الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمر الرسالة خلا به سراً وقال له الملك عقيم؟ وإن أخاك أجاي عازم على قتلي والاستيلاء على ملك الروم والانتماء إلى صاحب مصر، وحمل البرواناة على ذلك بحيلة من أجاي، فإنه كان يكلفه ما يعجز عنه ويتوعده؛ فأمره أبغا أن يخفي ذلك وأمره أن يستدعي أجاي وصمغرا - وسرتوقونوين بدلاً منهما - فلما عاد البرواناة إلى الروم رأى أجاي أعرض إعراضاً مفرطاً؛ فاضطر إلى أن كاتب الملك الظاهر سراً وبعث إليه قاصداً وطلب منه أن يحلف له ولغياث الدين بن ركن الدين على ملك الروم وشرط أن يكون له عسكر في البلاد مقيماً يستعين به على قتال أجاي وصمغر ومن معهما من التتر؛ فوافى القاصد الملك الظاهر بمصر قد عاد من دمشق فبلغه الرسالة فقال: إذا حلفنا له على ما أراد وسيرنا عسكراً يقيم عنده فلا بد للعسكر من شيء فتعين لي بلاداً أرصدها لذلك أو ما يستخرج من الأوقاف والصدقات والأملاك التي له، فإذا كسرت التتر أفرجت عن ذلك وأعدته إلى أربابه مع أننا لا نكلف خيلنا سلوك الدرب في هذا الوقت وفي العام القابل نحن عند إن شاء الله. فلما عاد القاصد وجد أبغا قد استدعى أجاي وصمغر وحالة البرواناة قد صلحت فتلكى في إجابة الملك الظاهر إلى ملتمسه ونكل عنه.
فصل
وفيها توفي أحمد بن علي بن محمد بن سليم أبو العباس محي الدين بن
الصاحب بهاء الدين أبي الحسن بن القاضي السديد أبي عبد الله الشافعي المصري في ثامن شعبان بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم. سمع من جماعة وحدث ودرس بمدرسة والده التي أنشأها بزقاق القناديل بمصر مدة إلى حين وفاته وكان منقطعاً عن المناصب الدنياوية، محباً للتخلي والانفراد، مؤثرأ لأهل الخير والدين، كثير الصدقة والمعروف؛ بنى رباطاً حسناً بمصر ووجد عليه والده وجداً شديداً وعملت له الأعزية والختم في سائر البلاد المعتبرة من المملكة - رحمه الله تعالى.
أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن عبد المنعم أبو العباس الأنصاري المعروف بضياء الدين ابن القرطبي، مولده سنة اثنتين وست مائة. سمع وحدث وكان فاضلاً، وله النظم الحسن والنثر الجيد مع ما كان عليه من الكرم والإيثار والإحسان إلى من يرد عليه، وكانت وفاته في النصف من شوال هذه السنة بقنا من صعيد مصر. ووالده الشيخ أبو عبد الله أحد المشايخ المعروفين بالعلم والصلاح وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره - رحمه الله تعالى. ومن نظمه رحمه الله:
ما افتر عن ثغره البسام في غسق
…
إلا أضاء سبيل السالك الساري
يا للعجائب قد عاينت مغربة
…
بيتاً من النور في أرض من النار
وقال أيضاً رحمه الله:
انظر إلى سندس في الروض حين بدا
…
مطرزاً بطراز النور كالذهب
وفي حشا الماء من مصفره لهب
…
فاعجب لضدين جمع الماء واللهب
كأنه في ضمير البحر مضطرباً
…
لمع من البرق في صاف من الذهب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى -:
يأبى خيالك إذ سرى متوجساً
…
والأفق يسحب فضل ذيل الغيهب
في حلة الخفر الذي ستر الحيا
…
فتنقبت والحسن لم يتنقب
فاصطاده إنسان عين ساهر
…
متمكن من جفنه في مرقب
أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد بن أبو المعالي مؤيد الدين التميمي المعروف بابن القلانسي، مولده بدمشق سنة ثمان أو تسع وتسعين وخمس مائة، سمع من أبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد وحنبل بن عبد الله بن الفرج، وحدّث بدمشق والديار المصرية، وهو من ذوي البيوتات المشهورة بالحديث والعدالة والتقدم. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - في ثالث عشر المحرم ببستانه ظاهر دمشق - ودفن في التربة المعروفة به بجبل قاسيون بالقرب من قبة جهاركش - رحمه الله تعالى -. وكان صدراً رئيساً، وافر الحرمة، ضخم النعمة، كثير الأملاك، واسع الصدر، متأهلاً للوزارة وغيرها من المناصب الجليلة، من رجال الدهر خبرة وحزماً، وعنده قوة نفس وأهلية المناصب الجليلة غير أنه يتعاطاها في عمره، وإذا عرضت عليه يأباها ويمتنع منها كل امتناع. فلما توفي وجيه الدين
محمد بن سويد التكريتي في سنة سبعين وست مائة التزم مؤيد الدين بمباشرة متعلقات الملك الظاهر وأولاده وخواصه بالشام على ما كان عليه الوجيه. فباشر نظر ذلك مكرها بغير جامكية ولا جراية ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته. وكان رجلاً سعيداً لم يتقرب إليه أحد ويلازمه إلا ونال منه نفعاً كثيراً من ماله وبجاهه، وكان باراً بأهله، يضع الأشياء في مواضعها، وهو من بيت الرئاسة والوزارة والحديث، سمع الحديث وأسمعه؛ والرئاسة في بيته قديمة، وبيته من البيوت المشهورة بالتقدم بدمشق. وجده مؤيد الدين أبو المعالي أسعد بن حمزة وزير الملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين - رحمهما الله تعالى. وكان فاضلاً رئيساً عالماً، له كتاب الوضيئة في الأخلاق المرضية وغير ذلك. وله يد في النظم والنثر. ومولده يوم الجمعة سابع شهر رمضان المعظم سنة سبع عشرة وخمس مائة - وتوفي بها في ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وخمس مائة - ومن شعره:
يا رب جد لي إذا ما ضمني جدثي
…
برحمة منك تنجيني من النار
أحسن جواري إذا أصبحت جارك في
…
لحدي فإنك قد أوصيت بالجار
ووالده حمزة بن أسد هو العميد، حدث عن سهل بن بشر وأبي أحمد حامد بن يوسف التنيسي، وكان فاضلاً أديباً، له خط حسن ونثر ونظم؛ وصنف تاريخاً للحوادث بعد سنة أربعين وأربع مائة إلى حين وفاته.
ومات يوم الجمعة سابع ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى.
إسحاق بن خليل بن غازي بن علي عفيف الدين الحموي، كان فاضلاً في الفقه والعربية، متقناً للقراآت السبع، مشاركاً في عدة علوم؛ ولّي التدريس بحماة وخطابة القلعة، وكان له حلقة يشغل بها العلوم والقراآت، وله شعر يسير. مولده سنة سبع وثمانين وخمس مائة، وتوفي في ذي الحجة بحماة - رحمه الله تعالى.
إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن سليمان أبو محمد تقي الدين التنوخي المعري الأصل. الدمشقي المولد والدار والوفاة. مولده في سابع عشر المحرم سنة تسع وثمانين وخمس مائة، سمع الكثير من الخشوعي، وابن طبرزد، وحنبل، والكندي وغيرهم؛ وحدث مدة بدمشق ومصر وغيرهما، وتفرد برواية أشياء من مسموعاته. وكان شيخاً فاضلاً نبيلاً من بيت كتابة وعدالة وجلالة، توفي إلى رحمة الله تعالى في السادس والعشرين من صفر. وكان له يد في النظم والنثر، كتب الإنشاء للملك الناصر صلاح الدين داود - بن الملك المعظم - وتولى نظر المارستان النوري وغيره - ذكره الحافظ شرف الدين الدمياطي في تاريخه فقال:
إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أنجم؛ ورفع نسبه إلى عمران بن إسحاق بن قضاعة. أبو محمد بن أبي إسحاق بن أبي اليسر بن أبي محمد بن أبي المجد التنوخي الدمشقي الشافعي العدل. أنشد لنفسه:
خاب رجاء امرئ له أمله
…
بغير رب السماء قد وصله
يفعل للمرء كل مكرمة
…
ثم يثب الفتى بما فعله
أيبتغي غيره أخو ثقة
…
وهو ببطن الأحشاء قد كفله
ذكره الصاحب كمال الدين بن العديم - رحمه الله تعالى - في تاريخ حلب، قال: نشأ أبو محمد بدمشق واشتغل بالعلم والأدب وسمع بها أبا طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي، وأبا اليمن زيد بن الحسن الكندي، والقاضي أبا القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني، وأبا حفص عمر بن محمد بن طبرزد، وسمع أباه أبا إسحاق بن أبي اليسر وجماعة غير هؤلاء من شيوخ دمشق، وكتب الإنشاء للملك الناصر داود بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب مدة في أيام ولايته، وسيره رسولاً إلى مصر وقدم علينا حلب في سنة أربع وأربعين وست مائة، وزارني في داري وأنشدني شيئاً من شعره وأخبرني أن مولده بدمشق يوم السبت سابع عشر المحرم سنة تسع وثمانين
وخمس مائة، ثم اجتمعت به بدمشق وعلقت عنه بفوائد، أنشدني لنفسه بحلب في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وست مائة، قوله:
ليلى كشعر معذبي ما أطوله
…
أخفى الصباح بفرعه إذ أسبله
وأنار ضوء جبينه من شعره
…
كالصبح سل عن الدياجي منصله
قصصي بنمل عذاره مكتوبة
…
بأحسن ما خط الجمال وأجمله
والله قد أهملت لام عذاره
…
يا عاذلي ما كل لام مهمله
اقرأ على قلبي سباً في حبه
…
والذاريات لمدمع قد أهمله
آيات تحريم الوصال أظنها
…
وطلاق أسباب الحياة مرتله
ما هامت الشعراء في أوصافه
