الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: العلاقة بين الوظائف القلبية
تبين مما تقدم أنه يقوم بالقلب أهم الوظائف الإنسانية -المؤثرة في الهداية أو الضلال- وهي: التعقل والاعتقادات، والإرادات الموجهة، والعواطف والانفعالات.
وبينها ترابط وثيق، وتلازم دقيق، مع أن لكل منها دوره في التلقي من الحواس، أو التأثير في نشاط الإنسان.
ومعلوم أن سلوك الإنسان وعمله الظاهر يبدأ بالإرادة، ويشترط له القدرة وتهيؤ الأسباب، إلا أن الإرادة قبل أن تحدث وتتبلور تمر بمراحل، وتخضع لمؤثرات قلبية، حتى تخرج في صورتها النهائية قاصدة فعلاً معيناً، وهدفاً محدداً.
فالإرادة تتأثر بأربعة وظائف، هي:
الدوافع الفطرية، والعواطف، والعقائد، والانفعالات وكل منها له أثره في حصول إرادات الإنسان المختلفة، كما قد تشترك وظيفتان أو أكثر في حصول إرادة معينة.
والمقصود بيان أثر كل وظيفة منها على الإرادة من حيث وجودها أو توجيهها، ثم بيان أثر هذه الوظائف في بعضها البعض، ليسهل بعد ذلك -بعون الله تعالى- بيان أثر الإيمان في تكون هذه الوظائف وتوجيهها
الوجهة السليمة الصالحة، وتحصن القلب به وبآثاره من الأفكار الهدامة، وما يتفرع منها.
فالدوافع الفطرية هي: استعدادات يولد الفرد مزوداً بها، وهي حاجات تتصل بأعضاء الجسم الداخلية، كالجوع والعطش، والإخراج والتعب، والحاجة الجنسية1.
فيقوم بالقلب إرادة مع كل دافع من هذه الدوافع.
أما العواطف فهي انفعالات قلبية ثابتة مكتسبة كما تقدم نحو أمر معين، تدفع القلب إلى إرادة سلوك معين نحو من توجهت له العاطفة إما سلباً أو إيجاباً.
فالعواطف هي هوى القلب ورغباته.
فعاطفة الحب تدفع إلى الاتصال بالمحبوب، والتعلق به، وفعل ما يرضيه.
وعاطفة الكراهية تدفع القلب إلى النفور من المكروه، والتخلص منه، وفعل كل ما يبعد عنه.
أما العقائد فلها تأثير عظيم على الإرادة، حتى أن البعض فسر الإرادة بالميل الناتج عن عقيدة، فقال:
1 الإنسان في الإسلام والإنسان المعاصر، عبد الغني عبود ص48، 49 دار الفكر العربي، ط الأولى 1978م.
"هي ميل يتبع اعتقاد النفع أو ظنه، فإنّا نجد من أنفسنا بعد اعتقاد أن الفعل الفلاني فيه جلب نفع أو دفع ضر، ميلاً إليه مترتب على ذلك الاعتقاد، وهذا الميل مغاير للعلم بالنفع ودفع الضرر ضرورة
…
" 1.
وهذا التعريف لا يصلح تعريفاً للإرادة البشرية مطلقاً، وذلك أن الإرادة قد تكون منبعثة من الاعتقادات، أو من العواطف والهوى، أو من الانفعال، وعليه فهو تعريف لنوع من الإرادات.
كما أني أرى أنه يصلح لتعريف إرادة نوع من الناس، وهم المؤمنون كاملو الإيمان، الذي اتفقت عواطفهم وانفعالاتهم مع عقائدهم.
أما الانفعالات فأثرها على الإرادة واضح، وذلك أن الانفعال تهيؤ في النفس يدفع إلى سلوك معين يتناسب مع مهيجات الانفعال.
فالانفعال الذي يقوم بالقلب -مثلاً- عند رؤية من يفعل المنكر أو الضار، أو من يترك المعروف أو النافع، يوجه الإرادة نحو سلوك مناسب تقتضيه طبيعة الإصلاح.
ورؤية الأسد -مثلاً ينتج عنها انفعال خوف يتولد عنه إرادة الهروب، ورؤية المنقطع قافلة مارة ينتج عنها انفعال فرح واستبشار يتولد عنه إرادة طلبها واللحاق بها.
1 كشاف اصطلاحات الفنون، المولوي محمد علي التهانوي 1/553، دار قهرمان للنشر والتوزيع، استانبول ط:2، 1404هـ.
والانفعال الحاد الشديد ينتج عنه -في الغالب- إرادة فعل سيئ ضار. فالذي يغضب غضباً شديداً قد تتوجه إرادته إلى قتل نفسه، أو أحد أقاربه، أو الذي أغضبه، كما قد يطلق زوجته، أو يتلفظ بأقوال تعود عليه بالشر في دينه أو دنياه.
