الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستشراق
جذور الاستشراق
…
الاستشراق:
لعل أدق التعاريف للاستشراق أنه مصطلح يطلق على دراسات أكاديمية يقوم بها غربيون من أهل الكتاب للإسلام والمسلمين في شتى الجوانب: عقيدة، وثقافة، وشريعة، وتاريخاً، ونُظماً، وثروات وإمكانات
…
بهدف تشويه الإسلام، ومحاولة تشكيك المسلمين فيه وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولة تسويغ هذه التبعية بدراسات ونظريات تدّعي العلمية والموضوعية، وتزْعم التفوّق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي (1) .
ويرى الدكتور إدوارد سعيد أن الاستشراق أسلوب غربي للهيمنة على الشرق وإعادة صياغته وتكوينه فكرياً وسياسياً، وممارسة السلطة عليه (2) .
والشرق الذي يسعى الغرب إلى إحكام السيطرة عليه وإعادة صياغته وبنائه هو الشرق الإسلامي.
إنّ توجّه الأكاديميين لدراسة الشرق الإسلامي نابع من منطق إحساسهم بالتفوق العنصري والثقافي على الشرق، ويتّصف هؤلاء الأكاديميون بصفات لها تأثيرها في دراساتهم، فليسوا هم من المسلمين، بل عُرفوا بالعداوة للإسلام وتخصصوا بالكيد للمسلمين.
(1) غراب، أحمد، رؤية إسلامية للاستشراق ص9.
(2)
Edward Said: Orientalism- p-i.
جذور الاستشراق:
يعد الاستشراق موقفاً عقدياً وفكرياً يقفه من الإسلام مَن لا يؤمن به منذ ظهوره وحتى اليوم، وهو موقفُ الإنكار للرسالة والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم، وإثارة الشبهات حول الإسلام وكتابِه ورسوله بوجه خاص، لتشكيك المسلمين في دينهم تمهيداً لردّتهم.
وليس الاستشراق في نشأته جديداً، بل له أصوله الضاربة في التاريخ، فقد وجه الكفار سهام التشكيك إلى مصداق مصدر الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وتركزت افتراءاتهم وشبهاتهم حول الزعم بأنّ القرآن ليس وحياً، وأنّه من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم أو عاونه على تأليفه وتَعَلُّمِه بَشَر:{بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء:5] .
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:40-43] .
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:4-5] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل:103] .
إنّ هذه الآية تشير إلى زعم الكفار أنّ غلاماً نصرانياً أعجمياً لا يعرف
العربية هو الذي كان يُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
ويتكرر هذا الزعم على ألْسنة المستشرقين في العصر الحديث فيقولون: إنّ القرآن يستمد كثيراً من موضوعاته من المصادر اليهودية والنصرانية (انظر ص15 من هذه الدراسة) - إن الافتراءات التي تصدر عن المستشرقين ضد الإسلام ورسوله ومصادِره هي افتراءاتٌ قديمة، لكنهم يُلبسونها ثوباً جديداً، ويُضْفون عليها ما يسمى بمسْحَة المنهج العلمي - وهو من العلمية براء - وإنّما كان هذا التشابه في الافتراءات؛ لأن نفوس مَنْ تصدر عنهم هذه الدعاوى نفوسٌ متشابهةٌ تتصف جميعها بالجحود والطغيان والاستكبار عن قبول الحق وإتباعه.
وتكاد تجد إجماعاً من المستشرقين قديماً وحديثاً على فكرة إنكار أن القرآن وحيٌ من عند الله، وأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم اعتمد كثيراً في القرآن على الأخذ من اليهودية والنصرانية، وبخاصة على الأخذ من العهدين القديم والجديد أي من التوراة والإنجيل (انظر ص13 من هذه الدراسة) . ويردد هذا الزعم "ريتشارد بل" في كتابه "مقدمة القرآن" حيث يرى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فرصته في المدينة للتعرف على ما في العهد القديم أفضل من وضعه السابق في مكة؛ إذ كان على اتصال بالجاليات اليهودية في المدينة، وعن طريقها حصل على قسط غير قليل من المعرفة بكتب موسى على الأقل (2) .
