الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أخبار المسافرين وبني من قصير القفول شرقي دمشق إلى المناخ إلى قارا إلى حمص عدة أبرجة رتب فيها الحمام والحفراء، وكذلك من دمشق إلى تدمر، والرحبة إلى الفرات. وجدد سفح قلعة حمص والدور السلطانية بها وبالبلد، وأنشأ قلعة شميميش بجملتها، وأصلح قلعة شيزر وقلعتي الشعر وبكاس وقلعة بلاطنس وأنشأ بها جامعاً، وبنى في قلاع الاسماعلية الثمان جوامع، وبنى ما هدمه التتر من قلعة عين تاب والراوندان، وبنى بأنطاكية جامعاً موضع الكنيسة وكذلك ببغراس، وأنشأ القلعة بألبيرة وبنى بها أبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها وأتقن بناءها وشيدها، وأنشأ بالميدان الأخضر شمالي حلب مسطبة كبيرة مرخمة، وأنشأ داراً لخبز القلعة. وبني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ولا الملوك من بني أيوب وغيرهم من الأبنية، والرباع، وغيرها، والخانات، والقواسير، والدور، والأساطبل، والمساجد، والحمامات، وحياض السبيل من قريب مسجد التتر إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة، واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي؛ ومن الشارع إلى الكبش وحوض قميحة إلى تحت القلعة ومشهد الست نفيسة رحمة الله عليها إلى السور القراقوشي.
ذكر ما كان ينوب دولته من الكلف المصرية خاصة
كانت عدة العساكر بالديار المصرية في الأيام الكاملية والصالحية عشرة آلاف فارس
تضاعفها أربعة أضعاف، وكان أولئك مقصدين في الملبوس والنفقات والعدد، وهؤلاء بالضد من ذلك، وكانت كلف من يلوذ بهم من إقطاعه وهؤلاء كلفهم على الملك الظاهر؛ وكذلك تضاعفت الكلف. فإنه كان يصرف في كلف المطبخ الصالحي النجمي ألف رطل لحم بالمصري كل يوم، والمصروف في مطبخ الملك الظاهر عشرة آلاف رطل في كل يوم عنها وعن توابلها عشرون ألف درهم، ويصرف في الكلف الطارئة المتعلقة بالرسل والوفود في كل يوم عشرون ألف درهم، ويصرف في ثمن قرط دوابه ودواب من يلوذ به في كل سنة ثماني مئة ألف درهم، ويقوم بكلف الخيل والبغال والجمال والحمير من العلوفات خمس عشر ألف عليقة في اليوم منها ست مائة أردب؛ وما كان يقوم به لمن أوجب عليه نفقته وألزمها عليه بطنجير، وتحمل إلى المخابز المعدة لعمل الجرايات خلاماً يصرف على أرباب الرواتب في كل شهر عشرون ألف أردباً، وذلك بمصر خاصة. وذلك الحال في العلوفات وكلف الرسل والوفود والاستعمالات في الخزائن، والذخائر وأما الطواري التي كانت تطرأ عليه فلا يمكن حصرها؛ وكذلك ما كان عليه من الجامكيات والجرايات لأرباب الخدم رحمه الله تعالى.
بيليك بن عبد الله الأمير بدر الدين الخزندار الظاهري نائب السلطنة
بالممالك كلها ومقدم جيوشها. كان أميراً عظيماً، جليل المقدار، عليّ الهمة، واسع الصدر، كثير البر والمعروف والصدقة، لين الكلمة، حسن المعاملة للناس، محباً للفقراء والصلحاء والعلماء، حسن الظن بهم كثير الإحسان إليهم، يتفقد أرباب البيوت ويسد خلتهم، وعنده ديانة كثيرة وفهم وإدراك وتيقظ وذكاء. سمع الحديث النبوي وطالع التواريخ وأيام الناس، وكان يكتب خطاً حسناً وأوقف على زاوية بالجامع الأزهر بالقاهرة وقفاً جيداً على من يذكر بها الدرس وعلى من يشتغل بالعلم بها على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. وله أوقاف على جهات بر، وكان له الإقطاعات العظيمة بالديار المصرية وبالشام، وله قلعة الصبيبة وبانياس وأعمالها وبيت جن والشعراء وغير ذلك. ولما مات الملك الظاهر ساس الأمور أحسن سياسة وسار بالجيوش إلى الديار المصرية على أجمل نظام بحيث لم يظهر لموت السلطان أثر لوجوده، فلما وصل إلى الديار المصرية من الشام تمرض عقيب وصوله ولم يطل مرضه، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد سادس ربيع الأول بقلعة الجبل. ودفن يوم الأحد بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى، ووجد الناس عليه وجداً شديداً وحزنوه لفقده وشمل مصابه الخاص والعام، وكانت له جنازة مشهودة وأقيم عليه النوح بالقاهرة ليلاً بالشموع في القاهرة والقلعة ثلاث ليال متوالية، والخواتين ونساء الأمراء يدرن في شوارع القاهرة ليلاً بالشموع والنوائح بالملاهي، وصدع موته القلوب وأبكى العيون؛ وقيل: إنه مات مسموماً وهو الظاهر.
ومنذ مات اضطربت أحوال الملك السعيد وظهرت إمارات الأدبار على الدولة الظاهرية وأخذت في النقص والتلاشي، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه. وكان عمره خمساً وأربعين سنة أو ما حولها، وخلف تركة عظيمة تجاوز الحصر ومن الوارث اثنين وزوجة. وأما الملك السعيد وأخوته نجم الدين خضر وبدر الدين سلامش أولاد معتقة رحمه الله تعالى فلقد كان من حسنات الدهر ومحاسن الدولة الظاهرية سقى الله عهد واقفها.
الحسن بن إسماعيل بن عبد الملك بن درباس أبو محمد ناصر الدين الهذباني الماراني. مولده بالقاهرة سنة ثماني عشرة وست مائة. وكان عنده فضيلة ومشاركة في الأدب والنظم وفيه مكارم أخلاق وحسن المحاضرة، وجده صدر الدين عبد الملك قاضي قضاة الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى مشهور. وكان مدرس مدرسة سيف الإسلام بالبندقانيين بالقاهرة. وتوفي ليلة الاثنين ثامن شهر رجب، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى بتربتهم المعروفة بهم رحمه الله تعالى.
خضر بن أبي بكر بن موسى أبو العباس المهراني العدوي. كان يقول: إنه من قرية المحمدية من أعمال جزيرة ابن عمر، وهو شيخ الملك الظاهر المشهور أمره. وسبب معرفة الملك الظاهر به واعتقاده فيه أن الأمير سيف الدين قشتمر العجمي أخبره عنه قبل أن يتسلطن أنه قال: إن ركن الدين بيبرس
البندقداري لا يملك أن يملك. فلما ملك صار له فيه عقيدة عظيمة وقرّبه وأدناه، وكان ينزل إلى زيارته في الأسبوع مرة أو مرتين أو ثلاثاً على قدر ما يتفق؛ لكنه لم يكن يغب زيارته والاجتماع به ويطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره في أموره، ولا يخرج عن رأيه، ويستصحبه في سائر أسفاره وغزواته. وفي ذلك يقول الشريف شرف الدين محمد بن رضوان الناسخ:
ما الظاهر السلطان إلا مالك ال
…
دنيا بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشمس في
…
وسط السماء بكل عين تنظر
لما رأينا الخضر يقدم جيشه
…
أبداً علمنا أنه الاسكندر
وكان يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها فتقع على ما يخبر به.