…
إلا وفاطر حسنه قد كمله
ثبت الغرام بحاكم من حسنه
…
وشهادة الألفاظ وهي معدله
كم صاد من صاد بعين دونها
…
أسياف لحظ في الجفون مسلله
إن أبعدته يد النوى عن ناظري
…
فله بقلبي إذ ترحّل منزله
بالعاديات قد اعتدى عنا ضحىً
…
وبدا له في كل قلب زلزله
شمس النفوس لبينه قد كورت
…
والنار في الأحشاء منه مشعله
قال وأنشدني لنفسه ابتداء مكاتبة كتبها إلى القاضي بدر الدين السنجاري:
لولا مواعيد آمال أعيش بها
…
لمت يا أهل هذا الحي من زمن
وإنما طرف آمالي به مرح
…
يجري بوعد الأماني مطلق الرسن
وذكره أبو البركات المبارك بن أبي بكر بن حمدان المعروف بابن الشعار في كتابه عقود الجمان في شعراء هذا الزمان فقال في نسبه: أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن أحمد بن سليمان - ورفع نسبه إلى قحطان التنوخي المعري الدمشقي المنشأ والدار من بيت الأدب والكتابة والشعر والقضاء - أبو محمد شاعر أديب. سأله الأمين أبو حفص بن أبي المعالي أن يحل أبيات أبي الحسن علي بن العباس الرومي في شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وست مائة:
وحديثها السحر الحلال لو أنه
…
ولم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
…
ود المحدث أنها لم توجز
شرك النفوس وفتنة ما مثلها
…
للمطمئن وعقلة المتوفز
فنثرها وقال: وحديثها - الحديث - لا كالحديث العذب فهو كالماء الزلال، وأسكر فأشبه العتيق من الجريال، واستملى من غير ملل ولا إملال، وشغل عن عذر من واجب الأشغال وجنى من قتل المسلم المتحرز ما ليس بحلال، وصادت بشركه النفوس، ومالت إلى وجهه الأعناق والرؤوس. فهو نزهة العيون، وعقال العقول، والموجز الذي ود المحدث أن يطول؛ ثم أنشد لنفسه:
حديث حديث العهد يفتح نوره
…
فمن نوره قد زاد في السمع والبصر
يخرّون للأذقان عند سماعه
…
كأنهم من شيعه وهو منتظر
يلذ به طول الحديث لسامر
…
ولا يعتريه من إطالته ضجر
به طرف للطرف تجنى وعقلة
…
لغافل ركب سبقن إلى سفر
هي البدر فاسمع ما تقول فإنه
…
غريب وحدث بالرواية عن قمر
- انتهى كلام ابن الشعار وقال - قال أبو محمد: كتبت رقعة على لسان سيف الدين مقلد بن الكامل بن شاور إلى الملك الأشرف أبي الفتح موسى بن الملك الكامل على سبيل الإنجاز - وكان أبطأ عليه عطاءه - وذلك في سنة ثلاث عشرة وست مائة، مضمونها: يقبل الأرض بين يدي الملك الأشرف - أعز الله نصره! وشرح ببقائه نفس الدهر وصدره! - وهو ينهي أنه وصل إلى باب مولانا، كما قال المتنبي:
حتى وصلت بنفس مات أكثرها
…
وليتني عشت منها بالذي فضلا
ويرجو ما قاله في البيت الآخر:
أرجو نداك ولا أخشى المطال به
…
يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا
فأعطاه صلة سنية وقرر له جامكية وأحسن قراه ورتب له ما كفاه.
وأنشد له أو لغيره:
ما لي أرى ناقتي في سرحة الوادي
…
تشكو الكلال ولا يحدو لها حادي
إذا ونت من كلال السير أذكرها
…
عهد القدوم فتحيا عند ميعادي
ونقل من خطه قوله: وقال أنه عملها سنة اثنتين وستين وست مائة:
لي فيك يا غاية الآمال آمال
…
إذا تذكرتها أمشي وأختال
أميل من طرب إن عز ذكرك لي
…
كأنني ثمل تثنيه جريال
وأستمد نداكم من يلاحظني
…
ما عندكم من جميل فيه إجمال
لا أطلب الخير إلا من معادنه
…
راجي سواك له فقر وإذلال
أنا الفقير إليكم والغنى بكم
…
فقري غناي ولي في الغيب آمال
لحبك العفو أضحت في وسائلنا
…
ذنوبنا ومحب العفو مفضال
عمرت بالي لما أن سكنت به
…
فالآن فليتنعم منى البال
وصرت أوثر قلبي وهو منزلكم
…
لأنكم فيه بالإجلال نزال
لا حوّل الله من قلبي محبتكم
…
ما دمت حياً ولا حالت بي الحال
جدتم علينا ولم نشكر نوالكم
…
والشكر موهبة منكم وإفضال
وهبتمونا هبات ليس نقدرها
…
منها اليقين ومنها الوجد والحال
وكيف ما ملت مالت بي عواطفكم
…
إليكم والهوى بالصب ميال
ما زلت أرفل من نعماك في حدل
…
لهن من سابغ المعروف أذيال
أعيش بالحب إذ مات الأنام به
…
فلي حياة كما للناس آجال
لا مال لي غير آمال يحقق لي
…
منك الغنى فهي في التحقيق أموال
هتكت ستري ببلبالي بحبكم
…
وطالما هتك العشاق بلبال
تلذ لي فيك أقوال فتطربني
…
إن الهوى لذ فيه القيل والقال
لي في النهار أحاديث ملفقة
…
مع الأنام ولي في الليل أحوال
يا هادي الركب قد بتنا يسربنا
…
قوم همو عن طريق الرشد قد مالوا
لهم عيون عن الآثام مائلة
…
وهم عن الرشد والإحسان ضلال
وللشريعة حظ إذ نقيم به
…
من سار قصداً وللمعوج أوجال
أيبتغي الخير إنسان وقد كثرت
…
فتونه وهو مغتال ومختال
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
إذا كنت لي لم أبك ليلي ولا سعدي
…
ولا دار هند بالعقيق ولا هندا
ولم أتشوق نحو بارق بارق
…
ولم أتشوق لا العقيق ولا نجدا
ولم يشفني مر النسيم من الجوى
…
إذا اعتل مشتاق وهاج به وجدا
إليك تناهى الحب وانقطع الهوى
…
فلست أرى قبلاً سواك ولا بعدا
وقال رحمه الله: كان قد ركبني دين فوق عشرة آلاف درهم وبقيت منه في قلق، فرأيت في النوم والدي فشكوت إليه ثقل الدين، فقال: امدح النبي صلى الله عليه وسلم فقلت - يا سيدي! وماذا عسى أقول؟ قال: امدح النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت! قدري يعجز عن مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال: امدحه يوفي الله عنك دينك؛ فعملت وأنا نائم في النوم فقلت:
أجد المقال وجد في طول المدى
…
فعساك تظفر أو تنال المقصدا
هي حلبة للمدح ليس يجوزها
…
بالسبق إلا من أعين وأسعدا
قال: فانتبهت فأتممت القصيدة فوفى الله عني ديني في تلك السنة ومن شعره رحمه الله:
خرس اللسان وكل عن أوصافكم
…
ماذا أقول وأنتم ما أنتم
الأمر أعظم من مقالة حائر
…
قد تاه فيكم أن يعبر عنكم
العجز والتقصير وصفي دائماً
…
والبر والإحسان يعرف منكم
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
أراك إذا ما امتد طرفي حاضر
…
بكل مكان عند كل عيان
ولست أرى شيئاً سواك حقيقة
…
لأنك لا تفنى وغيرك فاني
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
يا أحمد إن فترة الأجفان
…
بليت بها في آخر الأزمان
والمعجز منك واضح البرهان
…
تحيي بالوصل ميت الهجران
وأشعاره ومحاسنه كثيرة، وعمّر حتى روى معظم مسموعاته ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم الأحد السادس والعشرين من صفر - سنة اثنتين وسبعين وست مائة - بدمشق، ودفن بجبل الصالحية بتربة والده، قريباً من مغارة الجوع رحمه الله.
أقطاي بن عبد الله بن عبد الله الأمير فارس الدين الأتابك المعروف
بالمستعرب الصالحي النجمي، كان مملوكاً لنجم الدين محمد بن يمن، ثم انتقل إلى ملكية الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وأمّره ثم ترقى بعد وفاته إلى أن عد من الأعيان الأمراء أكابرهم، ثم لما تملك الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله رفع من شأنه وجعله أتابك العساكر وعلق أمور المملكة جميعها به، فكان مدار الدولة بأسرها عليه وهو المتحكم فيها لا يضاهيه أحد ولا يعارضه فيما يفعل. ثم لما قتل الملك المظفر رحمه الله على الصورة المشهورة تشوف إلى السلطنة أكابر الأمراء فقدم الأمير فارس الدين الملك الظاهر ركن الدين وسلطنه وحلف له في الوقت فلم يسع بقية الأمراء إلا الموافقة، فتم أمره ورأى له ذلك واستمر على حاله عنده في علو المنزلة ونفاذ الأمر وكثرة الإقطاع والرواتب، وبقي على ذلك مدة سنتين، لكن الملك الظاهر يختار الراحة منه في الباطن ولا يسعه ذلك لافتقاره إليه ولعدم وجود من يقوم مقامه، فإنه كان من رجال الدهر حزماً وعزماً ورأياً وتدبيراً وخبرة ومعرفة ورئاسة ومهابة، فلما نشي الملك الظاهر الأمير بدر الدين بيليك الخزندار رحمه الله أمره بملازمته والاقتباس منه والتخلق بأخلاقه، فلازمه مدة. فلما علم الملك الظاهر منه الاستقلال بذلك جعله مشاركاً له في أمر الجيش، وقطع الرواتب التي كانت للأتابك واقتصر به على ما له من الإقطاعات؛ فجمع نفسه وتبع مراد الملك الظاهر، ثم قبل وفاته بمدة - لعل قريب
السنة أو ما حولها - أمره أن يتداوى؛ وقيل له أنه ربما ابتدأ به طرف جذام ولم يكن به شيء من ذلك، فلزم منزله وحصل له من الغبن ما كان سبباً لوفاته. ثم إن الملك الظاهر عاده قبل وفاته غير مرة، فعاتبه الأتابك - بلطف ومت بخدمته - وبكى بين يديه، فبكى الملك الظاهر لبكائه ولم يزل متمرضاً إلى أن توفي إلى رحمة الله بالقاهرة في جمادى الأولى - أظن في الثاني والعشرين - وقد نيف على السبعين سنة من العمر، رحمه الله تعالى.
