الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومصوري هولاندا وفرنسا وإيطاليا وغيره، وهذا المعرض ومعارض لوفر بباريس ومدريد بإسبانيا وفلورانسا هي أعظم المعارض على وجه البسيطة. ومن جملة ما لاحظته بتلك المدينة كيفية سير الناس على جسرها العظيم الممتد على نهر ألب، وذلك أن أحد رصيفيه مُعَد للصادرين والآخر للواردين، كيلا يعوق الصادر الوارد، ثم علمت أن ذلك قانون بجميع هذه المملكة بالنسبة إلى الجسور، فياله من انتظام حسن!
وتسمى مملكة صكصونيا باللغة الألمانية زاكسن وهي أعظم مملكة بألمانيا بعد البروسيا وبفاريا، وملكها الآن يسمى البرت وقد باشر الحرب الأخيرة الفرنساوية الألمانية بصفته قائداً، وكان أبوه المسمى الملك يوحنا ذا علم ومعرفة بأدب اللغة، وقد ترجم إلى اللغة الألمانية ديوان الشاعر الإيطالياني الشهير بدانته.
ولما متعت بمحاسن تلك المدينة الأنظار قلت للنفس هذا آخر عهدك بالأسفار والتجول في الأقطار، وحسبي فقد قطعت الفيافي وجبت البلاد، وطرقت منها الهضاب والنجاد، وعجمت أعواد قاطنيها، وسبرت أحوال نازليها.
العودة إلى برلين
والوصول إليها في 15 سبتمبر 1889
وأخذت في الأوبة إلى برلين آليا باليمين أن لا أدع عصا التسيار إذا صافح اليمين مني اليسار. وقد وصلتها يوم 20 محرم سنة 1307 هجرية الموافق 15 سبتمبر 1889 ميلادية.
هذا وقد قدمت إليكم سادتي هذه العجالة التي أودعت فيها ما شاهدته بتلكم البلدان والأقطار، متبعاً في ذلك السائحين الأوروبيين، مقتدياً بأسلافنا الرحالة المشرقيين أولي السياحات العربية، الذين لهم اليد البيضاء في توسيع نطاق علم الجغرافيا وعادات الأمم، وسار على منهجهم الأوروبيون وجعلوهم ملجأً لهم فيما خفي عليهم من البلدان، حتى استكشفوها وعبروها بأنفسهم، فمنهم الجغرافي الشهير أبو إسحاق الإصطخري الذي طاف ببلاد الإسلام مبتدئا من بلاد العرب إلى الهند إلى الأوقيانوس الأتلانطيقي، ووصف كل بلاد سمع بها أو رآها وصفاً مفيداً، ورسم كتابه بالأقاليم وقد شُغف بكتابه الأوروبيون، وترجم إلى اللغة الألمانية، ويعدون الإصطخري هذا من أول جغرافيي العرب عاش في أواسط القرن السادس من الهجرة، وكذا عُثر له في مكتبة مدينة (جوتا) بأواسط ألمانيا على خريطة بلاد العراق برسم يده مؤرخة في سنة 569 هجرية، وهي على قماش بالٍ، وقد رأيت تقليداً لها ببرلين، فنسختها وقلّدت رسمها تقليداً قريباً من الأصل، وهي تحت يدي حتى الآن.
ومنهم ابن حَوْقَل عاش في القرن الرابع من الهجرة، وكان تاجراً من الموصل سافر من بغداد، وطاف البلاد الإسلامية وبلاد البربر والعراق وفارس والأندلس
وصقلية سيسليا، ومكث في رحلته هذه 38 سنة، ووضع لها كتاباً سماه المسالك والممالك اطلعت عليه فألفيته مستوفياً مفيداً، وقد ترجم إلى اللغة الفارسية، ومنها
إلى الإنجليزية.
وللافرنج في أنفسهم منه شيء حيث قال في كتابة ما معناه: وأما بلاد النصارى والحبشة فلا أتكلم عليها إلا يسيراً لما أن تولعي بالحكمة والعدل والدين وانتظام الأحكام يأبى أن أثني عليهم بشيء من ذلك.
