الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متجددات الأحوال
في يوم الخميس سابع المحرم دخل الملك الظاهر دمشق بعساكره، ونزل بالجوسق المعروف بالقصر الأبلق جوار الميدان الأخضر، وتواترت عليه الأخبار بوصول أبغا إلى مكان الوقعة فجمع الأمراء، وضرب مشورة فوقع الاتفاق على الخروج من دمشق بالعساكر وبلقائه حيث كان، فتقدم بضرب الدهليز على القصير. وأثناء هذا العزم وصل رجل من التركمان وأخبر أن أبغا عاد إلى بلاده هارباً خائفاً، ثم وصل الأمير سابق الدين بيسرى أمير مجلس الملك الناصر، وأخبر بمثل ذلك فتقدم الملك الظاهر بردّ الدهليز.
وفي يوم الجمعة منتصف شهر المحرم ابتدأ المرض بالملك الظاهر وتوفي وسنذكره - إن شاء الله تعالى.
وفي سادس عشر صفر وصل إلى القاهرة رسول من جهة الفنش من بلاد المغرب إلى الملك الظاهر ومعه تقدمة من بلاد المغرب حسنة وشق بها القاهرة.
وفي يوم الخميس سادس عشر منه وصل إلى القاهرة جميع العساكر من الشام ومقدمهم الأمير بدر الدين الخزندار، وهم يخفون موت الملك الظاهر في الصورة الظاهرة، وفي صدر الموكب مكان يسير السلطام تحت العصائب محفة وراءها السلحدارية والجمدارية وغيرهم من أرباب وظائف الخدمة على العادة توهم أن السلطان بها مرض، فلما وصلوا قلعة الجبل ترجّل الأمراء والعسكر بين يدي المحفة كما جرت العادة، وكانوا يعتمدون
ذلك في طريقهم من حين خروجهم من دمشق، وصعدوا بالمحفة إلى القلعة من باب السر، وعند دخولها اجتمع الأمير بدر الدين الخزندار بالملك السعيد، وكان لم يركب لتلقيهم، وقبّل الأرض، ورمى عمامته وصرخ وقام العزاء في جميع القلعة، ولوقتهم جمع الأمراء والمقدمين والجند، وحلّفوهم بالإيوان المجاور بجامع القلعة للملك السعيد ناصر الدين أبي المعالي محمد بركة خان وأثبت له الأمر على هذه الصورة.
وفي يوم الجمعة التالية لذلك، خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد، وصلى على والده صلاة الغائب.
وفي ليلة الأحد سادس ربيع الأول توفي الأمير بدر الدين بيليك الخزندار رحمه الله وسنذكره - إن شاء الله تعالى - وباشر نيابة السلطنة عوضه الأمير آق سنقر الفارقاني.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه كسر الخليج الكبير بالقاهرة، وقد غلق ماء السلطان على العادة وهو ستة عشر ذراعاً بالقاسمي.
وفي يوم الأربعاء سادس عشره ركب الملك السعيد بالعصائب على عادة والده، وسار إلى تحت الجبل الأحمر وهو أول ركوبه بعد قدوم العساكر وتحليفهم ولم يشق المدينة وبين يديه الأمراء والمقدمون والأعيان بالخلع وسرّ الناس به سروراً كثيراً، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة فإن مولده سنة سبع وخمسين وست مائة ببلبيس.
وفي يوم الجمعة خامس وعشرين منه قبض الملك السعيد على الأمير
شمس الدين سنقر وبدر الدين بيسرى، وحبسا بقلعة الجبل.
وفي يوم الخميس سادس عشر ربيع الآخر وصل رسل أولاد بركة وأنزلوا بالميدان اللوق، وكان قدومهم من الاسكندرية فإنهم جعلوا طريقهم البحر من مقرّ ملكهم وهو بر القفجاق.
وفي يوم السبت ثامن عشره قبض الملك السعيد على الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني، ومعه جماعة من الأمراء، وحبسوا بقلعة الجبل، ورتّب عوضه في نيابة السلطنة الأمير شمس الدين سنقر الألفي الصغير.
وفي يوم الأحد تاسع عشره أفرج الملك السعيد عن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وخلععليهما، وأعادهما إلى مكانتهما في الدولة.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الأولى انتهت زيادة النيل إلى ثمان أصابع من الذراع التاسع عشر.
وفي يوم الاثنين رابعه فتحت المدرسة التي أنشأها الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالقاهرة بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة - رحمة الله عليه - وعلى شيخ يسمع الحديث، وذكر الدرس بها في ذلك النهار.
وفي يوم الثلاثاء خامسه عقد بقلعة الجبل بجامعها عقد الأمير المستمسك بالله أبي المعالي محمد بن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين على ابنة الخليفة المنتصر بالله أبي العباس أحمد بن الإمام الظاهر ابن الإمام الناصر، وحضر والده والملك السعيد والقضاة ووجوه المملكة وأعيان الدولة.
وفي يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة قبض الملك السعيد على خاله بدر الدين محمد بن حسام الدين بركة خان وحبسه بقلعة الجبل لأمر نقمه عليه.
وفي ليلة الثلاثاء خامس وعشرين منه أفرج عنه وخلع عليه وأعاده إلى منزلته المعروفة.
وفي ليلة الجمعة خامس شهر رجب نقل تابوت الملك الظاهر من قلعة دمشق إلى التربة التي أنشأها ولده الملك السعيد بدمشق داخل باب الفرج قبالة المدرسة العادلية الكبيرة، وهي دار الشريف العقيقي كانت انتقلت إلى ملك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب الأتابك رحمه الله فاشتريت من ورثته وهدمت وبني موضع بابها قبة الدفن لها شبابيك إلى الطريق، وإلى داخل المدرسة وجعل بقية الدار مدرسة على فريقين شافعية وحنفية، وكان دفنه بها في النصف من الليل، ولم يحضره سوى الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بدمشق، ومن الخواص دون العشرة.
وفي يوم الخميس سادس عشر رمضان طيف بكسوة الكعبة الشريفة بالقاهرة ومصر وأمامها القضاة والولاة وغيرهم.
وفي هذا الشهر طلعت سحابة عظيمة بصفد صدر منها برق عظيم خارق للعادة، وسطع منها لسان كالنار وسمع صوت رعدها على منارة جامعها صاعقة شقها من رأسها إلى أسفلها شقاً تدخل فيه الكف.
وفي يوم السبت سابع ذي القعدة برز الملك السعيد بالعسكر إلى
مسجد التين ظاهر القاهرة.
