الأسرة، لتسود عبادة المال والشهوات.
وقد استخدم اليهود لتنفيذ هذه المخططات عدة أساليب منها:
1-
احتكار المال والصناعات الحساسة، فكثير من البنوك والشركات الكبيرة، وأسواق الأسهم والمال العالمية، بأيديهم، مما يمكّنهم من الضغط غير المباشر على رجال السياسة، بل والتأثير في مجريات الانتخابات في الدول الديمقراطية.
2-
عن طريق المنظمات السرية والعلنية، ومن أشهرها وأخطرها الماسونية، وهي تسمى عند كثير من الباحثين حكومة العالم الخفية، وذلك أنها تؤثر في مجريات الأحداث عن طريق أتباعها الموجودين في جميع الدول تقريباً، والذين يتقلد بعضهم مناصب حساسة، فمنهم: الوزراء والقضاة، وضباط في الجيش، والشرطة، والمباحث، بل ومنهم رؤساء بعض الدول، ورجال الفكر، وغير ذلك من المراكز الحساسة التي لها تأثير في توجيه الشعوب سياسياً واقتصادياً وفكرياً.
3-
عن طريق وسائل الإعلام.
فلقد أدرك اليهود في الوقت الذي أصدروا فيه بروتوكولاتهم الصهيونية في آخر القرن التاسع عشر، أهمية الإعلام المتمثلة في ذلك الوقت في الأدب والصحافة، وأنهما أعظم قوتين تعليميتين –كما قالوا-،
لذلك قرروا شراء العدد الأكبر من الصحف الدورية –وهدفهم من ذلك الظفر بالسلطان الكبير جداً على العقل الإنساني1، وأن لا يصل طرف خبر إلى المجتمع من غير موافقتهم2.
وخططوا لنشر كتب رخيصة الثمن لتعليم العامة، وتوجيه عقولهم الاتجاهات التي يرغبونها3، لكي يتمكّنوا من إثارة عقل الشعب متى أرادوا وتهدئته إذا أرادوا4، والظفر بإرادة المجتمعات غير اليهودية إلى حد أنها لا ترى أمور العالم إلا بالمناظير الملونة، التي يضعها الإعلام على عيونها5.
وقرروا استخدام الإعلام لإلهاء الشعوب، عن طريق الإعلان في الصحف وغيرها من وسائل الإعلان داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى في مجالات: الفن والرياضة وما إليها، هذه المتع التي ستلهي ذهن الشعب حتماً.
وحالما يفقد الشعب تدريجياً نعمة التفكير في المستقبل بنفسه،
1 انظر: بروتوكولات حكماء صهيون ص92، الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، ط: الأولى 1403هـ.
2 نفس المصدر السابق ص89.
3 المصدر السابق ص91.
4 نفس المصدر ص95.
5 نفس المصدر ص90.
سيهتف جميعاً معنا –على حد قولهم1.
ومن ذلك استخدام الإعلام في توجيه العقل العام نحو كل نوع من النظريات المبهرجة، التي يمكن أن تبدو تقدمية وتحررية2.
والنتيجة النهائية التي يطمحون إليها من وراء السيطرة على الإعلام، هي إثمار الملحدين وتحطيم كل عقائد الأديان3.
ومن أجل هذا الغرض سعى اليهود إلى شراء وإنشاء آلاف الشبكات التلفزيونية في أنحاء العالم، وسيطروا على محطات الإذاعة العالمية، وامتلكوا عشرات الآلاف من الصحف والمجلات وغيرها من الدوريات4.
ولم يكتفوا بذلك بل احتكروا معظم دور النشر الفعالة في العالم، وأوجدوا لهم نفوذاً وضغوطاً على ما لا يملكونه منها5.
واهتموا بشكل خاص بوكالات الأنباء، فأكثرها وأهمها بأيديهم، كما ركزوا على السيطرة على صناعة السينما والتلفزيون، والمسرح
1 نفس المصدر السابق ص100.
2 نفس المصدر السابق ص100.
3 المصدر السابق ص101.
4 النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية، فؤاد بن سيد عبد الرحمن الرفاعي، 11، 14، 20 دار السياسة، الكويت، ط: الأولى 1407هـ.
5 المصدر السابق ص3، وانظر: اليهودية لأحمد شلبي ص212، 213.
والثقافة، والإعلان التجاري1.
