الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكْرُ حكمه صلى الله عليه وسلم في الولد مَن أحقُّ به في الحضانة
روى أبو داود في «سننه»
(1)
من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه عبد الله بن عمرو بن العاص
(2)
: أنَّ امرأةً قالت: يا رسول اللَّه، إنَّ ابني هذا كان بطني له وِعاءً، وثَدْيي له سِقاءً، وحجْري له حِواءً، وإنَّ أباه طلَّقني وأراد أن ينتزعَه منِّي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنتِ أحقُّ به ما لم تَنْكِحي» .
وفي «الصَّحيحين»
(3)
من حديث البراء بن عازبٍ: أنَّ ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد. فقال علي: أنا أحقُّ بها وهي ابنة عمِّي
(4)
، وقال جعفر: بنت عمِّي وخالتها عندي، وقال زيد: بنت أخي، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال:«الخالةُ بمنزلةِ الأمِّ» .
وروى أهل «السُّنن»
(5)
من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيَّر غلامًا بين أبيه وأمِّه. قال الترمذي: حديثٌ صحيحٌ.
وروى أهل «السُّنن»
(6)
أيضًا عنه: أنَّ امرأةً جاءت فقالت: يا رسول اللَّه،
(1)
برقم (2276). وأخرجه أحمد (6707)، والحاكم (2/ 208)، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (8/ 317)، وحسنه الألباني في «إرواء الغليل» (2187).
(2)
«بن العاص» ليست في ح، م.
(3)
البخاري (2699)، ومسلم (1783)، لكنه عند مسلم دون موضع الشاهد منه.
(4)
ص: «عمتي» ، خطأ.
(5)
أخرجه بهذا اللفظ مختصرًا: الترمذي (1357)، وابن ماجه (2351)، وهو بتمامه عند النسائي (3496)، وأبي داود (2277).
(6)
أخرجه النسائي (3496)، وأبو داود (2277)، وهو الحديث السابق نفسه، رواه الترمذي مختصرًا، وقال عَقِبَه:«حديث حسن صحيح» . وينظر: «جامع الأصول» لابن الأثير (3/ 612).
إنَّ زوجي يريد أن يَذْهَب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عِنَبَة
(1)
وقد نفعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اسْتَهِما عليه» ، فقال زوجها: مَن يُحاقُّني في ولدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا أبوك وهذه أمُّك، فخُذْ بيدِ أيِّهما شئتَ» ، فأخذ بيد أمِّه، فانطلقتْ به. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي «سنن النَّسائيِّ»
(2)
عن عبد الحميد بن جعفر
(3)
الأنصاري، [عن أبيه]
(4)
، عن جدِّه: أنَّ جدَّه أسلم وأبتِ امرأتُه أن تُسلِم، فجاء بابنٍ له صغيرٍ لم يبلغ، قال: فأجلسَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الأبَ هاهنا والأمَّ هاهنا، ثمَّ خيَّره وقال:«اللَّهمَّ اهْدِه» ، فذهب إلى أبيه.
ورواه أبو داود
(5)
عنه، وقال: أخبرني جدِّي رافع بن سِنان أنَّه أسلم
(1)
ح: «عتبة» ، تصحيف.
(2)
برقم (3495). وأخرجه أحمد (23759)، وابن ماجه (2352). وفيه اختلاف كثير في إسناده ولفظه، فقد روي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جد أبيه رافع بن سنان، وعن عبد الحميد بن سلمة عن أبيه عن جده، وعن عبد الحميد بن يزيد بن سلمة، وفي بعضها أن المخير جارية لا غلام. وصحح ابن القطان رواية عبد الحميد بن جعفر، وفيها أن المخير غلام. وسيأتي الكلام عليه عند المؤلف. وينظر:«بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (3/ 514)، و «صحيح أبي داود- الأم» للألباني (7/ 13).
(3)
كذا في النسخ. وعند النسائي: «سلمة» .
(4)
ما بين المعكوفتين ليس في النسخ.
(5)
برقم (2244). وأخرجه أحمد (23757)، والحاكم (2/ 206). وقال الذهبي: صحيح. وينظر التعليق على الحديث السابق.
وأبتْ امرأتُه أن تُسلِم، فأتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: ابنتي وهي فَطِيمٌ أو شبيهه
(1)
، وقال رافع: ابنتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اقعُدْ ناحيةً» ، وقال لها:«اقْعُدي ناحيةً» ، فأقعدَ الصَّبيَّة بينهما ثمَّ قال:«ادْعُوَاها» ، فمالت إلى أمِّها، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهمَّ اهْدِها» ، فمالت إلى أبيها
(2)
، فأخذها
(3)
.
الكلام على
(4)
هذه الأحكام
أمَّا الحديث الأوَّل فهو حديثٌ احتاج
(5)
النَّاس فيه إلى عمرو بن شعيبٍ، ولم يجدوا بُدًّا من الاحتجاج هنا به، ومدار الحديث عليه، وليس عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ في سقوط الحضانة بالتَّزويج غيرُ هذا، وقد ذهب إليه الأئمَّة الأربعة وغيرهم، وقد صرَّح بأنَّ الجدَّ هو عبد الله بن عمرٍو، فبطلَ قولُ من يقول: لعلَّه محمد والد شعيب، فيكون الحديث مرسلًا. وقد صحَّ سماع شعيب من
(6)
جدِّه عبد الله بن عمرٍو، فبطلَ قولُ من قال: إنَّه منقطعٌ.
وقد احتجَّ به البخاريُّ خارجَ «صحيحه» ، ونصَّ على صحَّة حديثه، وقال
(7)
: كان عبد الله بن الزُّبير الحميديُّ وأحمد وإسحاق وعلي بن
(1)
ز: «شبهه» .
(2)
«أبيها» ليست في ح. وفي م: «أمها» .
(3)
«فأخذها» ليست في د، ص.
(4)
ح: «الى» .
(5)
ح: «احتجاج» .
(6)
ح، د:«عن» .
(7)
في «التاريخ» (6/ 342، 343)، ورواه عنه الترمذي في «جامعه» (322) و «العلل الكبير» بعد رقم (117) دون قوله:«فمَن الناس بعدهم» . وهذه الزيادة في رواية ابن سهل، وروايته أكمل، كما بيَّن ذلك ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (46/ 87). واستبعد الذهبي في «السير» (5/ 167) صدور هذه الألفاظ من البخاري، وقال:«أخاف أن يكون أبو عيسى وَهِم» . أقول: لم يروِ الترمذي هذه الزيادة، ولكنها ثابتة عن البخاري برواية أخرى، وذُكرت عنه في «تهذيب الكمال» (22/ 69) وغيره من كتب الرجال.
عبد الله يحتجُّون بحديثه، فمَن النَّاس بعدهم؟! هذا لفظه. وقال إسحاق بن راهويه: هو عندنا كأيوب عن نافع عن ابن عمر. وحكى الحاكم في «علوم الحديث»
(1)
له الاتِّفاق على صحَّة حديثه. وقال أحمد بن صالح: لا يختلف آلُ عبد الله أنَّها صحيفةٌ
(2)
.
وقولها: «كان بطني له وِعاءً» إلى آخره، إدلاءٌ منها، وتوسُّلٌ إلى اختصاصها به، كما اختصَّ بها في هذه المواطن الثَّلاثة، والأب لم يشارِكْها في ذلك، فنبَّهتْ بهذا الاختصاص الذي لم يشاركها
(3)
فيه الأبُ على الاختصاص الذي طلبته بالاستفتاء
(4)
والمخاصمة.
وفي هذا دليلٌ على اعتبار المعاني والعِلل، وتأثيرِها في الأحكام وإناطتِها
(5)
بها، وأنَّ ذلك أمرٌ مستقرٌّ في الفِطَر السَّليمة حتَّى فِطَرِ النِّساء. وهذا الوصف الذي أدلَتْ به المرأة وجعلتْه سببًا لتعليق الحكم به قد قرَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ورتَّب عليه أثره، ولو كان باطلًا ألغاه، بل ترتيبُه الحكمَ عقيبَه دليلٌ على تأثيره فيه وأنَّه سببه.
(1)
بل في «المدخل إلى كتاب الإكليل» (ص 101).
(2)
م: «صحيفته» . ع: «صحيفية» .
(3)
ز: «لم يشركها» .
(4)
ح: «بالاستيفاء» ، تحريف.
(5)
م، ح:«وإماطتها» .
واستُدِلَّ بالحديث على القضاء على الغائب، فإنَّ الأب لم يُذكَر له حضورٌ ولا مخاصمةٌ. ولا دلالةَ فيه، لأنَّها واقعة عينٍ، فإن كان الأب حاضرًا فظاهرٌ، وإن كان غائبًا فالمرأة إنَّما جاءت مستفتيةً، فأفتاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمقتضى مسألتها، وإلَّا فلا يُقبل قولها على الزَّوج إنَّه طلَّقها حتَّى يُحكم لها بالولد بمجرَّد قولها.
فصل
ودلَّ الحديث على أنَّه إذا افترق الأبوان وبينهما ولدٌ فالأمُّ أحقُّ به من الأب، ما لم يَقُم بالأمِّ ما يمنع تقديمَها، أو بالولد وصفٌ
(1)
يقتضي تخييرَه. وهذا ما لا يُعرف فيه نزاعٌ، وقد قضى به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
على عمر بن الخطَّاب، ولم يُنْكِرْه عليه مُنِكرٌ. فلمَّا ولي عمر قضى بمثله، فروى مالك في «الموطَّأ»
(3)
عن يحيى بن سعيدٍ أنَّه قال: سمعت القاسم بن محمَّدٍ يقول: كانت عند عمر بن الخطَّاب امرأةٌ من الأنصار، فولدتْ له عاصمَ بن عمر، ثمَّ إنَّ عمر فارقَها، فجاء عمر قُباء، فوجد ابنه عاصمًا يلعب بفِنَاء المسجد، فأخذ بعَضُدِه، فوضعه
(4)
بين يديه على الدَّابَّة، فأدركتْه جدَّةُ الغلام، فنازعتْه إيَّاه، حتَّى أتيا أبا بكرٍ الصِّدِّيق، فقال عمر: ابني، وقالت
(1)
ح: «وصبي» ، تحريف.