وفي يوم السبت حادي وعشرين منه انتقل بخواصّه إلى الميدان الذي أنشأه بين مصر والقاهرة، ودخلت العساكر إلىمنازلهم وبطلت الحركة.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره رفعت يد القاضي محيي الدين عبد الله بن قاضي القضاة شرف الدين محمد عرف بابن عين الدولة عن الحكم والقضاء بمدينة مصر والوجه القبلي، وباشر ذلك القاضي تقي الدين محمد بن زين الدين مضافاً إلى القاهرة والوجه البحري.
وفي ذي الحجة كتب تقليد قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله من الملك السعيد رحمه الله بقضاء دمشق وإعمالها من العريش إلى سلمية على ما كان عليه ثم حضر عند السلطان الملك السعيد لابساً الخلعة وقبّل يده وشافهه الملك السعيد بالولاية، وخرج في سابع وعشرين ذي الحجة متوجهاً إلى الشام المحروس.
وفيها توفي
إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن فارس أبو إسحاق كمال الدين الاسكندري المقرئ. كان عارفاً بالقراآت واشتغل عليه خلق كثير بالقرآن الكريم، وولي نظر بيت المال بدمشق مدة سنين، ونظر الجيش مضافاً إلى نظر بيت المال في بعض المدة، وكان مشهوراً بالأمانة، وحسن السيرة، كثير الديانة والخير والتواضع؛ سمع الشيخ تاج الدين أبا اليمن الكندي وغيره وحدّث. وكانت وفاته بدمشق في تاسع صفر وقيل ثامن عشره، ودفن يوم الخميس ومولده
بثغر الاسكندرية سنة ست وتسعين وخمس مائة - رحمه الله تعالى.
أقوش بن عبد الله الأمير جمال الدين المحمدي الصالحي النجمي. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم وذوي الحرمة الوافرة منهم. وكان الملك الظاهر حبسه لأمر نقمه عليه. وبقي في الاعتقال مدة ثم أفرج عنه وأعاده إلى مكانته، وكان عديم الشر. وتوفي بالقاهرة ليلة الخميس ثالث ربيع الأول ودفن من الغد بتربته بالقرافة الصغرى، وقد ناهز سبعين سنة من العمر، وهو أول من قدم دمشق بعد كسرة التتار بعين جالوت في سنة ثمان وخمسين وهو الذي كان الملك الظاهر أرسله إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي لما استولى على دمشق عندما تملك الملك الظاهر الديار المصرية - رحمه الله تعالى.
إيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الموصلي الظاهري. كان نائب السلطنة بحمص ثم نقله الملك الظاهر إلى حصن الأكراد وما جمع إليه، وجعله نائب السلطنة هناك، وكان له نهضة وكفاية وصرامة وذكاء ومعرفة، وكان عنده تشيع. قتل بحصن الأكراد في داره بالربض غيلة في ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب رحمه الله. واختلف في سبب قتله، فقيل: إن السلطان جهّز عليه من قتله، وقيل: قفز عليه بعض الإسماعيلية، وقيل غير ذلك، وطل دمه وهو في عشر الخمسين لم يستكملها.
إيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الدمياطي الصالحي النجمي أحد الأمراء الأكابر المقدمين على الجيوش، قديم الهجرة بينهم في علوّ المنزلة وسموّ المكانة. وكان الملك الظاهر حبسه مدة زمانية ثم أفرج عنه وأعاده
إلى امريته، وتوفي بالقاهرة ليلة الأربعاء تاسع شعبان، ودفن بتربته التي أنشأها بين القاهرة ومصر بالقبة المجاورة بحوض السبيل المعروف به وكان قد نيف على السبعين سنة رحمه الله.
ايدمر بن عبد الله الأمير عز الدين العلائي. كان نائب السلطنة بقلعة صفد، وكان الملك الظاهر يحترمه ويثق به، ويسكن إليه وإذا قلق من المقام بصفد لا يقبله. فلما توفي الملك الظاهر رحمه الله في أول هذه السنة جرى بينه وبين النواب من صفد مقاولة أوجب أنه طلب دستوراً للحضور إلى الباب السلطاني لمصالح ينهيها شفاهاً، ففسح له فتوجه إلى الديار المصرية وأقام بها مدة يسيرة، وأدركته منيته هناك ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب، ودفن يوم الأربعاء بالقرافة الصغرى والفقرل. وهو أخو الأمير علاء الدين ايدكين الصالحي العمادي وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.
بهادر الأمير شمس الدين المعروف بابن صاحب شميساط، وكان هو صاحبها، قدم مهاجراً إلى الملك الظاهر رحمه الله قبل وفاته بثلاث سنين فأكرمه وأمّره وأقام في خدمته إلىان أدركته منيته بالقاهرة ليلة الأحد العشرين من شعبان، ودفن من الغد خارج باب النصر بتربته التي أنشأها وكان قد نيف على أربعين سنة - رحمه الله تعالى.
بيبرس بن عبد الله أبو الفتح ركن الدين السلطان الملك الظاهر الصالحي. قال عز الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم بن شداد رحمه الله:
أخبرني الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي - رحمه الله تعالى - أن مولد الملك الظاهر بأرض القبجاق سنة خمس وعشرين وست مائة تقريباً، وسبب انتقاله من وطنه إلى البلاد أن التتار لما أزمعوا على قصد بلادهم سنة تسع وثلاثين وست مائة بلغهم ذلك كاتبوا انرقان ملك أولاق أن يعبروا بحر سوداق إليه ليجيرهم من التتار، فأجابهم إلى ذلك، وأنزلهم وادياً بين جبلين له فوهة إلى البحر، وأخرى إلى البر، وكان عبورهم إليه سنة أربعين وست مائة. فلما اطمأن بهم المقام غدر بهم وشنّ الغارة عليهم، وقتل وسبى، وكنت أنا والملك الظاهر فيمن أسر وعمره إذ ذاك أربع عشرة سنة تقديراً فبيع فيمن بيع وحمل إلى سيواس، فاجتمعت به في سيواس، ثم افترقنا واجتمعنا في حلب بخان ابن فليح، ثم افترقنا فاتفق أن حمل إلى القاهرة فبيع إلى الأمير علاء الدين ايدكين البندقدار وبقي في يده إلى أن انتقل عنه بالقبض عليه في جملة ما استرجعه الملك الصالح نجم الدين أيوب منه. وذلك في شوال سنة أربع وأربعين وست مائة، فقدمه على طائفة من الجمدارية.
