الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: مرتبة السابق بالخيرات
وتسمى كمال الإيمان المستحب، وهي درجة المقربين المحسنين والسابقين والمسارعين في الخيرات من الأنبياء والصديقين.
فهم المقربون الذين تقربوا إلى الله "بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباته، أحبهم الرب حباً تاماً كما قال تعالى في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" 1 يعني الحب المطلق
…
" 2.
وهم المحسنون، الذين كمّلوا مراتب الإسلام والإيمان، وارتفعوا إلى مرتبة الإحسان، فعبدوا الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فقد استشعروا رؤيته لهم، وبذلوا ما استطاعوا من النفع لعباده، فجمعوا بين الإحسان في عبادة الرب، ومعاملة الخلق.
وأعظم ما تميزت به هذه الطائفة هو قوة معرفتهم بالله، بشهود وحدانيته، واستحقاقه وحدهُ للألوهية، واستشعار قلوبهم لمعاني صفاته من خلال تفكرهم بآياته الكونية، وتدبرهم لآياته التنزيلية.
1 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع ح (6502) 11/340.
2 الفرقان بين أولياء الرحن وأولياء الشيطان ص16.
فهم أهل الإيمان الراسخ القائم على العلم بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، وعلى الإخلاص في عبادته.
فعندهم من قوة التصديق واليقين بذلك ما ارتفعوا به إلى أعلى منازل الإيمان، وتحصلوا به على أوفر الحظ من ولاية الرحمن، وحازوا به أعلى الدرجات في الجنان.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ومن منازل إياك نعبد، وإياك نستعين منزلة اليقين وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر المشمرون"1.
وقال أيضاً: "ومتى وصل اليقين إلى القلب، امتلأ نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط، وهم وغم، فامتلأ محبة لله وخوفاً منه، ورضىً به، وشكراً له، وتوكلاً عليه، وإنابة إليه
…
"2.
وهم أهل الإخلاص لله الذين حققوا شهادة أن لا إله إلا الله "فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لله وحده
…
"3 كما حققوا شهادة أن محمداً رسول الله، بالتمسك بشريعته، واتباعه فيما جاء به عن
1 مدارج السالكين 2/413.
2 نفس المصدر 2/414.
3 نفس المصدر 1/195.
ربه، "أعمالهم كلها وعباداتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يقبل من عامل سواه"1 فهم كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] ، وهم عباد الله الذين جاؤوا بالعبودية الحق، فتعلقت قلوبهم بربهم، وكمل خضوعهم وإنابتهم إليه، أحبوه غاية الحب، وقدموا محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال والولد، فمحبته بعثت فيهم الرجاء، والمسارعة إلى مرضاته، والشوق إلى لقائه، كما عظموه تعظيماً حرك فيهم جانب الخشية، وعدم الأمن من مكر الله.
فكان استشعار قلوبهم لعبودية ربهم، وفقرهم وحاجتهم إليه، ولحقيقة الألوهية وعظمة الخالق، وعمرانها بمحبته، وخشيته وتعظيمه، أعظم باعث لهم على الأنس بالله، وإيثار مرضاته، والاشتغال بما يقربهم منه، ويحببهم إليه عن الاشتغال بفضول حظوظ النفس، فزهدوا فيما لا يحتاجون إليه من المباحات.
واطمأنت قلوبهم بطاعة الله، وأنست نفوسهم، وذلت ألسنتهم لذكره، وخضعت جوارحهم لاتباع شرعه، فذاقوا من حلاوة الإيمان ما حملهم على تقديم أرواحهم وأموالهم وقواتهم وأوقاتهم في سبيل الله،
1 نفس المصدر 1/195.
بالجهاد أو المرابطة أو التعليم، أو الدعوة والنصح للمسلمين خاصتهم وعامتهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أو غير ذلك من الأمور التي فيها مرضاة الرب، ومنفعة الخلق، فهم أولياء الله وخاصته وصفوته من خلقه.
وقد وردت صفاتهم في كثير من آيات القرآن الكريم، وحيث أنهم يشتركون مع الأبرار في كل ما تقدم من الصفات والأحوال، إلا أن هؤلاء زادوا عليهم في تلك الصفات كيفا وكما، وزادوا عليها أعمالاً أخرى من المندوبات.
ويمكن التمييز بين الآيات التي عمت الفريقين والتي خصت المقربين بأمور منها: أنه يرد في ذكر صفات الفريق الأول تسميتهم: الأبرار، أو أصحاب اليمين، أو المقتصدين أو نحوها، ويصف الفريق الثاني: بالمحسنين، والمقربين، والسابقين، والمسارعين، والسابقين بالخيرات، وعباد الله أو عباد الرحمن
…
ونحوها.
أو أن يرد في ذكر الفريق الأول وصفهم بالقيام بالعبادات المفروضة، وفي الفريق الثاني وصفهم بملازمة الأعمال المندوبة والمسارعة فيها، إشارة إلى أنهم تجاوزوا المفروض إلى المندوب. وقد يذكر معها بعض الفرائض.
ومستند هذا الضابط الأخير هو حديث أبي هريرة المشهور في ذكر الأولياء وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد
آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مَساءته "1.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "
…
فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب عليهم، ويتركون ما حرم عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات، وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات
…
" 2.