وقد ساعدهم على ذلك التقاء مصالحهم مع مصالح الغرب الصليبي، في حرب الإسلام، والسعي إلى السيطرة العالمية، وتحويل العالم جميعاً إلى أنماط الحضارة الغربية. فتساعد الفريقان على تسخير الإعلام وغيره من الأساليب في تحقيق هذه الأغراض.
والحق أن جهود أعداء الإسلام من الصليبيين الحاقدين، واليهود الصهاينة المفسدين، نجحت نجاحاً لم يكن يخطر لهم على بال، فتغلغلت تلك الأفكار الجاهلية والمبادئ الغربية والقيم الإباحية تغلغلاً مفزعاً في معظم المجتمعات الإسلامية.
وقد ساعد على نجاحها عدة عوامل، نجملها فيما يلي:
1-
ضعف الأمة الإسلامية في وقت المجابهة الفكرية الحديثة، نتيجة للانحراف الخطير في مفهوم الإيمان، وسوء المعتقد، وانتشار الفرق المخالفة والبدع.
كل ذلك كان من آثار الجهود القديمة التي أثرت فيه وترسبت واختمرت حتى أصبح ينظر إليها عند كثير ممن ينتسب إلى الإسلام أنها هي الإسلام.
2-
قوة التخطيط ودقته وشموله، وتظافر جهود أعداء الله من اليهود
1 النفوذ اليهودي ص36-65.
والنصارى والشيوعيين، والمنافقين على تنفيذه.
3-
أن هذه الجهود الفكرية الحاقدة جاءت من القوي المنتصر الذي امتلك كثيراً من زخارف الحياة الدنيا ومتعها ومغرياتها، وتقدم في العلوم الدنيوية، وبرع في الصناعة مما جعل الكثير من الناس –وخاصة الشباب- ينساق إلى فكره وينخدع بزخرف قوله.
4-
وقوع كثير من الدول الإسلامية تحت الاستعمار الصليبي، أو الشيوعي المباشر حيث فرض عليه الفكر الهدام فرضاً، وأبعد الإسلام عن نواحي الحياة، وشنت عليه حرب في كل الميادين، وبخاصة الحكومات الشيوعية التي فرضت الأفكار الإلحادية وربت عليها أجيالاً، خلال وقوع كثير من البلاد الإسلامية تحت الحكم الشيوعي، الروسي والصيني لعشرات السنين.
واستمر ذلك بعد الاستقلال، حيث وقعت معظم الشعوب الإسلامية تحت حكومات إن لم تكن أسوأ من الاستعمار، فليست بأحسن منه.
5-
تقدم وسائل الإعلام وامتلاك قوى الشر لزمامها.
لقد تقدمت الوسائل الإعلامية تقدماً مذهلاً، ومن المؤسف أن ذلك تم على أيدي أعداء الإيمان ومن أجل تنفيذ أغراضهم.
فتطورت الطباعة وتنوعت أساليب النشر، وتقدم البث الإذاعي والتلفزيوني بعد استخدام الأقمار الصناعية، وتطورت بشكل خطير جداً صناعة الأفلام والمواد التلفزيونية، واخترع الفيديو الذي سهل إلى حد
كبير جهود المفسدين.
وها نحن هذه الأيام نعيش بداية طامة إعلامية كبرى، أقضَّت مضاجع الغيورين على هذا الدين، وأدخلت الوحشة في قلوب المؤمنين، ألا وهي البث المباشر1.
إنها ولا شك أكبر إنجاز يتحقق للشيطان في هذا العصر.
وليست الخطورة في الوسيلة، وإنما الخطورة تكمن في كونها بأيدي المفسدين حزب إبليس اللعين.
فهي ولا شك سلاح قوي فعال، لو كان بأيدي أهل الحق لكان قوة لهم على دعوتهم، وسعيهم للإصلاح في الأرض.
وامتلاك الجاهلين لها يؤذن بشر عظيم، وخطر جسيم يتهدد عقائد المسلمين، وسلوكهم وأخلاقهم، وكل قيم الخير والفضيلة، بل ويهدف في الصميم إلى اقتلاع الإيمان من الأرض اقتلاعاً ومحو رسومه.
قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
1 البث المباشر: "هو قيام الأقمار الصناعية بالتقاط البث التلفزيوني في بلد من البلدان، وبثه مباشرة إلى أماكن أخرى تبعد عن مكان البث الأصلي مسافات بعيدة تحول دون التقاط البث دون وسيط". البث المباشر حقائق وأرقام د. ناصر بن سليمان العمر ص22، دار الوطن الرياض، ط: الأولى 1412هـ.