(2)
بعدها في المطبوع: «أبو بكر» . وليس في النسخ.
(3)
برقم (2230)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 7)، وإسناده منقطع، القاسم لم يدرك عمر. وأخرجه مختصرًا عبد الرزاق (12602) وابن أبي شيبة (19465) من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد به.
(4)
«فوضعه» ليست في ح.
المرأة: ابني. فقال أبو بكر: خَلِّ بينها وبينه، فما راجعه عمرُ الكلامَ.
قال ابن عبد البرِّ
(1)
: وهذا خبرٌ مشهورٌ من وجوهٍ منقطعةٍ ومتَّصلةٍ، تلقَّاه أهل العلم بالقبول والعمل، وزوجة عمر أمُّ ابنه عاصم: هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح
(2)
الأنصاري.
قال: وفيه دليلٌ على أنَّ عمر كان مذهبه في ذلك خلافَ مذهب
(3)
أبي بكر، ولكنَّه سلَّم للقضاء ممَّن له الحكم والإمضاء، ثمَّ كان بعدُ في خلافته يقضي به ويفتي، ولم يخالِفْ أبا بكر في شيءٍ منه ما دام الصَّبيُّ صغيرًا لا يُميِّز، ولا مخالفَ
(4)
لهما من
(5)
الصَّحابة.
وذكر عبد الرزاق
(6)
عن ابن جريجٍ، أنَّه أخبره عن عطاءٍ الخراسانيِّ عن ابن عبَّاسٍ قال: طلَّق عمر بن الخطَّاب امرأته الأنصاريَّة أمَّ ابنه عاصم، فلقيها تحمله بمجشَّر
(7)
، وقد فُطِم ومشى، فأخذ بيده لينتزعَه منها، ونازعَها إيَّاه
(1)
في «الاستذكار» (23/ 66).
(2)
م، د، ز، ح:«الأفلح» . والصواب «الأقلح» بالقاف كما في «الإكمال» (1/ 104).
(3)
«مذهب» ليست في المطبوع.
(4)
د، ص:«مخالفا» .
(5)
ح: «في» .
(6)
برقم (12601). والخرساني مدلِّس، وتُكلِّمَ فيه، ولم يلق ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة (19464) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب عن عمر به، وهو مرسل صحيح، وينظر «إرواء الغليل» (2188).
(7)
كذا في جميع النسخ بالشين المعجمة. وفي «المصنَّف» و «غوامض الأسماء» لابن بشكوال (1/ 423) و «نصب الراية» (3/ 266): «بمحسّر» بالسين المهملة. وسيأتي في آخر الأثر: مجشّر سوق بين قباء والمدينة. وفي «المصنف» : «سوق بين قباء والحديبية» . والحديبية تحريف المدينة. ولم أجد ذِكْر سوق مجشر أو محسر في المعاجم وكتب البلدان.
حتَّى أوجعَ الغلام وبكى، وقال: أنا أحقُّ بابني منكِ، فاختصما إلى أبي بكر، فقضى لها به، وقال: ريحُها وفراشُها وحَرُّها
(1)
خيرٌ له منك حتَّى يَشِبَّ ويختار لنفسه. ومجشَّر: سوقٌ بين قُباء والمدينة.
وذكر
(2)
عن الثَّوريِّ، عن عاصم، عن عكرمة قال: خاصمتْ امرأة عمر عمرَ
(3)
إلى أبي بكر، وكان طلَّقها، فقال أبو بكر: الأمُّ أعطفُ، وألطفُ، وأرحمُ، وأحنَى، وأرأفُ، هي أحقُّ بولدها ما لم تتزوَّج.
وذكر
(4)
عن معمر قال: سمعت الزُّهريَّ يحدِّث أنَّ أبا بكر قضى على عمر في ابنه مع أمِّه، وقال: أمُّه أحقُّ به ما لم تتزوَّج.
فإن قيل: فقد اختلفت الرِّواية: هل كانت المنازعة وقعت بينه وبين الأمِّ أوَّلًا ثمَّ بينه وبين الجدَّة، أو وقعتْ مرَّةً واحدةً بينه
(5)
وبين إحداهما؟
(1)
كذا في النسخ و «المصنّف» . وفي المطبوع: «وحجرها» .
(2)
في «المصنف» (12600). وأخرجه مالك (2230)، وسعيد بن منصور (2/ 139) من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أن عمر
…
، وأخرجه سعيد بن منصور أيضًا من طريق مجالد عن الشعبي، ومجالد ضعيف، والشعبي أدرك بعض الصحابة، وروى عن عمر ولم يسمع منه.
(3)
«عمر» ليست في ح. وهي مثبتة في بقية النسخ، وعليها في نسخة م علامة صح.
(4)
في «المصنف» (12598).
(5)
«بينه» ليست في ز.
قيل: الأمر في ذلك قريبٌ، لأنَّها إن كانت من الأمِّ فواضحٌ، وإن كانت الجدَّة
(1)
فقضاء الصِّدِّيق لها يدلُّ على أنَّ
(2)
الأمَّ أولى.
فصل
والولاية على الطِّفل نوعان: نوعٌ يُقدَّم فيه الأب على الأمِّ ومَن في جهتها، وهي ولاية المال والنِّكاح. ونوعٌ تُقدَّم فيه الأمُّ على الأب، وهي ولاية الحضانة والرَّضاع. وقُدِّم كلٌّ من الأبوين فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحة الولد، وتوقُّفِ مصلحته على مَن يلي ذلك من أبويه وتحصُل به كفايته.
ولمَّا كان النِّساء أعرفَ بالتَّربية وأقدرَ عليها، وأصبرَ وأرأفَ وأفرغَ لها
(3)
؛ قُدِّمت
(4)
الأمُّ فيها على الأب.
ولمَّا كان
(5)
الرِّجال أقومَ بتحصيل مصلحة الولد والاحتياط له في البضع، قُدِّم الأب فيها على الأمِّ. فتقديم الأمِّ في الحضانة من محاسن الشَّريعة والاحتياط للأطفال والنَّظر لهم، وتقديمُ الأب في ولاية المال والتَّزويج كذلك.
(1)
في المطبوع: «من الجدة» خلاف النسخ.
(2)
د: «أم» بدل «أن» .
(3)
بعدها في المطبوع: «لذلك» . وليست في النسخ.
(4)
ز: «قدم» .
(5)
د: «كانت» .
إذا عُرِف هذا
(1)
فهل قُدِّمت الأمُّ لكون جهتها مقدَّمةً على جهة الأبوَّة في الحضانة، فقُدِّمت لأجل الأمومة، أو قُدِّمت على الأب لكون النِّساء أقومَ بمقاصد الحضانة والتَّربية من الذُّكور، فيكون تقديمها لأجل الأنوثة؟ ففي هذا للنَّاس قولان، وهما في مذهب أحمد، يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأمِّ أو بالعكس، كأمِّ الأمِّ، وأمِّ الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، والخالة، والعمَّة، وخالة الأمِّ، وخالة الأب، ومن يُدلِي من الخالات والعمَّات بأمٍّ، ومن يُدلِي منهنَّ بأبٍ، ففيه روايتان عن الإمام أحمد
(2)
، إحداهما: تقديم أقارب الأمِّ على أقارب الأب. والثَّانية وهي أصحُّ دليلًا واختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة
(3)
: تقديم أقارب الأب، وهذا هو الذي ذكره الخرقيُّ في «مختصره» فقال
(4)
: والأخت من الأب أحقُّ من الأخت من الأمِّ وأحقُّ من الخالة، وخالة الأب أحقُّ من خالة الأمِّ.
وعلى هذا فأمُّ الأب مقدَّمةٌ على أمِّ الأمِّ، كما نصَّ عليه أحمد في إحدى الرِّوايتين عنه. وعلى هذه الرِّواية فأقاربُ الأب من الرِّجال مقدَّمون على أقارب الأمِّ، فالأخ للأب أولى من الأخ للأمِّ، والعمُّ أولى من الخال.
هذا إن قلنا: إنَّ لأقارب الأمِّ من الرِّجال مدخلًا في الحضانة، وفي ذلك وجهان في مذهب أحمد والشَّافعيِّ:
(1)
ح: «لهذا» .
(2)
انظر: «المغني» (11/ 422).
(3)
انظر: «مجموع الفتاوى» (31/ 354، 34/ 122)، و «الاختيارات» للبعلي (ص 414 - 415).
(4)
«مختصره» بشرحه «المغني» (11/ 423، 424).
أحدهما: أنَّه لا حضانَة إلا لرجلٍ من العصبة مَحْرمٍ، أو لامرأةٍ وارثةٍ، أو مُدلِيةٍ بعصبةٍ أو وارثٍ.
والثَّاني: أنَّ لهم الحضانة، والتَّفريع على هذا الوجه، وهو قول أبي حنيفة، وهذا يدلُّ على رجحان جهة الأبوَّة على جهة الأمومة في الحضانة، وأنَّ الأمَّ إنَّما قُدِّمت لكونها أنثى، لا لتقديمِ جهتها، إذ لو كانت جهتها راجحةً لترجَّح رجالها ونساؤها على الرِّجال والنِّساء
(1)
من جهة الأب، ولمَّا لم يترجَّح رجالها اتِّفاقًا فكذلك النِّساء، وما الفرق المؤثِّر؟
وأيضًا فإنَّ أصول الشَّرع وقواعده شاهدةٌ بتقديم أقارب الأب في الميراث وولايةِ النِّكاح وولايةِ الموت وغير ذلك، ولم يُعهَد في الشَّرع تقديم قرابة الأمِّ على قرابة الأب في حكمٍ من الأحكام، فمن قدَّمها في الحضانة فقد خرج عن موجب الدَّليل.
