المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث: أثر الإيمان في تحصين القلب من الحقد والحسد - أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة - جـ ١

[عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الباب الأول: الإيمان سبب لتحصيل ولاية الله " الأثر الخارجي

-

- ‌الفصل الأول: صفات المستحقين لولاية الله

-

- ‌المبحث الأول: مراتب أهل الإيمان

- ‌المطلب الأول: بيان أصل الإيمان

- ‌المطلب الثاني: مرتبة الظالم لنفسه

- ‌المطلب الثالث: مرتبة المقتصد

- ‌المطلب الرابع: مرتبة السابق بالخيرات

- ‌المبحث الثاني: أهل ولاية الله

- ‌المبحث الثالث: العناية بأهم سبب لحصول الولاية

-

- ‌الفصل الثاني: أثر ولاية الله في تخليص المؤمنين وتحصينهم من الأفكار الهدامة

- ‌المبحث الأول: مظاهر ولاية الله لعبده المؤمن

- ‌المطلب الأول: إخراجه من الظلمات إلى النور

- ‌المطلب الثاني: تثبيت المؤمن عند الشدائد

- ‌المطلب الثالث: الحيلولة بينه وبين ما قد يقوم في قلبه من الإرادات السيئة

- ‌المطلب الرابع: مظاهر الولاية الكاملة للكُمّل من عباد الله

- ‌المبحث الثاني: مظاهر ولاية الله للجماعة المؤمنة

-

- ‌الباب الثاني: أثر الإيمان في تحصين القلب ضد الأفكار الهدامة " الأثر القلبي

-

- ‌الفصل الأول: وظائف القلب وأحواله

- ‌المبحث الأول: الوظائف القائمة بالقلب

- ‌المطلب الأول: وظيفة التعقل

- ‌المطلب الثاني: الاعتقادات

- ‌المطلب الثالث الإرادات

- ‌المطلب الرابع: العواطف

- ‌المطلب الخامس: الانفعالات

- ‌المبحث الثاني: العلاقة بين الوظائف القلبية

- ‌المبحث الثالث: أحوال القلوب

- ‌المبحث الرابع: أثر الإيمان في القلوب دائر بين التطهير والتزكية

-

- ‌الفصل الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلوب

- ‌المبحث الأول: أثر الإيمان في تطهير القلوب من العقائد الباطلة والظنون السيئة

- ‌المبحث الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الران ودَرَن المعاصي

-

- ‌المبحث الثالث: أثر الإيمان في تطهير القلب من العواطف الفاسدة

- ‌المطلب الأول: أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة غير الله

- ‌المطلب الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الشهوات المحرمة

- ‌المطلب الثالث: أثر الإيمان في تحصين القلب من الحقد والحسد

الفصل: ‌المطلب الثالث: أثر الإيمان في تحصين القلب من الحقد والحسد

‌المطلب الثالث: أثر الإيمان في تحصين القلب من الحقد والحسد

تقدم أن أهم العواطف الفاسدة التي تقوم في قلوب الناس هي: حب العبادة المتوجهة لغير الله، وحب الشهوات المحرمة، والحقد والحسد، وتم بعون الله تعالى الكلام على القسمين الأولين، ويجري الكلام هنا على مَرَضَيِ الحقد والحسد، وأثر الإيمان في تطهير القلب منهما.

الحقد والحسد وأثر الإيمان في تطهير القلب منهما:

الحقد والحسد مرضان مصدرهما عاطفتا الكراهية والبغضاء للمحسود والمحقود عليه1، وقد يكون الدافع للحسد حب الذات، وكراهية أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل2.

والحسد هو تمني زوال نعمة عند غيره، وقد يتمنى أن تؤول إليه، وقد لا يتمنى، كما أنه قد يعمل بموجب حسده فيسعى لإزالة نعمة المحسود بالبغي عليه بالفعل أو بالقول، وقد لا يعمل.

