الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اختلاؤه صلى الله عليه وسلم في الغار
فهم مغلوط
…
اختلاؤه صلى الله عليه وسلم في الغار:
وفي (المجلد22) الصفحة (1010) الفقرة الأولى من الموسوعة يقول: "بعد زواجه عليه السلام من خديجة وعلى مدار 15 سنة تصارع محمد مع رؤساء قبيلته على مكانته بينهم، وكان اختلاؤه بالغار بهدف التفكير بالمشاكل الاجتماعية في مدينة مكة".
ونقول: إن اختلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار امتداد لأمر في الجاهلية يقال له التحنث، أي التبرّر والخروج من الإثم (1) ، ففي سيرة ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجاور ذلك الشهر من كل سنة يُطعِم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر شهر رمضان خرج إلى حِراء كما كان يخرج بجواره
…
فذكر قصة نزول الوحي (2) .
"وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له، وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة، نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم، فيستعد لحمل الأمانة الكبرى
…
" (3) .
وقبْلَ محمد صلى الله عليه وسلم كان اختلاء موسى عليه السلام بربه بخروجه في الصحراء فناداه ربه {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] .
(1) ابن هشام، السيرة النبوية: 1/253.
(2)
ابن هشام، السيرة النبوية: 1/254.
(3)
الرحيق المختوم 63.
فهم مغلوط:
ذكر كاتب الموسوعة من (المجلد22) الصفحة (1011) الفقرة الثانية:
"في البداية ومحمد صلى الله عليه وسلم ضعيفٌ، نظرَ بتسامح للأماكن المقدسة التي خُصّصت للأصنام في الجاهلية، كما اعتبر هذه الأصنام وسطاء وبمثابة ملائكة". ثم قال في نفس الفقرة الثالثة: "وعندما تقوّى وبفضل مَنْ آمن به، تجرّأ على آلهة العرب كاللات والعزى
…
واعتبرها أسماء لم يعطها الله سلطاناً".
وكأن الكاتب يشير إلى ما نُقِل في قصة الغرانيق، وهذه القصة لم يخرجها أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن ولا هي في مسند أحمد.
وما رواه البخاري في صحيحه بشأن هذه القصة فهو على النحو التالي:
"عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة "النجم" فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد مَنْ خلْفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قُتل كافراً" (1) .
أما سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته فإتباعاً لأمر الله، وأمّا سجود المشركين فَلِما سمعوه من أسرار البلاغة والفصاحة وعيون الكلم لجوامع الأنواع من الوعيد والإنكار والتهديد والإنذار، وقد كان العربي يسمع القرآن فيخرّ له ساجداً (2) .
(1) صحيح البخاري مع الفتح 4863.
(2)
السيرة النبوية 1/367.
وهذه القصة "قصة الغرانيق" أخرجها ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشير عن سعيد بن جبير قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة "والنجم" فلما بلغ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:19-20] ألقى الشيطان على لسانه "تلك الغرانيق العُلا، وإن شفاعتهن لتُرتجى "فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجدوا فنزلت {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] (1) .
القصة باطلة نقلاً وعقلاً.
والقصة من حيث الثبوت وردت بأسانيد كلها ضعيفة أو منقطعة، سوى طريق سعيد بن جبير الذي أخرجه البزار وابن مردويه، وقد طعن في القصة الأئمة النقّاد والعارفون بطرق الحديث وعلله: سئل محمد بن إسحق بن خزيمة عن القصة فقال: إنها من وضع الزنادقة، وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل (2) .
وقال القاضي عياض: "إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، ومن حكيت عنه هذه المقالة من المفسرين والنابغين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها
(1) ابن جرير 17/120 الدر المنثور 4/366.
(2)
تفسير الفخر الرازي 6/193.
إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم ضعيفة واهية" (1) .
وأنكر القصة أبو بكر بن العربي وطعن فيها من جهة النقل (2) وأنكرها الماتريدي فقال: "الصواب أن قوله "تلك الغرانيق العلا" من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة".
وطعن ابن كثير في ثبوت القصة قائلاً: "قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق
…
ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح" (3) . وقد أعلَّ العلماء هذه القصة بالاضطراب، والاضطراب هو الاختلاف في الروايات من غير إمكان للجمع أو الترجيح بينها مما يقدح بصحة القصة إذا اعتراها، والاضطراب في هذه القصة فاحش، فمتى حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود؟ وكيف؟ هنا الاضطراب.