فالصَّواب المأخذ الثاني، وهو أنَّ الأمَّ إنَّما قدِّمت لأنَّ النِّساء أرفقُ بالطِّفل، وأخبرُ بتربيته، وأصبرُ على ذلك، وعلى هذا
(2)
فالجدَّة
(3)
أمُّ الأب أولى من أمِّ الأمِّ، والأختُ للأب أولى من الأخت للأمِّ، والعمَّة أولى من الخالة، كما نصَّ عليه أحمد
(4)
في إحدى الرِّوايتين، وعلى هذا فتُقدَّم أمُّ الأب على أب الأب، كما تُقدَّم الأمُّ على الأب.
(1)
«والنساء» ليست في د، ص.
(2)
د، ص:«هذه» .
(3)
ح: «فالحرة» ، تحريف.
(4)
ز، د، ص:«الإمام أحمد» .
وإذا تقرَّر هذا الأصل فهو أصلٌ مطَّردٌ منضبطٌ لا تتناقض فروعه، بل إن اتَّفقت القرابة والدَّرجة واحدةٌ قُدِّمت الأنثى على الذَّكر، فتُقدَّم الأخت على الأخ، والعمَّة على العمِّ، والخالة على الخال، والجدَّة على الجدِّ، وأصله تقديم الأمِّ على الأب.
وإن اختلفت القرابة قُدِّمت قرابة الأب على قرابة الأمِّ، فتُقدَّم الأخت للأب على الأخت للأمِّ، والعمَّة على الخالة، وعمَّة الأب على خالته، وهلمَّ جرًّا.
وهذا هو الاعتبار الصَّحيح والقياس المطَّرد، وهذا هو الذي قضى به سيِّد قضاة الإسلام شُريح، كما روى وكيعٌ في «مصنَّفه»
(1)
عن الحسن بن عقبة، عن سعيد بن الحارث قال: اختصم عمٌّ وخالٌ إلى شُريح، فقضى به للعمِّ، فقال الخال: أنا أُنفِق عليه من مالي، فدفعه إليه شريح.
ومن سلك غير هذا المسلك لم يجد بدًّا من التَّناقض، مثاله: أنَّ الثَّلاثة وأحمد في إحدى روايتيه يُقدِّمون أمَّ الأمِّ على أمِّ الأب، ثمَّ قال الشَّافعيُّ في ظاهر مذهبه، وأحمد في المنصوص عنه: تُقدَّم الأخت للأب على الأخت للأمِّ، فتركوا القياس. وطرده أبو حنيفة والمزني وابن سريج
(2)
فقالوا: تُقدَّم الأخت للأمِّ على الأخت للأب. قالوا: لأنَّها تُدلِي بالأمِّ، والأختُ للأب بالأب، فلمَّا قُدِّمت
(3)
الأمُّ على الأب قُدِّم من يُدلِي بها على من يُدلِي به.
(1)
من طريقه أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 324)، وتصحف فيه «عقبة» إلى «عتبة» .
(2)
ز، ح، د:«ابن شريح» ، تصحيف.
(3)
د، ص:«تقدمت» .
ولكنَّ هذا أشدُّ تناقضًا من الأوَّل؛ لأنَّ أصحاب القول الأوَّل
(1)
جَرَوا على القياس والأصول في تقديم قرابة الأب على قرابة الأمِّ، وخالفوا ذلك في أمِّ الأمِّ وأمِّ الأب، وهؤلاء تركوا القياس في الموضعين، وقدَّموا القرابة الَّتي أخَّرها الشَّرع، وأخَّروا القرابة الَّتي قدَّمها، ولم يُمكِنْهم تقديمُها في كلِّ موضعٍ، فقدَّموها في موضعٍ وأخَّروها في غيره مع تساويهما. ومن ذلك تقديم الشَّافعيِّ في الجديد الخالةَ على العمَّة مع تقديمه الأختَ للأب على الأخت للأمِّ، وطرد قياسه في تقديم أمِّ الأمِّ على أمِّ الأب، فوجب تقديمُ الأخت للأمِّ والخالة على الأخت للأب
(2)
والعمَّة. وكذلك من قدَّم من أصحاب أحمد الخالةَ على العمَّة، وقدَّم الأختَ للأب على الأخت للأمِّ، كقول القاضي وأصحابه وصاحب «المغني» ، فقد تناقضوا.
فإن قيل: الخالة تُدلِي بالأمِّ، والعمَّة تُدلِي بالأب، فكما قُدِّمت الأمُّ على الأب قُدِّم من يُدلِي بها، ويزيده بيانًا كونُ الخالة أمًّا، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فالعمَّة بمنزلة الأب.
قيل: قد بيَّنَّا أنَّه لم تُقدَّم الأمُّ على الأب لقوَّة الأمومة وتقديم هذه الجهة، بل لكونها أنثى، فإذا وُجِد عمَّةٌ وخالةٌ فالمعنى الذي قُدِّمت له الأمُّ موجودٌ فيهما، وامتازت العمَّة بأنَّها تُدلِي بأقوى القرابتين، وهي قرابة الأب، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها، وقال:«الخالة أمٌّ» حيث لم يكن لها مُزاحمٌ من أقارب الأب تُساويها في درجتها.
(1)
«الأول» ساقطة من د.
(2)
«فوجب
…
للأب» ساقطة من د، ص.
فإن قيل: فقد كان لها عمَّةٌ وهي صفية بنت عبد المطلب أخت حمزة، وكانت إذ ذاك موجودةً في المدينة، فإنَّها هاجرت، وشهدت الخندق، وقتلت رجلًا من اليهود كان يُطِيف بالحصن الذي
(1)
هي فيه، وهي أوَّل امرأةٍ قتلَتْ رجلًا من المشركين، وبقيت إلى خلافة عمر، فقدَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليها الخالةَ، وهذا يدلُّ على تقديم من في جهة الأمِّ على من في جهة الأب.
قيل: إنَّما يدلُّ هذا إذا كانت صفية قد نازعتْ معهم وطلبت الحضانةَ فلم يَقْضِ لها بها بعد طلبها وقدَّم عليها الخالة، هذا إن كانت لم تُمنَع منها لعجزِها عنها، فإنَّها توفِّيت سنة عشرين عن ثلاثٍ وسبعين سنةً، فيكون لها وقت هذه الحكومة بضعًا وخمسين
(2)
سنةً، فيحتمل أنَّها تركتْها لعجْزِها عنها، أو لم تطلبها مع قدرتها عليها، والحضانة حقٌّ للمرأة، فإذا تركتْها انتقلتْ إلى غيرها.
وبالجملة، فإنَّما يدلُّ الحديث على تقديم الخالة على العمَّة إذا ثبت أنَّ صفية خاصمتْ في ابنة أخيها
(3)
وطلبت كفالتها، فقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخالةَ، وهذا لا سبيلَ إليه.
فصل
ومن ذلك أنَّ مالكًا لمَّا قدَّم أمَّ الأمِّ على أمِّ الأب، قدَّم الخالة بعدها على الأب وأمِّه، واختلف أصحابه في تقديم خالة الخالة على هؤلاء على وجهين، فأحد الوجهين: تُقدَّم خالة الخالة على الأب نفسه وعلى أمِّه. وهذا في غاية
(1)
د، ص، م:«التي» .
(2)
كذا في جميع النسخ بالنصب، والوجه الرفع، وأُصلح في المطبوع.
(3)
م، ح:«أختها» ، تصحيف.
البعد، فكيف تُقدَّم قرابة الأمِّ وإن بعدتْ على الأب نفسه وعلى قرابته، مع أنَّ الأب وأقاربه أشفقُ على الطِّفل وأرعى لمصلحته من قرابة الأمِّ؟ فإنَّه ليس إليهم بحالٍ، ولا يُنسَب إليهم، بل هو أجنبيٌّ منهم، وإنَّما نسَبُه
(1)
وولاؤه إلى أقارب أبيه، وهم أولى به، يَعقِلون عنه، وينفقون عليه عند الجمهور، ويتوارثون بالتَّعصيب وإن بَعُدتِ القرابة بينهم، بخلاف قرابة الأمِّ، فإنَّه لا يثبت فيها ذلك، ولا توارُثَ فيها إلا في أمَّهاتها وأوَّلِ درجةٍ من فروعها وهم ولدُها، فكيف تُقدَّم هذه القرابة على الأب ومَن في جهته، ولا سيَّما إذا قيل بتقديم خالة الخالة على الأب نفسه وعلى أمِّه، فهذا القول ممَّا تأباه
(2)
أصول الشّريعة وقواعدها.
وهذا نظير إحدى الرِّوايتين عن أحمد في تقديم الأخت من
(3)
الأمِّ والخالة على الأب، وهذا أيضًا في غاية البعد ومخالفة القياس.
وحجَّة هذا القول: أنَّ كلتيهما تُدلِيان بالأمِّ المقدَّمة على الأب، فتُقدَّمان عليه. وهذا ليس بصحيحٍ، فإنَّ الأمَّ لمَّا سَاوت الأبَ في الدَّرجة، وامتازت عليه بكونها أقومَ بالحضانة، وأقدرَ عليها وأصبرَ، قُدِّمتْ عليه، وليس كذلك الأختُ من الأمِّ والخالةُ مع الأب، فإنَّهما لا يساويانه، وليس أحدٌ أقربَ إلى ولده منه، فكيف تُقدَّم عليه بنتُ امرأته أو أختها؟ وهل جعل الله الشَّفقة فيهما أكملَ منه؟
ثمَّ اختلف أصحاب الإمام أحمد في فهم نصِّه هذا على ثلاثة أوجهٍ:
(1)
ح: «نسبته» .
(2)
م، ح:«يأباه» .
(3)
في المطبوع: «على» ، خطأ.
أحدها: أنه إنَّما قدَّمهما
(1)
على الأب لأُنوثيَّتهما
(2)
، فعلى هذا تُقدَّم نساء الحضانة على كلِّ رجلٍ، فتُقدَّم خالةُ الخالة ــ وإن عَلَتْ ــ وبنتُ الأخت على الأب.