فلما مات الملك الصالح نجم الدين، وملك بعده ولده الملك المعظم، وقتل، وأجمعوا على عز الدين التركماني وولوه الأتابكية، ثم اشتغل وقتل فارس الدين أقطاي الجمدار، ركب الملك الظاهر والبحرية وقصدوا قلعة الجبل. فلما لم ينالوا مقصودهم خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للتركماني مهاجرين إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف، وهم الملك الظاهر ركن الدين،
وسيف الدين بلبان الرشيدي، وعز الدين آيدمر السيفي، وشمس الدين سنقر الرومي، وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى الشمسي، وسيف الدين قلاوون الألفي، وسيف الدين بلبان المستعرب وغيرهم. فلما شارفوا دمشق سيّر إليهم الملك الناصر طيب قلوبهم فبعثوا فخر الدين إياز المقرئ يستحلفه لهم فحلف ودخلوا دمشق في العشر الآخر من شهر رمضان فأكرمهم الملك الناصر وأطلق للملك الظاهر ثلاثين ألف درهم، وثلاث قطر بغال، وثلاث قطر جمال وخيلاً وملبوساً، وفرّق في بقية الجماعة الأموال والخلع على قدر مراتبهم، وكتب إليه الملك المعز يحذّره منهم ويغريه بهم، فلم يصغ إليه. وكان عيّن الملك الظاهر إقطاعاً بحلب فالتمس من الملك الظاهر أن يعوضه عن بعض ما كان له بحلب من الاقطاع بحسين وزرعين فأجابه إلى ذلك فتوجه ثم استغرق الملك الناصر وتوجه بمن معه ومن تبعه من حشداشيته وأصحابه إلى الكرك، فجهز صاحبها الملك المغيث عسكره مع الملك الظاهر نحو مصر، وعدة من معه ست مائة فارس، وخرج من عسكر مصر لملتقاه، فأراد كبسهم، فوجدهم على أهبة والتف عليه وعلى من معه عسكر مصر، فلم ينج منهم إلا الملك الظاهر، والأمير بدر الدين بيليك الخزندار؛ وأسر سيف الدين بلبان الرشيدي. وعاد الملك الظاهر إلى الكرك، فتواترت عليه كتب المصريين يحرّضونه على قصد الديار المصرية وجاءه جماعة كثيرة من عسكر الملك الناصر،
وخرج عسكر مصر مع الأمير سيف الدين قطز والأمير فارس الدين أقطاي المستعرب. فلما وصل المغيث والظاهر إلى غزة انعزل إليهم من عسكر مصر عز الدين إيبك الرومي، وسيف الدين بلبان الكافري، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي، وعز الدين إيبك الجواشي، وبدر دبن خان بغدى، وعز الدين إيبك الحموي، وجمال الدين هارون القيمري، واجتمعوا بالظاهر والمغيث بغزة، فقويت شوكتهم وتوجها إلى الصالحية، ولقوا عسكرمصر يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وخمسين، فاستظهر عسكرهما أولاً ثم عادت الكسرة عليه، فانكسر. وهرب الملك المغيث ولحقه الملك الظاهر، وأسر عز الدين إيبك الرومي، وركن الدين منكورس الصيرفي، وسيف الدين بلبان الكافري، وعز الدين إيبك الحموي، وبدر الدين بلغان الأشرفي، وجمال الدين هارون القيمري، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي، وعلاء الدين ايدغدي الاسكندراني، وبدر الدين بن خان بغدى، وبدر الدين بيليك الخزندار الظاهري. فضرب أعناقهم صبراً خلا الخزندار الجوكندار شفع فيه، وخيره بين المقام والذهاب، فاختار الذهاب إلى أستاذه فأطلق.
ثم إن المغيث حصل بينه وبين الملك الظاهر وحشة أوجبت مفارقته له وعوده إلى الملك الناصر، بعد أن استحلفه على أن يقطعه خبز مائة فارس من جملتها قصبة نابلس وحسين وزرعين فأجاب إلى نابلس لا غير. وكان قدومه على الملك الناصر في العشر الأول من شهر رجب سنة سبع وخمسين ومعه الجماعة الذين حلف لهم الملك الناصر، وهم: بيسرى الشمسي، والتامش
السعدي، وطيبرس الوزيري، وأقوش الرومي الدوادار، وكشتغدي الشمسي، ولاجين الدرفيل، وايدغمش الحلبي، وكتشغدى المشرقي، وآيبك الشيخي، وبيبرس خاص ترك الصغير، وبلبان المهراني، وسنجر الاسعردي، وسنجر البهماني، وألبلان الناصري، وبلتى الخوارزمي، وسيف الدين طمان، وآيبك العلائي، ولاجين الشقيري، وبلبان الأقسيشي، وعلم الدين سلطان الألدكزى فأكرمهم ووفى لهم.
فلما قبض الملك المظفر قطز على ابن أستاذه، حرض الملك الظاهر للملك الناصر على التوجه إلى الديار المصرية ليملكها فلم يجبه، فرغب إليه أن يقدمه على أربعة آلاف فارس أو يقدم غيره ليتوجه بها إلى شط الفرات يمنع التتر من العبور إلى الشام، فلم يمكن الصالح لباطن كان له مع التتر.
وفي سنة ثمان وخمسين فارق الملك الظاهر الملك الناصر، وقصد الشهرزورية وتزوج منهم، ثم أرسل إلى الملك المظفر قطز من استحلفه له، ودخل القاهرة يوم السبت الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وخمسين، فركب الملك المظفر للقائه، وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب بخاصته. ولما خرج الملك المظفر للقاء التتر سيّر الملك الظاهر في عسكر ليتجسس أخبارهم، فكان أول من وقعت عينه عليهم، وناوشهم القتال.
فلما انقضت الوقعة بعين جالوت تبعهم يقتص آثارهم، ويقتل من وجد منهم إلى حمص، ثم عاد فوافى الملك المظفر بدمشق. فلما توجه
الملك المظفر إلى جهة الديار المصرية، اتفق الملك الظاهر مع سيف الدين الرشيدي، وسيف الدين بهادر المعزى، وبدر الدين بكتوت الجوكنداري المعزى، وسيف الدين بيدغان الركني، وسيف الدين بلبان الهاروني وعلاء الدين آنص الأصبهاني على قتل الملك المظفر رحمه الله؛ فقتلوه على الصورة المشهورة ثم ساروا إلى الدهليز، فتقدم الأمير فارس الدين الأتابك، فبايع الملك الظاهر، وحلف له، ثم الرشيدي ثم الأمراء على طبقاتهم وركب ومعه الأتابك، وبيسرى، وقلاوون، والخزندار، وجماعة من خواصه فدخل قلعة الجبل، وفي يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة جلس في إيوان القلعة وكتب إلى جميع الولاة بالديار المصرية يعرفهم بذلك، وكتب إلى الملك الأشرف صاحب حمص، وإلى الملك المنصور صاحب حماة، وإلى الأمير مظفر الدين صاحب صهيون، وإلى الإسماعيلية، وإلى علاء الدين، وصاحب الموصل، ونائب السلطنة بحلب، وإلى من في بلاد الشام من الأعيان يعرفهم بما جرى. ثم أفرج عمن في الحبوس من أصحاب الجرائم وأقرّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير على الوزارة، وتقدم بالافراج عن الأحبار وزيادة من رأى استحقاقه من الأمراء، وخلع عليهم، وسير الأمير جمال الدين أقوش المحمدي بتواقيع الأمير علم الدين الحلبي، فوجدوه قد تسلطن بدمشق فشرع الملك الظاهر في استفساد من عنده فخرجوا عليه ونزعوه عن السلطنة، وتوجه إلى بعلبك فسيروا من حضره وتوجه به إلى الديار المصرية، وصفا الشام للملك الظاهر بأسره في سنة تسع وخمسين
وقد ذكرنا في سياق السنين مما تقدم جملاً من أخباره وأحواله وفتوحاته وغير ذلك فأغنى عن إعادته.