فمن قائل: إنه صلى الله عليه وسلم كان خارج الصلاة، ومن قائلٍ: إنه كان في الصلاة، ومن قائلٍ: إنه حدّث نفسه فيها، ومن قائل: إن الشيطان قالها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو قالها وهو ناعس، أو أن الشيطان انتهز سكتة من سكتات النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة فقرأها حاكياً صوت النبي صلى الله عليه وسلم (4) ، فلا جمع ولا ترجيح بين هذه الأوجه كلها. إنّ علماء النقد وأئمة العلل حكموا على القصة من حيث النقل بالسقوط؛ إذ طرق القصة مراسيل لم يسند منها شيء، وأكثر علماء الحديث على عدم الاحتجاج بالمرسل.
(1) الشفا 2/117.
(2)
أحكام القرآن 3/1300.
(3)
تفسير ابن كثير 6/600.
(4)
السيرة النبوية 1/366.
لقد كانت عناية نقاد المسلمين بالإسناد شديدة حتى بنوا على صحة الإسناد المتن، إلا أنهم تغاضوا في بعض الأحيان عن الإسناد حين تتلقى الأمة حديثاً بالقبول فتجتمع على صحته. قال ابن عبد البر في "الاستذكار" فيما حكي عن الترمذي أنّ البخاري صحح حديث البحر (هو الطهور ماؤه) قال:"وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده، لكن الحديث عندي صحيح؛ لأن العلماء تلقوه بالقبول".
وقال في "التمهيد": روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أربعة وعشرون قيراطاً" قال: وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غني عن الإسناد فيه.
وقال أبو إسحاق الإسفرائيني: تُعرف صحةُ الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم (1) .
وهذه الرواية على فرض توفر الإسناد فيها بل وتوفر الصحة في أسانيدها، فإن الإجماع على مصادمتها للعقيدة يبطلها ويشكك فيها.
إنّ حجة ابن حجر والسيوطي في إثبات الرواية أنّ كثرة الطرق لهذه القصة تدل على أنّ لها أصلاً (2) ، لكنهما أوّلاها بما يتفق مع عصمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ الإجماع حاصل على أنه لا يجوز أن يجري على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الكذب لا عمداً ولا سهواً.
والتأويل الذي ارتضاه الحافظ ابن حجر هو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن ترتيلاً، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك
(1) تدريب الراوي ص66.
(2)
الفتح 8/354-355.
الكلمات؛ محاكياً نَغْمته فسمعها من دنا فظنّه قوله، وأشاعها بين الناس" قال ابن حجر:"وهو الذي ارتضاه عياض وأبو بكر بن العربي واستحسناه"(1) .
وهذا التأويل هو على فرض التسليم بالصحة، ولا تصح روايات القصة (2)، ثم إنه تأويل غير سائغ لما يلي:
إنّ تسليط الشيطان على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز، وليس للشيطان سلطان على العباد الصالحين، فكيف يكون له سلطان على الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمع إلى قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] .
1-
وإذا سمع الصحابة هذا الأمر الذي حكي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذ لم يبادر الصحابة إلى تنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه؟
إنّ هذه القصة تصادم القرآن الكريم حيث قال تعالى: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء: 74] فلولا أن ثبّت الله محمداً لكاد أن يركن إلى المشركين، لكن لم تقع الفتنة بأصنامهم والله عصَمَه وثبَّته.
2-
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرباً على الأصنام والأوثان وعابديها، ففي القرآن مواضع كثيرة تشهد لذلك (3) .
(1) الفتح 8/35.
(2)
انظر نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق للشيخ الألباني.
(3)
انظر مثلاً: سورة الأنبياء 98.
3-
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل أو يتنازل أو يخطب وُدّ الكفار أو يساوم، إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحابته لم يسجدوا يوماً لصنم، ولم يتفاوضوا للتنازل عن عقيدتهم، بل كانت المفاصلة بينهم وبين الجاهليين والوثنيين مفاصلة كاملة تجلّت في أمر الله تعالى لنبيه بقوله:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1-3] .
ولو وُجد شيء من اللين والتفاوض
…
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والوثنيين يومئذ لما أخرج من وطنه، ولا لاحقته قريش في دار هجرته، ولأمْكَنَ إيجاد صيغة تعايشٍ سِلْمي لا يسود فيها الإسلام ولا تقوم له في الكون دولة. إنّ الإسلام دين عزة وارتفاع، دين لا يرضى بالدنية والتبعية بل هو دين السيادة، يَحْكُم ولا يُحكم.