الثَّاني: أنَّ الخالة والأخت للأمِّ لم تُدلِيا بالأب، وهما من أهل الحضانة، فتقدَّم نساء الحضانة على كلِّ رجلٍ إلا على من أَدلينَ به، فلا يُقدَّمن
(3)
عليه؛ لأنَّهنَّ فرعه. فعلى هذا الوجه لا تُقدَّم أمُّ الأب على الأب، ولا الأختُ والعمَّة عليه، وتُقدَّم عليه أمُّ الأمِّ
(4)
والخالة والأختُ للأمِّ. وهذا أيضًا ضعيفٌ جدًّا؛ إذ يستلزم تقديمَ قرابة الأمِّ البعيدة على الأب وأمِّه، ومعلومٌ أنَّ الأب إذا قُدِّم على الأخت للأب فتقديمُه على الأخت
(5)
للأمِّ أولى؛ لأنَّ الأخت للأب مقدَّمةٌ عليها، فكيف تُقدَّم على الأب نفسه؟ هذا تناقضٌ بيِّنٌ.
الثَّالث: تقديم نساء الأمِّ على الأب وأمَّهاتِه وسائرِ من في جهته، قالوا: وعلى هذا فكلُّ امرأةٍ في درجة رجلٍ تُقدَّم عليه، ويُقدَّم مَن أدلى بها على من أدلى بالرَّجل، فلمَّا قُدِّمت الأمُّ على الأب وهي في درجته قُدِّمت الأخت من الأمِّ على الأخت من الأب، وقُدِّمت الخالة على العمَّة.
هذا تقرير ما ذكره أبو البركات بن تيميَّة في «محرَّره»
(6)
من تنزيل نصِّ
(1)
ز، د، ص:«قدمها» .
(2)
كذا في م، ح. وفي ز، د، ص:«لأنوثيتها» .
(3)
في المطبوع: «فلا تقدمن» ، تصحيف.
(4)
ز: «أم الأب» .
(5)
«للأب
…
على الأخت» ساقطة من د.
(6)
«المحرر» (2/ 119، 120).
أحمد على هذه المحامل الثَّلاث. وهو مخالفٌ لعامَّة نصوصه في تقديم الأخت للأب على الأخت للأمِّ وعلى الخالة، وتقديم خالة الأب على خالة الأمِّ، وهو الذي لم يذكر الخرقيُّ في «مختصره»
(1)
غيره، وهو الصَّحيح. وخرَّجها ابن عقيل على الرِّوايتين في أمِّ الأمِّ وأمِّ الأب
(2)
، ولكنَّ نصَّه ما ذكره الخرقي. وهذه الرِّواية الَّتي حكاها صاحب «المحرَّر» ضعيفةٌ مرجوحةٌ، فلهذا جاءت فروعُها ولوازمُها أضعفَ منها بخلاف سائر نصوصه في جادَّة مذهبه.
فصل
وقد ضبط بعض أصحابه هذا الباب بضابطٍ، فقال
(3)
: كلُّ عصبةٍ فإنَّه
(4)
يُقدَّم على كلِّ امرأةٍ هي أبعدُ منه، ويتأخَّر عمَّن هي أقربُ منه، وإذا تساويا
(5)
فعلى وجهين. فعلى هذا الضَّابط يُقدَّم الأب على أمِّه وعلى أمِّ الأمِّ ومن معها، ويُقدَّم الأخ على ابنته وعلى العمَّة، والعمُّ على عمَّة الأب، وتُقدَّم أمُّ الأب على جدِّ الأب. وفي تقديمها على أبي الأب وجهان. وفي تقديم الأخت للأب على الأخ للأب وجهان. وفي تقديم العمَّة على العمِّ وجهان
(6)
.
(1)
(11/ 423، 424) بشرحه «المغني» .
(2)
انظر: «الهداية» (ص 500).
(3)
كما في «المحرر» (2/ 120).
(4)
«فإنه» ليست في ز.
(5)
ز: «تساوى» ، خطأ.
(6)
«وفي تقديم العمة على العم وجهان» ساقطة من ح.
والصَّواب: تقديم الأنثى مع التَّساوي، كما قُدِّمت
(1)
الأمُّ على الأب لمَّا استويا، فلا وجهَ لتقديم الذَّكر على الأنثى مع مساواتها له، وامتيازها بقوَّة أسباب الحضانة والتَّربية فيها.
واختُلِف في بنات الإخوة والأخوات، هل يُقدَّمن على الخالات والعمَّات، أو تُقدَّم الخالات والعمَّات عليهنَّ؟ على وجهين، مأخذهما: أنَّ الخالة والعمَّة تُدلِيانِ بأخوَّة الأمِّ والأب، وبنات الإخوة والأخوات يُدلِينَ ببنوَّة الأب، فمن قدَّم بناتِ الإخوة راعى قوَّة البنوَّة على الأخوَّة. وليس ذلك بجيِّدٍ
(2)
، بل الصَّواب تقديم العمَّة والخالة لوجهين:
أحدهما: أنَّها أقربُ إلى الطِّفل من بنات أخيه، فإنَّ العمَّة أخت أبيه، وابنة الأخ بنتُ أبيه
(3)
، وكذلك الخالة أخت أمِّه، وبنتُ الأخت من الأمِّ أو الأب بنتُ بنتِ أمِّه أو أبيه، ولا ريبَ أنَّ العمَّة والخالة أقربُ إليه من هذه القرابة.
الثَّاني: أنَّ صاحب هذا القول إن طرد أصلَه لزِمَه ما لا قِبَلَ له
(4)
به من تقديم بنت بنت الأخت وإن نزلتْ على الخالة الَّتي هي أمٌّ، وهذا فاسدٌ من القول، وإن خصَّ ذلك ببنت الأخت دون من أسفلَ
(5)
منها تناقضَ.
(1)
د، ص:«تقدمت» .
(2)
«بجيد» ليست في ح.
(3)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «ابنة ابن أبيه» .
(4)
ص: «لهم» .
(5)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «سفل» .
واختلف أصحاب أحمد أيضًا في الجدِّ والأخت للأب أيُّهما أولى؟ فالمذهب: أنَّ الجدَّ أولى منها، وحكى القاضي في «المجرَّد» وجهًا: أنَّها أولى منه. وهذا يجيء على أحد التَّأويلات الَّتي تأوَّل عليها الأصحاب نصَّ أحمد، وقد تقدَّمت.
فصل
وممَّا يبيِّن صحَّة الأصل المتقدِّم: أنَّهم قالوا: إذا عُدِم الأمَّهات ومن في جهتهنَّ انتقلت الحضانة إلى العصبات، وقُدِّم الأقرب فالأقرب منهم، كما في الميراث، فهذا جارٍ على القياس.
فيقال لهم: فهلَّا راعيتم هذا في جنس القرابة، فقدَّمتم القرابةَ القويَّة الرَّاجحة على الضَّعيفة المرجوحة كما فعلتم في العصبات؟
وأيضًا فإنَّ الصَّحيح في الأخوات عندكم أنَّه يُقدَّم منهنَّ من كانت لأبوين، ثمَّ من كانت لأبٍ، ثمَّ من كانت لأمٍّ، وهذا صحيحٌ موافقٌ للأصول والقياس، لكن إذا ضمَّ هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأمِّ على قرابة الأب جاء التَّناقضُ، وتلك الفروعُ المشكلة المتناقضة.
وأيضًا فقد قالوا بتقديم أمَّهات الأب والجدِّ على الخالات والأخوات للأمِّ، وهو الصَّواب الموافق لأصول الشَّرع، لكنَّه يُناقِض
(1)
لتقديمهم
(2)
أمَّهات الأمِّ على أمَّهات الأب، ويُناقض تقديم الخالة والأخت للأمِّ على الأب، كما هو إحدى الرِّوايتين عن أحمد، والقول القديم للشَّافعيِّ. ولا ريبَ أنَّ القول به أطردُ للأصل، لكنَّه في غاية البعد من قياس الأصول كما تقدَّم.
(1)
ح، د، م:«تناقض» . وفي المطبوع: «مناقض» .
(2)
كذا في النسخ بإثبات اللام.
ويَلزمهم من طرده أيضًا: تقديمُ من كان من الأخوات لأمٍّ على من كان منهنَّ لأبٍ، وقد التزمه أبو حنيفة والمزني وابن سُريج
(1)
.
ويلزمهم من طرده أيضًا: تقديمُ بنت الخالة على الأخت للأب، وقد التزمه زفر، وهو روايةٌ عن أبي حنيفة، ولكن أبو يوسف استشنع ذلك، فقدَّم الأخت للأب كقول الجمهور، ورواه عن أبي حنيفة.
ويلزمهم أيضًا من طرده: تقديمُ الخالة والأخت للأمِّ على الجدَّة أمِّ الأب. وهذا في غاية البعد والوهن، وقد التزمه زفر. ومثل هذا من المقاييس الَّتي حذَّر منها أبو حنيفة رحمه الله لأصحابه
(2)
، وقال
(3)
: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنَّكم إن أخذتم بمقاييس زفر حرَّمتم الحلال وحلَّلتم الحرام.
فصل
وقد رام بعض أصحاب أحمد ضبْطَ هذا الباب بضابطٍ زعم أنَّه يتخلَّص به من التَّناقض، فقال: الاعتبار في الحضانة بالولادة المتحقِّقة، وهي الأمومة، ثمَّ الولادة الظَّاهرة وهي الأبوَّة، ثمَّ الميراث. قال: ولذلك تُقدَّم الأخت من الأب على الأخت من الأمِّ وعلى الخالة؛ لأنَّها أقوى إرثًا منهما. قال: ثمَّ الإدلاء، فتُقدَّم الخالة على العمَّة؛ لأنَّ الخالة تُدِلي بالأمِّ، والعمَّة تُدلِي بالأب. فذكر أربعة أسبابٍ
(4)
للحضانة مرتبة: الأمومة، ثمَّ بعدها الأبوَّة، ثمَّ
(1)
ح، د:«ابن شريح» ، تصحيف.