وقال ابن رجب رحمه الله تعليقاً على حديث الأولياء المتقدم: "فقسم أولياءه المقربين قسمين:
أحدهما: من تقرب بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرمات، لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده. الثاني: من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل
…
" 3.
وبهذا الضابط يتيسر -بإذن الله- تمييز ما اختص به هؤلاء من
1 تقدم تخريجه، ص (211) .
2 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص16.
3 جامع العلوم والحكم ص340.
الأوصاف القرآنية مما يشركهم فيه الأبرار.
ففي قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62،63] .
يدخل كلا الفريقين، حيث يصدق على كل منهما وصف الإيمان والتقوى.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] . فيه زيادة معية، لمن زاد في التقوى إلى درجة الإحسان.
ومن ذلك ما ورد في سورة الذاريات حيث وصفهم ربنا بالتقوى والإحسان بقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:15،16] .
ثم ذكر بعد ذلك أعمالاً هي من المندوبات التي لازموها بعد الفرائض فقال: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:17-19] .
ففي قوله: حق للسائل والمحروم لم يقيده بأنه معلوم كما في سورة المعارج حيث قال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] .
ففي الذاريات: المراد صدقة النفل، أي يجعلون في أموالهم على أنفسهم حقاً للسائل والمحروم تقرباً لله1، ومما يقوي أن المراد هنا الصدقة النفل أنها قد ورد ذكرها في أمور كلها من التطوعات.
أما في المعارج: "فالظاهر أنه الزكاة لوصفه بكونه معلوماً، ولجعله قريناً للصلاة"2، ويقوي ذلك: أنه ورد ذكرها مع أمور كلها مفروضة، واجب التزامها فعلاً وتركاً.
فتكون أوصاف سورة الذاريات للمتقين المقربين المحسنين.
وفي سورة المعارج للمتقين الأبرار.
وقد وصفهم الله بأنهم عباد الله وعباد الرحمن إشارة إلى أنهم حققوا العبودية وكمّلوها، والوصف بالعبودية من أجلّ وأحسن الأوصاف، قال الإمام ابن القيم رحمه الله:"والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه"3.
ولعل أشمل ما جاء في ذكر أوصافهم وأعمالهم، وأنهم جمعوا بين الإيمان الواجب والمستحب، ما ورد في سورة الفرقان، قال تعالى:
1 فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني 5/84، دار المعرفة، بيروت.
2 نفس المصدر 5/293.
3 مدارج السالكين 1/102.
يوم القيامة.
ففي سورة الواقعة ذكر سبحانه نعيم المقربين السابقين بقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الأَخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:10-26] .
وفي المراد بالتكرار في قوله: والسابقون السابقون قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "
…
فيكون المعنى السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات، والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنان، وهذا أظهر، والله أعلم" 1.
وفي قوله: ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين رجح ابن كثير رحمه الله أن المراد بقوله: "ثلة من الأولين أي من صدر هذه الأمة،
1 حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح للإمام ابن قيم الجوزية ص115، القاهرة، مطبعة المدني، 1384هـ.
وقليل من الآخرين أي من هذه الأمة"1.
ويدل قول: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان على أن الجزاء من جنس العمل، فحيث إنهم جاؤوا بالإحسان الذي هو أكمل مراتب الإيمان، كمّل الله لهم النعيم يوم القيامة.
وقد تقدمت الإشارة إلى شراب أهل الجنة، وأن الله فرّق بين شراب المقربين، وشراب الأبرار بقوله: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي
1 تفسير القرآن العظيم 4/284.
ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:25-28] .
وفي هذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالمقربون يروون بها، فلا يحتاجون معها إلى ما دونها، فلهذا يشربون منها صرفاً، بخلاف أصحاب اليمين، فإنها مزجت لهم مزجاً، وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:5، 6] .فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة"1.
فيرى شيخ الإسلام رحمه الله أن عباد الله في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} في سورة الإنسان، هم المقربون المذكورون في قوله تعالى:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} في سورة المطففين.
وحول هذا المعنى قال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الإنسان: "أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفاً بلا مزج ويروون بها
…
" 2.
وكما فاضل بينهم في الشراب، فاضل بينهم في اللباس والحلي،
1 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص15.
2 تفسير القرآن العظيم 4/454.
فذكر نوعين أعلاهما للمقربين، والآخر لأصحاب اليمين.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله الله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان:21] : "وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] "1.
وخلاصة القول: أن المقربين هم الذين جاؤوا بكمال الإيمان المستحب، وأخلصوا حياتهم لله اعتقاداً وقولاً وفعلاً وتركاً، على حد قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163] .
وهم أهل ولايته التامة، وعنايته الفائقة، والتي ورد بيانها في الحديث القدسي وفيه قال تعالى: "
…
وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"2، فهم في الدنيا عباد الله المخلصون، أعلى العباد علماً وعملاً وخُلقاً، وفي الآخرة هم سكان الفردوس الأعلى، نسأل الله الكريم من فضله.
1 تفسير القرآن العظيم 4/457.
2 رواه البخاري، سبق تخريجه، ص (211) .