وأشده فتكاً وأعظمه خطراً وحرمة الحسد الذي يعمل صاحبه في

1 مجموع الفتاوى 10/11.

2 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص308.

ص: 427

إلحاق الضرر بالمحسود1.

الحقد والحسد ثغرتان في القلب:

لا يوجد مرض يكون سبباً لرد الحق من أول وهلة بعد معرفته أشد من الحسد، فهو داء عضال إذا استحكم في القلب مال به عن القصد وأوقعه في المهالك.

قال ابن تيمية رحمه الله: "فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها، بل وحبها لما يضرها، ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب"2.

والحسد هو الدافع لأول ذنب عُصي الله به، حيث رفض إبليس السجود لآدم حسداً له على ما أولاه الله من الكرامة بإسجاد الملائكة له، وكِبْراً أن يسجد لمن يرى نفسه أفضل منه.

وقد كانت أمهات المعاصي الكبار الدافع إليها الحسد، فقد قص الله علينا ما كان من إبليس، وما كان من بني إسرائيل وتكذيبهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام، بل وعداوته وعداوة أتباعه، وأن الدافع لذلك هو الحسد.

قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً

1 انظر: مجموع الفتاوى 10/112، 121، وجامع العلوم والحكم ص308، 309.

2 مجموع الفتاوى 10/129.

ص: 428

حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] .

كما قص علينا أول حادث قتل بين بني آدم، وقد كان الدافع إليه الحسد، "ولهذا قيل أول ذنب عصي الله به ثلاثة: الحرص، والكبر، والحسد، فالحرص من آدم، والكبر من إبليس، والحسد من قابيل حيث قتل هابيل" 1.

فأصول المعاصي ترجع إلى: شهوة، أو كبر، أو حسد.

والحسد كما أنه مضر بدين الحاسد، فهو أيضاً مرض اجتماعي يورث البغضاء بين أفراد المجتمع المسلم، ويحمل على البغي، أشار إلى أثره الاجتماعي الرسولصلى الله عليه وسلم بقوله:" لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " 2، وفي رواية:" وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله "3.

قوله: " وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله " دليل على أنهم إن سرت فيهم هذه الأدواء، لم يكونوا إخواناً كما أمرهم الله، مما يدل على

1 مجموع الفتاوى 10/126.

2 متفق عليه:-واللفظ لمسلم- البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ح6065 10/481. ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر ح2559 4/1983.

3 رواه مسلم، الكتاب والباب ورقم الحديث كسابقه 4/1984.

ص: 429

أثرها في هدم أو إضعاف الأخوة الإيمانية.

فالظلم والبغي الناتج عن الحقد والحسد عند الفقراء وخاصة الأقوياء منهم، هو مرض يقابل الشح والحرص على المال الذي يقوم في قلوب الأغنياء، فيحملهم على إمساك حقوق المال والظلم في تحصيله وإنفاقه، لذلك جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما فقال:" اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم "1.

وينتج عن هذين الأمرين -حقد وحسد الفقير، وشح الغني- داء اجتماعي خبيث هو بمثابة السرطان الذي يفتك بالأبدان، ألا وهو تغير القلوب وتنافرها وتباغضها، مما يؤدي إلى تسلط وتآمر بعض المسلمين على بعض.

وقد استغل الحاقدون على الإسلام المتربصون بأهله، وجود هذا الداء بين أفراد المجتمع المسلم -قديماً وحديثاً- أسوأ استغلال لنشر المبادئ الهدامة والأفكار الخبيثة، والتفريق بين المسلمين، ولعل آخرها الفكر الشيوعي الذي يقوم على تسليط الفقراء على الأغنياء مستثيراً كوامن الحسد والبغضاء المنتشرة بين المسلمين، بسبب البعد عن منهج الله، وضعف الإيمان وانتشار الجهل، وشح الأغنياء، وإمساك الزكاة

1 رواه مسلم: تقدم تخريجه.