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «أصحابه» .
(3)
ذكر هذا القول عنه شيخ الإسلام في «جامع المسائل» (3/ 413) و «مجموع الفتاوى» (4/ 47، 34/ 124).
(4)
ز: «أشياء» .
بعدها الميراث، ثمَّ الإدلاء.
وهذه طريقة صاحب «المستوعب»
(1)
، وما زادته هذه الطَّريقة إلا تناقضًا وبعدًا عن قواعد الشَّرع، وهي من أفسد الطُّرق، وإنَّما يتبيَّن فسادها بلوازمها الباطلة، فإنَّه إن أراد بتقديم الأمومة على الأبوَّة تقديمَ الأمِّ و
(2)
من في جهتها على الأب ومن في جهته= كانت تلك اللَّوازم الباطلة المتقدِّمة من: تقديمِ الأختِ للأمِّ وبنتِ الخالة على الأب وأمِّه، وتقديمِ الخالة على العمَّة، وتقديمِ خالة الأمِّ على الأب
(3)
، وتقديمِ بنات الأخت من الأمِّ على أمِّ الأب، وهذا مع مخالفته لنصوص إمامه فهو مخالفٌ لأصول الشَّرع وقواعده.
وإن أراد أنَّ الأمَّ نفسها تُقدَّم على الأب فهذا حقٌّ، لكنَّ الشَّأن في مناط هذا التَّقديم: هل هو لكون الأمِّ ومن في جهتها تُقدَّم على الأب ومن في جهته، أو لكونها أنثى في درجة ذكرٍ، وكلُّ أنثى كانت في درجة ذكرٍ قُدِّمت عليه مع تقديم قرابة الأب على قرابة الأمِّ؟ وهذا هو الصَّواب كما تقدَّم.
وكذلك قوله: «ثمَّ الميراث» ، إن أراد به أنَّ المقدَّم في الميراث مقدَّمٌ في الحضانة فصحيحٌ، وطَرْدُه تقديم قرابة الأب على قرابة الأمِّ؛ لأنَّها مقدَّمةٌ عليها في الميراث، فتُقدَّم الأخت على العمَّة والخالة.
وقوله: «ولذلك تُقدَّم الأخت للأب على الأخت للأمِّ والخالة؛ لأنَّها
(1)
لا يوجد باب الحضانة في النسخة المطبوعة من الكتاب.
(2)
«الأم و» ساقطة من المطبوع.
(3)
بعدها في المطبوع: «وأمه» . وليست في النسخ.
أقوى إرثًا منهما»، فيقال: لم يكن تقديمها لأجل الإرث وقوَّته، ولو كان لأجل ذلك لكان العصبات أحقَّ بالحضانة من النِّساء، فيكون العمُّ أولى بها
(1)
من الخالة والعمَّة، وهذا باطلٌ.
فصل
وقد ضبط الشَّيخ في «المغني» هذا الباب بضابطٍ آخر، فقال
(2)
: فصلٌ في بيان الأَولى فالأَولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرِّجال والنِّساء. وأولى الكلِّ بها: الأمُّ، ثمَّ أمَّهاتها وإن عَلَون، يُقدَّم منهنَّ الأقربُ فالأقرب؛ لأنَّهنَّ نساءٌ ولادتُهنَّ متحقِّقةٌ، فهنَّ في معنى الأمِّ. وعن أحمد أنَّ أمَّ الأب وأمَّهاتها يُقدَّمنَ على أمِّ الأمِّ. فعلى هذه الرِّواية يكون الأب أولى بالتّقديم؛ لأنَّهنَّ يُدلِينَ به، فيكون الأب بعد الأمِّ، ثمَّ أمَّهاتُه. والأُولى هي المشهورة عند أصحابنا، فإنَّ المقدَّم الأمُّ، ثمَّ أمَّهاتها، ثمَّ الأب، ثمَّ أمَّهاته، ثمَّ الجدُّ، ثمَّ أمَّهاته، ثمَّ جدُّ الأب، ثمَّ أمَّهاته وإن كنَّ غير وارثاتٍ؛ لأنَّهنَّ يُدلِينَ بعصبةٍ من أهل الحضانة، بخلاف أمِّ أبي الأمِّ. وحُكِي عن أحمد روايةٌ أخرى: أنَّ الأخت من الأمِّ والخالة أحقُّ من الأب، فتكون الأختُ من الأبوين أحقَّ منه ومنهما ومن جميع العصبات. والأُولى هي المشهورة من المذهب.
فإذا انقرض الآباء والأمَّهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات، وتُقدَّم الأختُ من الأبوين، ثمَّ الأختُ من الأب، ثمَّ الأختُ من الأمِّ، وتُقدَّم الأخت على الأخ؛ لأنَّها امرأةٌ من أهل الحضانة، فقُدِّمت على من في درجتها
(1)
«بها» ليست في المطبوع.
(2)
«المغني» (11/ 425 - 427).
من الرِّجال، كالأمِّ تُقدَّم على الأب، وأمِّ الأب على أبي الأب، وكلُّ جدَّةٍ في درجة جدٍّ تُقدَّم عليه؛ لأنَّها تلي الحضانة بنفسها، والرَّجل لا يليها بنفسه. وفيه وجهٌ آخر: أنَّه يُقدَّم عليها لأنَّه عصبةٌ بنفسه. والأوَّل أولى. وفي تقديم الأخت من الأبوين أو من الأب على الجدِّ وجهان. وإذا لم تكن أختٌ فالأخ للأبوين أولى، ثمَّ الأخُ للأب، ثمَّ أبناؤهما
(1)
، ولا حضانةَ للأخ من الأمِّ لما ذكرنا.
فإذا عُدِموا صارت الحضانة للخالات على الصَّحيح، وترتيبهنَّ فيها كترتيب الأخوات، ولا حضانةَ للأخوال. فإذا عُدِموا
(2)
صارت للعمَّات، ويُقدَّمن على الأعمام كتقديم الأخوات على الإخوة، ثمَّ للعمِّ للأبوين، ثمَّ للعمِّ للأب، ولا حضانةَ للعمِّ من الأمِّ، ثمَّ أبناؤهما
(3)
، ثمَّ إلى خالات الأب على قول الخرقي، وعلى القول الآخر إلى خالات الأمِّ، ثمَّ إلى عمَّات الأب. ولا حضانةَ لعمَّات الأمِّ؛ لأنَّهنَّ يُدلِينَ بأبي الأمِّ
(4)
، ولا حضانةَ له. وإن اجتمع شخصان أو أكثر من أهل الحضانة في درجةٍ قُدِّم المستحقُّ منهم بالقرعة. انتهى كلامه
(5)
.
وهذا خيرٌ ممَّا قبله من الضَّوابط، ولكن فيه تقديم أمِّ الأمِّ وإن عَلَتْ على الأب وأمَّهاته، فإن طردَ تقديم من في جهة الأمِّ على من في جهة الأب جاءت
(1)
في المطبوع: «ابناهما» .
(2)
كذا في النسخ. وفي «المغني» : «عُدِمن» . والضمير للخالات.
(3)
في المطبوع: «ابناهما» خلاف النسخ.
(4)
ح: «بأبي الأب» ، غلط.
(5)
أي كلام صاحب «المغني» .
تلك اللَّوازم الباطلة، وهو لم يطرده، وإن قدَّم بعضَ من في جهة الأب على بعض من في جهة الأمِّ كما فعل= طُولب بالفرق وبمناط التَّقديم.
وفيه إثبات الحضانة للأخت من الأمِّ
(1)
دون الأخ من الأمِّ، وهو في درجتها ومساوٍ لها من كلِّ وجهٍ، فإن
(2)
كان ذلك لأنوثتها وهو ذكرٌ انتقضَ برجال العصبة كلِّهم، وإن كان ذلك لكونه ليس من العصبة، والحضانة لا تكون لرجلٍ إلا أن يكون من العصبة= قيل: فكيف جعلتموها لنساء ذوي الأرحام مع مساواة قرابتهنَّ لقرابة من في درجتهنَّ من الذُّكور من كلِّ وجهٍ؟ فإمَّا أن تعتبروا الأنوثة فلا تجعلوها لذَكَرٍ، أو الميراثَ فلا تجعلوها لغير وارثٍ، أو القرابةَ فلا تمنعوا منها الأخَ من الأمِّ والخال وأبا الأمِّ، أو التَّعصيبَ فلا تعطوها لغير عصبةٍ.
فإن قلتم: بقي قسمٌ آخر وهو قولنا، وهو اعتبار التّعصيب في الذُّكور والقرابة في الإناث.
قيل: هذا مخالفٌ لباب الولايات وباب الميراث، والحضانة ولايةٌ على الطِّفل، فإن سلكتم بها مسلكَ الولايات فخُصُّوها بالأب والجدِّ، وإن سلكتم بها مسلكَ الميراث فلا تُعطوها لغير وارثٍ، وكلاهما خلاف قولكم وقول النَّاس أجمعين.
وفي كلامه أيضًا: تقديم ابن الأخ وإن نزلت درجتُه على الخالة الَّتي هي أمٌّ، وهو في غاية البعد، وجمهور الأصحاب إنَّما جعلوا أولاد الإخوة بعد
(1)
ح: «الأب» ، غلط.
(2)
م، ح:«بأن» .