ولما كان يوم الخميس رابع عشر المحرم من هذ السنة جلس الملك الظاهر بالجوسق الأبلق بميدان دمشق يشرق القمّز وبات على هذه الحال.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشره وجد في نفسه فتوراً وتوعكاً فشكا ذلك إلى الأمير شمس الدين سنقر الألفي السلحدار فأشار عليه بالقيء فاستدعاه فاستعصى. فلما كان بعد صلاة الجمعة ركب من الجوسق إلى الميدان على عادته، والألم مع ذلك يقوى. وعند الغروب عاد إلى الجوسق. فلما أصبح اشتكى حرارة في باطنه، فصنع له بعض خواصه دواء، ولم يكن عن رأي الطبيب، فلم ينجع وتضاعف ألمه، فأحضرالأطباء، فأنكروا استعماله الدواء، وأجمعوا على استعمال دواء مسهل، فسقوه فلم ينجع، فحركوه بدواء آخر كان سبب الإفراط في الإسهال، ودفع دماً محتقاً، وضعفت قواه، فتخيل خواصه إن كبده تقطع، وإن ذلك عن سم سقيه، وخولج بالجوهر، وذلك يوم عاشره. ثم جهده المرض إلى أن قضى نحبه يوم الخميس بعد صلاة الظهر الثامن والعشرين من المحرم. فاتفق رأي الأمراء على إخفائه وحمله إلى القلعة لئلا يشعر العامة بوفاته، ومنعوا من هو داخل من المماليك من الخروج، ومن هو خارج من الدخول. فلما كان آخر الليل حمله من كبراء الأمراء سيف الدين قلاوون الألفي. وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وبدر الدين الخزندار، وعز الدين الأفرم
وعز الدين الحموي، وشمس الدين سنقر الألفي المظفري، وعلم الدين سنجر الحموي، وأبو خرص، وأكابر خواصه؛ وتولى غسله وتحنيطه وتصبيره وتلقينه مهتاره الشجاع عنبر، والفقيه كمال الدين الاسكندري المعروف بابن المنبجي، والأمير عز الدين الأفرم. ثم جعل في تابوت، وغلّق في بيت من بيوت البحرية بقلعة دمشق إلى أن حصل الاتفاق على موضع دفنه. ثم كتب الأمير بدر الدين الخزندار إلى ولده الملك السعيد مطالعة بيده، وسيّرها على يد بدر الدين بكتوت الجوكنداري الحموي وعلاء الدين ايدغمش الحكيمي الجاشنكير. فلما وصلا، وأوصلا المطالعة، خلع عليهما وأعطى كل واحد منهما خمسين ألف درهم، على أن ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصرية.
ولما كان يوم السبت ركب الأمراء إلى سوق الخيل بدمشق على عادتهم ولم يظهروا شيئاً من زي الحزن. وكان أوصى أن يدفن على الطريق السابلة قريباً من داريا، وأن يبني عليه هناك، فرأى ولده الملك السعيد أن يدفنه داخل السور فابتاع دار العقيقي بثمانية وأربعين ألف درهم نقرة وأن يغير معالمها، وتبنى مدرسة للشافعية والحنفية ويبنى بها قبة، شاهقة يكون بها الضريح، ويعمل دار الحديث أيضاً. فلما تم بناء القبة ومعظم المدرسة ودار الحديث، جهز الملك السعيد الأمير علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص والطواشي صفي الدين جوهر الهندي إلى دمشق لدفن
والده. فلما وصلاها اجتمعا مع الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق، وعرّفاه المرسوم فبادر إليه وحمل الملك الظاهر - رحمه الله تعالى - من القلعة إلى التربة ليلاً على أعناق الرجال، ودفن بها ليلة الجمعة خامس شهر رجب الفرد من هذه السنة.
وفي سادس عشر ذي القعدة وقف الملك السعيد وهو عز الدين محمد بن شداد بإذنه وتوكيله وحضوره المدرسة المذكورة والقبة مدفناً وباقيها مسجداً لله تعالى برسم الصلوات وقراءة القرآن العزيز والاعتكاف، وباقي الدار مدرستين إحداهما شرقي الدار هي للشافعية، والأخرى قبليّ الدار إلى جانب القبة وهي للحنفية، دار حديث قبلي الإيوان المختص بالشافعية ووقف على ذلك جميع قرية الضرمان من شغل بانياس، وجميع قرية أم نزع من الحيدور، وبهمين من بيت رامة من الغور، ومزرعيتها الذراعة وشويهة، وتسعة عشر قيراطاً ونصف قيراط من قرية الأشرفية من الغوطة، وبساتين ابن سلام الثلاثة وبستان الستة وطاحونة والحمام على الشرف الأعلى الشمالي وكرم طاعة من بلد بانياس، وخان بنت جزوخان بحكر الفهادين، ورتب في التربة إماماً شافعياً، وجعل له في كل شهر ستين درهماً وزمّامين من عتقاء الملك الظاهر ناظرين في مصالح التربة، وحفظ ما بها من الآلات لكل واحد منهما في الشهر ستين درهماً، ومؤذناً له في الشهر عشرون درهماً وستة عشر مقرئاً لكل واحد منهم خمسة وعشرون درهماً، منهم نفسان يزاد كل واحد منهما عشرة دراهم. ويشتري في كل شهر شمع وزيت، وما تحتاج
إليه التربة من الفرش والقناديل وآلات الوقيد بمبلغ ثمانين درهماً، ويرتب في كل مدرساً له في الشهر مائة وخمسون درهماً، ويعيدان لكل واحد منهما أربعون درهماً وثلاثين فقيهاً لأعلاهم عشرين درهماً، ولأدناهم عشرة دراهم وأن يصرف فيما تدعو الحاجة إليه من أجرة ساقي وإصلاح قنى وغير ذلك، وثمن زيت ومسارج وقناديل، وآلة الوقيد بالمدرستين في الشهر أربعون درهماً. وشاهداً ومشارفاً وغلاماً وجابياً وغيرهم لكل منهم ما يراه الناظر والنظر للملك السعيد مدة حياته ثم لولده وولد ولده.