ومنهم العلامة الشهير أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله المعروف بالشريف الإدريسي، ولد سنة 1099 ميلادية، وتُوفي في صقلية سنة 1180 أخذ في قرطبة من علمائها، واشتهر في فنون الهيئة والجغرافيا والفلسفة والطب والنجوم وقرض الشعر.
طاف ببلاد مصر ومراكش وآسيا الصغرى والقسطنطينية والأندلس وفرنسا وإنجلترا ثم دعاه إليه ملك صقلية وقتئذ المسمى روجر الثاني فاصطنع له إجابة لطلبه كرة أرضية من فضة، وكتب عليها بأحرف عربية كل ما عرفه من البلدان، وشرح ما كتبه بها في كتاب سماه نزهة المشتاق في أخبار الآفاق ووصف فيه نباتات كل قطر، وقد ترجم إلى اللغة الفرنساوية وطبع باللغة العربية في رومه سنة 1593 ميلادية.
ومنهم السائح الشهير الحسن محمد بن الوزَّان الغرناطي الذي ادعته لهم الإفرنج وسموه ليو أفريكانوس ولد في إسبانيا سنة 1487 ميلادية وتُوفي سنة 1526 من أبوين مغربيين مسلمين، وانتقلا به وهو صغير، وتوطنا في فاس، ثم رافق خاله إلى تمبكتو، ثم أخذ بعد ذلك في السفر فجاب مملكة فاس ومراكش، ودقق البحث في عادات الأهالي، وسافر بين قبائل عرب البادية مصر وداخل أفريقية، ثم سافر إلى تركيا وفارس وبلاد أخرى، ثم رجع إلى القسطنطينية بحراً فأسره الإفرنج وذهبوا به إلى رومية سنة 1517 ميلادية، فدعاه إليه البابا وقتئذ المسمى ليو العاشر، ولما رآه فيه من فضله وعلمه عين له مرتباً كافلاً لمعيشته، وسماه باسمه
تشريفاً له فقيل له ليو أفريكانوس ومعناه ليو الأفريقي.
وبعدما أتقن اللغة الإيطاليانية أقيم معلماً للغة العربية فكتب هناك رحلته الأفريقية بالعربية، ثم ترجمت إلى الإيطاليانية، وذهب بعضهم إلى أنه تُوفي برومية، ولكن الأصح ما قاله العالم الجرماني المسمى ودمنستات وهو عالم بالأمور المشرقية من علماء القرن السادس عشر الميلادي، حيث قال أنه بعد موت البابا عاد إلى تونس ورجع إلى الإسلام.
وقد أقر الجميع بفضل تأليفه حتى قيل إنه لم يصف كاتب قبله تلك البلاد وصفاً مدققاً كوصفه.
وكذلك الرحالة الشهير أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المغربي الطنجي المعروف بابن بطوطة. ولد في طنجة سنة 1302 للميلاد وتُوفي سنة 1378 وكان محباً للوقوف على أخبار الأمم وأحوال البلدان، فساح في الأقطار المصرية والفارسية والسورية والعربية والصينية والتترية والهندستانية وبعض جزائر الهند وأواسط إفريقيا وإسبانيا، وقد كتب رحلته فأودعها أخباراً مهمة غريبة، ولكن لا تزال مفقودة. أما ما نشر منها فهو قسم اختصره العلامة محمد بن محمد بن أحمد بن جزيّ الكلبي المغربي في مجلد قد طبع وتناقلته الأيدي.
وقد اعتنى الإفرنج برحلته وبحثوا عن أصلها فلم يجدوا غير مختصره فترجموه إلى اللغتين الإنجليزية والفرنساوية، وقد كنت أيام صغري شغوفاً بمطالعة ذلك المختصر.