ولما حاصر الملك الظاهر أرسوف وهي من أوائل فتوحاته سأله متى تؤخذ، فعين له اليوم الذي تؤخذ فيه فوافق، وكذلك في قيسارية وصفد.
ولما عاد الملك الظاهر رحمه الله تعالى من دمشق إلى جهة الكرك سنة خمس وستين استشاره في قصده. فأشار عليه أن لا يقصده وأن يتوجه إلى الديار المصرية، فلم يوافق قوله غرضه، فخالفه وقصده. فلما كان ببركة زيزاء تقنطر فانكسرت فخذه وأقام مكانه أياماً كثيرة، ثم حمل في محفة إلى غزة ثم أتى الديار المصرية على أعناق الرجال. ولما قصد الملك الظاهر منازلة حصن الأكراد ومحاصرته اجتاز الشيخ خضر ببعلبك ونزل بالزاوية التي عمّرت له بظاهرها، وخرج نواب السلطنة وبعض أهل البلد إلى خدمته، وكنت
فيمن خرج، فسمعت كمال الدين إبراهيم بن شيث رحمه الله يسأله عن أخذ حصن الأكراد، فقال: ما معناه: يأخذه في مدة أربعين يوماً.
وقال عز الدين محمد بن شداد: سمعت الأمير سيف الدين قشتمر العجمي رحمه الله تعالى يقول: إن الملك الظاهر لما تغير عليه وأحضر من أصحابه من دمشق من يحاققه على أمور نقلت إليه عنه ويقابله عليها قعد الملك الظاهر في داره بقلعة الجبل وعنده من أكابر الأمراء: الأمير فارس الدين الأتابك، والأمير سيف الدين قلاوون، والأمير بدر الدين بيسري؛ وسيّر الأمير سيف الدين قشتمر العجمي لإحضاره، فلما طلبه إلى الحضور إلى القلعة أنكر ذلك، لأنه لم يكن له به عادة، فعرف بشيء مما هم فيه، فقام وحضر معه، فلما دخل لم يجد ما يعهده، فقعد عندهم منتبذاً منهم، فأحضر السلطان الذين أحضرهم من أصحابه من دمشق، فشرعوا ونسبوه إلى أمور عظيمة وقبائح لا تكاد تصدر من مسلم؛ فقال: ما أعرف ما يقولونه ومع هذا، فإني ما قلت لكم: إني رجل صالح، وأنتم قلتم هذا، فإن كان الذي يقولونه هؤلاء صحيح فأنتم كذبتم؛ فقام الملك الظاهر ومن معه من عنده؛ وقال: قوموا بنا لا نحترق بمجاورته وتحولوا إلى طرف الإيوان بعيداً منه؛ فقال الملك الظاهر للجماعة: أي شيء رابكم في أمره؟ فقال الأتابك: هذا مطلع على الأسرار وأسرار الدولة وبواطن أحوالها وما ينبغي إبقاؤه في الوجود، فإنه لا يؤمن أن يصدر منه ما لا يمكن تلافيه، ووافقه الحاضرون على ذلك وقالوا ببعض ما قد قيل عنه يباح دمه، ففهم ما هم فيه، فقال للملك الظاهر: اسمع ما أقول لك إذاً أجلي قريب من أجلك، وبيني
وبينك مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه صاحبه عن قريب. فلما سمع الملك الظاهر ذلك وجم وقال للأمراء: ما ترون في هذا؟ فلم يمكن أحداً ان يقول شيئاً؛ فقال السلطان: هذا يحبس في مكان لا يسمع له فيه حديث فيكون مثل من قد قبر وهو حي. فقال: الذي يراه مولانا السلطان - يخشاه - فحبسه في مكان مفرد بقلعة الجبل ولم يمكّن أحداً من الدخول إليه إلا من يثق به السلطان غاية الوثوق، ويدخل إليه بالأطعمة الفاخرة والأشربة والفواكه والملابس تغيّر عليه في كل وقت، وكان حبسه في ثاني عشر شوال سنة إحدى وسبعين وست مائة. وتوفي يوم الخميس سادس المحرم أو ليلة الجمعة سابعه، وأخرج يوم الجمعة من سجنه بقلعة الجبل ميتاً، فسلم إلى أهله، فحملوه إلى زاويته المعروفة به بخط جامع الظاهر بالحسينية، فغسل بها، وحمل إلى الجامع المذكور وصلي عليه بعد صلاة الجمعة وأعيد إلى زاويته، ودفن بالتربة التي أنشأها بها، وكان قد نيف على خمسين سنة. وكان الملك الظاهر لما دخل دمشق بعد عوده من الروم قد كتب على البريد بالإفراج عنه، فوصل البريد بعد موته رحمه الله. وكان الملك الظاهر رحمه الله قد بنى له زاوية بالحسينية على الخليج محاذية لأرض الطبالة ووقف عليها أحكار الجبي في السنة منها ثلاثين ألف درهم نقرة، وبني له بالمقدس زاوية وبجبل المزة ظاهر دمشق زاوية وبظاهر بعلبك زاوية وبحماة زاوية وبحمص زاوية، وفي جميعها فقراء وعليهم الأوقاف، وصرفه في المملكة يحكم ولا يحكم عليه، ولا يخالف أمره في جليل ولا حقير، ويتقي جانبه الخاص
والعام حتى الأمير بدر الدين الخزندار، والصاحب بهاء الدين ومن دونهما، وملوك الأطراف. وملوك الفرنج وغيرهم. ولقد هدم بدمشق كنيسة اليهود العظمى وبني بها المحاريب، وكذلك هدم بالقدس كنيسة النصارى تعرف بالمصلبة جليلة عندهم، وقتل قسيسها بيده وعملها زاوية، وهدم بالاسكندرية كنيسة الروم، وكانت كرسياً من كراسيهم يعتقدون فيها البركة، ويزعمون أنه رأس يحيى بن زكريا عليه السلام فيها، وهو عندهم يحيى المعمداني وصيرها مسجداً وسماها المدرسة الخضراء. وكان واسع الصدر يعطي ويفرق الدراهم والذهب، ويعمل الأطعمة في قدور مفرطة الكبر يحمل القدرة الواحدة جماعة من العتالين، وكانت أحواله عجيبة لا تكيف وهو غير متناسبة ولا منتظمة الأحوال فيها مختلفة. فمن الناس من يثبت صلاحه، ومنه من يرميه بالعظائم، والتوسط في معناه أنسب رحمه الله.
