الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحي الله إلى رسله
تشريع للحاضرة والبادية
…
وحي الله إلى رسله:
لقد خص الله رسله جميعاً بظاهرة الوحي؛ إذ بواسطته يتلقوْن عن ربهم كل ما يأمرهم بتبليغه للناس، وللوحي مقامات وصور تضمنتها الآية الكريمة في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]
فيُلقى الوحيُ في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ما يُؤْمر بتبليغه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"(1) .
ويكون الوحي للرسول بالمنام كما وقع لإبراهيم حين رأى في المنام أنّه يذبح ولده إسماعيل، فبادر إلى تنفيذ الأمر بعد أن عدّ الرؤيا أمراً إلهياً (2) .
وفيما أخرجه البخاري من حديث عائشة قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان لا يرَى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح"(3) .
ويكون الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك كما كان ذلك في مجيئ جبريل
(1) البغوي شرح السنة 14/304، وجاء في المشكاة (3/1458) عزوه للبغوي بهذا السياق وللبيهقي في الشعب، لكنّه لم يذكر "إنّ روح القدس
…
" وكذا ابن ماجه في سننه برقم 2173 ك: التجارات بدونه، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/4) ، وابن حبان في صحيحه كما في الموارد برقم 1084، 1085، وانظر الصحيحة للشيخ الألباني (1/6/209) .
(2)
تراجع سورة الصافات: 102-103.
(3)
البخاري في صحيحه، ك: بدء الوحي، وانظر (الأرقام) 4955، 4956، 6982.
عليه السلام، ولم يقع كلام مباشر بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وبين الله:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الشورى:51] .
وقد وقع كلام الله لبعض رسله، ولكن من وراء حجاب، فكلم موسى عليه السلام فقال:{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] وقال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:11-14] .
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو بشر يُوحَى إليه كما أَوْحى الله إلى رسله الكرام: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] .
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء:192-195] .
والنبي الموحى إليه يجد اليقين بأنه من عند الله، سواء كان هذا الوحي بواسطة أم بغير واسطة بصوت يسمعه أو بغير صوت.
وباب النبوة ليس مفتوحاً لكل أحد عظم إشراقُه، أو سمت نفسُه، كما أنّ الوحي في مفهومه الديني الصحيح ظاهرة روحية خصّ الله بها من اصطفاه للنبوة.
ومن المستشرقين من يتحدث عن الوحي والنبوة كما يتحدث علماء النفس عن أبطال التاريخ وعظماء الرجال وقادة الثورات.. (1) .
(1) مناهج المستشرقين 1/27.
والحق أنّ هؤلاء المستشرقين لا يفهمون حقيقة الوحي والنبوة، لذلك ضلوا ضلالاً بعيداً.
تشريع للحاضرة والبادية:
وفي (ج4) صفحة (955) الفقرة الثانية قال: "لكسبِ التأييد الشعبي فإن محمداً صلى الله عليه وسلم لكونه تاجراً فقد انعكس ذلك على القوانين التي وضعها حيث وجّهها إلى سكان المدن لا البادية".
ونقول: إنّ التشريع الإسلامي ليس من محمد صلى الله عليه وسلم بل من الله تعالى على لسان نبيه محمد، وليس لمحمد في هذا التشريع إلا التبليغ:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة:67] . وهذا الدين لا يُشَرِّع لطائفة دون طائفة، ولا للأغنياء فقط بل للناس جميعا بمختلف طبقاتهم وأجناسهم: الفقير والغني، الكبير والصغير، القوي والضعيف، العربي والأعجمي، الأبيض والأسود، الشرقي والغربي، على حد سواء {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28] .
لقد جاء الإسلام بتشريع ينظّم حياة الإنسان بدءاً بالطهارة وكيفية الغسل، وانتهاء بتشريع العلاقات الدولية، وإنّنا لا ننكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد اشتغل بالتجارة في شبابه وجرّبت خديجة مهارته وأمانته فيها (1) ، لكن هذا لا يعني أنّه من أجل ذلك أرسى قوانين تنظّم التجارة وتُوجَّه لسكان المدن وتُغْفِل ساكني البادية.
(1) البوطي، فقه السيرة، (69-70) .
كلا، إنّ الإسلام دين حضارة وتمدّن، جاء بتشريعات متكاملة يفيد منها الحضري في كل زمان، ولم يترك الأعرابيَ غُفلاً من التشريع والتقنين بل سنّ له ما يضمن نجاة أمواله وتجارته، فنهى أن يتلقاه الحضري قبل أن يصل بسلعته إلى سوق الحاضرة، فيغرَّر به بابتياع ما لديه بثمن بخس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تَلقّوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد"(1) .
ثم أيّ حياة معقّدة هي حياة البادية حتى يشرّع لها الإسلام ما يحل مشكلاتها وتعقيداتها.
إنّ الإسلام شرّع للبيئات والأزمان جميعاً، لكن التشريع يظهر أثره أكثر حيث يوجد الاحتكاك، والأخذ والعطاء، والبيع والشراء، والمعاملات والمبادلات بمختلف أنواعها، بينما يقلُّ ذلك في البادية.
(1) أخرجه البخاري 3/92، 94، ومسلم، كتاب البيوع 11، 19.