أبي الأب والعمَّات، وهو الصَّحيح، فإنَّ الخالة أخت الأمِّ، وبها تُدلِي، والأمُّ مقدَّمةٌ على الأب، وابن الأخ إنَّما يُدلِي بالأخ الذي يُدلِي بالأب، فكيف يُقدَّم على الخالة؟ وكذا العمَّة أخت الأب وشقيقته، فكيف يُقدَّم ابنُ ابنه عليها؟
وقد ضبط هذا الباب شيخنا شيخ الإسلام ابن تيميَّة بضابطٍ آخر، فقال
(1)
: أقربُ ما يُضبط به باب الحضانة أن يقال: لمَّا كانت الحضانة ولايةً تعتمد الشَّفقة والتَّربية والملاطفة كان أحقُّ النَّاس بها أقومَهم بهذه الصِّفات، وهم أقاربه، يُقدَّم منهم أقربُهم إليه وأقومُهم بصفات الحضانة. فإن اجتمع منهم اثنان فصاعدًا، فإن استوت درجتهم قُدِّم الأنثى على الذَّكر، فتُقدَّم الأمُّ على الأب، والجدَّة على الجدِّ، والخالة على الخال، والعمَّة على العمِّ، والأخت على الأخ. فإن كانا ذكرين أو أنثيين قُدِّم أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما. وإن اختلفت درجتهم من الطِّفل، فإن كانوا من جهةٍ واحدةٍ قُدِّم الأقرب إليه، فتُقدَّم الأخت على ابنتها، والخالة على خالة الأبوين، وخالة الأبوين على خالة الجدِّ، والجدَّة والجدُّ أبو الأمِّ على الأخ للأمِّ. هذا هو الصَّحيح؛ لأنَّ جهة الأبوَّة والأمومة في الحضانة أقوى من جهة الأخوَّة فيها. وقيل: يُقدَّم الأخ للأمِّ لأنَّه أقوى من أبي الأمِّ في الميراث. والوجهان في مذهب أحمد.
وفيه وجهٌ ثالثٌ: لا حضانةَ للأخ من الأمِّ بحال؛ لأنَّه ليس من العصبات ولا من نساء الحضانة، وكذلك الخال أيضًا، فإنَّ صاحب هذا الوجه يقول: لا حضانةَ له، ولا نزاع أنَّ أبا الأمِّ وأمَّهاته أولى من الخال، وإن كانوا من
(1)
لم أجد هذا النصّ في كتبه المطبوعة، وله «قاعدة في حضانة الولد» نشرتُها في «جامع المسائل» (3/ 397 - 430).
جهتين، كقرابة الأمِّ وقرابة الأب، مثل العمَّة والخالة، والأخت للأب والأخت للأمِّ، وأمِّ الأب وأمِّ الأمِّ، وخالة الأب وخالة الأمِّ= قُدِّم مَن في جهة الأب في ذلك كلِّه على إحدى الرِّوايتين فيه.
هذا كلُّه إذا استوت درجتهم، أو كانت جهة الأب أقربَ إلى الطِّفل، وأمَّا إذا كانت جهة الأمِّ أقربَ، وقرابةُ الأب أبعدَ، كأمِّ الأمِّ وأمِّ أبي الأب، وكخالة الطِّفل وعمَّة أبيه، فقد تقابل التَّرجيحان، ولكن يُقدَّم الأقرب إلى الطِّفل لقوَّة شفقته وحُنوِّه على شفقة الأبعد. ومن قَدَّم قرابة الأب فإنَّما يُقدِّمها مع مساواة قرابة الأمِّ لها، فأمَّا إذا كانت أبعد منها قُدِّمت قرابة الأمِّ القريبة، وإلَّا لزم من تقديم القرابة البعيدة لوازمُ باطلةٌ لا يقول بها أحدٌ.
فبهذا الضَّابط يمكن حَصْرُ جميع مسائل هذا الباب، وجَرْيُها على قياس الشريعةِ، واطِّرادُها وموافقتُها لأصول الشَّرع، فأيُّ مسألةٍ وردت عليك أمكن أخذها من هذا الضَّابط، مع كونه مقتضى الدَّليل، ومع سلامته من التَّناقض ومناقضة قياس الأصول. وباللَّه التَّوفيق.
فصل
وقوله: «أنت
(1)
أحقُّ به ما لم تَنْكِحي»، فيه دليلٌ على أنَّ الحضانة حقٌّ للأمِّ. وقد اختلف الفقهاء هل هي حقٌّ للحاضنِ أو عليه؟ على قولين في مذهب أحمد ومالك، وينبني عليهما: هل لمن له الحضانة أن يُسقِطها ويَنزِل عنها
(2)
؟ على قولين. وأنَّه لا يجب عليه خدمة الولد أيَّامَ حضانته إلا بأجرة
(1)
«أنت» ليست في م.
(2)
«عنها» ليست في ح.
إن قلنا: الحقُّ له، وإن قلنا: عليه، وجبَ خدمته مجَّانًا. وإن كان الحاضن فقيرًا، فله الأجرة على القولين.
وإذا وُهِبت الحضانة للأب وقلنا: الحقُّ لها، لزمت الهبةُ ولم ترجع فيها، وإن قلنا: الحقُّ عليها، فلها العَوْد إلى طلبها.
والفرق بين هذه المسألة وبين ما لم يثبت بعدُ كهبة الشُّفعة قبل البيع حيث لا تلزم في أحد القولين= أنَّ الهبة في الحضانة قد وُجِد سببها، فصار بمنزلة ما قد وُجِد. وكذلك إذا وهبت المرأة نفقتها لزوجها شهرًا لزِمت الهبة، ولم ترجع فيها.
هذا كلُّه كلام أصحاب مالكٍ وتفريعهم، والصَّحيح أنَّ الحضانة حقٌّ لها، وعليها إذا احتاج الطِّفل إليها ولم يُوجد غيرها، وإن اتَّفقتْ هي ووليُّ الطِّفل على نقلها إليه جاز. والمقصود أنَّ في قوله صلى الله عليه وسلم:«أنتِ أحقُّ به» دليلًا على أنَّ الحضانة حقٌّ لها.
فصل
وقوله: «ما لم تنكحي» ، اختُلف فيه: هل هو تعليلٌ أو توقيتٌ؟ على قولين، ينبني عليهما: ما لو تزوَّجتْ وسقطتْ حضانتها ثمَّ طلِّقت، فهل تعود الحضانة؟ فإن قيل: اللَّفظ تعليلٌ، عادت الحضانة بالطَّلاق؛ لأنَّ الحكم إذا ثبت بعلَّةٍ زال بزوالها، وعلَّة سقوط الحضانة التَّزويج، فإذا طلِّقت زالت العلَّة، فزال حكمها، وهذا قول الأكثرين، منهم الشَّافعيُّ وأحمد وأبو حنيفة.
ثمَّ اختلفوا فيما إذا كان الطَّلاق رجعيًّا، هل يعود حقُّها بمجرَّده، أو
يتوقَّف عَودُها على
(1)
انقضاء العدَّة؟ على قولين، وهما في مذهب أحمد والشَّافعيِّ ومالك، أحدهما: يعود بمجرَّده، وهو ظاهر مذهب الشَّافعيِّ. والثَّاني: لا يعود حتَّى تنقضي العدَّة، وهو قول أبي حنيفة والمزني. هذا كلُّه تفريعٌ على أنَّ قوله:«ما لم تنكحي» تعليلٌ، وهو قول الأكثرين.
وقال مالك في المشهور من مذهبه: إذا تزوَّجت ودخل بها لم يَعُدْ حقُّها من الحضانة وإن طُلِّقت. قال بعض أصحابه: وهذا بناءً على أنَّ قوله «ما لم تنكحي» للتَّوقيت، أي: حقُّك من الحضانة موقَّتٌ إلى حين نكاحك، فإذا نكحتِ انقضى وقت الحضانة، فلا يعود بعد انقضاء وقتها، كما لو انقضى وقتها ببلوغ الطِّفل واستغنائه عنها. وقال بعض أصحابه: يعود حقُّها إذا فارقَها زوجها، كقول الجمهور، وهو قول المغيرة وابن أبي حازم. قالوا: لأنَّ المقتضي لحقِّها من الحضانة هو قرابتها الخاصَّة، وإنَّما عارضها مانعُ النِّكاح؛ لما يوجبه من إضاعة الطِّفل، واشتغالها بحقوق الزَّوج الأجنبيِّ منه عن مصالحه، ولما فيه من تغذيته وتربيته في نعمة غير أقاربه، وعليهم في ذلك مِنَّةٌ وغَضاضةٌ. فإذا انقطع النِّكاح
(2)
بموتٍ أو فرقةٍ زال المانع
(3)
والمقتضي قائمٌ، فترتَّب عليه أثره. وهكذا كلُّ من قام به من أهل الحضانة مانعٌ منها، ككفرٍ أو رقٍّ أو فسقٍ أو بدوٍ، فإنَّه لا حضانة له، فإن زالت الموانع عاد حقُّهم من الحضانة، فهكذا النِّكاح والفرقة.
وأمَّا النِّزاع في عَود الحضانة بمجرَّد الطَّلاق الرَّجعيِّ، أو توقُّفه على
(1)
ز: «إلى» .
(2)
د: «بالنكاح» .
(3)
ز: «المعنى» .
انقضاء العدَّة= فمأخذه كون الرَّجعيَّة زوجةً في عامَّة الأحكام، فإنَّه يثبت بينهما التَّوارث والنَّفقة، ويصحُّ منها الظِّهار والإيلاء، ويحرم أن يأخذَ
(1)
عليها أختَها أو عمَّتها أو خالتها أو أربعًا سواها وهي زوجةٌ، فمن راعى ذلك لم يُعِدْ
(2)
إليها الحضانة بمجرَّد الطَّلاق الرَّجعيِّ حتَّى تنقضيَ العدَّة، فتَبِينَ حينئذٍ، ومن أعاد الحضانة بمجرَّد الطَّلاق قال: قد عَزلَها عن فراشه، ولم يَبقَ لها عليه قسمٌ، ولا لها به شغلٌ، والعلَّة الَّتي سقطت حضانتُها لأجلها قد زالت بالطَّلاق. وهذا هو الذي رجَّحه الشَّيخ في «المغني»
(3)
، وهو ظاهر كلام الخرقيِّ، فإنَّه قال: وإذا أُخِذَ الولد من الأمِّ إذا تزوَّجت ثمَّ طُلِّقتْ، رجعتْ على حقِّها من كفالته.