؟ سليمان بن عسلي بن حسن بن محمد بن حسن معين الدين البرواناة.
قد تقدم لمع من أخباره في هذا الكتاب فأغنت من الإعادة. كان والده مهذب الدين علي بن محمد الكاري، أصله من كار من عراق العجم. قد حفظ القرآن العزيز وأتقنه واشتغل بالعربية. فلما استولوا التتر على عراق العجم خرج منها، وقصد الروم، فرتب مقرئاً ببعض الترب فطلب معين الدين مستوفي الروم في أيام السلطان علاء الدين من يعلم أولاده، فتوسط له شخص كان يعرفه، فاتصل بخدمته وكان يحضر مجلسه في بعض الأوقات. فرآه
معين الدين بارعاً في علم العربية، فقال له: لو تعلمت الحساب لكان أنفع لك في المكانة والرزق، فاشتغل بالحساب على معين الدين المستوفي، فلما رأى أنه قد برع فيه، وكان معين الدين يطلب الإقالة في كل وقت من السلطان علاء الدين فلا يجيبه، فاستناب لمهذب الدين المذكور، وأظهر أنه قد أضر، ولم يزل معين الدين إلى أن رتبه مستوفياً. فرأى منه السلطان علاء الدين الكفاية فاستوزره وعظم شأنه وتقدم عنده. وتوفي السلطان علاء الدين وولي ولده غياث الدين كيخسرو، فاستمر في الوزارة وتمكن إلى أن توفي في سنة اثنتين وأربعين وست مائة، ورتب ولده معين الدين مكانه وتدرج واستفحل أمره بحيث استولى على ممالك الروم بأسرها، وصانع ممالك التتر وملوكها، وداراهم بحيث صاروا بأمره وطوعه، وكذلك ملوك الروم، وكان الخوف يحمله على مكاتبة الملك الظاهر ليكون سنداً له وعوناً على بلوغ مقاصده. وكان من رجال الدهر حزماً ورأياً وشجاعة وقوة قلب وإقدام على الأهوال والأمور العظام، وكان يبذل في بلوغ مقاصده من الأموال العظيمة ما لا يسمح به نفس ملك، ولم يزل على ذلك إلى أن قتل في العشر الأوسط من المحرم هذه السنة. وسبب قتله أن أبغا بعد وقعة البلستين التي كانت في عاشر ذي القعدة سنة خمس وسبعين وست مائة، فرّق عساكره في الروم وطافها في النهب والقتل، ومعه البرواناة، فمرّ في طريقه على قلعة تسمى كوغرينا، وكانت خاصة للبرواناة، وفيها أكثر ذخائره وأمواله، وبها وال من جهته يسمى سيف الدين باريساره،
وطلب أيضاً من البرواناة تسليم القلعة إليه، فأجابه وبعثه إلى واليها بأمره بتسليمها لنواب أبغا، ويحمل ما فيها من الأموال إلى البرواناة، فلم يجبه وعصى عليه، فظن أبغا أن ذلك بباطن من البرواناة، فقال البرواناة: أنت باغي، فسأل أن يسيره إليها ليسلمها من سيف الدين ويسلمها إلى نوابه، فأذن له، ووكلّ به جماعة من المغل يمنعونه من الوصول إلى القلعة. فلما قرب منها وطلبها من سيف الدين امتنع، فقال له: لهذا الوقت خبأتك سلم إلي القلعة وما فيها لأدرأ عن نفسي القتل بها، فإني مقتول لا محالة إن لم تسلمها إلى أبغا. فقال: إنما أسلمها إلى من سلمها إلي؛ فقال: أنا سلمتها إليك، فقال: إنما سلمها إلي معين الدين البرواناة، فقال: أنا هو، فقال: أنت أسير معهم وما لك حكم في شيء وما أسلمها إلا بأولادي الذين في مصر أسراء، وأنت كنت السبب في أسرهم وأسر غيرهم، فعاد البرواناة، وأخبر أبغا بذلك: فضاعف الموكلين عليه. فلما رأى من كان معه من الممالك والأتباع ذلك تحققوا أنه مقتول، فتفرقوا عنه ثم سار أبغا إلى أردوئه، فاجتمع الخواتين وبكوا وصرخوا وشققوا الجيوب بين يديه. وقالوا: هذا الذي أعان على قتل رجالنا، ولا بد من قتله، فوقفهم أياماً وهم يحرضونه. فلما أعياه دفاعهم أمر بعض خواصه بقتله وقال له: خذه إلى مكان كذا فاقتله به. فلما اجتمع به قال له: إن أبغا يريد الاجتماع بك لكي يصطنعك ويعيدك إلى البلاد؛ فقال: لو يريدني لخبّر بعض معارفي، ولكنه يريد قتلي مخادعة في القول حتى انصرف معه في جماعة من أصحابه عينوا للقتل وهم ثلاثون نفراً. فلما بلغ به الجهة التي عين له قتله فيها قتله ومن استصحبه معه منهم:
الأمير سيف الدين بلا كوش الجاويش ومنكورس الجاشنكير وسيف الدين بن أكمثي. وجرى لسيف الدين المذكور أعجوبة وهي: أنه لم يحك فيه السيف ضاربه وتوهم أنه قتله، فلما انفصل عنه واتصل بأبغا قتلهم وجد سيف الدين في نفسه قوة، فنهض قائماً عرياناً، وقصد سوق العسكر وهو مجروح، وسأل منهم ثوباً يستتر به، فأخذه السوقي لما عرفوه وحملوه إلى أردو إلى قدام أبغا، فسأله أبغا عن قاتله هل يعرفه، فقال: نعم، فأمر بإحضار جميع من باشر قتل البرواناة وأصحابه، فحضروا، فلما رأى سيف الدين المباشر لقتله عرفه، فأشار إليه فسأله أبغا، فأقر
فأمر أبغا لسيف الدين فقتله وكان من أمراء المغل، فقام إليه وقتله. ثم أمره بجميع موجوده وما ملكته يده يتسلمه، وكتب له كتاباً بإقطاعه التي كانت له في بلاد الروم وأضعفه، وقتل البرواناة وهو في عشر الستين رحمه الله. فأمر أبغا لسيف الدين فقتله وكان من أمراء المغل، فقام إليه وقتله. ثم أمره بجميع موجوده وما ملكته يده يتسلمه، وكتب له كتاباً بإقطاعه التي كانت له في بلاد الروم وأضعفه، وقتل البرواناة وهو في عشر الستين رحمه الله.
؟ سنقر بن عبد الله الأمير عز الدين الرومي. كان من أعيان الأمراء وشجعانهم وذوي المكانة منهم، له الحرمة العظيمة في الدولة والتحكم في أول الأيام الظاهرية إلى حين قبض عليه واعتقله بقلعة الجبل، فبقي مدة سنين. فلما كان في جمادى الأولى من هذه السنة شاع بالقاهرة وفاته، وعمل عزاؤه بداره بالقاهرة، وقد نيف على خمسين سنة رحمه الله تعالى.