لما كان عند ابن يمن بدمشق كان يعاشره أحد بني بردويل، وهم ثلاثة نفر أخوة جيرانه بالقصاعين؛ لكن كان أحدهم كثير الاختصاص به يعاشره؛ ولا يكاد يفارقه. فلما انتقل إلى الملك الصالح نجم الدين كان الأتابك من جملة من كان بدمشق من مماليكه حين أخذها الملك الصالح إسماعيل، فاعتقله وتمرض بالحبس فنقل إلى البيمارستان النوري. فلما أبل أفرج عنه وفسح له بالتوجه إلى الديار المصرية وهو في عافية في رقة الحال؛ فسير غلامه بورقة إلى ابن بردويل صاحبه يطلب منه ما يستعين به على سفره قرضاً. فلما قرأ الورقة قال للغلام صاحبها: ما أعرفه فبقى الغلام كلما عرفه به ويقول هو صاحبك وعشيرك يقول ما أعرفه فرجع الغلام إليه وعرفه ذلك، فتحيل وسافر وتنقلت به الأحوال. فلما جفل الناس في سنة ثمان وخمسين كان أولاد بردويل من جملة من توجه إلى
الديار المصرية، فقصدوا باب الأتابك، فدخل الحاجب وأخبره بهم؛ فقال: من هم؟ قال: فلان وفلان وفلان، قال: أما فلان وفلان فأدخلهم، وأما فلان فما أعرفه. فدخل أخواه فسلم عليهما ورحب بهما؛ فقالا: يا خوند! مملوكك فلان، قال: ما أعرفه. وهو يقولون: يا خوند! مملوكك الذي كان لا يزال في خدمتك وبين يديك وهو يقول: ما أعرفه ولا أعرف أولاد بردويل إلا أنتما لا غيركما. ثم بعد جهد أذن له في الدخول فحكى له الحكاية، فخجلوا واعتذروا بما ناسب الوقت، ومع هذا أحسن إليهم كلهم إحساناً كثيراً غمرهم به - رحمه الله تعالى.
أقوش بن عبد الله مبارز الدين المنصوري استاد دار الملك المنصور صاحب حماة، كان متحكماً في دولته، متمكناً منه، لا يخالفه في ما يشير به، وله الإقطاعات الوافرة والكلمة النافذة، في مملكة مخدومه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم الخميس رابع ذي الحجة من هذه السنة، وقد نيف على الأربعين سنة من العمر رحمه الله وحزن عليه مخدومه حزناً كثيراً وأقر خبزه بيد أولاده، ولم يتعرض إلى شيء من تركته. وكان المبارز موصوفاً بشجاعة، وكرم طباع، ولين جانب رحمه الله.
الحسين بن بدران بن أحمد بن عمرو بن مفرج بن عبد الله بن الفتح بن خاقان بن شيخ السلامية أبو عبد الله نجم الدين، كان رجلاً جيداً،
لين الجانب، رئيساً، مسارعاً إلى قضاء الحوائج لمن يقصده؛ وولي مشارفة ديوان بعلبك وشهادته ومشارفة قلعتها سنين كثيرة، لم يشك منه أحد من خلق الله تعالى، وجميع أهل البلد يثنون عليه بحسن سيرته ومعاملته لهم. توفي إلى رحمة الله تعالى بعلبك ليلة الثلاثاء رابع شعبان وهو في عشر التسعين، ودفن بمقابر باب سطحاء ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك رحمه الله تعالى.
سليمان بن الخضر بن بحتر شهاب الدين، كان والده الأمير سعد الدين الخضر من الأمراء الجبليين، وأمره الملك الصالح عماد الدين رحمه الله، واستمر على إمريته إلى حين وفاته في الأيام الناصرية الصلاحية. فأعطى خبزه لولديه شهاب الدين المذكور وأخيه شجاع الدين بحتر، وكاتن شهاب الدين هو الرئيس الكبير السن، فلما قصد التتر حلب في سنة سبع وخمسين ورجعوا منها جهز الملك الناصر رحمه الله إليها جماعة، كان شهاب الدين من جملتهم وكان ممن اعتصم بقلعة حلب، فلما فتحت على الصورة المشهورة فاستحضره هولاكو في جملة من استحضر ممن كان في القلعة؛ فقيل له: هذا له صورة في بعلبك وبلادها، وربما يحصل به مقصود من تسليم القلعة واستنزال من في الجبال فإنهم أقاربه ويصغون إلى قوله، فخلع عليه وسيره إلى بعلبك صحبة بدر الدين يوسف الخوارزمي رحمه الله المتولى لها من جهته، ووعد من جهتهم بأقطاع فلما لم يكن لهم أثر في حصول مقصودهم أطرحوه وبقي في بيته إلى أن فتح الملك المظفر
سيف الدين قطز رحمه الله الشام، فلم يحصل في أيامه على طائل، وكذلك في الأيام الظاهرية إلى حين وفاته. وكان توجه إلى الديار المصرية فأدركته منيته هناك في سابع ذي القعدة، وقد نيف على الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن عبد الله بن بخدكين أبو محمد الجرزي المنعوت بالشمس، كان رجلاً حسناً، له معرفة بالنجوم وعلم الهيئة، ويتلو القرآن العزيز في غالب أوقاته، وكان خطيب مشهد علي رضي الله عنه الذي ظاهر باب الفقاعية من مدينة بعلبك، وعلى ذهنه من الأشعار والحكايات والنوادر شيء كثير، حسن المجالسة لا يذكر أحداً إلا بخير. وكانت وفاته ببعلبك ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر من هذه السنة وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
عبد اللطيف بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن هبة الله أبو الفرج نجيب الدين النميري الحراني الحنبلي المعروف والده بابن الصيقل، ولد بحران سنة سبع وثمانين وخمس مائة، سمع الكثير من جماعة من الشيوخ، منهم أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ومن جماعة من أصحاب أبي القاسم الخضر الشيباني، وأصحاب القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري؛ وأجازه جماعة من الفقهاء كأبي جعفر الطرسوسي
وأبي الحسين الجمال وأبي الفتح الرازي والقاضي أبي المكارم المعروف باللبان وغيرهم. وحدث بالكثير ببغداد ودمشق والقاهرة ومصر وغيرها، وبقي حتى تفرد بالرواية عن كثير من شيوخه، وازدحم عليه أصحاب الحديث ولازموه للسماع واتفقوا عليه وخرجوا له، ولم يبق في زمنه من يجري مجراه في علو الإسناد وكثرة المرويات. وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة، فحدث بها مدة إلى حين وفاته، وجرى عليه محن؛ شارك فيها الصلحاء، وزاحم من يقتدي به في ذلك من أولياء توفي في مستهل صفر بقلعة الجبل ظاهر القاهرة ودفن بأول القرافة خارج السور رحمه الله تعالى.
عبد الله بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين أبو محمد الأنصاري المقدسي الشيخ العارف الصالح، كان من أعيان المشايخ، مشهوراً بالخير والعبادة ومكارم الأخلاق، جمع الله له بين حسن الصورة والمعنى، وله الصيت المشهور والآثار الجميلة ومعظم مقامه بنابلس، وله فيها زاوية معمورة بالفقراء الأخيار والواردين، ويتردد إلى البيت المقدس ويكثر المقام به، وله فيها زاوية مشهورة وأتباع ومريدون، وعنده فضيلة ومعرفة بطريق القوم.