وهو تعبير يطلق ويراد به غالباً بث الدول الكافرة المنحلة أخلاقياً واجتماعياً، كالدول الأوربية ومن في حكمها لبرامجها التلفزيونية مباشرة إلى الدول الإسلامية.
اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وسوف تكون معظم مواد هذا البث –كما هو في قرارات المشرفين عليه- في خدمة الدول التي تسعى إلى السيطرة على العالم، والصهيونية العالمية التي تخطط لإقامة الدولة اليهودية الكبرى، والمنصّرين الذين ملؤوا الدنيا جعجعة وصراخاً مبشرين بالتثليث، وتأليه البشر، والكفر بالله.
وقد عقدت مؤتمرات لدراسة كيفية الاستفادة من البث المباشر في التنصير1، كما سيكون فيها لدعاة الإباحية، ونشر الفاحشة والرذيلة حظاً وافراً.
وخلاصة القول:
أن الغزو الفكري الحديث أحدث انقلاباً جذرياً في حياة المسلمين، في معظم البلاد الإسلامية، وابتعد بكثير منهم عن الطريق المستقيم، وهذا الخطر ما يزال يزحف ويشتد، والمكر يتعاظم ويتنامى.
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين} [الأنفال:30] .
وكان من أبرز آثاره:"تحطيم مظلة الأعراف الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية، فانطلقت تسري في أوصالها كل موبقات الحضارة الأوربية،
1 انظر: البث المباشر حقائق وأرقام 54.
حتى وصلت في ظل الاحتلال إلى مرحلة الشيوع والظهور، ثم إلى مرتبة الاستقرار والاستحسان، ثم درجة الشرعية1 التي تحميها القوانين الوافدة وتدرّج بالمغلوبين الانحلال، بداية بالسلوك الفردي فالانحراف الجماعي عن نهج الدين، واستهوت مظاهر الحياة الغربية الناس، فأقبل كثير منهم على الخمور والفجور، والقمار والربا، ونحو ذلك، ثم دب دبيب التهاون في الدين، فتناول العبادات والعقائد وغيرها، فتكاسل الناس عن أداء العبادات، وانتشر في الجو ضروب من الفلسفة، والمذاهب الضالة، واستمالت الشباب وغير الشباب، وصارت العلاقات الجنسية والنزعة الإباحية الشغل الشاغل للسينما، وكثير من المجلات والصحف.. فانحرف الشباب وفسدت روابط الأسرة2، إلا من رحم الله.
وقد عمّ السيل وطمّ، بانهيار الفضائل الاجتماعية وغيرها، عندما
1 الشرعية: صفة تطلق على الأمر المتفق مع الشرع، والشريعة الحق هي: شريعة الله، إلا أنه غلب إطلاقها على كل أمر أو قرار يتفق مع القوانين السائدة المعتبرة في بلاد ما، فيكون شرعياً إذا وافقها، وغير شرعي إذا خالفها، ثم أطلق اصطلاح "الشرعية الدولية" ويراد به الأمور والقرارات الصادر عن هيئة الأمم المتحدة.
إلا أنه لا يجوز للمسلم وصف قرار بأنه شرعي إلا إذا كان متفقاً مع الشرع الإلهي المطهر، أما ما شرعته القوانين الوضعية، فهو وضعي باطل، ولو سمي شرعياً، فالمسلم لا يرى شرعياً إلا ما شرعه الله وأقره. والله أعلم.
2 حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة ص165.
شهد العالم الإسلامي تغيراً اجتماعياً استجابة لدعوات التغريب1 على يد المستعمرين ومؤسساتهم التبشيرية والاستشراقية
…
ولكنه وِفْق الأسلوب الجديد، أصبح يتم على أيدي المسلمين أنفسهم من تلاميذ المستشرقين والمبتعثين، يساندهم في تنفيذ هذا المخطط بعض الحكام من المسلمين"2.
كما أثمرت جهود المنصرين تنصير كثير من أبناء المسلمين الذي درسوا في مدارسهم، أو ألجأتهم الحاجة أو الإعجاب إلى اتباع دين النصارى؛ كما اعتقد كثير من المنتسبين إلى الإسلام الأفكار الكافرة، كالفكرة الشيوعية، أو القومية البعثية، أو العلمانية، أو غير ذلك من الفلسفات الضالة.