وفي جمادى الآخرة من سنة سبع وسبعين وست مائة، سيّر الملك برسم تتمة العمارة ومصالح الوقف اثني عشر ألف دينار. وفي يوم السبت ثالث ذي القعدة سنة سبع وسبعين وقف عماد الدين محمد الشيرازي بطريق الوكالة عن الملك السعيد جميع أحد عشر سهماً وربع سهم، وثمن سهم من قرية الطرة من ضياع الجبيل من إقليم اذرعات من عمل دمشق إلى المدرستين والتربة، بعد أن انتقلت الحصة إلى ملك الملك السعيد على ثماني قرى مضافين إلى القرى الست عشرة، وتقر لكل منهم خمس وعشرون ويزاد لكل مدرّس رطلان خبزاً مثلثاً بالدمشقي، ولكل خادم من الخادمين. ولكل نفر بالتربة والفقهاء والمؤذنين والفراشين والبوابين في كل يوم ثلثي رطل خبزاً أسوة فراشي التربة، ويصرف إلى مباشر الأوقاف والشاهد والمشارف لكل واحد رطلاً خبز، وأشهد الحكام على
نفوسهم وسجلوا بثبوت ذلك.
في يوم الاثنين سادس عشر ذي القعدة سنة سبع وسبعين شرع في عمل أعزية الملك الظاهر بالديار المصرية وتقرر أن يكون أحد عشر يوماً في أحد عشر موضعاً نصبت تربا الخيمة العظيمة السلطانية، وفرشت بالبسط الجليلة، وصنعت الأطعمة الفاخرة، واجتمع عليها الخواص والعوام. وحمل منها إلى الربط والزوايا. فإذا كانت ليلة اليوم الذي عمل فيه المهم حضر القراء والوعاظ، فانقضى الليل بين قراءة ووصل إلى صلاة الفجر، واول هذا الجمع بالبقعة المعروفة بالبقعة بجوار مسجد يعرف الأندلس، والثاني بالحوش الظاهري، والثالث بالمدرسة المجاورة لقبة الشافعي رحمه الله تعالى، والرابع بجامع مصر، والخامس بجامع ابن طولون، والسادس الجامع الظاهري بالحسينية، والسابع بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة، والثامن بمدرسة الملك الصالح، والتاسع بدار الحديث الكاملية، والعاشر بالخانكاة برحبة العيد، والحادي عشر بجامع الحاكم وهو يوم الأحد. والثاني من شهر ربيع الأول. وأنشد الشعراء المراثي وخلع على جماعة من الوعاظ وغيرهم ومن لم يخلع عليه أعطاه جائزة حسنة.
وله أولاده وأزواجه كان له من الأولاد: الملك السعيد ناصر الدولة محمد بركة كان مولده بالعشر من ضواحي مصر في صفر سنة ثمان وخمسين وست مائة، وأمه بنت حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمي،
والملك نجم الدين خضر أمه أم ولد، والملك بدر الدين سلامش، وولد له من البنات سبع من بنت سيف الدين دماجي التتري. وأما زوجاته فأم الملك السعيد وهي بنت بركة خان، وبنت الأمير سيف الدين نوكاش التتري، وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتري، وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتري، وبنت الأمير سيف الدين دماجي التتري، وشهروزية تزوجها لما قدم غزة وخالف شهروزية، فلما ملك الديار المصرية طلقها.
وأما وزراؤه تولى السلطنة واستمر زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير، ثم صرفه واستوزر بهاء الدين علي بن محمد بن سليم وفي وزارة الصحبة ولده فخر الدين أبا عبد الله محمد إلى أن توفي في شعبان سنة ثمان وستين، فرّتب مكانه ولده الصاحب تاج الدين محمد وزر له في الصحبة أيضاً أخوه الصاحب زين الدين أحمد ووزر له الصاحب عز الدين محمد بن الصاحب محي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين نيابة عن جده. وكان له أربعة آلاف مملوك منهم أمراء أسفهسلارية، ومقادره، وخاصكية داخل الدور، وخاصكية خارجها، وجمدارية. وسلاح دارية وكتابية.
ومن عفته وشرف نفسه وعدله أن الملك الأشرف صاحب حمص كتب إليه يستأذنه في الحج. وفي ضمن الكتاب شهادة عليه أن جميع
ما يملكه انتقل عنه إلى الملك الظاهر فلم يأذن له في تلك السنة، واتفق أنه مات بعد ذلك، فتسلم الحصون التي كانت بيده، ومكن ورثته من جميع ما تركه من الأثاث والملك، ولم يعرج على ما أشهد به على نفسه.
ومنها أن شعراء بانياس وهي إقليم يشتمل على قرى كثيرة عاطلة بحكم استيلاء الفرنج على صفد فلما فتحها أفتاه بعض فقهاء الحنفية باستحقاق الشعراء فلم يرجع إلى الفتيا، وتقدم أمره أن من كان فيها ملك يتسلمه، ولم يكلفهم بينة فعادت إلى أربابها وعمّرت.
ومنها أن بستان سيف الإسلام بين مصر والقاهرة، وكان ملكاً لشمس الملوك أحمد بن الملك الأعز شرف الدين يعقوب بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمهم الله تعالى. فتوفي المذكور بآمد، وبقي البستان في يد ولده شهاب الدين غازي. فلما ملك الملك الصالح نجم الدين الديار المصرية أخرج المذكور من مصر، واحتاط على البستان، فلم يزل تحت الحوطة. فلما ملك الملك الظاهر رفع ولد شهاب الدين غازي قصة أتهيأ فيها الحال، فأمر بحملها على الشرع فثبت ملك المتوفي بشهادة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وبهاء الدين بن ملكشوا والطواشي صفي الدين جوهر النوبي، وثبتت الوفاة، وحضر الورثة بشهادة كمال الدين عمر بن العديم، وعز الدين محمد بن شداد فسلم لهما البستان، ثم ابتاعه منهما بمائة وثلاثين درهم.