فصل
وقوله: «ما لم تنكحي» اختُلِف فيه: هل المراد به مجرَّد العقد، أو العقد مع الدُّخول؟ وفي ذلك وجهان:
أحدهما: أنَّ بمجرَّد العقد تزول حضانتها، وهو قول الشَّافعيِّ وأبي حنيفة؛ لأنَّه بالعقد يملك الزَّوج منافعَ الاستمتاع بها، ويملك نفْعَها من حضانة الولد.
والثَّاني: أنَّها لا تزول إلا بالدُّخول، وهو قول مالك، فإنَّ بالدُّخول يتحقَّق اشتغالُها عن الحضانة.
(1)
في المطبوع: «ينكح» خلاف النسخ.
(2)
في المطبوع: «لم تعد» .
(3)
(11/ 427). وفيه كلام الخرقي.
والحديث يحتمل الأمرين، والأشبه سقوطُ حضانتها بالعقد؛ لأنَّها حينئذٍ صارت في مظنَّة الاشتغالِ عن الولد، والتَّهيُّؤِ للدُّخول، وأَخْذِها حينئذٍ في أسبابه، وهذا قول الجمهور.
فصل
واختلف النَّاس في سقوط الحضانة بالنِّكاح على أربعة أقوالٍ:
أحدها: سقوطها به مطلقًا، سواءٌ كان المَحْضُون ذكرًا أو أنثى، وهذا مذهب الشَّافعيِّ ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. قال ابن المنذر
(1)
: أجمع على هذا كلُّ من أحفظ عنه من أهل العلم، قضى
(2)
به شُريح.
والقول الثَّاني: أنَّها لا تسقط بالتَّزويج بحالٍ، ولا فرق في الحضانة بين الأيِّم وذات البعل، وحكي هذا المذهب عن الحسن البصريِّ، وهو قول أبي محمَّد بن حزمٍ
(3)
.
القول الثَّالث: أنَّ الطِّفل إن كان بنتًا لم تسقط الحضانة بنكاح أمِّها
(4)
، وإن كان ذكرًا سقطت
(5)
. وهذا إحدى الرِّوايتين عن أحمد، نصَّ عليه في
(1)
لم أجد هذا النص في كتبه المطبوعة. وهو في «المغني» (11/ 420).
(2)
د، ص:«فقضى» .
(3)
انظر: «المحلى» (10/ 143).
(4)
«أمها» ليست في د.
(5)
د، ص، ز:«سقط» .
رواية مهنّا بن يحيى الشامي، فقال
(1)
: إذا تزوَّجت الأمُّ وابنها صغيرٌ أُخِذ منها. قيل له: والجارية مثل الصَّبيِّ؟ قال: لا، الجارية تكون مع أمِّها إلى سبع سنين. وعلى هذه الرِّواية: فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ؟ على روايتين. قال ابن أبي موسى
(2)
: وعن أحمد أنَّ الأمَّ أحقُّ بحضانة البنت وإن تزوَّجت إلى أن تبلغ.
والقول الرَّابع: أنَّها إذا تزوَّجت بنسبٍ
(3)
من الطِّفل لم تسقط حضانتها، ثمَّ اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنَّ المشتَرَط أن يكون الزَّوج نسيبًا للطِّفل فقط، وهذا ظاهر قول أصحاب أحمد.
الثَّاني: أنَّه يُشترط مع ذلك أن يكون ذا رحمٍ مَحْرمٍ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
الثَّالث: أنَّه يشترط أن يكون بين الزَّوج وبين الطِّفل إيلادًا
(4)
ما، بأن يكون جَدًّا للطِّفل، وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد. فهذا تحرير المذاهب في هذه المسألة.
فأمَّا حجَّة من أسقط الحضانة بالتَّزويج مطلقًا، فثلاث حججٍ:
إحداها: حديث عمرو بن شعيبٍ المتقدِّم ذكره.
(1)
كما في «الروايتين والوجهين» (2/ 243) و «المغني» (11/ 420).
(2)
في «الإرشاد» (ص 327).
(3)
كذا في النسخ، وفي المطبوع:«بنسيب» .
(4)
كذا في النسخ منصوبًا، والوجه الرفع.
الثَّانية: اتِّفاق الصَّحابة على ذلك، وقد تقدَّم قول الصِّدِّيق لعمر: إنها أحقُّ به ما لم تتزوَّج، وموافقة عمر له على ذلك، ولا مخالفَ لهما من الصَّحابة البتَّةَ، وقضى به شُريح والقضاةُ بعده إلى اليوم في سائر الأعصار والأمصار.
الثَّالثة
(1)
: ما رواه عبد الرزاق
(2)
: أنا ابن جريجٍ، أنا أبو الزبير، عن رجلٍ صالحٍ من أهل المدينة، عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن
(3)
، قال: كانت امرأةٌ من الأنصار تحت رجلٍ من الأنصار، فقُتِل عنها يوم أحدٍ، وله منها ولدٌ، فخطبها عمُّ ولدها ورجلٌ آخر إلى أبيها، فأنكحَ الآخر، فجاءت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت: أنكحَني أبي رجلًا لا أريده، وترك عمَّ ولدي، فأخذَ منِّي ولدي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أباها، فقال
(4)
: «أنت الذي لا نكاح لك، اذهبي فانكحي عمَّ ولدك» . فلم ينكر أخْذَ الولد منها لمَّا تزوَّجت، بل أنكحها عمَّ الولد لتبقى لها الحضانة، ففيه دليلٌ على سقوط الحضانة بالنِّكاح، وبقائها إذا تزوَّجت بنسيبٍ من الطِّفل.
واعترض أبو محمد ابن حزم
(5)
على هذا الاستدلال بأنَّ حديث
(1)
في النسخ: «الثالث» .
(2)
في «المصنف» (10304)، ومن طريقه ابن حزم في «المحلى» (10/ 325) وقال عقبه:«هذا مرسل، وفيه مجهول، ومثل هذا لا يحتج به» .
(3)
ز: «سلمة بن أبي عبد الرحمن» ، خطأ.
(4)
بعدها في المطبوع: «أنكحتَ فلانًا فلانةً؟ قال: نعم، قال» . وليست في النسخ و «المحلى» .
(5)
في «المحلى» (10/ 325).
عمرو بن شعيبٍ صحيفةٌ، وحديث أبي سلمة هذا مرسلٌ، وفيه مجهولٌ. والاعتراضان ضعيفان، فقد بيَّنَّا
(1)
احتجاج الأئمَّة بعمرو في تصحيحهم حديثه، وإذا تعارض معنا في الاحتجاج برجلٍ قولُ ابن حزمٍ وقول البخاريِّ وأحمد وابن المدينيِّ والحُميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم يُلتفت إلى سواهم.
وأمَّا حديث أبي سلمة هذا، فإنَّ أبا سلمة من كبار التَّابعين، وقد حكى القصَّةَ عن الأنصاريَّة، ولا يُنكَر لقاؤه لها، فلا يتحقَّق الإرسال، ولو تحقَّق فمرسلٌ جيِّدٌ، له شواهد مرفوعةٌ وموقوفةٌ، وليس الاعتماد عليه وحده، وعنى بالمجهول الرَّجلَ الصَّالح الذي شهد له أبو الزبير بالصَّلاح، ولا ريبَ أنَّ هذه الشَّهادة لا تعرِّف به، ولكنَّ المجهول إذا عدَّله الرَّاوي عنه الثِّقة ثبتت عدالته، وإن كان واحدًا على أصحِّ القولين، فإنَّ التَّعديل من باب الإخبار والحكم لا من باب الشَّهادة، ولا سيَّما التَّعديل في الرِّواية، فإنَّه يُكتفى فيه بالواحد، ولا يزيد على أصل نصاب الرِّواية. هذا مع أنَّ أحد القولين: إنَّ مجرَّد رواية العدل عن غيره تعديلٌ له، وإن لم يصرِّح بالتَّعديل، كما هو إحدى الرِّوايتين عن أحمد. وأمَّا إذا روى عنه وصرَّح بتعديله
(2)
، خرج عن الجهالة الَّتي تُردُّ لأجلها روايته، لا سيَّما إذا لم يكن معروفًا بالرِّواية عن الضُّعفاء والمتَّهمين.
وأبو الزبير وإن كان فيه تدليسٌ فليس معروفًا بالتَّدليس عن المتَّهمين والضُّعفاء، بل تدليسه من جنس تدليس السَّلف، لم يكونوا يدلِّسون عن متَّهمٍ
(1)
ز، ح:«بيِّن» .
(2)
بعدها في المطبوع: «فقد» وليست في النسخ.
ولا مجروحٍ، وإنَّما كثر هذا النَّوع من التَّدليس في المتأخِّرين.
واحتجَّ أبو محمد على قوله بما رواه من طريق البخاريِّ، عن عبد العزيز بن صُهيبٍ عن أنس قال: قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وليس له خادمٌ، فأخذ أبو طلحة بيدي، وانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إنَّ أنسًا غلامٌ كيِّسٌ، فليخدِمْك. قال: فخدمتُه في السَّفر والحضر
(1)
. وذكر الخبر.
قال أبو محمد
(2)
: فهذا أنس في حضانة أمِّه، ولها زوجٌ، وهو أبو طلحة بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الاحتجاج في غاية السُّقوط، والخبر في غاية الصِّحَّة، فإنَّ أحدًا من أقارب أنسٍ لم ينازع أمَّه فيه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو طفلٌ صغيرٌ لم يُثْغَر
(3)
، أو لم يأكلْ وحده ويشربْ وحده، أو لم يُميِّز، وأمُّه مزوَّجةٌ فحكم به لأمِّه. وإنَّما يتمُّ الاستدلال بهذه المقدِّمات كلِّها، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم المدينة كان لأنسٍ من العمر عشرُ سنين، وكان عند أمِّه، فلمَّا تزوَّجت أبا طلحة لم يأتِ أحدٌ من أقارب أنس ينازعها
(4)
في ولدها ويقول: قد تزوَّجتِ فلا حضانة لكِ، وأنا أطلب انتزاعَه منكِ. ولا ريبَ أنَّه لا يحرم على المرأة المزوَّجة حضانةُ ابنها إذا اتَّفقت هي والزَّوج وأقارب الطِّفل على ذلك، ولا ريبَ أنَّه لا يجب بل لا يجوز أن يُفرَّق بين الأمِّ وولدها إذا تزوَّجت من غير أن يخاصِمَها من له الحضانة،
(1)
أخرجه البخاري (6911)، ومسلم (2309).