وله نظم جيد، فمنه:
لك في القلوب منازل ومقام
…
لا العقل يدركها ولا الأفهام
ولروح من يهواك فيه إشارة
…
لا الطرف يلحظها ولا الأرهام
ولقلبي المشتاق فيك صبابة
…
لا الدهر ينفدها ولا الأيام
وسرت إلى الأرواح منك نسيمة
…
سكرت بها العشاق فيك وهاموا
من أصبحت خطرات ذكراك قوته
…
وفؤاده مأواك كيف ينام
ومن التجت بجناب عزك روحه
…
واستمسكت بعراك كيف يضام
ومن أحرقت نيران حبك قلبه
…
شوقاً إليك وهام وكيف يلام
ما الوجد وجداً إن عداك ولا الهوى
…
إلا هواك ولا الغرام غرام
وإذا خلت منك الخيام وأصبحت
…
تؤوي سواك فما الخيام خيام
وقال: رحمه الله تعالى:
فاء الفقير فناؤه عن ذاته
…
وفراغه من نفسه وصفاته
والقاف قوة قلبه بحبيبه
…
وقيامه بالصدق في مرضاته
والياء يرجو ربه ويخافه
…
ويقوم في التقوى بحق تقاته
والراء رقة قلبه وضياؤه
…
ورجوعه لله عن شهواته
وكتب الشيخ جمال الدين عبد الرحمن والد الشيخ فخر الدين الحنبلي يذم السماع وأهله:
يا سائلي عن طريق الفضل والأدب
…
عن معشر عقلهم أدى إلى العطب
قوم بلا راحة أستانسوا وبلوا
…
عن التكسب بين الناس والتعب
قالوا بلا سبب الله رازقنا
…
والله رازقنا بالسعي والسبب
أليس مريم رب العرش قال لها
…
إليك هزي بجذع يانع الرطب
ولو يشاء أتاها رزقها رغداً
…
من غير ما تعب منها ولا نصب
وكان رزق رسول الله جاعله
…
رب البرية تحت القصر والقصب
وباكروا اللهو واللذات واتخذوا
…
لهو الحديث لهم ديناً مع الطرب
إذا أتوا منزلاً قالوا لصاحبه
…
قبّل يد الشيخ ذا الأفضال والأدب
هذه له نظر هذا له همم
…
له المكرمات بين العجم والعرب
يمشي على الماء يطوي الأرض قاطبة
…
وفاتح كل باب مغلق أشب
اطلب رضا الشيخ وانظر أين مذهبه
…
وليس مذهبه إلا إلى الذهب
هذا وقد جاء بالمعلوم فابتدر
…
وا محسرين عن الأيدي على الركب
كل امرئ منهم في الأكل معطله
…
وترجف الأرض يوم الروع بالهرب
إذا تغنى مغنيهم سمعت لهم
…
صراخ قوم رموا بالويل والحرب
ما زال ليلهم رقصاً فإن تعبوا
…
تساندوا في زوايا البيت كالخشب
ضرب القضيب مدى الأيام شغلهم
…
والرقص دأبهم والضرب في الطرب
قالوا لنا مذهب وهي الحقيقة لا
…
تقول بالشرع ثم الدرس في الكتب
ولا نريد من الرحمن جنته
…
ولا نخاف لظىً جاءت على غضب
وما بهذا كتاب فيه أخبرنا
…
وجاءت الرسل بالترغيب والرهب
زاروا النساء وآخوهن هل عصموا
…
منهن أم أمنوا من طارق النوب
نسوا قضية هاروت وصاحبه
…
ماروت إذ شربا كأساً من العطب
وهمّ يوسف لما أن رأى عجبا؟ ً
…
برهان خالقه أعجب من العجب
ونظرة تركت داود ذا خرق
…
على خطيئته باك أخا كرب
أبرأ إلى الله من قوم فعالهم
…
هذا وإن دينهم ما عشت لم أتب
فأجابه الشيخ عبد الله رحمه الله:
يا منكراً فضل أهل الفضل والأدب
…
وناسباً فعلهم ظلماً إلى اللعب
قوم لهم عند ذكر الله أفئدة
…
تطير شوقاً لفرط الحب والطلب
قلوبهم بالغنى بالله قد ملئت
…
فما لهم حاجة في الخلق والسبب
قد أصبحت في رياض القرب ساكنة
…
أرواحهم فغدت بالأنس والطرب
قد علت سبعة الأفلاك همتهم
…
مع السماوات والكرسي مع الحجب
فلم تزل في ظلال العرش سائرة
…
فيا لها رتبة جلت على الرتب
هم الرجال وأهل الله نعرفهم
…
من خصه الله بالتوفيق والقرب
فيهم ودائع أدحال وأودية
…
وبين أظهرنا في العجم والعرب
لذكرهم ينزل الرحمن رحمته
…
كما سمعناه في الأخبار والكتب
يراهم الجاهل العاني فيحسبهم
…
من التعفف أهل المال والحسب
فالفقر فخرهم والحق عزهم
…
واللطف وصفهم والغبر في تعب
هذا هو الفضل لا بالدرس في كتب
…
هذا هو الفخر لا بالمال والحسب
تقدست وصفت أسرارهم فرأت
…
معنى يجل عن الإدراك والسبب
لما انجلت وتجلت في سرائرهم
…
قاموا لها وجثوا منها على الركب
وصاح صائحهم صوتاً لو انفلقت
…
له الصخور لما كانت من العجب
ورب صرخة وجد لو تلبثها
…
لمات منها لفرط النار واللهب
ولو حدا لهم الحادي وأنشدهم
…
باسم الحبيب بصوت طيب دأب
تراهم بين سكران ومطرح
…
وهائم واله ملقى ومضطرب
وبين باك وذي وجد وذي حرق
…
وبين شاك وأواه ومنتحب
صرعى من الوجد لامس ولا عرض
…
سكرى من الحب لا من خمرة العنب
إن بشروا بالوفا فالقوم في مرح
…
أو خوفوا بالجفا فالقوم في حرب
هذا السماع الذي اذكرتموه على
…
أهل السماع وأنتم منه في نصب
والله ما فعلوه أهله عبثاً
…
ولا لحظ ولا دنيا ولا سبب
وإنما نسمة مرت بهم فسرت
…
في كل قلب دميث طاهر لجب
ويفهم القول والمعنى ويدركه
…
ذوو البصائر أهل العقل والرتب
عجبت منكم وأنتم أيها الفقها
…
أهل الحديث وأهل الفضل والأدب
دحضتم القول في أهل السماع فلم
…
تبقوا على أحد في السب والغضب
فكيف حرمتم كل السماع ولم
…
تفرقوا بين أهل الصدق والكذب
فكم رجال وأبدال وقد حضروا
…
هذا السماع من السادات والنجب
قوم تعم بقاع الأرض دعوتهم
…
بالنضر والأمطار والسحب
فهل ذكرتم بتصريح كما ذكرت
…
أسماؤهم في كتاب الله بالعربي
لو كان إنكارهم لله يا فقها
…
لكان خال من الأهواء والغضب
نهيتم الناس عن أهل السماع وما
…
والله صاحبهم عنهم بمنجذب
وقد تعبتم وأتعبتم بذمكم
…
أهل السماع وما هذا بمنتحب
لكن نشبتم فلم يمكن رجوعكم
…
عنهم فيا رب خلصهم من النشب
وربما كان فيهم من له أسف
…
على السماع ولكن خافكم فعبي
وبعد هذا فإني ناصح لكم
…
وحرمة المصطفى الهادي النبي العربي
لا تهلكوا دينكم بالذم للفقرا
…
أهل السماع فهذا غاية العطب
هذا السماع لهم أهل يخص بهم
…
وغيرهم منه في لهو وفي لعب
فاللهو منه حرام ليس يحضره
…
إلا العوام وأهل اللغو والتعب
والحق منه حلال طيب نفس
…
خال من اللهو والأهواء واللعب
كم بين قلب منيب طاهر يقظ
…
وبين قلب مبيد مظلم حرب
ما أحسن العدل والإنصاف يا فقها
…
ما تفرقوا بين غصن البان والحطب
قلبان قلب لطيف كالنسيم إذا
…
سرى وقلب إذا أقسى من الخشب
هذا يعادل هذا في تحركه
…
عند السماع فافتوا واكشفوا كربي
فارجع إلى الله عن كسر القلوب وعن
…
ذم الرجال ولا تغتبهم وتسب
ما بدعة أحدثت خيراً وعافية
…
وتوبة وصلاحاً يا أخا العرب
كبدعة أحدثت شراً ومعصية
…
وفتنة وفسادا يا أبا العتب
ما ثم إلا النفوس إلا أظهرت حسداً
…
فأظهرت بعض ما فيها من التعب
إني لأرجو بحبي في الرجال غداً
…
وبالبشر أرجوه من فعلي ومن نصبي
أهل الصفا والوفا والحب للفقرا
…
والصدق والرفق والأخلاق والأدب
ورحم الله أهل الفقر والفقها
…
والمسلمين جميعاً فادعه يجب
حكى قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله عن الشيخ عبد الله المذكور رحمه الله ما معناه قال: كنت يوماً بجامع دمشق مع الفقراء، فحضر شخص ومعه كتاب وذهب في خرقة، وقال للفقراء: أفيكم من يروح إلى الديار المصرية مع هذا القفل ليتصدق بحمل هذا الكتاب والذهب إلى أصحابه مثاباً في ذلك؟ قال الشيخ عبد الله: فلم يتكلم من الجماعة أحد. فحضر لي إجابة سؤال ذلك الرجل والتوجه إلى الديار المصرية للتفرج، فقلت له: أنا أروح. فأعطاني الذهب والكتاب، فخرجت مع القفل، وبقيت في الطريق تعباناً جائعاً أصل الأيام بلا أكل. فلما توسطنا الطريق جعت جوعاً شديداً فعاينت الموت، وإذا بالقفل يقولون: قد طلع علينا حرامية، فأخذت قوسي وتبعتهم، فانهزموا عن آخرهم. قال: فعظمني أهل القفل وأطعموني وأكرموني غاية الإكرام؛ فلما وصلنا الديار المصرية نزلنا في خان، فلما استقرينا في الخان سمعت غلبة عظيمة وإذا بشخص من الجماعة يقول: قد زاح لي ذهب عدده كذا ووزنه كذا وهو في خرقة صفتها كذا. قال: فقلت في نفسي: والله وكذلك الذهب الذي معي، وتألمت لذلك وتوكلت على الله تعالى. فشكى ذلك الرجل إلى الوالي وأحضر رجاله، وأخذ جميع من في الخان إلى دار الوالي ليفتشونا، فرحت معهم، وقد انقطع قلبي. فلما صرنا في دار الوالي أحضروا واحداً، ثم أنه أحضر شخصاً وصمم عليه؛ ثم قال له: هات الذهب بعينه وإلا فعلت بك وصنعت.