ومنها أنها بنت الملك المعز صاحب حلب كان عقد عليها الملك السعيد نجم الدين أيل غزي صاحب ماردين على صداق مبلغه ثلاثون ألف دينار مصرية، فمات عنها ولم يدخل بها. وكان الملك المظفر قطز رحمه الله قد احتاط على أملاك الملك السعيد بدمشق لما تملكها، وبقيت تحت الحوطة. فلما ملك الملك الظاهر رفعت قصة تذكر الحال وسألت حملها على الشرع وأن يفرج عن الأملاك لتباع في مبلغ صداقها؛ فتقدم أن يثبت ما أدعته فثبت بشهادة كمال الدين بن العديم ومحمد بن شداد ولم يكن بقي في الصداق غيرها فأفرج لها عن الأملاك فبيعت وقبضت ثمنها.
ومن حكمه أنه كان له ركابي وهو بدمشق يسمى مظفراً كان يأخذ الجعل من الأمراء الناصرية على نقل أخبارهم إليهم، وتحقق ذلك منه وبقي معه إلى أن ملك واستمر به، فدخل يوماً إلى الركاب خانة، فوجدها مختلة، وفقد منها سروجاً محلاة، فالتفت إليه، فقال له: نحسن في دمشق ونحسن في القاهرة، متى عدت قربت الاسطبل شنقتك فقال: يا خوند إذا لم اقرب الاسطبل من أين آكل أنا وعيالي؟ فرّق له، وأمر أن يقطع في الحلقة بحيث لا يراه فأقطع، وبقي إلى أن توفي السلطان.
وكان يفرق في كل سنة أربعة آلاف أردب حنطة في الفقراء والمساكين وأصحاب الزوايا وأرباب البيوت، وكان موصفاً عليه لأيتام الأجناد ما يقوم بهم على كثرتهم، ووقف وقفاً على تكفين أموات الغرباء بالقاهرة ومصر، ووقفاً يشتري به خبز، ويفرق في فقراء المسلمين. وأصلح
قبر خالد رضي الله عنه بحمص، ووقف وقفاً على من هو راتب فيه من إمام ومؤذن وقيم، وعلى من ينتابه من البلاد للزيارة، ووقف على قبر أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وقفاً لتنويره وبسطه وإمامه ومؤذنه؛ وأجرى على أهل الحرمين بالحجاز الشريف وأهل بدر وغيرهم ما كان قطع في أيام غيره من الملوك الذين تقدموه. وكان يسّفر ركب الحجاز كل سنة تارة عاماً، وتارة صحبة الكسوة، ويخرج كل سنة جملة مستكثرة يستفك بها من حبسه القاضي من المقلين، ورتب في أول ليلة من شهر رمضان المعظم بمصر والقاهرة وأعمالها مطابخ لأنواع الأطعمة، وتفرّق على الفقراء والمساكين.
وأما مهابته ومنزلته من القلوب أن يهودياً دفن بقلعة جعبر عند قصد التتر لها مصاغاً وذهباً وهرب بأهله إلى الشام واستوطن حماة. فلما نفد ما كان بيده كتب إلى صاحب حماة قصد يذكر أمر الدفين، ويسأله أن يسيّر معه من يحفره ليأخذه ويدفع لبيت المال نصفه، فلم يتمكن من إجابة سؤاله، وطالع الملك الظاهر بذلك فورد عليه الجواب أن يوجهه مع رجلين لقضاء غرضه. فلما توجهوا ووصلوا الفرات امتنع من كان معه من العبور فعبر هو وابنه. فلما وصل أخذ في الحفر هو وابنه وإذا بطائفة من العرب على رأسه، فسألوه عن حاله فأخبرهم، فأرادوا قتله، فأخرج لهم كتاب الملك الظاهر مطلقاً إلى من عساه يقف عليه فكفوا عنه، وساعدوه حتى استخلص ماله ثم توجهوا به إلى حماة وسلموه إلى الملك المنصور، وأخذوا
خطه أنهم سلموا اليهودي إليه سالماً وما تبعه.
ومنها: أن جماعة من التجار خرجوا من بلاد العجم قاصدين أبواب الملك الظاهر، فلما مروا بسيس منعهم صاحبها من العبور وكتب فيهم إلى أبغا، فكتي إليه يأمره بالحوطة عليهم وإرسالهم إليه. واتفق أن هرب مملوك إلى حلب، واجتمع بالأمير نور الدين علي بن مجلي، وأخبره بحالهم، فكتب للملك الظاهر بذلك على البريد؛ فعاد الجواب يأمره أن يكتب إلى صاحب سيس أن هو تعرض لهم في شيء يساوي درهماً واحداً أخذتك عوضه، فكتب إليه بذلك، فأطلقهم وصانع أبغا بأموال جليلة.
ومنها: أن تواقيعه التي في أيدي التجار المترددين إلى بلاد القفجاق بإعفائهم من الصادر والوارد ويعمل بها حيث حلوا من مملكة بيت بركة ومنكوتمر وبلاد فارس وكرمان.
ومنها: أنه أعطى بعض التجار مالاً ليشري به مماليك وجواري من الترك، فشرهت نفسه إلى المال فدخل به قراقرم واستوطنها، فبحث الملك الظاهر حتى وقع على خبره، فبعث إلى بيت منكوتمر في أمره فأحضروه إليه تحت الحوطة.
ومنها: أنه كان بجزيرة صقلية في زمان الأنبرتور مقدار خمسة عشر ألف فارس مسلمين، وهم مهادنين لهم، وهم في خدمته، لهم الإقطاعات. فلما مات أشار من بها من الفرنج على من ملكها بعده بقتلهم فقتل منهم مفرقا
نحو ثلاثة آلاف فارس، واتصل بالملك الظاهر قتلهم والعزم على قتال الباقين، فكتب إليهم أن هؤلاء المسلمين أقرهم الملك الذي كان قبلكم على بلادهم وأموالهم، فإما أن يقروهم على ما أقرهم من الهدنة، وإما أن يؤمنوهم ويوصلوهم بأموالهم إلى بلاد المسلمين ليبلغوا مأمنهم، فإن لم يقدروا على التوجه واختاروا الإقامة وجرى على أحد منهم أذى، قتلت على كل من تحت يدي من أسدى الفرنج، ومن في بلادي من تجارهم، وقتلت ما اشتملت عليه مملكتي من طوائف النصارى. فلما تحققوا ذلك اجتمع رأيهم على إبقائهم على عادتهم؛ وكان أخذ نفسه بالإطلاع على أحوال أمرائه وأعيان دولته حتى لم يخف عليه من حالهم شيء. وكثيراً ما كانت ترد عليه الأخبار وهو بالقاهرة بحركة العدو فيأمر العسكر وهم زهاء ثلاثين ألف فارس فلا يثبت منهم فارس في بيته، وإذا خرج لا يمكن من العود.