وكما أن الوظائف القلبية تؤثر في الإرادة، فإنها أيضاً يؤثر بعضها في بعض، فتوجه بعض الوظائف وظائف أخرى إلى وجهات تتفق معها.
وحال القلب في النهاية من حيث الصلاح أو ضده، متوقف على صلاح تلك الوظائف أو فسادها.
وذلك أن وظائف القلب خلقت متقلبة غير مجبرة على حال واحدة، بل هي قابلة للتوجه مع ما يتناسب مع الموجهات الواردة لها والمؤثرة فيها.
فإذا كانت تلك الموجهات صحيحة، وتجاوب القلب معها صلحت وظائفه وإراداته، فأصبح صالحاً، وإذا صلح صلح سائر عمله وأحواله، وإذا كانت الموجهات فاسدة، وتأثرت الوظائف القلبية بها وتغذت منها، فسد القلب، ففسد سلوك الإنسان وأحواله.
فالعلوم الواردة إلى القلب، أو جملة المشاهدات والمسموعات التي ينقلها السمع والبصر، هي السبب الأهم الذي جعله الله لتغذية وتوجيه وظائف القلب المختلفة.
والجسر الذي ينقلها إلى القلب هي وظيفة التعقل.
فالتعقل -الذي هو إعمال الفكر بما يورده السمع والبصر- تنتج
عنه العلوم والحكم والمعارف، وهذه إذا صدقها القلب وركن إليها أصبحت عقائد يتولد عنها عواطف.
فمثلاً: يعمل الإنسان فكره في تفهم كلام الله عز وجل، فيفيده ذلك علماً بأن الله لا إله إلا هو، فإذا صدق القلب بذلك وركن إليه أصبح عقيدة، يتولد منها عاطفه هي حب الله، ويتولد من ذلك كله إرادة التقرب إلى الله بطاعته.
فيكون الفكر والتعقل وما ينتج عنه من العلوم هو الخطوة الأولى والأساس لما يقوم بالقلب من التصورات والعقائد، والعواطف، والإرادات، والانفعالات، وما يكون في القلب هو الأساس لما يقوم بالجوارح من الأعمال الاختيارية.
قال ابن القيم رحمه الله مشيراً إلى تأثير الوظائف القلبية بعضها في بعض: "مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري، هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها"1.
وقال أيضاً رحمه الله: "أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر
1 كتاب الفوائد لابن القيم ص225.
مبدأ الإرادة والطلب في الزهد، والترك والحب والبغض" 1.
ويستخلص من ذلك:
إن العلوم الواردة من التفكر هي البانية للعقائد والتصورات، وبما يتفق معها تكون العواطف من المحبوبات والمكروهات. وإن العقائد والعواطف هي الموجهة للإرادات.
فالأصل أن الإنسان يحب ما يعتقد فيه النفع، ويكره ما فيه الضرر.
لكن قد يقترن بالنافع مكروه كالمشقة أو توقع الأذى، فيكره النافع لكراهية ما اقترن به، أو تتخلف الإرادة عنه، وكذلك قد يقترن بالضار محبوب، كراحة أو لذة، فيحبه وتتعلق إرادته به.
وقد بين الله هذا المعنى بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} البقرة:216] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات "2.
1 المصدر السابق ص255.
2 رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها، ح2823 4/2174، ورواه البخاري بلفظ:"حجبت" كتاب الرقاق، باب حجب النار بالشهوات ح6487 الصحيح مع الفتح 11/320.
وكما أن العقائد مؤثرة في الإرادة فهي أيضاً موجهة للانفعال، فالمؤمن -مثلاً- ينفعل منكراً محذراً إذا رأى من يخالف ما يعتقده معروفاً، أو رأى من يفعل ما يعتقد أنه منكر.
وكذلك العواطف موجهة للانفعال، فينفعل الإنسان مع من يحب شوقاً ومودة، كما ينفعل غضباً له إذا اعتدى عليه أو على حق من حقوقه.
كما أن الانفعال تختلف صفته بحسب العقيدة والعاطفة، فإذا نال الولد -مثلاً- مكروهاً من والده الذي يحبه ويحسن الظن به، ويعتقد أنه لا يريد به إلا الخير، كان انفعاله مختلفاً عن لو أصابه ذلك المكروه من شخص آخر لا يشعر نحوه بتلك العاطفة، ولا يعتقد فيه ذلك الاعتقاد.
وبهذا يتبين أثر العلم في تكون وتوجه العقائد والعواطف، وأثر العواطف والعقائد على الإرادات والانفعالات.
