الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: مظاهر ولاية الله للجماعة المؤمنة
الغرض من هذا المبحث بيان أهم مظاهر ولاية الله للجماعة المؤمنة التي التزمت شعائر الإيمان ظاهراً وباطناً.
وأكتفي في هذا المبحث بالإشارة المجملة لما ورد في بعض النصوص من ذكر عناية الله بالجماعة المؤمنة، وذلك لأنه سيأتي تفصيل الآثار الإيمانية –التي جعلها الله حصوناً تقي المجتمع من الشرور الفكرية وغيرها- في الباب الثالث الأثر الاجتماعي.
إن الجماعة المؤمنة تمر بأطوار مختلفة من حيث القوة والكثرة، أو الضعف والقلة، وعناية الله تلازمها في جميع أطوارها بشرط أن تأتي بشرط الولاية وهو نصرة دين الله، بتحقيق التوحيد والتقوى والعمل من أجل إعلاء كلمة الله في أرضه.
ففي بعض الأحوال يكون الضلال منتصراً، يمتلك أهله كثيراً من أسباب القوة والغلبة، وفي مقابل ذلك يكون أهل الإيمان ضعفاء مهزومين، أو أذلاء مقهورين، فقد شاء الله العليم بأحوال خلقه، الحكيم في كل ما قدره وفعله، أن تكون الحياة دولاً بين الناس {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}
[آل عمران:140] ومن ذلك أنه قدر أن يظهر الكفار على أهل الإسلام ويتسلطوا عليهم في فترة من الفترات، أو بقعة من البقاع، كما في العهد المكي، وما شابهه من الحالات في مسيرة الأمة إلى أن يأتي أمر الله. كما قدر في مرات أخرى ظهور أهل الإسلام إذا هم قاموا بشرط ذلك وعملوا ما في وسعهم واستطاعتهم لنصرة دينهم.
والمعركة مستمرة بين الخير والشر، والصراع قائم بين قُوى الإيمان وقُوى الطغيان، منذ أن خلق الله آدم وإلى أن يرث الأرض ومن عليها.
ومن طبيعة الشر أنه جامح مسلح، يبطش ولا يتحرج، ويضرب ولا يتورع، ويملك من أسباب الفتنة ما يصد به عن الحق، وقد يملك من القوة المادية والمغريات ما قد يزلزل القلوب، ويستهوي النفوس، ويزيغ الفِطَر، وللصبر حدود، وللاحتمال أمد، وللطاقة البشرية منتهى، والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم
…
ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة1.
فبين سبحانه أنه سيتولى الدفاع عنهم، إذا جاءوا بشرط الولاية، فقال:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] .
وهذه الآية الكريمة وردت في سياق ذكر فيه أولاً: الدفاع عن
1 انظر: في ظلال القرآن مجلد 5 ج17/601.
المؤمنين، ثم الإذن لهم بالقتال، ثم الوعد بنصرهم إذا جاؤوا بشرطه، ثم ذكر التمكين في الأرض، ثم الأعمال التي يتعين على الأمة التي تولاها الله أن تقيمها وتعمل على إقامتها في الأرض.
فدل هذا الترتيب على أهمية هذا المظهر العظيم من مظاهر ولاية الله، ألا وهو دفاعه عن المؤمنين، كما دل على أنه يستمر معهم في جميع حالاتهم.
ففي حال ضعفهم يثبتهم، ويعينهم على الصبر، ويقوي قلوبهم فلا يرتدون ولا يتشككون.
وعند وجود الشوكة، ومنازلة الأعداء، يتجلى دفاعه عنهم نصراً لهم ودفعاً لتسلط الأعداء عليهم.
وبعد انتصارهم وتمكينهم في الأرض يستمر دفاعه عنهم بخذلان أعدائهم، وإدخال الرعب في قلوبهم، وتفريق كلمتهم وكشف مخططاتهم السرية، كما يكون بصرف أسباب الضلال عنهم.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:38-41] .
فبين سبحانه أول السياق أنه سيتولى الدفاع عن المؤمنين {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} لأنهم جاؤوا بموجب ذلك، وهو الإيمان.
وأشار إلى أن أعداءهم قد جاؤوا بموجب المقت والخذلان، وهو الكفر والخيانة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} .
وأن عليهم أن يطمئنوا إلى دفاعه عنهم وولايته إياهم {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} لذلك شرع لهم قتال الكفار، وأذن لهم به، وهو من الأسباب التي جعلها الله لعباده المؤمنين، لمكافحة الباطل والدفاع عن الحق {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} .