ص: 430

ونحو ذلك.

وبهذا يتضح أن الحسد وما يتفرع عنه من أدواء هي ثغرات في حصن القلب تتسلل منها دعوات الشياطين لإفساد الدنيا والدين، كما ينتج عنها أيضاً أمراض اجتماعية كالحقد والتباغض والتنازع والبغي، وهي انهيارات في حصون المجتمع المسلم تكشف ظهورهم لعدوهم، قال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] .

وليس الغرض التوسع في عرض هذه الأدواء، وما ترتب عليها من المفاسد، وإنما القصد بيان أن هذه العواطف الفاسدة إذا قامت في القلوب كانت أقوى الدوافع لتقبل أو طلب الأفكار الهدامة، ثم بيان أثر الإيمان في تطهير القلب منها.

الإيمان مخلّص من الحقد والحسد:

إن الحقد والحسد -كغيرها من أمراض القلوب- انحرافات في صحة القلب نتيجة لتغذيه من شرور الجاهلية، وعلاجها بكون بقطع مادة الشر التي تغذيه، وإمداده بضدها من مادة الخير والصلاح.

قال ابن تيمية رحمه الله: "

فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها -إن عرض له المرض- دوماً، والصحة تحفظ بالمثل، والمرض يزول بالضد. فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال

ص: 431

ما فيها، أو هو ما يقوي العلم والإيمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة، وتزول بالضد، فتزال الشبهات بالبينات، وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق"1.

وهذه قاعدة جامعة نافعة للعلماء والدعاة والمربين، تدور حول معرفة سبب الداء ثم علاجه بالحمية منه وتعاطي ضده.

ولأجل معرفة أثر الإيمان في تطهير القلوب من أدواء الحسد والحقد ونحوها، يجدر أن نتعرف على أسبابها ثم العلاج المضاد لكل سبب والذي يزول -بإذن الله- ذلك السبب ومن ثم المسبَّب.

وأسباب هذه الأمراض بعضها يعود إلى نفس الحاسد، وبعضها يعود إلى المجتمع، وفي الإيمان علاج لجميعها.

فأما الأسباب التي مردها إلى نفس الحاسد أو الحاقد فهي ضعف إيمانه، وقلة استشعاره لمعاني أسماء الله التي تدل على تفرده بالملك والتدبير، وأن ما يصيب الناس من خير أو ضده فهو من الله، وكذلك ضعف إيمانه بقدَر الله، وعدم الرضى بالمقدور.

وعلاج هذا إنما يكون بالعلم بالتوحيد والقدَر واستشعار ذلك، وبالمحافظة على الصلوات، والتوجه إلى الله بالدعاء والضراعة، وحسن الظن به، والرضى بفعله وقدره.

1 مجموع الفتاوى 10/145.

ص: 432

فهذا جانب من الإيمان إذا علمه الإنسان واستشعره، وقام بموجبه، فإنه يؤثر تأثيراً قوياً في صلاح القلب وتخليصه من غله وحسده وحقده.

أما العوامل الاجتماعية فهي رئيسية، حيث تمثل الدافع لقيام الحسد والحقد والكراهية في قلوب ضعاف الإيمان من المسلمين من الفقراء ضد الأغنياء.

وأخبث هذه الأسباب هو الشح والبخل من الأغنياء بمنع حق المال من الزكاة والصدقة والبر والإحسان، أو بالسعي إلى جمع المال بالظلم والحرام، أو بصرف المال في الترف والإسراف في المعاصي.

فهذه الأمور التي تقع من الأغنياء بمرأى ومسمع من الفقراء من أعظم الأسباب إثارة للحقد والحسد.