ومما يحسن التنبيه عليه أن العكس صحيح، أي أن العواطف والعقائد إذا استحكمت كان لها تأثير عظيم في توجيه الفكر والتعقل.
فالعقائد الباطلة إذا استحكمت في قلوب معتنقيها وألفوها صدفتهم عن تفهم ما يخالفها عموماً، وعن الحق خصوصاً، ولو فهموه وعرفوه أعرضوا عنه ولم يقبلوه.
وهذه خاصية نفسية للعقائد والعواطف الباطلة المستحكمة تشل القلب والفكر، فالباطل عقيم يميت القلب.
أما عقائد الحق وما يتبعها من عواطف طيبة، فإنها تحيي القلب وتخصبه وتكسبه ملكة وخاصية نفسية أخرى، وهي محبة الخير والبحث عنه وتقبله، كما أنها تحصنه من الباطل وتنفره منه.
وقد بين الله أثر العقائد والعواطف الباطلة في صرف أهلها عن العلم بالحق والعمل به، فقال:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} الجاثية:7-9] .
فبين تعالى أن هذا الأفاك الأثيم لا ينتفع بسماع آيات الله البينات، بل يصر على باطله، ويستكبر عن تفهم الحق والانقياد له، ولا يبالي به كحال الذي لا يسمع1.
وقد بين سبحانه -في موضع آخر- سبب هذا الموقف، وأنه استحكام العقائد الفاسدة، والأعمال السيئة في قلبه، حتى غطته وحجبته عن معرفة الحق والانقياد له، فقال تعالى:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 13، 14] .
1 انظر: التفسير الكبير للرازي 27/260، 261 بتصرف.
فبين تعالى أن ما كسبوه من العقائد الباطلة، والأفعال القبيحة ومداومتهم عليها، قد رانت على قلوبهم، أي رسخت فيها وغطتها حتى حجبت عنها الحق، وحالت بينها وبين رؤيته1.
ومن أمثلة ذلك ما قصه الله من حال بني إسرائيل الذي استحكمت فيهم عقيدة ألوهية العجل، ومحبتهم له فصرفتهم عن تدبر الحق والعمل به:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93] .
ومن آفات قلوبهم أيضاً الحسد، وهو عاطفة سائدة، تسيطر على القلب والعمل، فقال تعالى مبيناً اتصافهم به:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة: 109] .
من ذلك استحكام الوثنية في قلوب المشركين من كفار العرب، وتقليدهم لآبائهم فيها حملهم على عدم الرضوخ للحق علماً وعملاً:
1 انظر التفسبر الكبير للرازي 31/94 بتصرف.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] .
فكل ذلك يجمعه تكون العواطف -كحب الآلهة، أو حب الآباء، والإعجاب بهم، أو حب العادة والإلف- من العقائد، وقوة تلك العواطف بكثرة الاكتساب، حتى تصبح عواطف راسخة متمكنة من القلوب.
ومن العواطف السائدة التي تحجب القلوب عن العلم: الهوى. قال الله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] .
فبين الله تعالى في هذه الآية حال فريق من الناس، وما فعله بهم جزاء لتلك الحال:
بين حالهم بقوله: {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي سيطر عليه الهوى حتى صار معبوداً له.
"فيعبد ما هوي من شيء دون الإله الحق الذي له الألوهية من كل شيء"1.
1 جامع البيان لابن جرير 25/150.
وبين عقابه لهم على ذلك بقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
…
} .
"أي خذله عن محجة الطريق، وسبيل الرشاد في سابق علمه، علم منه بأنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية"1.
وعاقبهم أيضاً بأن منعهم من الانتفاع بموارد العلم التي هي السمع والبصر والقلب.
فدل على أن استحكام الهوى وهي العواطف الفاسدة
سبب الضلال ومانع من التعقل، والمعرفة السليمة.
وبهذا يتبين المقصود، وهو تأثير العواطف والعقائد على التعقل وتحصيل العلوم.
وخلاصة ما تقدم: أن العلم الوارد إلى القلب، هو الموجه الأول والمؤثر الأساس الباني -بإذن الله- للعقائد والعواطف، وللعقائد تأثير على العواطف، ولهما تأثير على الانفعالات.
كما تبين الأثر العكسي وهو تأثير العواطف والعقائد المستحكمة على التعقل واكتساب العلوم، والله أعلم.
وإذا تبين ذلك فإن الغرض هو معرفة أثر الإيمان على هذه الوظائف القلبية، وبحيث يقطع الصلة بينها وبين الأفكار المخالفة الضالة، وذلك ما سيجري الكلام عليه في الفصل الثاني والثالث، من هذا الباب -إن شاء الله تعالى.
1 المصدر السابق 25/150.