الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى أن دخلنا بلدنا الأمين، ومقرنا المكين، فمددنا أيدي الوداع نبث الأشواق، ونشكو الفراق. وعمدت للمبيت بها إلى الصباح، حتى إذا ابيضَّ منه الجناح، ودعت هذه البلدة الرائقة والروضة الشائقة، في الباخرة البرية، والسائحة الأرضية قاصداً موضعاً يقال له جيسباخ وجعلت في تلكم الأثناء أطالع كتاباً أدبياً ألمانياً،
حيث كنت وحيداً في العربة، حتى حط بنا القطر في محطة حسبت أنه سيجوزها، ولهتني المطالعة وحسن الموضوع زمناً. في آخره حانت مني التفاتة فإذا بها آخر محطة للبواخر البرية، ورأيت الركاب قد نزلوا باخرة بحرية، وهي تسبح بهم وسط البحيرة، وقد خلفوني وحيداً أضرب كفاً على كف، وأكرر جمل الندم، ولات حين مَنْدَم.
زورق في بحيرة برينس
ونزلت إلى المحطة فشمت شابين تلوح عليهما شارة الآداب، ومذ دنوت منهما لأسألهما أخذا يبتسمان، ثم صارا يضحكان، وقالا: تفضل واجلس بجانبنا، فنحن مثلك قد سبقتنا الباخرة البحرية، ولابدّ أن ننتظر عودتها بعد أربع ساعات، فجلست متأسياً، حيث وجدت لي مثيلاً، وشرعنا نتجاذب أطراف الحديث، فعلمت أنهما أمريكانيان أتيا إلى بلاد ألمانيا لأخذ الفنون بمدارسها، وبينما نحن نتقلب على لظى الانتظار إذ لمحنا عربة تقصد نادينا حتى إذا قربت منا نزل منها سيد مع قرينته، وقد تأبطها، وقصد نحونا رافعاً قلنسوته سائلاً متى
تسير باخرة البحر فهز الضحك منا الأجسام، وما قدرنا أن نفصح له بالكلام، بل أشرنا له بأنها قد أخذت وجهتها، وسارت وخلَّفتنا، فتململ يرفع رجلاً ويضع أخرى، ينظر يمنة ويسرة، ثم قال سادتي ما تقولون في تأجير زورق يكون تحت تصرفنا، ويسير حسب أمرنا؟ فلبيناه بنعم، وهرولنا إلى الشاطئ، ونزلنا زورقاً صغيراً، وأردنا أن نأخذ جلسة بحيث يتعادل الثقل كيلا يميل بنا، فجلس هو وقرينته، ونحن الثلاثة وبعض العفش في مقابلتهما، وسار بنا الزروق يرقص ويلعب، ويعبث بنا ويَدْعَب، ودار بيننا الحديث، بكل ماضٍ وحديث، فعلمنا أنه من مملكة صكصونيا، وألفيناه ظريف الشمائل سمح السجايا، مادام كل منا آخذاً مكانة، أما إذا تحرك أحدنا بدون ما قصد، ومال الزروق من جهته عربد بيديه ورجليه، ثم يأخذ في الضحك ثانية.
أما هذه البحيرة فتسمى بحيرة برينس التي ذكرتها آنفاً طولها 14 كيلومتراً، وأوسع عرض بها 2 كيلومتراً ونصف، وأعظم عمق بها 262 متراً، وهي محاطة بالجبال المثمرة والصخور.
ولم يزل الزورق يسبح بنا نحو ساعتين إلى أن وصلنا إلى موضع جيسباخ فصعدنا على البر فإذا هو منحدر جبل ركبنا منه عربة بخارية صعدت بنا أعلاه بهيئة عجيبة، وذلك أنهم أوصلوا من أعلى الجبل قضبان حديدية إلى ذلك المنحدر تحملها قوائم سميكة، وحولها حواجز