الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سيدتي أنا لا أشك في أنك تهزلين، وعلى ذلك فَأذَنِي لي بأن أقدم مزحي؛ وذلك أنه يوجد، وأستغفر الله، ثلاثة آلهة إله العرب ويسمى (الله) وإله الألمانيين ويسمى (جوت)، وإله الفرنساويين ويسمى (ديو
فاضطرب الجمع ضاحكاً معتبرين ذلك مزاحاً حرصاً على مزاجها.
مملكة بافاريا
ولم نبرح حتى لاحت لنا حدود مملكة بفاريا فنزلنا بلدة تدعى لندو بجزيرة صغيرة قد امتد بينها وبين برِّ هذه المملكة جسر عظيم كبري ولم نلبث بها إلا دقائق، ثم
سرنا بطريق السكة الحديدية، قاصدين مدينة مينك عاصمة هذه المملكة، وفي تلكم الأثناء كان أمامي رجل بالعربة تلوح عليه سيما الوقار، وشمت منه شغفاً بتعرفي، فدار بيننا الحديث، ثم علمت أنه قسيس بروتستانتي من مملكة النمسا، وحينما عرضت عليه اسمي أخذ يتفرس، ثم اندفع قائلاً: أأنت فلان الذي أتى برلين منذ سنتين؟ لقد كنت أحسب أنك ضخم الجسم طويل القامة ذو لحية بيضاء تضرب إلى صدرك، وعمة عظيمة مثل علماء المشرق، فقلت: نعم، كان كذلك القاضي الفاضل رحمة الله عليه.
ثم أخبرني أن أحد القسيسين ببرلين كتب له بشأني، وأنه كان من أمانيه مشاهدتي، والتعرف بي للمباحثة في الدينيات.
وبالجملة فقد عقدنا الصحبة بيننا، ولما وصلنا مدينة منيك، وقد أقبلت عساكر الليل وانهزم جيش النهار نزلنا معا في أوتيل واحد، ولما أصبح الصباح رافقته في مشاهدة هذه المدينة إلى أن أخذت الشمس وجهة المغرب، فعدنا إلى مقرنا، وقضيناها ليلة بلغ فيها الجدال بيننا أوجه في المسائل الدينية، وكان كل منا حريصاً على آداب البحث، فأخذته بالبراهين العقلية السياسية ناظراً إلى الفطرة والطبيعة والعادات، مظهراً له السر الإسلامي الذي خفي عن إدراك أغلبهم، وفي الانتهاء نظر إلي، ومدَّ يده يريد مصافحتي قائلاً لي: برافو (بخٍ بخٍ) ليعش مثلك لدينك. ولما باح الصباح بسره ودعني آخذاً طريقه في السفر، ولم تزل الرقاع تتواصل بيننا إلى الآن.
ثم عمدت إلى مشاهدة هذه المدينة فشمتها مدينة عظيمة منتظمة الطرقات واسعتها، ولا يخفى أنها عاصمة مملكة بفاريا موضوعة على مستوٍ عال مرتفع عن سطح البحر المحيط بمقدار 519 متراً، ولذلك يكثر بها البرد، وهواؤها كإقليمها يتقلب سريعاً من الحرارة إلى البرودة وبالعكس، ويمر بها نهر يقال له آزار الذي يصب
في نهر الدانوب (الطونة).
أسسها دوق ألماني يقال له هنري الأسد سنة 1158 ميلادية، واشتهر ذكرها في عصر ملكها المسمى لويز الأول الذي
تولّى سنة 1825؛ حيث كان محباً للصنائع حتى صارت هذه المدينة أهم مركز للصنائع الألمانية، وكان شغوفاً بالشرع والإنشاء، مائلاً إلى التغيير والتبديل حتى قيل إنه أراد أن يغير من صورة الحروف الألمانية، وفي أواخر عهده أكرهته الأمة على التنازل حيث أعطى زمام السلطة لعشيقة له كانت مغنية إسبانيولية، فتولّى بعده ابنه مكسيمليان إلى سنة 1864 وفيها جلس لويز الثاني فأزمع على التزوج بأخت إمبراطور النمسا الحالي وخطبها منه، وفي تلك الأثناء حدثت أحوال كَرِه لأجلها التزوج، فعاش وحيداً حزيناً، ولكن وجه أنظاره إلى إتقان المباني، فأقام قصوراً حسنة، وصنع بستاناً بقصره الخصوصي بتلك المدينة أجرى فيه بحيرات صناعية وشابَه به الطبيعة، فأقام فيه شمساً وقمراً ونجوماً كلها صناعية يُسَيِّرها حسب أمره، وكانت الموسيقى تعزف له به ليلاً ونهاراً، ولما تفاقم أمره عزلته الأمة ولازمة الأطباء لتشتت عقله، وبعد حين ألقى بنفسه في بحيرة بقصره فمات غريقاً هو وأحد أطبائه.
ثم تولّى بعده أخوه المسمى أتو وهو المالك الحالي، ولكن بحالة يأسف الإنسان عليها لأنه أصيب أيضاً في القوة المخيِّلة حتى إنه لا يدري أنه ملك، وينوب عنه الآن في الملك عمه المسمى لويدبولد وتسمى هذه المدينة باللغة الألمانية منخن السبب في ذلك أنها كانت قديماً ديراً للرهبان واسم الراهب بلغتهم
منخ ولذلك قد جعلوا صورته علامة على هذه المدينة، فتراها مصورة على كثير من المباني والمحلات العمومية، والحالة المدنية بها حسنة جداً، ففيها كثير من الصنائع المختلفة الشهيرة لا سيما صناعة التصوير، ويقال إن مدرسته بها من أحسن المدارس، ويعنون بالمدرسة في علم التصوير الطريقة، وبها مدارس علمية تحت
نظارة المعارف ناجحة كثيراً لاسيما المدرسة الجامعة، وبها أكاديمية للفنون وغير ذلك، والتعليم فيها وفي مدارس المملكة عام بمعنى أن الآباء يلزمون بإرسال أولادهم إلى المدارس. وعدد سكانها 275000 نفس وأغلبهم كاثوليكيون ولا يخفى أن مشروبهم البيرة، ولها معامل بتلك المدينة شهيرة بجميع الآفاق، ولذلك ترى محلات البيرة في جميع البلاد مصوراً عليها صورة راهب رافع بيده قدحاً مملوءاً بيرة، وما ذاك إلا إشارة إلى أنها من معامل مدينة منخن كما علمت. أما ما شاهدته بها فليس بكثير لأن تغير هوائها عاقني عن معاينتها، ولكن شاهدت متحفين أحدهما متحف التصوير، وقد عرضوا فيه صوراً تشهد لصانعيها بالتقدم، والآخر متحف الآثار القديمة، وأخص منها التماثيل الحجرية، ففيها بعض تماثيل المصريين الأقدمين والرومانيين واليونانيين منها ما هو حقيقي، ومنها ما هو صناعي تقليدي.