وقد شرع الله الزكاة والصدقة ورغب فيها، لما لها من الأثر العظيم في اقتلاع هذه الأدواء وإحلال المحبة وسلامة الصدر محلها، وحول هذا الأثر العظيم قال الدكتور يوسف القرضاوي: "فالإنسان إذا عضته أنياب الفقر، ودهته الحاجة، ورأى حوله من ينعمون بالخير، ويعيشون في الرغد، ولا يمدون له يد العون، بل يتركونه لمخالب الفقر وأنيابه

هذا الإنسان لا يسلم قلبه من البغضاء والضغينة على مجتمع يهمله، ولا يعنى بأمره، وتربة الشح والأنانية لا تنبت إلا الحقد والحسد لكل ذي نعمة

ولم يحارب الإسلام هذه الآفات النفسية الاجتماعية الخطيرة بالوعظ المجرد، والإرشاد النظري فحسب، ولكنه عمل على اقتلاع أسبابها من الحياة،

ص: 433

واستئصال جذورها من المجتمع، فليس يكفي الجائع والمحروم أو العريان أن تلقي عليه درساً بليغاً في خطر الحقد والحسد، وكل لحظة في حياته

البائسة، وحياة الطاعمين الناعمين المترفين من حوله تلقنه دروساً عملية أخرى: كيف يحسد؟ وكيف يحقد؟ وكيف يبغض؟ وكيف يغلي قلبه كراهية وغيظاً ونقمة؟

ومن أجل ذلك فرض الإسلام الزكاة لييسر للعاطل العمل1،

1 ليس من مصارف الزكاة وضعها في إنشاء مشاريع ينتج عنها فرص العمل، وذلك أن مصارف الزكاة محددة بنص القرآن الكريم، في قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة:60] .

وليس من بين هؤلاء الثمانية ما ذكره الشيخ د. القرضاوي، كما أن استثمار الزكاة في المشاريع يؤدي إلى جعلها علاجاً طويل الأجل، قد لا يستفيد منها الفقير العاطل وقت إخراجها، وهي في الأصل علاج عاجل لسد عوز المحتاجين، وتحقيق المصالح المذكورة في الآية.

ولكن يمكن توجيه كلام الذكتور القرضاوي بأن يقال: إنه يترتب على نظام الزكاة إيجاد كثير من فرص العمل، حيث تستحدث أجهزة في الدولة والمؤسسات والشركات الكبيرة للإشراف على الزكاة، فتخصص وظائف للعاملين على جمعها وتوزيعها، وسائقين وحرس، وكما أن وجود المال بيد الفقير يمكنه من الانتفاع به كرأس مال لعمل ولو بسيط في زراعة أو صناعة أو تجارة، وعلى هذا ترتب وجود فرص كثيرة للعمل ببركة الزكاة.

ص: 434

ويضمن للعاجز العيش، ويقضي عن الغارم الدين، ويحمل ابن السبيل إلى أهله ووطنه، فيشعر الناس أنهم أخوة بعضهم أولياء بعض

وفي هذا الجو النقي يمتد ظل الإيمان بما يتبعه من حب وإيثار

"1.

وبهذا يتبين أن للزكاة أثراً عظيماً في شيوع المحبة بين المسلمين، فهي تجلب المحبة والشفقة لقلب المزكي نفسه، ويشعر بالفرحة والسرور لشعوره أنه في طاعة الله وأن الله راض عنه، ولمساهمته في تفريج كرب إخوانه المؤمنين وإدخال السرور على قلوبهم، وإحساسه بأداء واجب التعاون والتكافل والإخوة الإيمانية. كما أن أثرها على الآخذ أشد وأعظم، فالقلوب قد جبلت على محبة المحسن، "فإن الناس إذا علموا في الإنسان رغبة في نفعهم، وسعيه في جلب الخير لهم، ودفع الضر عنهم، أحبوه بالطبع، ومالت نفوسهم إليه لا محالة"2.

ومن أخطر جرائم الأغنياء التي تسبب الحقد والحسد والكراهية

1 فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي 2/876، مؤسسة الرسالة بيروت، ط الرابعة، 1400هـ.