وكثمرة لتشجيع المستعمرين ازدهرت المظاهر الوثنية، من عبادة القبور والحج إلى المشاهد، والطرق الصوفية الضالة التي استحوذت على كثير ممن لديهم نزعة إلى التدين في كثير من البلاد الإسلامية.
1 التغريب: مصدر تفعيل من غَرَّب يغرب تغريباً، وهو مشتق من الغرب، أي: الدول الغربية الأوربية والأمريكية، ومن في حكمها.
ويراد بالتغريب: تغيير قيم الأمة ومُثلها، أي تغيير عقيدتها وثقافتها وأخلاقها، وإبعاد المسلمين عن دينهم باسم المدنية، أو التطور أو التقدم، وإحلال ما يقابل ذلك في الحضارة الغربية.
انظر: المصدر السابق ص165 بتصرف.
2 نفس المصدر والصفحة.
أما الاقتصاد في العالم الإسلامي، فقد أسس تأسيساً كاملاً على الربا، وعلى نظريات ونظام الغرب الرأسمالي، أو الشرق الاشتراكي الشيوعي، وأصبح موجهاً ومرتبطاً بالدول الاستعمارية، أو المنظمات الاقتصادية العالمية والتي هي في الحقيقة يد خفية للاستعمار.
أما الناحية السياسية فقد توزع العالم الإسلامي إلى دويلات، ومناطق نفوذ اقتسمتها الدول الاستعمارية الغربية أو الشرقية، واستبعد الحكم بالشريعة الإسلامية من جميع البلاد الإسلامية إلا من رحم الله، وحورب محاربة شديدة، وأصبح الخلاف والخصام سمة مميزة للدول الإسلامية في علاقتها فيما بينها.
وفقد المسلمون الكثير من بلادهم، وحول كثير منها إلى دول نصرانية أو شيوعية، وأعطيت فلسطين قبلة المسلمين الأولى إلى شرار الخلق من اليهود الصهاينة، فهي حال تسر العدو وتدمي قلب المؤمن الغيور.
لكن مع هذا الكيد الخبيث الماكر الشديد الوطأة، ومع هذا النجاح الكبير الذي تحقق لأعداء الله، ومع الضعف والفرقة والانحراف في مجتمعات المسلمين، مع ذلك كله فالإسلام –والحمد لله- باق.
فهو في جانبه العلمي محفوظ بحفظ الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وما زالت طائفة من أهل الحق تلتزم به علما
وعملاً
…
دعوة وجهاداً، والأمل قبل ذلك منوط بعناية الله ورعايته. فالدين دينه..
والمؤمنون أولياؤه.. والناس خلقه وعبيده.. والأمر بيده.. وأمره نافذ لا يحول دونه شيء.
فليس مكر الماكرين غائباً عن رب العالمين {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] .
ومكر الأعداء وكيدهم الجديد، وما عندهم من القوة والعدة والوسائل عظيم شديد، لا يُقدر عليه بالمقارنة بجهد البشر، وما عند المسلمين من الأسباب المادية، لكنه بإزاء قدرة الله لا يساوي شيئاً.
وقد جعل الله الدنيا ميدان صراع، ولا بد لأهل الحق أن يدخلوا الميدان ويقوموا بنصرة ما أكرمهم الله به من الحق، ويدافعوا عنه، ويعملوا على مقاومة الباطل ويستعينوا بالله، ويتوكلوا عليه ويحسنوا الظن به. وهو معهم سبحانه –إذا قاموا- يوفقهم للأسباب، ويبارك في المتيسر من أسبابهم ولو كان ضعيفاً، ويكمِّل ما نقص منها، ويخذل عدوهم، ويمدهم بنصره، ويهيئ لهم من رحمته ما لا يخطر لهم على بال! فالحق قليله كثير، والباطل كثيره قليل. والحق ظاهر، والباطل زاهق.
وكل ذلك مشروط بمجيء الحق وقيام أهله به، فإذا جاء الحق زهق الباطل بإذن الله وأمره {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] . {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] . {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] .
وفي كل وقت يشتد فيه الهجوم والتآمر على الإسلام، تخرج –والحمد لله- بشارات تدل على عناية الله بهذا الدين. ومن ذلك ما حصل في هذا الزمان، فقد ظهرت عدة مظاهر تبشر بالخير، من ذلك رجوع كثير من الناس رجالاً ونساء كهولاً وشباباً إلى الالتزام بالدين.