فأخذه منه وسلمه إلى صاحبه، ففرحت بذلك. ثم إنه قال لي الوالي من غير معرفة بيني وبينه ولا بأحد من خدمه في ذلك الوقت: يا عبد الله! أيش هذه العمائل؟ الله عليك! ما العدد العدد والوزن الوزن والخرقة الخرقة؟ فارتعت من كلامه وإطلاعه على ما هو مغيب عنه، فرميت روحي على أقدامه؛ فعانقني وقال: لا تعود إلى مثلها؛ قال: فقلت له: يا سيدي! هذا وأنت وال. قال: نحن قوم نرى أن نتستر بذلك؛ قال: فودعته ومضيت وآليت على نفسي أن لا أخرج من مكان إلا بإذن؛ وحكى ولده الشيخ محمد رحمه الله قال: قال لي والدي رحمه الله: يا محمد! أنا في كل سنة أزور القدس والخليل، فاتفق أنني زرت الخليل صلى الله عليه وسلم وخطر لي أني أبيت داخل المسجد لأتملى بالخليل عليه السلام وأقرأه عنده ختمة. فلما كان بعد العشاء جاء الشحاني وقالوا لي: ما تخرج يا سيدي أو نغلق عليك؟ فقلت: أغلقوا علي. فلما أغلقوا قمت عند رأس الخليل عليه السلام وجعلت أصلي عند رأسه وأقرأ. فلما صليت وقرأت البقرة وشرعت في آل عمران سمعت قائلاً يقول: ما تتأدب تقف عند رأس الخليل! قال: فزمعت فلما أفقت تأخرت؛ فلما كان بعد قليل وإذا بالأبواب قد فتحت ودخل قوم كثيرون لا أعرفهم؛ قال: فاقعدت وامتدت الصفوف بحيث أنهم ساووني وما أقدر أن أنطق بكلمة، ثم إن شخصاً منهم طلع إلى المنبر وخطب ونزل وصلى بهم، ثم انصرفوا فغلقت الأبواب كما كانت وما قدرت على كلام أحد منهم. ثم بقيت كذلك إلى الصباح. وللشيخ
عبد الله رحمه الله أشعار كثيرة وكلام حسن على طريق القوم، وكان صحب والده وأخذ عنه وانتفع به، وكان لوالده عدة أولاد جميعهم أخيار صلحاء. والشيخ عبد الله المشار إليه منهم والمتعين من بينهم اجتمعت به بدمشق غير مرة؛ ورأيته يملأ العين والقلب ويقصر عن محاسنه الوصف ودرج إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة وهو في عشر السبعين بنابلس، ودفن بالطور وصلى عليه بالتيه بجامع دمشق يوم الجمعة العشرين من شعبان. رثاه ولده أبو الحسن الآتي ذكره إن شاء الله تعالى:
أأرض بها قبر الحبيب يزار
…
لك الدمع من جفني القريح نثار
لقد أنس الرحمن أرضاً ثوى بها
…
وأصبح فيها معهد ومزار
وطاب ثرى البطحاء من طيب نشره
…
وحسبك قبر للخليل جوار
فلا تسألن الصبر عمن أحبه
…
ففي القلب من فقد الأحبة نار
فلا تذكر إلى الدار من بعد أهلها
…
فما الدار من بعد الأحبة دار
لقد أوحشت تلك المنازل بعدهم
…
وكان عليها هيبة ووقار
سلام على تلك الخيام وأهلها
…
لقد خلفوني في الخيام وساروا
وأما والده الشيخ غانم فكان من سادات المشايخ وأعيانهم وأعلمهم بطريق القوم، وله بقرية نورين من عمل نابلس زاوية أقام بها عشرين سنة، ولما فتح البيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة استوطنه وأقام به نحواً من خمسين سنة، ثم قدم دمشق فتوفي بها في غرة شعبان
سنة اثنتين وثلاثين وست مائة عشية الأحد، ودفن يوم الاثنين في الحضيرة التي بها السادة المشايخ عبد الله البطائحي وعبد الله الأرموي - رحمهما الله تعالى - بسفح قاسيون، وبلغ من العمر سبعين سنة وكان الشيخ غانم في السنة التي فتح فيها بيت المقدس على يد رجل رآه مرة واحدة، ثم لم يزل يراه بظنه من الأبدال، وانقطع إلى العبادة تحت صخرة بيت المقدس في الأفياء السليمانية ست سنين، وصحب بعد ذلك المشايخ: عمر المدني، ومحمد الديسني، وأبا بكر العين سرياني، ومحمد الكيلاني، ومحمد القرشي، وأبا عمران المغربي وغيرهم، وصحب الشيخ عبد الله الأرموي صحبة كبيرة، ولازمه إلى حين وفاته. وماتا جميعاً - رحمهما الله - في مدة قريبة. وسبب توبته وانقطاعه إلى الله تعالى أنه تمرض عام فتح المقدس مرضة عظيمة، فلما أبلّ سأل عن أصدقائه الذين كان يصحبهم قبل توبته، فوجد أكثرهم قد مرضوا وماتوا، فحزن عليهم وأقلع من وقته وأكب على العبارة والإقبال على الله تعالى وحج ثلاث حجات محرماً من بيت المقدس، وفتح عليه في الحجة الثالثة بما فتح. وقال: خرجت حاجاً ثم عزمت بعد الحج على السياحة بأرض تهامة، فجاءني رجل سلّم عليّ وقال: لهذا الأمر رجال غيرك أنت في صلبك ذرية ولك أصحاب ينتفعون بك؛ وأخبرني ببعض ما أنا فيه، ثم غاب عني فلم أره؛ فرجعت إلى الشام. وقال: رجعت سنة من الحجاز إلى الشام وأنا مريض، لا أستطيع الكلام ولا القيام ولا أكل الطعام، فبينما أنا مطروح في البرية - قد ذهب عني رفقتي بعد
اليأس مني - جاءني رجل مغربي أشقر، فسلم عليّ ثم سار يحدثني بما أنا فيه وبما يكون مني، وأنا لا أشك أني سائر في الهواء، غير أني قريب من الأرض ساعة؛ ثم قال: اجلس. فجلست؛ ثم قال: نم. فنمت. فنام إلى جانبي، فاستيقظت فلم أجده. ووجدت نفسي قريباً من الشام ولم أجد بي مرضاً، ولا أحتاج إلى طعام ولا شراب، حتى دخلت بيت المقدس. وأما أخلاقه فلم ير ساخطاً على أحد، ولا سمع مغتاباً لأحد ولا ذاماً له، ولا أسقط لأحد حرمة، ولا كسر قلباً، ولا نسى وداً، ولا رأى لأحد فعلاً ومن توجه إلى الله تعالى لم يسأل من الدنيا شيئاً ولا تعرض له، وإذا فتح الله عليه بشيء من الدنيا لم يرده، وإذا أخذه لم يبقه ولم يدخر، ولم يفرح بما أوتي منها ولا تأسف على ما فاته منها، وكان كثير الأمراض والابتلاء، ولم يسمع منه أنين ولا شكاية، وإذا سئل عن حاله ظهرت عليه أعلام الرضاء. وقال ولده الشيخ عبد الله: أخبرني والدي عن سبب توبته ما تقدم، وقال: لما وضعت يدي على يد الشيخ الذي توبني نزعت الدنيا من قلبي كما تنزع الشعرة من العجين، فلما نهضت قائماً تلا عليّ " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ". قال: فجعلت هذه الآية قدوتي إلى الله تعالى وسلكت بها في طريقي وجعلتها نصب عيني لكل شيء منها. قالت لي نفسي: أو أمرني به هواي فعلت بخلافه. فهذه أخلاق كريمة ومواهب جسيمة لا يقوى عليها أحد إلا بتأييد رباني. وللشيخ غانم رحمه الله كلام كثير مدون، وأشعار
على طريق القوم، ليس هذا موضع ذكرها، نفعنا الله به وبالصالحين إنه جواد كريم.
علي بن عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي أبو الحسن نجم الدين الربعي الشافعي، كان شاباً محصلاً مجتهداً، عنده فضيلة وأهلية وديانة، لم يزل منذ نشأ مكباً على الاشتغال والتحصيل والسماع، فسمع كثيراً من المشايخ، واخترمته المنية شاباً، فتوفى في يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر بدمشق، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون رحمه الله، ولعله لم يبلغ من العمر ثلاثين سنة، وكان عالماً بالفقه والأدب والحديث، وله نظم حسن، فمنه هذه يقول:
أعاهد قلبي في اجتناب وصالكم
…
ويغلبني شوقي إليكم فأنكث
واحلف لا واصلتكم ما بقيتموا
…
واعلم أن الوصل خير فأحنث
وقال يمدح شيخه الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله حين أملى عليه كتابة المسمى بالإقليد لذر التقليد في شرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي رحمه الله:
يا إماماً فاق كل إمام
…
وفقيهاً أزرى بكل فقيه
أنت حبر صان الإله بك الدي
…
ن من الترهات والتمويه
أنت تاج لمفرق الدين تحميه
…
من كل جاهل وسفيه
أنت أوضحت مشكلات المعاني
…
يا إمام الدنيا من التنبيه
أنت ألبسته بألفاظك الغر
…
لباساً يرد ما قيل فيه
كم تصدى لذاك قوم قصدوا
…
عن بديع وغامض تحويه
ما رعوه حق الرعاية حتى
…
أخذ السهم بعدهم باريه
فأنار الكنوز منه وأدنى
…
غصن أثماره لمن يجتنيه
فبدا واضح كشمس النهار
…
نازعاً يده لمن يجتليه
وأعلمنا أن الجهالة كانت
…
عن مبادي أفهامنا يخفيه
فوقاك الإله من كل ما تخ
…
شى وآتاك كل ما ترتجيه
وقال يمدح الإقليد المذكور وشيخه:
ما زال للتنبيه باب مغلق
…
عن فهم قوم ثاقب وبليد
أغنى عن الشراح طراً فتحه
…
فلذلك قد ذهلوا عن المقصود
حتى أرى شيخ البرية كلها
…
علامة العلماء بالإقليد
شرح وجيز بالإبانة كامل
…
حاوي هدى التقريب والتمهيد
فيه النهاية في البيان وضمّ
…
نه إحكام ورد عقود
كاف بتلقيح الفهوم مهذب
…
تهذيبه عار عن التقليد
فأبان منه كل معنى مشكل
…
خاف وقرب منه كل بعيد
وأزال عنه كل شبهة قائل
…
ساه ورد مقال كل حسود
بعبارة متعذر أسلوبها
…
إلا على ذلق اللسان حديد
فرأيت وجه الحق أبيض ناصعاً
…
ما بين هاتيك الحروف السود
يا أيها المولي الإمام ومن له
…
الثناء باق على التأييد
أبشر فقد فقت البرية كلها
…
علماً بلا شك ولا ترديد
عمر بن بندار بن عمر أبو الفتح كمال الدين التفليسي، مولده بتفليس سنة اثنتين وست مائة
- تخميناً - تفقه على مذهب الشافعي رحمة الله عليه، وقرأ الأصولين وغيرهما من العلوم، وبرع في ذلك، وسمع وحدث ودرس وأفتى وولي القضاء بدمشق مدة زمانية، وكان محمود السيرة، مشكور الطريقة؛ وقدم القاهرة وأقام بها مدة يشغل الطلبة بعلوم عدة في غالب أوقاته، ووجد الناس به نفعاً كثيراً. وتوفي ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول بالقاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم. وكان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في العلوم مع الديانة الوافرة والعفة المفرطة وشرف النفس مع عدم المال رحمه الله تعالى. ولما تملك التتر الشام في سنة ثمان وخمسين وست مائة، سير له تقليد بقضاء الشام بأسره والجزيرة والموصل وغير ذلك من البلاد المجاورة لها، وباشر ذلك مدة يسيرة إلى حين قدم قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكى رحمه الله متولياً من جهة هولاكو، فتوجه القاضي كمال الدين إلى حلب وأعمالها متولياً لها، وكان في تلك الأيام اليسيرة قد فعل من الخير والإحسان والذب عن الرعية ما يقصر عن الوصف، وكان مسموع القول عند نواب التتر بدمشق، لا يخالفونه:
فبالغ في الإحسان إلى الخاص والعام، والسعي في حقن الدماء وحفظ الأموال لم يتدنس في تلك المدة بشيء من الدنيا مع فقره وكثرة عائلته، ولا استضاف في زمن ولايته مدرسة ولا غيرها، بل اقتصر على ما كان مباشره من تدريس العادلية الكبيرة إلى حين سفره إلى حلب، وجرى عليه تعصب كثير ونسب إليه أشياء برأه الله منها، ونزهه عنها، فعصمه الله ممن أراد ضرره. وكان نهاية ما نالوا منه أنهم ألزموه بالسفر إلى الديار المصرية، فتوجه إليها على ما تقدم شرحه، ولم يزل بها معززاً مكرماً إلى حين وفاته رحمه الله تعالى ورضي عنه. فلقد كان من حسنات الدهر. وصل إلى دمشق في سادس عشرين ربيع الأول، ومنه قضاء ماردين وميافارقين، ونظر جميع الأوقاف والجامع، وكان القاضي قبله صدر الدين بن سنى الدولة في سنة ثلاث وأربعين، وكان كمال الدين ينوب عنه بدمشق.