2 المصدر السابق 2/867.

ص: 435

التعامل بالربا، وما ينتج عنه من أضرار اقتصادية واجتماعية مدمرة.

وحقيقة الربا هي أخذ زيادة وفائدة دون مقابل حقيقي صحيح مشروع، ومن ذلك المتاجرة بالمال بإقراضه إلى أجل معين وأخذ زيادة على ذلك، فيزيد المال ويتضاعف لصاحبه دون أن يقدم فائدة حقيقية للمجتمع.

فالمرابي لا يجلب بضاعة إلى الأسواق تساهم في نماء التجارة واتساعها، ولا يستثمر ماله في مشاريع زراعية أو صناعية أو مضاربات تعود على البلاد والعباد بالخير، وتؤمن فرصاً للعمل، وبضائع تتداول يستفيد منها المسلمون ويستغنون بها عن غيرهم.

فالربا عقيم ممحوق، فنتيجته النظرية والواقعية هي تراكم المبالغ الدائنة لصالح الأغنياء على الفقراء، مما يزيد في فقرهم، وكثيراً ما تؤول منجزات الفقراء من مصانع ومزارع وعمارات ونحوها -والتي أنشؤوها من الربا إلى الأغنياء نتيجة لتراكم الديون على أصحابها وعجزهم عن سدادها فيتسلمونها في مقابل الدين الذي على أصحابها، فيذهب كدح الفقراء لسنين طويلة إلى المرابين الذين لم يبذلوا فيه أدنى تعب. وعلى هذا فحصيلة الربا النهائية، هي ازدياد الحرص والجشع والاحتكار والاستغلال من جانب الأغنياء، والحقد والحسد والبغضاء من جانب الفقراء، مما يزيد في اتساع الهوة بينهم ويؤدي إلى العداوة والبغي والظلم.

ص: 436

وأثر الإيمان في إزالة هذا الداء العضال يكمن في تحريمه للربا، والتحذير الشديد منه، وجعل المصر على الربا محارباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:275-279] .

وبجانب تحريم الربا، شرع الله لعباده الأسباب المثمرة التي تكفل للعباد العيش المستقر الكريم، فشرع البيع، واستثمار المال في الزراعة والصناعة والعقار، والتي إذا أقيمت على النظام المشروع كفلت للأمة ازدهاراً اقتصادياً واجتماعياً، وتوفرت البضائع وفرص العمل، وسار كل في مجال عمله قرير العين مغتبطاً لا يشعر بتسلط ولا حرمان.

كما أن قيام المجتمع بالتكافل الاجتماعي في إيجاد صناديق للإقراض

ص: 437

الحسن، ومساعدة المحتاج للزواج أو سداد الدين أو بناء مسكن، وقيام الشركات والمؤسسات بالبيع بالتقسيط، كل ذلك يقلل من المحتاجين إلى الاقتراض بالربا، مما يقطع مصدر الشر ويساهم في إيجاد التعاون على البر والتقوى، الباعث على الحب والخير. قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] .

وقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280] .

وقال صلى الله عليه وسلم: " مَن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه

" الحديث 1.

وهذه النصوص وغيرها تمثل أساساً في التعاون والتكافل الاجتماعي، سواء كان على مستوى فردي، أو عمل جماعي، وهذا الباب مفتوح لكل من يسهم فيه بفكرة جيدة أو مشروع مفيد، فكل من سن سنة حسنة في

1 رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء

باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن

، ح2699 4/2074.

ص: 438

إيصال النفع ومساعدة المسلمين، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة، وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم:" من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "1.

وعلى هذه القاعدة النبوية، فمن الأمثلة على السنن السيئة في هذا الزمان: البنوك الربوية، ومن الحسنة الصناديق الخيرية، والجمعيات التعاونية، ومن السنن السيئة أيضاً المحلات التي تبيع أشرطة الغناء والأفلام المفسدة، ومن الحسنة محلات بيع أشرطة القرآن والمحاضرات المفيدة.