؟ عبد الكريم بن الحسن بن رزين بن موسى بن عيسى أبو محمد شمس الدين الحموي الشافعي. كان فقيهاً كثير الديانة والتعبد وإيثار العزلة والخمول والإعراض عن المناصب، وكان قد درّس في مدرسة سيف الإسلام
بالقاهرة قبل موته بأشهر، وتوفي ليلة السبت السابع والعشرين من ذي القعدة، ودفن من الغد بتربة أخيه قاضي القضاة تقي الدين التي أنشأها بالقرافة الصغرى، وهو في عشر السبعين رحمه الله.
؟ عبد الملك بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد القاهر بن هشام أبو محمد شرف الدين الربعي الأصل. كان إماماً فاضلاً ذا فنون وتفضل وتعطف وحسن عشرة. صحب الشيخ شهاب الدين الموصلي السهروردي، وأخذ عنه وعن غيره من المشايخ. وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة بحلب، ومولده بالموصل في يوم الجمعة خامس عشر المحرم سنة خمس وست مائة رحمه الله تعالى.
عبد الملك بن عيسى بن محمد بن أيوب بهاء الدين الملك القاهر بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. وقد تقدم نسبه في ترجمة عمه مجير الدين يعقوب سنة أربع وخمسين، ومولده سنة اثنتي وعشرين وست مائة، وكان رجلاً جيداً، سليم الصدر، حسن الأوصاف، كريم الأخلاق وليّن الكلمة، كثير التواضع؛ عنده حسن ظن بالفقراء والصالحين ومحبة لهم، ويعاني ملابس العرب ومراكيبهم، ويتخلق بأخلاقهم في كثير من أفعاله. وكان شجاعاً بطلاً مقداماً من الفرسان المعدودين والشجعان المذكورين. توفي يوم السبت خامس عشر المحرم فجاءة من غير مرض، بل كان راكباً بسوق الخيل بدمشق فاشتكى ألماً في فؤاده، فعاد إلى منزل كريمته زوجة الملك الزاهر مجير الدين داود ابن صاحب
حمص، ومسكنها بدار صاحب حمص الكبيرة، لأنه استقرب ذلك عن منزله بالجبل، فأدركته منيته في باب الدار قبل دخوله إليها، ودفن بسفح قاسيون في منزله رحمه الله تعالى.
وحكي أن تاج الدين نوح بن إسحاق بن شيخ السلامية حكى عنه حكاية غريبة، معناها: أن الأمير علاء الدين ازدمر العلائي رحمه الله نائب السلطنة كان بقلعة صفد حدثه بها: قال: كان الملك الظاهر مولعاً بالنجوم وما يقوله أرباب التقاويم كثير البحث عن ذلك، فأخبر أنه يموت في سنة سبع وسبعين ملك بالسم، فحصل عنده من ذلك أثر كبير. وكان عنده حسد شديد لمن يوصف بشجاعته أو يذكر بذكر جميل في معناه. واتفق أن الملك القاهر لما دخل مع الملك الظاهر إلى الروم، وكان يوم المصاف، ورآه الملك الظاهر فتأثر منه، وانضاف إلى ذلك أن الملك الظاهر حصل منه في ذلك اليوم فتور على غير العادة، فظهر عليه الخوف والندم على تورطه في بلاد الروم؛ فحدثه الملك القاهر في ذلك الوقت بما فيه نوع من الإنكار عليه والتقبيح لفعاله، فأثر عنده أثر آخر. فلما عاد من غزاته وسمع الناس يلهجون بما فعله الملك القاهر زاد تأثره منه وحنقه عليه، فخيل في ذهنه أنه إذاً سمّه كان هو الذي ذكره أرباب النجوم، لأنه يطلق عليه اسم ملك، وله ذكر، فأحضره عنده ليشرب القمز، وجعل الذي قد أعد له في ورقة في جيبه من غير أن يطلع على ذلك أحداً من خلق الله تعالى وللسلطان هنابات مختصة ثلاثة مع ثلاثة من السقاة الذين
لا يشرب إلا بها، ومن يكرمه بأن يناوله ذلك الهناب من يده. واتفق قيام الملك القاهر إلى البزال، فجعل الملك الظاهر ما في الورقة من هناب وأمسكه بيده. فلما عاد الملك القاهر ناوله إياه، فقبّل الأرض وشربه، وقام الملك الظاهر ليبزل فأخذ الساقي الكأس من يد الملك القاهر وملأه على العادة وأمسكه، ووقف مع السقاة رفاقه. فجاء الملك الظاهر من البزال، وتناول ذلك الكأس بعينه، فشربه وهو لا يشعر. فلما فرغ من شربه استشعر وعلم أنه شرب من ذلك الكأس الذي فيه آثار السم وبقاياه، فقام لوقته وحصل له ألم وتخيل، واشتد به المرض أياماً ومات كمل تقدم. وأما الملك القاهر فمات غد ذلك اليوم. هذا مضمون ما ذكره ابن المولى تاج الدين نوح، وذكر أن عز الدين العلائي بلغه ذلك من مطلع لا يشك في أخباره والله أعلم بحقيقة ذلك.
عتيق بن عبد الجبار بن عتيق أبو بكر عماد الدين الأنصاري الصقلي الأصل. كان من أعيان العدول بدمشق، ومن كتّاب الحكم عند قضاتها، كثير الديانة والصلاة والتعبد، مكباً على سماع الأحاديث النبوية، متواضعاً لين الكلمة. دخل بكرة نهار الجمعة ثامن شوال إلى المدرسة المقدمية التي داخل باب الفراديس بدمشق ليسبغ الوضوء من بركتها، فسقط في البركة وهي كبيرة، ولم يكن عنده من يخرجه منها، فتوفي إلى رحمة الله تعالى غريقاً شهيداً، ودفن من يومه بسفح قاسيون وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
علي بن درباس بن يوسف أبو الحسن الأمير جمال الدين الحميري.
كان عالي الهمة، كثير الكرم والمروءة، واسع الصدر، وافر الصدقة والبر، ومكارمه على الأخوان والأصحاب، نفسه نفس الملوك. وله خبرة تامة بالولايات والتصرف، ومهابة شديدة وسطوة ظاهرة. ولّي عدة ولايات جليلة؛ منها: المرج والغوطة وما معها والبقاع العزيزي وبلد مشعزا وصل صيدا وبيروت ووادي اليتم وتولى غير ذلك ولم تزل حرمته وافرة عالية إلى أن توفي الملك الظاهر رحمه الله فقصده الأمير عز الدين أيدمر الظاهري نائب السلطنة بالشام لأمر كان في نفسه منه، فأحضره إلى دمشق واعتقله وغرمه جملة طائلة، وبقي في منزله بجبل الصالحية بطالاً من الولاية، وخبزه إلى أن أدركته منيته في سلخ شهر رجب أو مستهل شعبان. وكان صرفه من الولاية لطفاً من الله تعالى، فإنه لما صرف أقلع عن المظالم وتنصل منها، وتاب إلى الله تعالى من العود إليها. وكان يقوم الثلث الأخير من الليل دائماً، يصلي ويدعو ويبكي ويتضرع، وكانت طويته حسنة جميلة، وعنده فضيلة، وعلى ذهنه جملة من الأشعار والوقائع والتاريخ. ومولده سنة أربع وست مائة، وكان عنده حسن عشرة ومباسطة ومداعبة رحمه الله.