ومنها: ما أحدثه من البريد في سائر مملكته بحيث يتصل به أخبار أطراف بلاده على اتساعها في أقرب وقت. والذي فتحه من الحصون عنوة من أيدي الفرنج خذلهم الله قيسارية، أرسوف، صفد، طبرية، يافا، السقيف، انطاكية، بغراس، القصير، حصن الأكراد، حصن عكار القرين، صافيثا، مرقية، حلبا. وناصفهم على المرقب، وبانياس، وبلاد أنطرسوس، وعلى سائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون. وولّي في نصيبه الولاة والعمال، واستعاد من صاحب سيس درب سأك، وديركوش، وبلمش،
وكفر دبين، ورعبان والمرزبان. والذي صار إليه من أيدي المسلمين: دمشق، وبعلبك، وعجلون، وبصرى، وصرخد، والصلت وكانت هذه البلاد قد تغلب عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي بعد قتل الملك المظفر رحمه الله تعالى وحمص، وتدمير، والرحبة، وزلوبيا، وتل باشر؛ وهذه منتقلة إليه عن الملك الأشرف صاحب حمص في سنة اثنتين وستين وست مائة. وصهيون، وبلاطنس، وبرزية وهذه منتقلة إليه عن سابق الدين سليمان بن سيف الدين وعمه عز الدين. وحصون الإسماعلية وهي: الكهف، والقدموس، والمنيفة، والعليقة، والجوني، والرصافة، ومصيات، والقليعة. وانتقل إليه عن الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل: الشوبك، والكرك. وانتقل إليه عن التتر: بلاد حلب الشمالية، وشيز والبيرة. وفتح الله على يديه بلاد النوبة، وفيها من البلاد مما يلي أسوان جزيرة بلاق؛ ويلي هذه البلاد بلاد العلى، وجزيرة ميكائيل، وفيها بلاد وجزائر الجنادل وأنكوا وهي في جزيرة وإقليم مكس ودنقلة وإقليم أشو، وهو جزائر عامرة بالمدائن. فلما فتحها أنعم بها على ابن عم المأخوذة منه، ثم ناصفه عليها ووصف عليه أعبداً وجواري وهجناً وبقراً، وعن كل بالغ ديناراً في كل سنة. وكانت حدود مملكته من أقصى بلاد النوبة إلى قاطع الفرات.
ووفد عليه من التتر زهاء ثلاث آلاف فارس، فمنهم من أمّره بطبلخاناة،
ومنهم من جعله أمير عشرة إلى عشرين، ومنهم من جعله من السقاة، وجعل منهم سلحدارية وجمدارية، ومنهم من أضافه إلى الأمراء.
وأما مبانيه فمشهورة: منها ما هدمه التتر من المعاقل والحصون. وعمّر بقلعة الجبل دارالذهب، وبرحبة الحبارج قبة محمولة على اثني عشر عموداً من الرخام الملون، وصوّر فيها سائر حاشيته وامرائه على هيئتهم وعمّر طبقتين مطلتين على رحبة الجامع وغشي لبرج الزاوية المجاور لباب السر، وأخرج منه رواشن، وبنى عليه قبة، وزخرف سقفها، وأنشأ جواره طباقاً للمماليك، وأنشأ برحبة القلعة داراً كبيرة لولده الملك السعيد، وكان في موضعها حفير، فعقد عليه ستة عشر عقداً، وأنشأ دوراً كثيرة برسم الأمراء ظاهر القاهرة مما يلي القلعة اسطبلات جماعة، وأنشأ حماماً بسوق الخيل لولده، وأنشأ الجسر الأعظم والقنطرة التي على الخليج، وأنشأ الميدان بالبورجي، ونقل إليه النخيل من الديار المصرية، فكانت أجرة نقله ستة عشر ألف دينار، وأنشأ به المناظر، والقاعات، والبيوتات. وجدد الجامع الأنور والجامع الأزهر، وبنى جامع العافية بالحسينية وأنفق عليه فوق ألف ألف درهم، وأنشأ قريباً منه زاوية الشيخ خضر وحماماً وطاحوناً وفرناً وعمّر على المقياس قبة رفيعة مزخرفة، وأنشأ عدة جوامع في أعمال الديار المصرية؛ وجدد قلعة الجزيرة وقلعة العامودين ببرقة وقلعة السويس، وعمّر جسر سهم الدين بالقليوبية، وجدد الجسر الأعظم على بركة الفيل، وأنشأ قنطرته وبنى على جانبيه حائطاً يمنع الماشي السقوط فيه، وقنطرة على بحر ابن منجا
لها سبعة أبواب، وقنطرة بمنية الشيرج وقنطرتين عند القصير على بحر أبراس بسبعة أبواب أوسطها تعبر فيه المراكب، وأنشأ في الجسر الذي يسلك فيه إلى دمياط ستة عشر قنطرة، وبنى قنطرة على خليج القاهرة يمر عليها إلى ميدان البورجي، وبنى على خليج الاسكندرية قريباً من قنطرتها القديمة قنطرة عظيمة بعقد واحد، وحفر خليج الاسكندرية وكان قد ارتدم بالطين، وحفر بحر أشموم وكان قد غمر وحفر ترعة الصلاح وخورسرخشا، وحفر المجايري والكافوري، وترعة كنساد وزاد فيها مائة قصبة، كما كانت في الأول وحفر ترعة أبي الفضل ألف قصبة وحفر بحر الصمصام بالقليوبية، وحفر بحر السردوس. وتمم عمارة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل منبره، وأحاط بالضريح درابزيناً وذهّب سقوفه وجددها وبيّض جدرانه. وجدد البيمارستان بالمدينة النبوية ونقل إليها سائر المعاجين والأكحال والأشربة وبعث إليه طبيباً من الديار المصرية. وجدد قبر الخليل عليه السلام، ورمّ شعثه وأصلح أبوابه وميضابه وبيّضه وزاد في راتبه المجرى على قوامه ومؤذنيه وإمامه، ورتب له من مال البلد ما يجري على المقيمين به والواردين عليه. وجدد بالقدس الشريف ما كان قد تداعى من قبة الصخرة وجدد فيها السلسلة وزخرفها وأنشأ خاناً للسبيل. نقل بابه من دهلنر كان للخلفاء المصريين بالقاهرة وبنى به مسجداً وطاحوناً وفرناً وبستاناً. وبنى على قبر موسى عليه السلام قبة