فالسنة الحسنة المراد بها أن يعمل الإنسان بعمل صالح عند أناس لا يعملون به، أو يجهلونه فيكون أول من عمل به فيقتدون به. والسنة السيئة أن يعمل بمعصية أو بدعة عند من لا يعملونها أو يجهلونها، فيقتدون به فيها. وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم:" لا تقتل نفس ظلماً، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل "2.

1 رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، ح1017 2/705، وفي كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة

4/2059.

2 متفق عليه: البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، ح3335، الصحيح مع الفتح 6/364. ومسلم، كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، ح1677 3/1304 واللفظ لمسلم.

ص: 439

وليس من الحسنة الابتداع في الدين بإحداث فعل على وجه التعبد، وذكر بهيئة مخصوصة أو عدد معين، أو جعل فضل لعملٍ، لم يأذن بها ولم يأت لها أصل في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبادة مبناها على الاتباع ويحرم فيها الابتداع. قال تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32] .

وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] .

وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] .

وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد "1.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقول: "

أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة

"2.

والنصوص في ذم البدعة في الدين كثيرة، وفيما ذكر وفاء بالمقصود، إن شاء الله.

1 متفق عليه: البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور فالصلح مردود، ح2697 5/301. ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ح1718 3/1343.

2 رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة ح867 2/592.

ص: 440

وبعد الكلام على الربا وما يسببه من أمراض قلبية وكوارث اقتصادية، وأضرار في العلاقات الاجتماعية، أذكر أمراً آخر له أثر في تغير القلوب وتنافرها، وذهاب ودها ومحبتها، ألا وهو التكبر من القوي على الضعيف، والغني على الفقير، والكبر مرض قلبي من أهم دلائله الظاهرة، ترك السلام تكبراً.

وأثر الإيمان في تطهير القلب من هذا المرض يكمن في الإيمان القلبي القائم على معرفة الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وأفعاله العظيمة الحكيمة. فإذا استشعر العبد عظمة الله وكبريائه وجلاله، وبالمقابل استشعر ضعفه وذله وفقره وحاجته إلى ربه، فإن ذلك من أعظم البواعث على ابتعاده عن التكبر وجنوحه إلى التواضع. وأيضاً إذا كمل توكله على الله واستشعر أن النعمة التي هو بها -وغيرها من الخير الذي يأمله والشر الذي يحاذره- بيد الله وحده، حمله هذا العلم على ترك الاعتداد بنفسه أو قوته أو جاهه أو غناه وغير ذلك.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمل له أثر كبير في نشر السلام والمحبة والوئام بين أفراد المسلمين، لما يحمله من رسالة من الأخ لأخيه بأنه يحترمه ويجله، ويعترف بمساواته في الحقوق بموجب رباط الإيمان هذا الأمر الجليل، هو إفشاء السلام.

قال صلى الله عليه وسلم: " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا

ص: 441

أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم "1.

مما تقدم تبين: أن الحقد والحسد والكراهية والبغضاء ثغور في حصن القلب والمجتمع المسلم إذا انتشرت بين الأفراد، وهي منفذ خطير للأفكار المنحرفة، وأن أثر الإيمان يتجلى في إزالة الدوافع لها بتقوية الإيمان بتعليم الناس بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وغيرها من حقائق التوحيد، وبفرض الزكاة والحث على الإنفاق، وتحريم الربا، والتحريض على التعاون والتكافل بين المسلمين، والأمر بإفشاء السلام وحسن الخلق.

وبهذا ينتهي ما يسره الله من الكلام على هذا الفصل أثر الإيمان في تطهير القلب وأنتقل -بعون الله- إلى الفصل الذي يليه أثر الإيمان في تزكية القلب، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمن، ح54 1/74.

ص: 442