ولما كان متولي البقاع العزيزي وما هو مضاف إليه ولي نظر تلك
الصفقة أو مشارفتها محي الدين بن الكويس، وكان قبل ذلك قد جنى لديوان السكر جناية كبيرة اتصل خبرها بالأمير جمال الدين أقوش النجيبي رحمه الله نائب السلطنة بالشام، فقام فيها حد القيام وسمّر أخذ من كان له فيها دخول على جمل وطاف به البلدان، فسميت تلك الواقعة وقعة الجمل لتسمير ذلك الشخص على جمل، وبقي ذلك على ألسن الناس.
وكان ابن الكويس المشار إليه ممن له دخول على ذلك، فتخلص بعد شدائد وغرامات، وولي هذه الجهة وكتب على يده بدر الدين جعفر بن محمد الآمدي ناظر النظار بالشام، كتاباً إلى الأمير جمال الدين المذكور يوصيه به، ولم يكن الأمير جمال الدين يختار مراقفته؛ وكان يكتب له أدلال صاحبنا الموفق عبد الله بن عمر الأنصاري الآتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. فقال له: تكتب جواب الصاحب بدر الدين المذكور متسع وهو مشور بذلك، فكتب الجواب وصدر بيتين وهما:
شكاية يا وزير العصر أرفعها
…
ما كان يرضى بها من ولاك عليّ
لم يبق في الأرض مختار يرافقه
…
إلا فتى قد بقي من وقعة الجمل
علي بن علي بن أسفنديار أبو الحسن نجم الدين الواعظ البغدادي البوشنجي الأصل.
كان فاضلاً وعلى خاطره أشياء حسنة، وله محفوظات كثيرة ويد طائلة في الوعظ والكلام في المحافل، وسمع كثيراً أخبار جماعة من كبار الشيوخ. وولي مشيخة خانكاة المجاهد إبراهيم رحمه الله ظاهر دمشق بشرف الميدان القبلي، وجلس للوعظ بجامع دمشق في الشهور
الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان في أيام السبوت، ويحضره خلق كثير من الأعيان والفضلاء وغيرهم، ومجالسة حسنة جميلة وعنده دماثة وحسن مباسطة، ويورد الأشياء في مواضعها، وأما الاحتمال فلا يكاد يضاهى فيها وبيته في العراق مشهور؛ وجده اسفنديار كاتب الإنشاء للإمام ناصر لدين الله رحمه الله. وكانت وفاته بخانكاته المذكورة آخر نهار الجمعة تاسع عشر شهر رجب، ودفن يوم السبت بمقابر الصوفية، وقد نيف على ستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
اسفنديار بن الموفق بن علي بن محمد بن يحيى بن علي أبو الفضل البوشنجي.
مولده بواسط سنة سبع أو ثمان وثلاثين وخمس مائة منتصف شهر رجب، وتوفي ببغداد في ليلة الخميس تاسع ربيع الأول سنة خمس وعشرين وست مائة، وقيل أن له نحو ثمانين تصنيفاً. قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في قلائد الجمان: لقيته ببغداد في ليلة الخميس سنة أربع وعشرين وست مائة، وهو شيخ كبير مسن، وهو مع ذلك صاحب فكاهة ومخاطرة. أنشدني لنفسه ما كتبه لقوم صحبهم يقول:
وقد كنت مغرى بالزمان وأهله
…
ولم أدر أن الدهر بالغدر دائل
أرى كل من طارحته الود صاحباً
…
ولكنه مع دولة الدهر سائل
ورب أناس كنت الحظ ودهم
…
وما نالني منهم سوى المزق طائل
تغالوا ولائي ثم حلوا سآمة
…
وحال بني الأيام لا شك حائل
وأعدم شيء سامه المرء دهره
…
حبيب مضاف أو خليل يواصل
أسادتنا قد كنت أحظى بوصلكم
…
وأجني ثمار العيش والدهر غافل
وما خلت أن البين يصدع شملنا
…
ولا أنني عنكم مدى الدهر راحل
وتالله ما فارقتكم عن ملالة
…
ولكن نبت بي المقام المنازل
قطعت الفلا عنهن حين أضعنني
…
فافقرن عن مثلي وهن أواهل
وإني إذا لم يقل جدي ببلدة
…
هدتني إلى أخرى السرى والعوامل
إذا المرء لم يظمأ لورد مكدر
…
فلا بد يوماً أن تروق المناهل
سيعلم قومي قدر ما بان عنهم
…
وتذكرني إن عشت تلك المعاقل
وقال أيضاً رحمه الله:
كل له غرض يسعى ليدركه
…
والمرء يجعل إدراك العلى غرضه
يهين أمواله صوناً لؤددة
…
ولم يصبن عرضه من لم يهن عرضه
وقال أيضاً رحمه الله:
الدهر بحر والزمان ساحل
…
والناس ركب راحل ونازل
كأنهم سيارة في مهمة
…
مكاره الدهر لهم مناهل
وقال سعد الدين مسعود بن حموية الجويني: سألت نجم الدين الواعظ عن اسمه، فقال: علي بن علي بن اسفنديار المنشئ البغدادي وشيخ صحبتي جدي العلامة اسفنديار بن الموفق البوشنجي وشيخ خرقة تسموني شيخ
الحقيقة ولسان الطريقة شهاب الدين عمر السهروردي، وحصل لي منه صحبة ونسب وشيخ فقري وتجريدي مريد بن نميه أبو الحسن علي بن الرفاعي وقصدته بأم عبيدة من البطائح يهديني، وأبوتي شيخ زمانه ومقدم أقرانه المعرض عن الفاني الدنيوي لهوانه وقصر زمانه المقبل على الباقي الأخروي لدوامه وعز سلطانه العالم العامل كمال الدين محمد بن طلحة القرشي العدوي: وسمعت الحديث على ثمانين شيخاً كما رويته عن بعضهم ملفقاً، قال: ما طلب الترفع في مجلس إلا من وجد الوضاعة في نفسه، قال سعد الدين أنشدني نجم الدين لبعضهم:
إذا زار بالجثمان غيري فإنني
…
ازور مع الساعات ربعك بالقلب
وما كل ناء عن ديار بنازح
…
ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب
عمر بن شرف الدين النهاوندي الصوفي المعروف بالرمال.
كان شيخاً صالحاً زاهداً كثير العبادة، من أعيان الصوفية ومشاهد لهم، قديم الهجرة بينهم كثير الأسفار؛ صحب جماعة من أعيان المشايخ وتأدب بهم، وكانت وفاته بخانكاة سعيد السعداء بالقاهرة في يوم الجمعة سادس صفر، ودفن من يومه بمقابر باب النصر بالتربة المعروفة بالصوفية وقد ناهز السبعين رحمه الله تعالى.
محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور أبو عبد الله شمس الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بالديار المصرية ومدرّسهم بمدرسة الملك الصالح
نجم الدين بن أيوب التي بالقاهرة، وتولي قضاء القضاة بالديار المصرية وسائر أعمالها على مذهبه مدة سنين، وصرف عن ذلك في ثاني شعبان سنة سبعين وست مائة، واعتقل بقلعة الجبل مدة سنين، ثم أفرج عنه، ولزم بيته متوفراً على ذكر الدروس بالمدرسة الصالحية، وسبق إلى طلبه والتعبد إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في يوم السبت ثاني عشرين المحرم، ودفن يوم الأحد بالقرافة الصغرى. ومولده بدمشق في يوم الأحد رابع عشرين صفر سنة ثلاث وست مائة رحمه الله ورضي عنه. كان من أحسن المشايخ صورة مع الفضائل الكثيرة التامة، والديانة العظيمة وسعة الصدر وأظنه جعفري النسب. وهو أول من درّس بالمدرسة الصالحية من الحنابلة، وأول من ولّي قضاء القضاة منهم بالديار المصرية؛ وتولّي مشيخة خانكاة سعيد السعداء بالقاهرة مدة. وكان مكملاً للأدوات، سيداً صدراً من صدور الإسلام وأئمتهم، متبحراً في العلوم مع الزهد المفرط واحتقار الدنيا وعدم الإلتفات إليها. وكان الصاحب بهاء الدين يتحامل إليه ويغرى الملك الظاهر به لما يرى عنده من الأهلية لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة وهو لا يلتفت عليه ولا يخضع له رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن منظور بن عبد الله.
مولده في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وخمس مائة، كان له زاوية بظاهر المقس بالديار المصرية، وبها جماعة من الفقراء مقيمون على الدوام وهو متكفل بأمرهم وخدمتهم والإقامة بهم، وكذلك يخدم من يرد عليه من المسافرين والزوار. ويعمل
في كل سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ويغرم عليها جملة كثيرة ويجتمع فيه خلق كثير عظيم، وكان يكتسب بعمل الحرير وغيره، ولا يقبل بر أحد إلا أن يكون صاحبه، فيقبله على سبيل الهدية. وكان له جدة كبيرة وصدقة وبر، ويتكلم في زاويته على طريق الوعاظ، وعنده فضيلة، وتعبد كبير، ولكثير من الناس به عقيدة حسنة، وكان موضعاً لذلك. وتوفي إلى رحمة الله تعالى بزاويته ليلة الاثنين ثاني وعشرين شهر رجب، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى.
ومن العجب أنني كنت أجتمع به في السنة الخالية، وتحادثنا فشرع يتبرم بسكنى الديار المصرية، ويقول: وددت لو كنت بالشام - مقر الأنبياء - لأموت به. فقلت له: ما يمنعك من النقل إلى الشام؟ فقال لي: هنا معشوق لا أقدر على مفارقته ولا البعد عنه. فقلت: من هو؟ قال: الشيخ شمس الدين بن الشيخ العماد. فاتفق موت الشيخ شمس الدين رحمه الله في أوائل هذه السنة. وموت الفقيه ابن منظور رحمه الله في هذا التاريخ بينهما ستة أشهر جمع الله بينهما في دار كرامته.
محمد بن حياة بن يحيى بن محمد أبو عبد الله تقي الدين الرقي الفقيه الشافعي. كان رجلاً فاضلاً كثير الديانة من العلماء الأتقياء. تولى الحكم بعدة جهات، منها: حمص والقدس، وناب بدمشق ثم تولى قضاء القضاة بحلب وأعمالها، ودرّس في مدارس عدة، ثم استعفى من ذلك كله. وانتقل إلى دمشق وقنع بإمامة المدرسة العادلية الكبيرة مع حضور دروس يسيرة في بعض
المدارس ملازماً للاشتغال بالعلم واشتغال الطلبة وإفادتهم. وسافر إلى الحجاز الشريف في أواخر سنة خمس وسبعين وقضى فريضة الحج وعاد، فتوفى بتبوك في يوم الأربعاء تاسع عشر المحرم، ودفن بكرة الأربعاء جوار مسجد هناك يعرف بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نيف على ستين سنة من العمر - رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الكريم بن عثمان أبو عبد الله عماد الدين المارديني الحنفي المعروف بابن الشماع. كان من فقهاء الحنفية، ودرّس بمدرسة القصاعين بدمشق وبغيرها. وكان عنده فطنة وتيقظ وتنبيه، مشهور بماردين بالحشمة والرئاسة، فتوفى بدمشق في يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب وهو في عشر الخمسين - رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن شجاع أبو عبد الله محيي الدين القرشي. وهو سبط الشيخ الشاطبي صاحب القصيدة المشهورة في القراآت. وكان عنده أدب وفضيلة، وله يد في النظم والنثر، حسن المحاضرة دمث الأخلاق؛ ووالده الحاج كمال الدين الضرير كان من الصلحاء الفضلاء. وتوفى المحيي المذكور بالقاهرة ليلة الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى. مولده بالقاهرة سنة أربع عشرة وست مائة - رحمه الله تعالى.
محمد بن عمر بن هلال أبو عبد الله عماد الدين الأزدي. كان من أعيان الدمشقيين وصدورهم وبارز العدالة، مشهور بالإمامة والديانة. تولى
نظر مخزن الأيتام بدمشق مدة سنين. وكان مشكور السيرة، لين الكلمة، حسن المجاورة؛ عنده مكارم وحسن أخلاق. سمع هو وحدّث عن غير واحد من أهل بيته. وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة. ودفن من الغد بالتربة المعروفة بسفح قاسيون وهو في عشر السبعين - رحمه الله تعالى.
يحيى بن شرف بن مرى أبي الحسن بن الحسين بن محمد بن محمد بن جمعة بن حزام أبو زكريا محيي الدين النواوي الفقيه الشافعي المحدث الزاهد العابد الورع المتبحر في العلوم صاحب التصانيف المفيدة. كان أوحد زمانه في الورع والعبادة، والتقلل من الدنيا، والإكباب على الإفادة والتصنيف مع شدة التواضع، وخشونة الملبس والمأكل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إنه واقف الملك الظاهر رحمه الله غير مرة في دار العدل بسبب الحوطة على بساتين دمشق وغير ذلك.