وعن التأثير النصراني في القرآن يقول "بارت": (3)
(1) انظر: تفسير ابن كثير (4/523) .
(2)
اللبان، إبراهيم، المستشرقون والإسلام ص15 (ملحق مجلة الأزهر، نيسان 1970م) .
(3)
زقزوق، محمود حمدي، الإسلام في الفكر الغربي 67-68.
"لقد كانت معلومات الناس بمكة - في عصر النبي - عن النصرانية محدودة وناقصة، ولم يكن النصارى العرب سائرين في معتقداتهم في الاتجاه الصحيح، ولهذا كان هناك مجال لظهور الآراء البدعية المنحرفة، ولولا ذلك لما كان محمد على علم بأمثال تلك الآراء التي تنكر صلب المسيح، وتذهب إلى أنّ نظرية التثليث النصرانية لا تعني الأب والابن والروح القدس، وإنّما تعني الله وعيسى بن مريم، وعلى أية حال فإن المعارف التي استطاع محمد أن يجمعها عن حياة المسيح وأثره كانت قليلة ومحدودة، وعلى العكس من ذلك كان محمد يعرف الشيء الكثير عن ميلاد عيسى وعن أمه مريم".
وملخص قول "بارت" أن محمداً هو مؤلف القرآن، وأنه جمع معلوماته عن المسيح وأمه من شائعات النصارى.
لقد ذهب كثير من المستشرقين إلى زعم أنّ مصدر محمد عن النصرانية هو "بحيرى الراهب" في رحلته التجارية إلى الشام، بل إنّ مقابلته لبحيرى دفعته ليتمثل في نفسه ما سمعه من بحيرى وعرفه من يهود، فخرج بهذا الدين (1) .
إنّ كل هذه المزاعم لا أساس لها من الصحة، ولا سند لها من التاريخ، وقد ناقشها الدكتور "محمد عبد الله دراز" مناقشة علمية قيمة، وتوصل إلى القول: "إن جميع سبل البحث التي وقعت تحت أيدينا وناقشناها ثبت ضعفها وعدم قدرتها على تقديم أي احتمال لطريق طبيعي أتاح للنبي صلى الله عليه وسلم فرصة
(1) وقصة بحيرى ضعَّفها أهل العلم ولم يثبتوها ورأوها منكرة.
انظر: زاد المعاد (1/18) ، وميزان الاعتدال (3/581) ، وتلخيص الذهبي لمستدرك الحاكم (2/615) .
الاتصال بالحقائق المقدسة، ورغم الجهد الذهني الذي نبذله لتضخيم معلوماته السمعية ومعارف بيئته فإنّه يتعذر علينا تفسيراً كافياً لهذا البناء الشامخ من العلوم الواسعة والمفصلة التي يقدمها لنا القرآن في مجال الدين والتاريخ والقانون والكون والأخلاق" (1) .
ولتفنيد زعمهم نقول: إن القرآن أتى بالعقائد والأصول العامة التي أتت بها كل رسالات التوحيد الموحَى بها قبلَه، وقد جاء القرآن وهو أعلى وأوسع وأكمل من كل المعلومات التي كانت لدى بحيرى الراهب ولدى كل النصارى واليهود، جاء القرآن مصدقاً لما نزل على موسى وعيسى وداود وسليمان، كما جاء القرآن مهيمناً على هذه الكتب وحاكماً عليها، كما في قوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] .
ولكن هذا القرآن يختلف عن الكتب السابقة بما يلي:
أولاً: الكتب السابقة أنزلت على رسل بُعثوا إلى أقوامهم خاصة، وهذا القرآن أنزل إلى الناس عامة.
ثانياً: أنّ الكتب السابقة "التوراة والإنجيل" حُرّفت، بينما بقي القرآن محفوظاً من كل تحريف وتبديل، وقد أكد الله تعالى ذلك بقوله عن اليهود:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة:79] .
(1) دراز، محمد عبد الله، مدخل إلى القرآن، 165.