أنشده بهاء الدين محمد بن الدجاجية قوله فيه بديهاً بمجلس الحكم بالعادلية أيام مباشرته الحكم بها، خلافة عن قاضي القضاة صدر الدين رحمه الله تعالى يقول:
يا من شرفت بفضله تفليس
…
قد سار بحسن العدل عنك العيس
ما للعمرين نالت غيرك يا
…
من زين به القضاء والتدريس
عمر بن الياس بن العنطوري، كان رجلاً صالحاً، كثير العبادة وقيام
الليل، وحج غير مرة على قدميه، وحال عوده من الحجاز يلبس كلوتة صفراء جديدة، توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بجبل لبنان في شهر ربيع الآخر هذه السنة وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
عيسى بن موفق بن المزهر مبارك سيف الدين التنوخي، كان من أعيان الأمراء الحلبيين، ووالده الأمير ناصر الدين كان خصيصاً بالملك الصالح عماد الدين رحمه الله تعالى، وكان هذا سيف الدين كثير الخير والمروءة، صادق اللهجة، لا يذكر أحداً بسوء، كثير البر بمعارفه وأصحابه والمكارمة لهم، توفي ببعلبك ليلة الأحد خامس صفر، وحمل إلى قرية بحوشية من قرى البقاع البعلبكية، وهي شمالي كرك نوح عليه السلام، فدفن بها عند أهله؛ وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
كيكاووس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن قطلمش بن أنر بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلطان عز الدين بن السلطان غياث الدين بن السلطان علاء الدين السلجوقي، قد ذكرنا أن والده لما مات اقتسم هذا عز الدين وأخوه ركن الدين بلاد الروم بينهما مناصفة، وأن أخاه ركن الدين تغلب على مملكة الروم، فلما تغلب هرب عز الدين بجماعة من خواصه وأهله، واستصحب معه مالاً
وذخائر، وقصد القسطنطينية. فلما حل بها خافه ملكها، فقبض عليه وحبسه في بعض قلاعه، فلم يزل محبوساً بها إلى أن بعث بركة ملك التتر عشرين ألف فارس إلى بلاد صاحب القسطنطينية، فأغاروا عليها من سائر نواحيها فراسلهم في طلب الهدنة، فأجابوه على أن يسلم لهم السلطان عز الدين وما أخذ معه، فسلمه إليهم وما كان أخذ معه، وذلك في سنة ستين وست مائة، وساروا به إلى بركة، فأكرمه وقدمه على عسكره، وأمره بقصد صاحب قسطنطينية. فلما نزل على بلاده كان عنده فارس الدين أقوش المسعودي رسولاً من جهة الملك الظاهر، فخرج إليه وأمره بالرحيل وقال له: هذا قد صار من أصحاب السلطان الملك الظاهر ولا سبيل لك عليه، فرحل ولم يزل عند بركة إلى أن مات. وانتقل الملك إلى ابن أخيه منكوتمر، فأقام عنده إلى أن توفي في هذه السنة. وخلف من الأولاد ثلاثة ذكور، وهم: الملك المسعود، مقيم في سوداق في خدمة منكوتمر، والآخران عند بالعوش ملك الأشكر في اسطنبول في كتّاب الروم، لا يعرفان الإسلام. وكانت وفاة السلطان عز الدين بصوداق من بلاد الترك، ومولده سنة ست وثلاثين وست مائة رحمه الله تعالى.
لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين الإيدمري الدوادار المعروف بالدرفيل، كان مفرط الذكاء، كثير المعرفة والخبرة بالأمور، محباً للعلماء والفقراء، حسن الظن بهم، يقبل عليهم ويقضي حوائجهم، ويبالغ في إكرامهم وتعظيمهم، وعنده مشاركة وإلمام بالفضيلة، ويكتب خطاً جيداً
حسناً، وله همة عالية، وصدر واسع، وتجمل تام، وكان الملك الظاهر يحبه ويؤثره كثيراً، ويعتمد عليه ويثق به، وحرمته وافرة وأوامره عند سائر ولاة الأطراف ونواب السلطنة ممتثلة، وهو محبوب إلى الخاص والعام، وأمر المكاتبات وجميع ما يتعلق بذلك معزوق به، وبالأمير سيف الدين بلبان الرومي، لكنه كان أكثر تنفيذاً للأشغال من الرومي، ولم يزل على ذلك إلى أن تمرض في هذه السنة. وتوفي إلى رحمة الله تعالى في رابع عشر شهر رمضان منها ببستان الخشاب ظاهر القاهرة، ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله تعالى. سمع من أبي القاسم عبد الرحمن بن مكي السبط وجماعة غيره، وتوفي وهو في عشر الأربعين رحمه الله تعالى.
مجاهد بن سليمان بن مرهف بن أبي الفتح التميمي المصري الخياط ويعرف بابن أبي الربيع، توفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الآخرة هذه السنة بالقرافة الكبرى لأنها كانت سكنه، ودفن بها أيضاً وقد ناهز سبعين سنة من العمر رحمه الله تعالى كان فاضلاً أديباً ومن شعره في أبي الحسين الجزار، وكان بينهما مهاجاة:
أبا الحسين تأدب
…
ما الفخر بالشعر فخر
وما ترشحت منه
…
بقطرة وهو بحر
إن جئت بالبيت منه
…
وما لبيتك قدر
لم تأت بالبيت إلا
…
عليه للناس حكر
وقال يهجوه:
لا تلمني إذا غسلت تعاشي
…
ر كغسل الكروش مما خباه
فسأشويه بالهجاء ولا أت
…
ركه باقياً بشحم كلاه
وقال فيه أيضاً يهجوه:
إن تاه جزاركم عليكم
…
بفطنة عنده وكيس
فليس يرجوه غير كلب
…
وليس يخشاه غير تيس
وقال أيضاً فيه يهجوه:
ما للأديب تعاشير بلا سبب
…
في خده صعر في أنفه شمم
وسوق وردان لم يدرس بوالده
…
حياً ولما ماتت الأبقار والغنم
وقال فيه أيضاً يهجوه:
ما لتعاشير حلاقيمه
…
عليّ قامت من مواعينه
فلا يلمني وليلم نفسه
…
إذ هو مذبوح بسكينه
والله ما عصيتها فعله
…
إلا بتقطيع مصارينه
وكتب إلى الوزير يعاتبه على التقرب إليه:
قل لوزير العصر لا تطرح
…
أمراً به أعني بك العتب
واجزر عن الجزار نفساً فقد
…
تجني به ذنب ولا ذنب
ولا تجالس طرفاً نازلاً
…
يا طال ما جالسه كلب
وقال أيضاً يهجوه من أبيات:
يجحدني ما لم يفد جحده
…
دعه فما ينفعه مينه
كذلك الرجس لما ذوي
…
وكاد يقضي ودنا حينه
ما إن صببت الماء في قاعه
…
وقام إلا قويت عينه
وقال أيضاً يهجوه:
أعد يا برق ذكر أصيل نجد
…
فإن لك اليد البيضاء عندي
أشيمك بارقاً فيضلّ عقلي
…
فوا عجباً تضل وأنت تهدي
ويبكيك السخاء ولست ممن
…
تحمل بعض أشواقي ووجدي
بعثت مع النسيم لهم سلاماً
…
فما عنوا عليّ له بردّ
وقال أيضاً:
فوق خده بنفسج وشقيق
…
كيف حملتموه ما لا يطيق
وفم فيه ما يجلّ عن الو
…
صف ونخوة قلبه فيضيق
وقوام يزيد فيه قلوب
…
كلما قام فيه للعشق سوق
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وظبي تظلمت من خصره
…
لقلبي عليه حقوق ودم
أخذت القصاص بتعضيضه
…
ولم يجر بعد عليه قلم
وقال أيضاً ملغزاً في الإبر والكستبان:
ثلاثة في أمر خصمين
…
ألفين لكن غير ألفين
هما قرينان وإن فرقت
…
بينهما الأيام فرقين
فواحد يعضده واحد
…
ويعضدد الآخر باثنين
تراهما بينهما وقعة إذ
…
تقع العين على العين
محمد بن سليمان بن عبد الله بن يوسف أبو عبد الله جمال الدين الهواري الفقيه المالكي المذهب المعروف بابن أبي الربيع، كان فاضلاً أديباً. قال قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن خلكان أنشدني لنفسه قال:
لولا التطير بالخلاف وانهم
…
قالوا مريض لا يعود مريضا
لقضيت نحبي خدمة بفنائكم
…
لأكون مندوباً قضى مفروضا
ولجمال الدين محمد المذكور:
أحباب قلبي إن تحكمت النوى
…
في بيننا وجرى القضاء بما جرى
فلقد غضضت عن الورى من بعدكم
…
طرفاً يرى من بعدكم أن لا يرى
توفي المذكور في شهر رمضان هذه السنة بالقاهرة وقد جاوز ستين سنة من العمر وذكر الحافظ شرف الدين الدمياطي رحمه الله في معجمه، فقال عنه التونسي المحتد المصري المولد والدار الفقيه الأديب، أنشدني لنفسه في صديق له انتقل من السواد إلى السويداء:
سريت من السواد إلى السويدا
…
سير البدر من طرف لقلب
قضيت من النوى وطراً وهاقد
…
قضيت لك البقا في البعد نحبي
وقال: وأنشدنا لنفسه في موسى بن يغمور:
لك الله يا موسى فأنت محمد ال
…
صفات وذهني فيك حسان مدحه
إذ ما دجى ليل من الخطب مظلم
…
فمن يدك البيضاء إسفار صبحه
وقال: وأنشدنا وكتب بها إلى صديق له يدعى الصدر:
مازلت في بعد وفي قرب
…
صبّاً إليك وأي صبّ
جزت القلوب بأسرها
…
والصدر موضع كل قلب
وأنشدنا أيضاً فيه:
وتوسوست بأسياف إلى الصد
…
ر وما زال موضع الوسواس
قال: ومولده بالقاهرة سنة ست مائة، ووفاته بها ليلة الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان. وحدث بشيء من الحديث - رحمه الله تعالى.