وحكى لي أن الملك الظاهر قال عنه: أنا أفزع منه - أو ما هذا معناه - ولقد شاهدته مرة طلع إلى زاوية الشيخ خضر بالجبل المشرف على المزة، وحدثه في أمر وبالغ معه وأغلظ له. فسمع الشيخ خضر كلاماً مؤلماً، فأمر بعض من عنده بإخراجه ودفعه، فما تأثر لذلك في ذات الله تعالى، ولا رجع عن قصده ليقع بجلية إلى بعض المسلمين، وكانت مقاصده جميلة وأفعاله لله تعالى. ودرس نيابة عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله في ولايته الأولى بالمدرسة الفلكية والمدرسة الركنية
والمدرسة الإقبالية للشافعية. وولى مشيخة دار الحديث الأشرفية - رحم الله واقفها - اسقلالاً في شهر رمضان سنة خمس وستين بعد وفاة شمس الدين أبي شامة، ولم يزل مستمراً بها إلى حين وفاته، ونشر فيها علماً جماً وأفاد الطلبة وغيرهم. واختصر كتاب معرفة علوم الحديث للشيخ تقي الدين عماد بن الصلاح رحمه الله، والمحرر لإمام الدين الرافعي في الفقه، وشرح صحيح مسلم؛ وجمع مسائل الخلاف التي في التنبيه من القولين والوجهين وبين الأصح منهما، وجمع غير ذلك مما يطول شرحه. وكان كثير التلاوة للقرآن العزيز والذكر لله تعالى، معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة من حال ترعرعه.
قال الشيخ ياسين بن يوسف الزركشي: رأيته وهو ابن عشر سنين أو نحوها، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته وكان أبوه قد جعله في دكان لا يشتغل بالبيع ولا بالشرى غير تلاوة القرآن. قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن فوصيته وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون من أعلم الناس، فذكر ذلك لوالده، فحرض عليه إلى ختم القرآن، وقد ناهز الاحتلام.
قال الشيخ محيي الدين: لما كان عمري تسعة عشر سنة قدم بي والدي إلى دمشق سنة تسع وأربعين فسكنت الرواحية وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض، وكان قوتي فيها جراية المدرسة لا غير.
وحفظت التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظت ربع العبادات من المهذب في باقي السنة. وجعلت أشرّح وأصحح على الشيخ كمال الدين اسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي معيد المدرسة إلى أن أمرني بإعادة دروسه في حلقته. فلما دخلت سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، وكانت وقفة الجمعة، وأقمنا بالمدينة نحواً من شهر ونصف. فلما وصلنا إلى دمشق لازمت الإشتغال، فلم أزل أشتغل بالعلم وأقتفي آثار العلماء الصالحين من العبادة والصلاة، وصيام الدهر وقيام الليل، والزهد والورع، وعدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى.
وكان لما قدم دمشق أول قدومه إليها للإشتغال لم يكن له معرفة بالشيخ جمال الدين عبد الكافي، فاجتمع به وعرّفه مقصده، فأخذه وتوجه به إلى حلقة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفراري؛ فقرأعليه دروساً وبقي ملازمه مدة، ولم يكن له موضع يأوي إليه فسأل من الشيخ تاج الدين موضعاً يسكنه، ولم يكن بيد الشيخ تاج الدين إذ ذاك من المدارس سوى الصارمية، وليس لها بيوت؛ فدله على الشيخ كمال الدين إسحاق بالرّواحية، فتوجه إليه ولازمه واشتغل عليه وصار منه ما صار. واتفق أن الملك الظاهر عند ما فتح الفتوحات المشهورة، وغنم الناس الجواري وتسروا بهن، سئل الشيخ تاج الدين رحمه الله فرّخص في ذلك، وصنف
جزءاً في إباحة ذلك من غير تخميس، واستدل بأشياء فيها قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم أهل بدر، وأعطى منها من لم يشهدها، وربما فضل بعض حاضريها على بعض.
ثم نقل بعد ذلك في الغنائم أحوال مختلفة تغلب على حب المصالحة، ثم ذكر حنين وقسم غنائمها، وأنه صلى الله عليه وسلم أكثر لأهل مكة من قريش وغيرهم حتى أن يعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة. ومعلوم أنه لم يحصل لكل حاضر في هذه الغزاة مثل هذه العدة من الإبل والشاة، ولم يعط الأنصار شيئاً، وكانوا أعظم الكتيبة والعسكر وأهل النجدة حتى عتبوا. وهذا حديث مخرج في جميع الأصول المعتمدة من كتب الحديث، وليس في شيء من طرقه: إني إنما نفّلت الناس من الخمس، أو أني قسمت فيهم ما أوجبت قسم الغنيمة وددت من استألفه من حال المصالح. وكان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس في قسم الغنيمة وأعدلهم في بيان حق وأحقهم في إزالة شبهة. فلما اقتصر على مدح الأنصار بما رزقهم الله من المسابقة في الإسلام، وما خصهم به من محبته صلى الله عليه وسلم أتاهم وسلوك فجّهم دون فج غيرهم ورجوعهم إلى منازلهم به عوضاً عما رجع به غيرهم من الأموال والأنعام عليهم، علم كل ذي نظر صحيح أنه صلى الله عليه وسلم فعل في هذه الغنائم ما اقتضاه الحال من المصالحة من إعطاء وحرمان وزيادة ونقصان. ثم لم يعلم بعد هذا الحكم ناسخ ولا ناقص بل فعل الأئمة بعده ما يوكده. ثم قال: لولا خشية الإطالة لتقضينا الآثار الواردة في قسم الغنيمة من الأئمة
الراشدين ومن بعدهم حتى أن المتأصل المتبع الآثار، لو أراد يبين غنيمة قسمت على جميع ما يقال في كتب الفقهاء والتنفل والرضخ والسلب، وكيفية إعطاء الفارس والراجل، وتعميم كل حاضر لمن لم يكن يجد ذلك منقولاً من طريق معتمد. واستدل بأشياء كثيرة فحصل للناس بقوله خير عظيم لأن الناس لم يرجعوا يغنمون ويستولدون الجواري ويبيعونهن بحكم الحكام لصحة بيعهم وشرائهم، وإجراء جميع ما يتعلق بهم على حكم الصحة. ولو فتحوا باب وجوب تخميس الغنائم يحرم ورطة كل جارية تغنم قبل تخميسها لأن نكاح الجارية المشتركة حرام. فتولى نقضه كلمة كلمة وبالغ في الرد عليه، ونسبه إلى أنه خرق الاجتماع في ذلك، وأطلق لسانه وكلامه في هذا المعنى. ولا شك أن الذي قاله الشيخ محي الدين هو مذهب الشافعي رحمة الله عليه، لكن لم يعمل به في عصر من الأعصار؛ ولا قيل: أن الغنيمة خمست في زمن من الأزمان بعد الصحابة والتابعين، ولولا القول بصحة ذلك وإلا كان الناس كلهم بسبب شرائهم الجواري واستيلادهم إياهم في محرم، وسائر عمل الناس قاطبة على ما أفتى به الشيخ تاج الدين، ولم يعمل أحداً بما أفتى به الشيخ محي الدين، وما كان ينبغي له أن يرد عليه هذا الرد الفاحش لعلمه أن بعض العلماء ذهب إليه.