ثم زادهم من البيان ما يوجب طمأنينة قلوبهم، إلى ولايته ودفاعه ونصره إذا التزموا أسباب ولايته {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} .
ثم ختم السياق بذكر أعمال صالحة هي: الصلاة، والصوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فدل ختم هذا السياق الذي ذكرت فيه
المدافعة والنصر والتمكين بهذه الأعمال على أهميتها في حصول ذلك واستمراره.
وإذا كان الله قد تكفل لعباده المؤمنين الذين جاؤوا بأسباب ولايته، بالمدافعة عنهم ونصرهم في حال قوتهم، ووجود شوكة لهم على العدو الظاهر وكيده السافر، فإنه من باب أولى أن يدافع عنهم في حال ضعفهم، أو في مقابلة الكيد الخفي الماكر، فتكون عنايته بهم في ذلك أشد، بحيث لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً يتمكنون به من إخراج المؤمن من دينه
…
قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] .
قال ابن كثير رحمه الله: "يحتمل أن المراد: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}
أي في الدنيا، بأن يُسلطوا عليهم استيلاء استئصال، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة"1.
وقال ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق
…
أن انتفاء السبيل عن أهل
1 تفسير القرآن العظيم 1/567.
الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله. فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفي عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهراً وباطناً"1.
وكلا المعنيين اللذين أوردهما ابن كثير وابن القيم –رحمهما الله- صحيح.
فانتفاء السبيل بالكلية لأهل الإيمان الكامل، فالإيمان جالب لولاية الله الموجبة حفظه عباده، وتحصينهم من شرور الكافرين، ومن نقص في تحقيق التقوى، كان ذلك ثغرة في الحصن، وسبيلاً للكافرين عليه، بقدر نقصه، كما أن معه من ولاية الله بقدر إيمانه، إلا أن هذا السبيل الذي فتح عليه لا يصل إلى الاستئصال الكامل للجماعة المؤمنة، بل يبقى لهم باقية يُحيون دين الله في أرضه، والعاقبة للمتقين، والله أعلم.
والله تبارك وتعالى عندما بين للمؤمنين أنه معهم يدافع عنهم، وينصرهم ويحبط كيد أعدائهم، بيّن لهم بنفس الوضوح ما يريده منهم من الأمور التي جعلها أسباباً لحصول ذلك، فقال: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا
1 إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان 2/263.
وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120] .
قال ابن جرير رحمه الله: "وإن تصبروا أيها المؤمنون على طاعة الله، واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه
…
وتتقوا ربكم
…
لا يضركم كيدهم شيئاً: أي كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم، ويعني بكيدهم: غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ومكرهم بهم، ليصدوهم عن الهدى وسبيل الحق"1.
وخلاصة القول: إن لله بعباده المؤمنين –الذين حققوا الإيمان الذي أراده منهم وبين معالمه لهم- ألطافاً جلية وخفية، فهو يحوطهم بتوفيقه وعنايته ورعايته، ويهديهم إلى ما فيه صلاح دينهم، ويثبتهم على صراطه المستقيم، ويخرجهم من ظلمات الكفر والشرك والنفاق والبدع والعصيان، بما أنزل عليهم من العلم والبيان، وبما يحدثه في قلوبهم من نور الإيمان والبصيرة، وبتهيئة الأسباب التي تصرفهم عن الباطل أو تصرفه عنهم، وهو –سبحانه- دائماً معهم، يدافع عنهم في جميع أحوالهم، أفراداً كانوا أو جماعات.
فولاية الله لعباده هي أعلى المصالح التي يستفيدها المؤمنون من تحقيق الإيمان، وهي الخطوة الأولى التي يجب أن يسعى إليها المؤمنون في مجابهة المخططات الفكرية، أو الخلاص منها، وفي مجابهة كل أساليب الأعداء،
1 جامع البيان لابن جرير 4/44.
فهي حصن عظيم يحصن الله به عباده من كل مكروه. لكن شرطها قوي يحتاج من أئمة الدين وقواد المسلمين إلى العمل الجاد المشترك في استخلاص الأسباب الجالبة لولاية الله من الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، ثم إعداد الخطط المناسبة لحمل الناس على المجيء بها، والصدق في تنفيذ تلك الخطط.
وبهذا ينتهي ما يسره الله لي من الحديث عن الأثر الأول والأهم من آثار الإيمان في مجابهة الأفكار الهدامة. والله أعلم.