ومنهم الرحالة الأديب أبو الحسن نور الدين بن سعيد المغربي الغرناطي الأخباري العجيب، ولد في غرناطة سنة 610 هجرية، وأخذ عن أعلام إشبيلية كأبي علي الشلوبين وابن عصفور. طاف ببلاد المشرق والمغرب بإفريقيا
وآسيا وألف تآليف شتّى فمنها المُغْرِب في حلَى المَغْرب والمُشْرِق في حلى المَشرق والنفحة المسْكية
في الرحلة المكية وعدة المستنجز وعقلة المستوفز ذكر فيه رحلته الثانية من تونس إلى المشرق، وكان مائلاً في أخباره إلى الأدب والشعر، حيث كان شاعراً ناثراً طريف الشمائل اطلعت له على وصية وضعها لابنه، وقد أراد ابنه أن يتوجه إلى القاهرة أتى فيها بغرر الكلام، وجواهر المعاني، وسرد فيها قصيدة مطربة أولها:
أودِعُك الرحمنَ في غربتك
…
مُرتَقِباً رُحْماه في أوْبَتك
وما اختياري كان طَوْعَ الهوى
…
لكنني أجْري على بُغْيَتِك
إلى أن قال فيها بيتاً أنا شغوف به، لَهُوج بإنشاده وهو:
وكل ما كابَدْتَه في النوى
…
إيَّاك أن يكسر من هِمَّتِك
وكثير غيرهم ممن جاب البلاد ووصفها.
أما الذين صنفوا في الجغرافيا من المشرقيين فأكثر من أن يحصوا، وقد أخذ عن أغلبهم الأوربيون، ولا يزالون دائبين على طبع كتبهم وتدريسها وترجمتها كجغرافية ياقوت، وأبي الفدا، وابن الفقيه الهمذاني، وأبي القاسم بن خرداذبه، والمقدسي، وقدامة الكاتب، وأبي جعفر الخازن، وأبي زيد البلخي، صاحب الخارطات الجغرافية، وأحمد بابا،
والبكري، والقزويني.
وغيرهم كثير، وها أنا آخذ في تتبعهم وتعريف أعمالهم التي شغف بها علماء أوروبا، واشتهروا لديهم بجميع المدارس العليا كاشتهار علماء النحو بين طلبة الجامع الأزهر العامر.
ولست ترى عالماً جغرافياً أو تاريخياً بقارة أوروبا إلا ولديه علم بتلك الكتب إن لم نقل بما حوته، ولم أقصد سادتي بحديثي هذا تشدقاً، كلا بل بعثاً من نشاطكم، وتنبيهاً من التفاتكم نحو ما قامت به أسلافكم، وتعبوا لأجله، وواصلوا الأيام بالليالي في رقمه، أكان عبثاً ما جاءوا به، حتى نتركه وراءنا ظِهْرياً أم لعباً فنهزأ به! ألم نكن نحن الجديرين بأن نقدر لأسلافنا قدر أعمالهم فنبحث وننقب عنها
وندرسها، فنعلم ما هدونا إليه، وننسج على منوالهم ونتمم مشروعاتهم!
تلك أعمالهم وتآليفهم بين ظهرانينا في كل فن وعلم، ولكن وا أسفاه! نراها ميتة في جلودها لا تجد لها باعثاً لروحها أو مطالعاً لأسطرها أو طابعاً لها! ألم يكن طبعها أولى من طبع ثلاثين جزءاً من قصة عنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي وسلامة، والزير سالم، وخضرا الشريفة، وغير ذلك مما لا يفيد العامة إلى تأخراً في المدنية والآداب.
فأقيموا أيها الأخدان الدعائم على ما أسسه لنا السلف؛ لنكون لهم خيرَ خلفٍ، وهيا بنا
نبني كما كانت أوائلنا
…
تبني
ونفعل مثل ما فعلوا
ولننتهز الفرصة فهذا أوانها أوان لحظنا فيه مليك عطوف، مهد لنا منهج الصلاح، وأقام لنا أعلام الفلاح، توفيق الأنام، وابتسام الأيام. لازالت سدته العلية شمساً لآفاقنا، ولا برح جوده هاطلاً بأقطارنا، مؤزراً بوزرائه الكرام، مسروراً بحفظ السادة الأنجال الفخام.
فهذا نصحي، وأنا أخ لكم أبعد فيه عن التهم، ولا أسألكم عليه أجراً إلا التبصر فيه، ولست قارعاً عصا لذي الحلم، والله الهادي إلى أقوم طريق، وبه الإعانة والتوفيق.
تم تحريره بقلم الفقير حسن توفيق المصري في أوائل جمادى الثانية سنة 1307 هجرية الموافقة أواخر يناير سنة 1890 ميلادية في برلين عاصمة الإمبراطورية الألمانية.