وحكي لي أن الفتاوى كانت إذا جاءت إلى الشيخ محي الدين وعليها خط الشيخ تاج الدين رحمنا الله بهما امتنع من الكتابة فيها، وهذا منافي طريقه، وما كان عليه من الزهد والتواضع، لكن البشرية وحظوظ الأنفس
قلّ أن تزول بالكلية إلا في النادر. وكان شديد الورع وعدم التطلع إلى الدنيا أقبلت أو أدبرت. ولما باشر مشيخة دار الحديث الأشرفية بمدينة دمشق لم يتناول من جامكيتها درهماً واحداً ولا من غيرها، وكان قوته من أرض يزرعها والده، ويرسل له منها ما يقتات به على سبيل الضرورة، ولم يجمع بين أدامين، ولا أكل فاكهة دمشق؛ فسئل عن امتناعه ذلك، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وأملاك من هو تحت الحجر شرعاً لا يجوز التصرف لهم إلا على وجه الغبطة والمصلحة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف بين العلماء. ومن جوزها قال..........الغبطة والمصلحة والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمر المالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك، وأيضاً فغالب من يطعم أشجاره إنما يأخذ الأقلام غصباً أو سرقة، لأن أحداً ما يهون عليه بيع أقلام أشجاره، وما جرت بذلك عادة فيؤخذ تلك الأقلام سرقة وتطعم في أشجار الناس فتطلع الثمرة في نفس القلم المغصوب، فيكون ملكاً لصاحب القلم لا لصاحب الشجرة، فيبقى بيعه وشراءه حراماً. وكان صائم الدهر لا يأكل إلا أكلة واحدة عند السحر ولا يشرب الماء البارد ذاكراً.
ولما صنف المنهاج في الفقه وقف عليه الشيخ رشيد الدين الفارقي رحمه الله وكتب على ظهره هذه الأبيات:
أعتني بالفضل يحيى فأغتني
…
عن بسيط ووجيز نافع
ويحلى ببقاه فضله
…
فيحل بلطيف جامع
ناصباً أعلام علم حازماً
…
بمقال رافعاً للرافعي
وكأن ابن الصلاح حاضر
…
وكان ما غاب عني الشافعي
وكان الشيخ محي الدين يسأل الله تعالى أن يموت بأرض فلسطين، فاستجاب الله منه، فتوفي ليلة الأربعاء ثلث الليل الآخر في الرابع والعشرين من شهر رجب سنة سبع وسبعين بنوى بعد رجوعه مع والده من زيارة القدس والخليل. ومولده في العشر الأوسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة بنوى، ودفن بها رحمه الله. ولما وصل خبر وفاته إلى دمشق توجه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله إلى نوى إلى قبره، وتوجه معه جماعة من أصحابه. ولما مات الشيخ محي الدين رثاه جماعة من فضلاء عصره، فمنهم الشيخ مجد الدين محمد بن الظهير الحنفي رحمه الله تعالى قال:
عز العزاء وعم الحادث الجلل
…
وخاب بالموت في تعميرك الأمل
واستوحشت بعدما كنت الأنيس لها
…
وسالها فقدك الأسحار والأصل
قد كنت للدين نوراً يستضاء به
…
مدداً منك في الأقوال والعمل
وكنت تتلو كتاب الله معتبراً
…
لا يعتريك على تكراره ملل
وكنت في سنة المختار مجتهداً
…
وأنت باليمن والتوفيق مشتمل
وكنت زيناً لأهل العلم مفتخراً
…
على جديد كساهم ثوبك الشمل
وكنت أسبغهم ظلاً إذا استعرت
…
هواجرالجهل والأظلال تنتقل
كساك ربك أوصافاً مجملة
…
يضيق عن حصرها التفصيل والجمل
أسلي كمالك عن قوم مضوا بدلاً
…
وعن كمالك لا مل ولا بدل
فمثل فقدك ترتاع العقول له
…
وفقد مثلك جرح ليس يندمل
زهدت في هذه الدنيا وزخرفها
…
عزماً وحزماً فمضروب بك المثل
أعرضت عنها احتفالاً غير محتفل
…
وأنت في السعي في أخراك محتفل
عرفت عن شهوات ما لعزم فتى
…
بها سواك إذا عبت له قبل
أسهرت في العلم عيناً لم تذق سنة
…
إلا وأنت به في العلم مشتغل
يا لهف حفل عظيم كنت بهجته
…
وحليه فعزاه بعدك العطل
وطالبوا العلم من دان ومغترب
…
نالوا بيمنك منه فوق ما أملوا
حاروا لهيبة هاديهم وضاق بهم
…
لفرط حزن عليك السهل والجبل
ترى ذرى تربة من غيبوه به
…
أو نعشه من على أعواده حملوا
عناؤه شغله دهراً وعاد لهم
…
بلاعج الوجد عن أشغالهم شغل
يا محمي الدين كم غادرت من كبد
…
جزى عليك وعين دمعها هطل
وكم مقام كحد السيف لا جلد
…
يقوى على هوله فيه ولا جدل
أمرت فيه بأمر الله منتضياً
…
سيفاً من العزم لم يصبغ له حلل
وكم تواضعت عن فضل وعن شرف
…
وهمة هامة الجوزاء تنشعل
عالجت نفسك والأدواء شاملة
…
حتى استقامت وحتى زالت العلل
بلغت بالغت الفاني رضى ملك
…
ثوابه في جنان الخلد متصل
ضيف الكريم جدير أن يضاف له
…
إلى الكرامة من ألطافه نزل
بررت أصلك في داريك محتبساً
…
فقد تكافأ فيك الحزن والجدل
فجعت بالأنس ليلاً كنت ساهره
…
لله والنوم قد حظت به المقل
وحال فور نهار كنت صائمه
…
إذا تهجد بنار الشمس مشتعل
لا زال مثواك مثوى كل عارفة
…
وروضة النصر من سحب الرضى خضل
إلى متى بعزو تطمئن ولا الم
…
لوك رد الردى عنهم ولا الرسل
ولا حمى من حمام جحل نجب
…
ولا حصون منيعات ولا قلل
يا لاهياً لاهياً عن هول مصرعه
…
وضاحك البين منا يضحك الأجل
لا تحل نفسك من دار فإنك من
…
حين الولاد مع الأنفاس مرتحل
وما بقي بنديم السير يتبعه
…
إلى محل بلاه سابق عجل
ورثاه جماعة أخر لكن اقتصرنا على هذه القصيدة طلباً للاختصار.
وكان رحمه الله سمع الحديث على جماعة، منهم الحافظ شهاب الدين خالد النابلسي وغيره، واشتغل على جماعة لم يلتحق أحد منهم به والذي أظهره وقدمه على أقرانه، ومن هو أفقه منه كثرة زهده في الدنيا، وعظم ديانته رحمه الله تعالى.
يوسف بن الكردي العدوي المعروف بأبونا.
كان من الصلحاء المجتهدين في خدمة الفقراء والقيام بوظائفهم، والمبالغة في إيصال الراحة إليهم، مع كثرة العبادة والتخلي من الدنيا. وكان مقيماً بتربة الحاج ازدمر المعزي خارج باب القرافة الصغرى، وتوفي بها يوم السبت خامس عشر