ومسجداً، وهو عند الكثيب الأحمر قبل أريخا ووقف عليه وقفاً. وبنى على قبر أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه مشهداً ومكانه من الغور بعثما ووقف عليه وقفاً. وجدد بالكرك برجين كانا صغيرين فهدمهما وكبرهما وعلاهما. ووسع مسجد جعفر الطيار رضي الله عنه ووقف عليه وقفاً زيادة على وقفه على الزائرين له والوافدين عليه. وعمّر جسراً بقربة دامية بالغور على الشريعة، ووقف عليه وقفاً برسم ما عساه يتهدم منه. وأنشأ جسوراً كثيرة بالغور والساحل. وأنشأ قلعة قافوم وبنى بها جامعاً ووقف عليه وقفاً وبنى على طريقها حوضاً للسبيل. وجدد جامع مدينة الرملة وأصلح مصانعها، وأصلح جامعاً لبني أمية ووقف عليه وقفاً. وأصلح جامع زرعين وساعداه من جوامع البلاد الساحلية التي كانت في أيدي الفرنج. وجدد باشورة القلعة بصفد وأنشأها بالحجر الهرقلي وعمر لها أبراجاً وبدنات وصنع له بغلات مسفحة دائر الباشورة بالحجر المنحوت، وعمل لأبراجها طلاقات، وأنشأ بالقلعة صهريجاً كبيراً مدرجاً من أربع جهاته وبنى عليه برجاً زائداً للارتفاع. قيل: إن ارتفاعه مائة ذراع بحيث أن الواقف عليه يرى الماشي على الخندق دائر القلعة. وبنى تحت البرج الذي للقلعة حماماً، وصنع الكنيسة جامعاً وأنشأ ربضاً ثانياً قبله بغرب، وكان السقيف قطعتين متجاورتين فجمع بينهما وبنى به جامعاً وحماماً وداراً لنائب السلطنة. وكانت قلعة الصبيبة قد اختربها التتر ولم يبقوا
منها إلا الآثار فجددها وأنشأ لجامعها منارة وبنى بها داراً لنائب السلطنة، وعمل جسراً يمشى عليه إلى القلعة وكانت التتر هدموا شراريف قلعة دمشق ورؤوس أبراجها فجدد ذلك جميعه، وبنى فوق الزاوية المطلة على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة. وجدد منظرة على قاعدة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدد دهان سقوفها وجعل بها درابزيناً يمنع الوصول إليها، وبنى حماماً خارج باب النصر، وجدد ثلاث اسطبلات على الشرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان وما حوله من العمائر، وجدد مشهد زين العابدين رضي الله عنه بجامع دمشق، وأمر بغسل الأساطين وتدهين رؤوسها، وأمر بترخيم الحائط الشمالي وتجديد باب البريد وفرشه بالبلاط. ورّم شعث قبة الدم وبيّضها، وبنى دور ضيافة للرسل والواردين والوافدين مجاورة للحمام وسوق الخيل، وجدد البنيان هدموه من قلعة صرخد، وأصلح جامعها ومساجدها، وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت، وجدد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك، وجدد بابها والدركاة. وجدد قبر نوح عليه السلام بقرية الكرك وعمل حول الضريح درابزيناً. وجدد أسوار حصن الأكراد وعمّر قلعتها، وكانت قد تهدمت من المجانيق، وعقدها حنايا وحال بينها وبين المدينة بخندق، وبنى عليها أبرجة شاهقة بطلاقات، وبنى بها جامعاً للجمعة، وأنشأ بالربض جامعاً ومساجد وخاناً كبيراً وأسواقاً عدة. وجدد من حصن عكار ما كان استهدم منه وزاد أبرجته وبنى به جامعاً وكذلك بربضه ومساجد أيضاً، وجدد خان المحدثة وجدد فيها حفراً وحماماً. ليقل ما يتجدد من أخبار المسافرين وبني من قصير القفول شرقي دمشق إلى المناخ إلى قارا إلى حمص عدة أبرجة رتب فيها الحمام والحفراء، وكذلك من دمشق إلى تدمر، والرحبة إلى الفرات. وجدد سفح قلعة حمص والدور السلطانية بها وبالبلد، وأنشأ قلعة شميميش بجملتها، وأصلح قلعة شيزر وقلعتي الشعر وبكاس وقلعة بلاطنس وأنشأ بها جامعاً، وبنى في قلاع الاسماعلية الثمان جوامع، وبنى ما هدمه التتر من قلعة عين تاب والراوندان، وبنى بأنطاكية جامعاً موضع الكنيسة وكذلك ببغراس، وأنشأ القلعة بألبيرة وبنى بها أبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها وأتقن بناءها وشيدها، وأنشأ بالميدان الأخضر شمالي حلب مسطبة كبيرة مرخمة، وأنشأ داراً لخبز القلعة. وبني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ولا الملوك من بني أيوب وغيرهم من الأبنية، والرباع، وغيرها، والخانات، والقواسير، والدور، والأساطبل، والمساجد، والحمامات، وحياض السبيل من قريب مسجد التتر إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة، واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي؛ ومن الشارع إلى الكبش وحوض قميحة إلى تحت القلعة ومشهد الست نفيسة رحمة الله عليها إلى السور القراقوشي. إلا الآثار فجددها وأنشأ
لجامعها منارة وبنى بها داراً لنائب السلطنة، وعمل جسراً يمشى عليه إلى القلعة وكانت التتر هدموا شراريف قلعة دمشق ورؤوس أبراجها فجدد ذلك جميعه، وبنى فوق الزاوية المطلة على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة. وجدد منظرة على قاعدة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدد دهان سقوفها وجعل بها درابزيناً يمنع الوصول إليها، وبنى حماماً خارج باب النصر، وجدد ثلاث اسطبلات على الشرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان وما حوله من العمائر، وجدد مشهد زين العابدين رضي الله عنه بجامع دمشق، وأمر بغسل الأساطين وتدهين رؤوسها، وأمر بترخيم الحائط الشمالي وتجديد باب البريد وفرشه بالبلاط. ورّم شعث قبة الدم وبيّضها، وبنى دور ضيافة للرسل والواردين والوافدين مجاورة للحمام وسوق الخيل، وجدد البنيان هدموه من قلعة صرخد، وأصلح جامعها ومساجدها، وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت، وجدد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك، وجدد بابها والدركاة. وجدد قبر نوح عليه السلام بقرية الكرك وعمل حول الضريح درابزيناً. وجدد أسوار حصن الأكراد وعمّر قلعتها، وكانت قد تهدمت من المجانيق، وعقدها حنايا وحال بينها وبين المدينة بخندق، وبنى عليها أبرجة شاهقة بطلاقات، وبنى بها جامعاً للجمعة، وأنشأ بالربض جامعاً ومساجد وخاناً كبيراً وأسواقاً عدة. وجدد من حصن عكار ما كان استهدم منه وزاد أبرجته وبنى به جامعاً وكذلك بربضه ومساجد أيضاً، وجدد خان المحدثة وجدد فيها حفراً وحماماً. ليقل ما يتجدد