محمد بن سليمان أبو عبد الله المعافري، الشاطبي الشيخ الصالح، مولده سنة خمس وثمانين وخمس مائة، وتوفي بظاهر الاسكندرية في العشرين من شهر رمضان ودفن بمرج سوار. كان أحد مشايخ الفقراء المعروفين بالصلاح والانتفاع مقصوداً للزيارة والتبرك به، مشهوراً في ناحيته - رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد القادر بن ناصر بن الخضر بن علي أبو عبد الله الأنصاري
الخزرجي الشافعي الملقب شهاب الدين، الدمشقي الأصل والمولد والمنشأ، قرأ القرآن العظيم لسبع سنين وصلى بالناس به بجامع دمشق بالحائط القبلي في شهر رمضان المعظم صلاة التراويح، ثم اشتغل بالفقه على الخطيب جمال الدين عبد الكريم بن الحرستاني خطيب جامع دمشق، فقرأ عليه التنبيه والمعالم، واشتغل في حفظ الوسيط، فقرأ منه مقدار ربعه، ثم ارتحل إلى حلب، أقام بها مدة، وبها لبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي حين وفد عليها رسولا، ثم قصد الموصل وأقام بها سنين، وفيها كمل حفظ الوسيط، فجمع بين طرفيه واجتمع بفضلاء بيت يونس وغيرهم بها، وأخذ عنهم ثم ارتحل إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية مدة، ثم ارتحل إلى بلاد العراق فطاف أكثرها وحصل العلوم من علمائها، وأقام في رحلته ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى أهله
بدمشق أقام بها سنين. منقطعاً عن الناس، لا يتردد إلى باب أحد ولا يجتمع إلا بمن يأخذ عنه شيئاً من العلم تعوضاً عن العريض للولايات، ثم طلب لولاية الحكم بمدينة الخليل عليه السلام، فأقام مديدة. وطلب الديار المصرية واجتمع بالوزير بهاء الدين رحمه الله ورغبه في المقام بمصر، وذكره للملك الظاهر رحمه الله، فوافق على أن يولي بمصر ما يقوم به.
قال: فكرهته لما فيه من تركي مجاورة الخليل عليه الصلاة والسلام وإقبالي على الدنيا وأهلها. وقلت: أتشوق إلى الخليل صلى الله عليه وسلم وأهله:
أترى أعبش أرى العريش وشامه
…
فبمصر قد سئم المحب مقامه
أم هل تبلّغ عنه أنفاس الصبا
…
يوماً إلى أهل الخليل سلامه
يا سادة خلفت قلبي عندهم
…
هل يحفظون عهوده وذمامه
أسعرتم نار الغرام بمهجتي
…
وسلبتم طرفي الكئيب منامه
إن لم يجد مطر على مغناكم
…
أغناكم دمعي ويقوم مقامه
يا هل يعيد الله أيام الحمى
…
من قبل أن يلقى المحب حمامه
فاشتهرت الأبيات وبلغت الصاحب بهاء الدين، فأخذ في تجهيزه وأعاده إلى الخليل عليه السلام، فأقام بها إلى أن توفي ليلة الجمعة سابع وعشرين جمادى الأولى هذه السنة - رحمه الله تعالى - ودفن بجبل حرى بالقرب من البلد، ومولده سنة ست مائة، وكان يعرف بابن العالمة، فإن أباه توفي وهو صغير، فربّته والدته وهذّبته، وكان سبب تسميتها بالعالمة: أن الملك العادل الكبير لما توفي في سنة خمس عشرة وست مائة نظروا وامرأة
تتكلم في العزاء فذكروها وإنها من الصلحاء، فأتوا في طلبها فتبرأت من ذلك لعدم خبرتها بما يليق بذلك الحال، فألزموها وأخذوها مكرهة وكانت تحفظ كثيراً من الخطب النباتية، قالت: وكنت أسأل الله تعالى في الطريق أن لا يفضحني في ذلك المحفل وأنا أرجف فرقاً من ذلك.
قالت: فلما حضرت وصعدت المنبر سرّي عني، فقرأت شيئاً من القرآن وخطبت بخطبة الموت التي أولها: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار وهي من طنانات الخطب. فاتفق في ذلك المجلس من البكاء والوجد والحال ما لم يتفق في غيره، واشتهرت تسميتها بالعالمة، وصار لها بذلك لياذ ببيت العادل وحصلت منهم دنيا طائلة.
وكان شهاب الدين المذكور من العلماء الأعيان وعلى خاطره من الشعر والحكايات وأخبار الناس وأحوال السلف وأهل الطريق شيء كثير، وكان يستحضر الأحياء ونهاية المطلب لإمام الحرم، لا يكاد يطالع في الفقه سوى ذلك، وكان قد اشتهر اختصاصه بمعرفة الوسيط، فقال بعض الفضلاء: لم لم تعرج على طريق العراق؟ فاختصر المهذب في مدة يسيرة في مجلد واحد بعبارة سلسة فصيحة وافية بالمقصود، وزاد على الأصل فوائد جليلة، وقيد ما أهمله المصنف، ونازعه في تعليله في مواضع عديدة، وهو من نفائس الكتب. وكان رحمه الله ناقص الحظ من الدنيا ومناصبها، فإنه أقام ببعلبك مدة يكتب الشروط، وهو كاتب الحكم لقاضيها القاضي صدر الدين عبد الرحيم رحمه الله ومقيد عنده بالمدرسة النورية، ثم ولي صرخد، ولم يكن من مناصبه،
وكذلك بلد الخليل صلى الله عليه وسلم، وهذه الولايات بالنسبة إلى فضيلته وأهليته لعلها صغيرة على أحد تلامذته، وكان الحكيم نجم الدين أحمد بن المفتاح رحمه الله الطبيب المشهور أخاه لأمه، وكذلك الشرف إسماعيل المقيم ببعلبك والمتوفي بها رحمهم الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الإمام العلامة جمال الدين الطائي الجياني النحوي اللغوي، أوحد عصره وفريد دهره في علم النحو والعربية مع كثرة الديانة والصلاح والتعبد والاجتهاد، سمع وحدث، وكان مشهوراً بسعة العلم والإتقان والفضل موثوقاً بنقله حجة في ذلك، وله عدة تصانيف حسنة مفيدة، وإليه انتهى علم العربية. ولم يكن في زمنه من يجري مجراه في غزارة علمه ووفور فضله، وله نظم كثير يشتمل على فوائد جمة؛ وكانت وفاته بدمشق في ثاني عشر شعبان، ودفن بسفح قاسيون، وهو في العشر الثمانين رحمه الله ورثاه غير واحد، منهم الشيخ محمد الحنفي رحمه الله بقوله:
أم دهى الخطب من أصابت سهامه
…
واستخف الحلوم حزناً حمامه
أم درى رائد المنيسة إذ
…
أقدم ماذا إذا فتى أقدامه
بالإمام ابن مالك فجمع الدي
…
ن فغشى ضوء النهار ظلامه
بإمام أفنى الليالي والأيا
…
م وفي البر والكتاب إمامه
شاركت في مصابه العرب والعج
…
م فمالت بالدوح نوحاً حمامه
وشكا الجامع اشتياقاً إليه
…
وبكاه مقامه ومقامه
روضه حفرة أعدت لمثوا
…
هـ يزهر أعماله أكمامه
زخرفت القدوم منه قصور
…
وجنان ولدانها خدامه
جمع الناس والملائكة في التشي
…
يع والملتقى له أعظامه
كان زين الوجود منه وجود
…
كامل شوه الوجوه اخترامه
كان حليا لدهره وبنيه
…
فوهى سلك دره ونظامه
كان نعمى لم يوف موليها الشك
…
ر فبالشكر كان منا انتقامه
كان ركناً تأوي إليه بنو الف
…
ضل فأخنى على العلوم انهدامه
كل صعب من المعاني جليل
…
بيدي فكره الدقيق زمامه
نحو علم أدنى من الفضل من طا
…
ل إني عذبه الثمير إدامه
خلّدت ذكره الجميل علوم
…
خلدتها من بعده أقلامه
كم سقيم من الكلام شفاه
…
بعد ما أيأس الأساة سقامه
وبفهم من الدقائق ما مس
…
كن منها المفهوم إلا اهتمامه
نال بالجد في المعارف حداً
…
لم ينله أحلامه
خلّف الفاضل الفريد أبا بش
…
ر وأنسب أيامه أيامه
كان للنحو قبل شمل بديد
…
وبمسعاه أحكمت أحكامه
لو حواه ومن تقدم عصر
…
لأقرت بفضله أعلامه
من لأهل الآداب ومن بعده ها
…
ذاك منهج الصواب كلامه
قعدوا منه زاعمين
…
عطوفاً فكلهم أيثامه
لو درى حاملوه ماذا أق
…
لوا ما استقلت بحامل أقدامه
إنما الموت نافذ الح
…
كم فمن كان للكرام اغتنامه
أولع النقص بالكمال فما أو
…
جب هذا السرار إلا تمامه
أعضل الداء في نواه فلا سل
…
وان لرجالنا ولا إلمامه
ونقيض النفوس وهو قليل
…
لا تفيض الدموع يقضي ذمامه
إن قبراً حواه لا غرو إن را
…
ح ذكياً كالمسك ريحاً رغامه