ودفع الإحساس بالخطر الكثير من العلماء وطلبة العلم والدعاة الصالحين من الأدباء والشعراء، والغيورين من الموسرين إلى الاهتمام ومضاعفة الجهد، في تعليم الناس وتوعيتهم، وطبع الكتب النافعة، ودعم الأشرطة المفيدة، واستخدام كل سبيل متاح مشروع، في مقاومة أعداء الله ومخططاتهم.
ووجد وعي كبير بضرورة تطهير العقائد، وإزالة البدع، والرجوع إلى الفهم الصحيح للإيمان. وازدادت المطالبة من الشعوب الإسلامية بتحكيم شرع الله، ورفض حكم الطاغوت.
والتزم كثير من النساء بالحجاب، وازداد الإقبال على الجامعات
والمعاهد الإسلامية إقبالاً شديداً، وزاد الطلب على الكتاب والشريط الإسلامي، بل وتنامى عدد مَن يعتنق الإسلام من غير المسلمين.
وشهد الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري قيام مؤسسات ومنظمات إسلامية عالمية وجامعات متقدمة، وهدف الجميع نشر الإسلام، والدفاع عنه، والتبصير بقضايا المسلمين في أنحاء العالم، والدفاع عنها، وكشف مخططات أعداء الله، والتحذير منها، وتشجيع البحوث التي تخدم هذه المجالات كلها. كما قامت جهود إعلامية، وهي وإن كانت متواضعة جداً بالمقارنة إلى ما عند العدو، إلا أنها مباركة، ظهر أثرها الفعال في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي، وهي تتنامى مع الأيام، ونرجو أن يتولاها الله بالرشد والسداد.
والمظاهر المباركة كثيرة والحمد لله، وذلك يدل على صلابة الإسلام في وجه الأعاصير ولو كانت شديدة، وما ذاك إلا بحفظ الله له، وأن الدين الخاتم لن يخلو منه زمان حتى يأتي أمر الله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ومن هذا الاستعراض الموجز للحرب الفكرية، القديمة والحديثة الموجهة إلى الإسلام نستخلص عدة نتائج هامة:
الأولى: شدة عداوة اليهود والنصارى والمشركين لهذا الدين، وسعيهم الخبيث ومكرهم المستمر الذي لا يفتر في مقاومته بكل الأساليب.
الثانية: تركيزهم على الحرب الفكرية، لإدراكهم خطورتها، وأنها السبيل الأمثل لحرب الإسلام، وتحطيم قيم الإيمان، وتزداد قناعتهم يوماً بعد يوما بذلك، بفعل النجاحات التي تتحقق لهم في مجال الغزو الفكري، لذلك فهم يحاولون بقدر الإمكان عدم اللجوء إلى الحرب العسكرية إلا عند الضرورة.
الثالثة: أنه يجب على أهل الإسلام مدارسة الكيفية التي يتصدون ويقاومون بها هذه الجهود الخطيرة، ولا شك أن هناك جهوداً مشكورة لكنها لم تتعد إلى الآن مجال التوعية، وبعض الأعمال الخيرية.. ولم تصل بعد إلى المستوى المطلوب، من إيجاد خطة متكاملة منسقة، يجتمع عليها العلماء والدعاة والقادة، وتتكاتف جهود أهل الإسلام على تنفيذها من منطلق قول الله تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36] .
الرابعة: أن أي وسيلة أو طريق يتبناه أهل الإسلام لمقاومة هذه الجهود الفكرية العدوانية لن يؤتيَ ثماره إلا إذا كانوا على حال توجب لهم ولاية الله، فيدخلون الميدان وقد تولاهم الله وأيدهم بنصره، وحيث أن الإيمان والتقوى هو السبيل الوحيد لتحصيل الولاية، فيكون الالتزام بالإيمان الصحيح هو الخطوة والسبب الأهم في مقاومة الفكر الهدام، والتخطيط الخبيث. مع أن للإيمان آثاراً أخرى –بجانب كونه سبباً لولاية
الله- تحصن الفرد والجماعات المؤمنة ضد الفكر الجاهلي.
وعلى هذا يكون هذا البحث مساهمة في تبيين أهم جوانب الخطة الإسلامية، التي ينبغي أن يهتم بها للتصدي للغزو الفكري، وتسليط للضوء على السبب الأول والأهم في هذا المجال، فأرجو من الله التوفيق والتسديد، والله المستعان.