آنس الله روحه برحم
…
ته عليها وروحة وسلامه
ورثاه تقي الدين حسين بقوله:
وافى مصاب يقتضي إلمامه
…
هملان طرف لا يقل سجامه
وخفوق قلب ما أراه ساكناً
…
يوم ابن مالك إذ أتاه حمامه
لهفي عليه لقد مضى مستسلماً
…
لقضاء ربه يفيه مرامه
قد كان بحراً في العلوم وشامخاً
…
في الحلم واهاً لو يطول مقامه
المانح الأدب الجزيل الشارح الت
…
نزيل كما يجتلي أحكامه
رحم المهيمن روحه فضريحه
…
يعتاده صوب يسحّ غمامه
أعني ابن مالك الموسد في الثرى
…
وعلومه بين الورى أعلامه
إن يطرأ النقص الشنيع لفقده
…
فإذا أبيد الدين صح تمامه
خلف رضي بالوقار مسربل
…
وبروق مرأى فعله وكلامه
ورث الفضائل كابراً عن كابر
…
دامت لنا في نعمة أيامه
محمد بن محمد بن الحسن أبو عبد الله نصير الدين الطوسي صاحب علوم الرياضة والرصد وغير ذلك من علوم الأوائل، كان إماماً منفرداً بذلك فاق أهل عصره، وانتهت إليه معرفة هذا الشأن، وتوفي بالجانب الغربي من بغداد في يوم الإثنين ثامن عشر ذي الحجة، ودفن في مقابر موسى بن جعفر رحمة الله عليهما وقد نيف على ثمانين سنة، وقيل كانت وفاته في صفر سنة أربع وسبعين والأول أظهر رحمه الله. قرأ العلم على المعين سالم بن بدران بن علي المعتزلي المتشيع المصري وغيره. وكانت له مصنفات كثيرة في أنواع من العلوم العقلية وإليه المرجع فيها، وله أشعار كثيرة، فمن ذلك ما كتبه من شعره على مصنف في أصول الدين لكمال الدين الطوسي، سيّره إليه ليجيب عن مسائل فيه، سأله إياها فأجاب عنها أحسن جواب ومدحه بهذه الأبيات:
أيأتي كتاب في البلاغة منته
…
إلى غاية ليست تقارب بالوصف
فمنظومه كالدر جاد نظامه
…
ومنثوره مثل الدراري في اللطف
دقيق المعاني في جزالة لطفة
…
يخبّر في ضم الغموض إلى الكشف
كفايته حار العقول بحسنها
…
فأمرض عيناها وملثمها يشفي
أتى عن كثير ذي فضائل جمة
…
عليم بما يبدي الحكيم وما يخفي
فأصبحت مشتاقاً إليه مشاهداً
…
بقلبي مخباه وإن عز عن طرفي
رجا الطرف أيضاً كالفؤاد لقاءه
…
وإن لا يوافي قبل إدراكه حتفي
قرأت من العنوان لما فتحته
…
وقبّلت تقبيلاً يزيد على اللف
ولما بدا لي ذكركم في مسامعي
…
تعشّقكم قلبي ولم يركم طرفي
وصادفت هذا البيت في شرح قصتي
…
وإيضاح ما عانيته جملة يكفي
وردت رسالة شريفة ومقالة لطيفة مشحونة بفرائد الفوائد مشتملة على صحائف اللطائف مستجمعة لفرائس النفائس مملوءة من زواهر الجواهر من الجناب الكريم السيدي العالمي الفاضلي السندي المحققي الكمالي أدام الله جماله وحرس كماله إلى الداعي الضعيف المحروم المتلهف محمد بن محمد الطوسي، فاقتبس من شرار ناره نكت الزبور وآنس من جانب جناب طوره أثر النور، فوجدتها بكراً حلت حلة كريمة، وصادفتها صدقة تضمت درة يتيمة هي أوراق مشتملة على رسائل في ضمنها مسائل أرسلها وسأل عنها من كان أفضل زمانه وواحد أقرانه الذي نطق الحق على لسانه ولوح الحقيقة من بنانه ورأيت المورد أدام الله فضله قد سألني الكلام فيها، وكشف القناع عن مطاويها؛ وأين أنا من المبارزة مع فرسان الكلام والمعارضة مع البدر عند التمام، وكيف يصل الأعرج إلى قلة الجبل
المنيع وأتى الظالع شأو الضليع، ولكني بحرصي على طلب التوصل الروحاني إليه بإجابة سؤاله، وشغفي بنيل التوصل الحقيقي لديه بإيراد الجواب عن مقابلة اجترأت، فامتثلت أمره واشتغلت بمرسومه، فإن كان موافقاً كما أراد فقد أدركت طلبي وإلا فليعذرني إذ قدمت معذرتي والله المستعان وعليه التكلان، والأخذ في تصفح الرسالة فصلاً فصلاً، وتقريرما يتقدر عندي منه أو برد عليّ مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه إنه الموفق والمعين.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن عبد الله بن علوان بن رافع أبو المكارم الأسدي الشافعي محي الدين قاضي القضاة بحلب؛ مولده بها في خامس شعبان سنة اثنتي عشرة وست مائة بحلب، سمع وحدث ودرس بالمدرسة المسرورية بالقاهرة، وتولى القضاء بحلب وأعمالها إلى حين وفاته؛ وبيته معروف بالعلم والدين والتقدم والسنة والجماعة، وتوفي في ثالث عشر جمادى الأولى بحلب، ودفن بتربة جده رحمه الله تعالى؛ وقيل في وفاته غير ذلك. وقد ولي القضاء بحلب من بيتهم غير واحد رحمهم الله أجمعين.
محمد بن الموفق بن الزهر مبارك أبو عبد الله الأمير نجم الدين، وقد تقدم ذكر أخيه الأمير سيف الدين عيسى رحمه الله، ووفاته في أوائل هذه السنة. وتوفي نجم الدين محمد المذكور ليلة السبت سابع عشر شهر
رجب بقرية بحوشية، ودفن بها عند أهله وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى. وكان عنده ديانة وتشيّع ومعرفة بمذهبه وتغالى فيه كثير المكارم حسن الصحبة والأدب مع من يصحبه رحمه الله تعالى.
محمد بن أبي الرجاء بن أبي الزهر بن أبي القاسم أبو عبد الله التنوخي الدمشقي المتطبب المعروف بابن السلعوس، مولده في العشر الأوسط من شهر رجب سنة تسع وتسعين وخمس مائة، سمع من عبد الصمد الحرستاني وحدث عنه بالقاهرة، وتوفي في الخامس والعشرين من شعبان بالقاهرة، ودفن من الغد بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى.
نعمان بن حمدان بن نعمان التكريتي الملقب بشجاع الدين من التجار المشهورين بالثروة وكثرة الجد، وعنده سعة صدر فيما يقدمه للملوك والأمراء من التقادم والتحف، وكانت له مكانة عند الملك الظاهر، رحمه الله وقرب أوجب تغير خاطر وزيره الصاحب بهاء الدين عليه، فلم تنفعه مكانته وقربه، وكان صهر وجيه الدين محمد بن سويد التكريتي وزج ابنته وأولاده منها وتوفي ليلة الجمعة ثاني جمادى الآخرة بدمشق، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.
أبو بكر بن أحمد بن عمر البعلبكي المعروف بابن الحبال ويعرف بابن
دشينية توفي ببعلبك ليلة الجمعة تاسع وعشرين شهر ربيع الأول، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة ظاهر باب نخلة، وهو في عشر السبعين، وخلف تركة عظيمة؛ قيل أنها تقارب بمائة ألف دينار، ولم يرزق ولداً، وإنما كان له زوجة وابنا عم، فاحتاط الملك الظاهر على تركته، وكان بدمشق وأخذ منها قريب أربع مائة ألف درهم وأفرج لورثته عن الوثائق والأملاك فتمحق أكثر ذلك، وكان وقف في حال حياته وقفاً على وجوه البر يتحصل منه في السنة قريب خمسة آلاف درهم وقفه على نفسه مدة حياته، ثم من بعده يصرفه في مصارفه، فجرى فيه فصول واستقر بعد وفاته وقفاً كما وقفه، وكان أراد الرجوع فيه قبل وفاته واستفتى على ذلك، فوجد كتاب الوقف قد كتب به نسخة وحكم الحكام بصحته فلم يجد إلى ذلك سبيلاً، وكان يشح على نفسه بأيسر الأشياء. وكان سبب وقفه لهذا الوقف أن الحوطة لما حصلت في سنة أربع وستين ورسم أنه لا يفرج لأحد إلا بعد ثبوت كتابه بدمشق في وجه وكيل بيت المال نظر المشار إليه ووجد عنده فوق المائة كتاب وأنه يغرم على الإثبات بدمشق وبعلبك على كل كتاب تسجيل وشهود الطريق قريب الخمسة عشر درهماً، فرأى ذلك يشق عليه ولم تسمح نفسه به، فقيل له: أنت ليس لك نية تبيع هذا الملك ولا ترهنه، والمصلحة أنك توقفه على نفسك مدة حياتك، ثم بعدك على أولادك إن كان لك ولد وإلا على وجوه البر، فتجمع هذه الأملاك