(2)
في «المحلى» (10/ 325).
(3)
أي لم تسقط ثنيتاه.
(4)
ز: «لم ينازعها» ، خطأ.
ويطلبَ انتزاع الولد. فالاحتجاج بهذه القصَّة أبعدُ الاحتجاج وأبردُه.
ونظير هذا أيضًا احتجاجُهم بأنَّ أم سلمة لمَّا تزوَّجت برسول الله صلى الله عليه وسلم لم تسقط كفالتها لابنتها
(1)
، بل استمرَّت على حضانتها. فيا عجبًا! مَن الذي نازع أم سلمة في ولدها ورَغِبَ عن أن يكون في حجر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟
واحتجَّ لهذا القول أيضًا بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها وهي مزوَّجةٌ بجعفر. ولا ريبَ أنَّ للنَّاس في قصَّة ابنة حمزة ثلاث مآخذ:
أحدها: أنَّ النِّكاح لا يُسقِط الحضانة.
الثَّاني: أنَّ المحضونة إذا كانت بنتًا فنكاح أمِّها لا يُسقِط حضانتها، ويُسقِطها إذا كان ذكرًا.
الثَّالث: أنَّ الزَّوج إذا كان نسيبًا من الطِّفل لم تسقط حضانتها، وإلَّا سقطت. فالاحتجاج بالقصَّة على أنَّ النِّكاح لا يُسقِط الحضانة مطلقًا لا يتمُّ إلا بعد إبطال ذينك الاحتمالين الآخرين.
فصل
وقضاؤه صلى الله عليه وسلم بالولد لأمِّه وقولُه: «أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي» لا يستفاد منه عموم القضاء لكلِّ أمٍّ حتَّى يَقضيَ به للأمِّ وإن كانت كافرةً، أو رقيقةً، أو فاسقةً، أو مسافرةً، فلا يصحُّ الاحتجاج به على ذلك ولا نفيه، فإذا دلَّ دليلٌ منفصلٌ على اعتبار الإسلام والحرِّيَّة والدِّيانة والإقامة لم يكن ذلك تخصيصًا ولا مخالفةً لظاهر الحديث.
(1)
في المطبوع: «لابنها» ، خطأ.
وقد اشتُرِط في الحاضن ستَّة شروطٍ: اتِّفاقهما في الدِّين، فلا حضانة لكافرٍ على مسلمٍ لوجهين:
أحدهما: أنَّ الحاضن حريصٌ على تربية الطِّفل على دينه، وأن ينشأ عليه ويتربَّى عليه، فيصعُب بعد كبره وعقله انتقالُه عنه، وقد يُغيِّره عن فطرة الله الَّتي فطر عليها عباده، فلا يراجعها أبدًا، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، ويُنصِّرانه، ويُمجِّسانه»
(1)
. فلا يُؤمَن تهويدُ الحاضن وتنصيرُه للطِّفل المسلم.
فإن قيل: الحديث إنَّما جاء في الأبوين خاصَّةً.
قيل: الحديث خرج مخرجَ الغالب، إذ الغالب المعتاد نشوء الطِّفل بين أبويه، فإن فُقِد الأبوان أو أحدهما قام وليُّ الطِّفل من أقاربه مقامَهما.
الوجه الثَّاني: أنَّ الله سبحانه قطع الموالاة بين المسلمين والكفَّار، وجعل المسلمين بعضهم أولياء بعضٍ، والكفَّار بعضهم من بعضٍ، والحضانة من أقوى أسباب الموالاة الَّتي قطعها الله بين الفريقين.
وقال أهل الرَّأي وابن القاسم وأبو ثورٍ: تثبت الحضانة لها مع كفرها وإسلام الولد. واحتجُّوا بما روى النَّسائيُّ في «سننه»
(2)
من حديث عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن جدِّه رافع بن سِنان: أنَّه أسلم وأبتْ امرأتُه أن تُسلِم، فأتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ابنتي وهي فَطِيمٌ أو مُشبهة، وقال رافع: ابنتي، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اقعُدْ ناحيةً» ، وقال لها:«اقعدي ناحيةً» ، وقال
(1)
أخرجه البخاري (1385) ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه (ص 6).
لهما: «ادعُواها» ، فمالت الصَّبيَّة إلى أمِّها، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهمَّ اهْدِها» ، فمالت إلى أبيها فأخذها.
قالوا: ولأنَّ الحضانة أمران: الرِّضاع وخدمة الطِّفل، وكلاهما يجوز من الكافرة
(1)
.
قال الآخرون: هذا الحديث هو من رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سِنان الأنصاري الأَوْسي، وقد ضعَّفه إمام العلل يحيى بن سعيدٍ القطَّان، وكان سفيان الثَّوريُّ يحمل عليه
(2)
، وضعَّف ابن المنذر الحديث، وضعَّفه غيره. وقد اضطرب في القصَّة، فروى أنَّ المخيَّر كان بنتًا، وروى أنَّه كان ابنًا. وقال الشَّيخ في «المغني»
(3)
: وأمَّا الحديث فقد روي على غير هذا الوجه، ولا يُثبِته أهل النَّقل، وفي إسناده مقالٌ، قاله ابن المنذر.
ثمَّ إنَّ الحديث قد يُحتجُّ به على صحَّة مذهب من اشترط الإسلام، فإنَّ الصَّبيَّة لمَّا مالت إلى أمِّها دعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لها بالهداية، فمالت إلى أبيها، وهذا يدلُّ على أنَّ كونها مع الكافر خلافُ هدى الله الذي أراده من عباده، ولو استقرَّ جعْلُها مع أمِّها لكان فيه حجَّةٌ، بل أبطله الله سبحانه بدعوة رسوله.
ومن العجب أنَّهم يقولون: لا حضانة للفاسق، فأيُّ فسقٍ أكبر من الكفر؟ وأين الضَّرر المتوقَّع من الفاسق بنشوء الطِّفل على طريقته إلى الضَّرر
(1)
د، ص:«الكافر» .
(2)
انظر: «البدر المنير» (8/ 321).
(3)
(11/ 413).
المتوقَّع من الكافر؟ مع
(1)
أنَّ الصَّواب أنَّه لا تُشترط العدالة في الحاضن قطعًا، وإن شَرَطَها أصحاب أحمد والشَّافعيِّ وغيرهم، واشتراطها في غاية البعد.
ولو اشتُرِطَ
(2)
في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم
(3)
، ولعظمت المشقَّة على الأمَّة، واشتدَّ العَنَتُ. ولم يزل من حينِ قام الإسلام إلى أن تقوم السَّاعة أطفال الفسَّاق بينهم لا يتعرَّض لهم أحدٌ في الدُّنيا، مع كونهم هم الأكثرين. ومتى وقع في الإسلام انتزاعُ طفلٍ من أبويه أو أحدِهما بفسقه؟ وهذا في الحرج والعسرِ واستمرارِ العمل المتَّصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النِّكاح، فإنَّه دائم الوقوع في الأمصار والأعصار والقرى والبوادي، مع أنَّ أكثر الأولياء الذين يَلُون
(4)
ذلك فسَّاقٌ. ولم يزل الفسوق في النَّاس، ولم يمنع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من أصحابه فاسقًا من تربية ابنه وحضانته له، ولا من تزويجه مَوْلِيَّتَه، والعادة شاهدةٌ بأنَّ الرَّجل ولو كان من الفسَّاق فإنَّه يحتاط لابنته ولا يضيِّعها، ويَحرِص على الخير لها بجهده، وإن قُدِّر خلاف ذلك. فهو قليلٌ بالنِّسبة إلى المعتاد. والشَّارع يكتفي في ذلك بالباعث الطَّبيعيِّ. ولو كان الفاسق مسلوبَ الحضانةِ وولايةِ النِّكاح لكان بيان هذا للأمَّة من أهمِّ الأمور، واعتناء الأمَّة بنقله
(5)
وتوارث العمل به
(1)
«مع» ليست في ح.
(2)
د، ص، ز:«اشترطت» .
(3)
ح: «العامة» .
(4)
م، ح:«يكون» ، تحريف.
(5)
د، ص، ز:«بنقلها» .
مقدَّمًا على كثيرٍ ممَّا نقلوه وتوارثوا العمل به، فكيف يجوز عليهم تضييعُه واتِّصال العمل بخلافه؟ ولو كان الفسق ينافي الحضانة لكان من زنى أو شرِبَ
(1)
أو أتى كبيرةً فُرِّق بينه وبين أولاده الصِّغار والتمس لهم غيره، والله أعلم.
نعم، العقل مشتَرَطٌ في الحضانة، فلا حضانة لمجنونٍ ولا معتوهٍ ولا طفلٍ؛ لأنَّ هؤلاء يحتاجون إلى من يحضُنُهم ويكفُلُهم، فكيف يكونون كافلين لغيرهم؟
وأمَّا اشتراط الحرِّيَّة، فلا ينهض عليه دليلٌ يركَنُ القلب إليه، وقد شرَطَه أصحاب الأئمَّة الثَّلاثة. وقال مالك في حرٍّ له ولدٌ من أمةٍ: إنَّ الأمَّ أحقُّ به إلا أن تُباع فتنتقل، فيكون الأبُ أحقَّ بها. وهذا هو الصَّحيح؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا تُولَّه والدةٌ عن ولدها»
(2)
، وقال:«من فرَّق بين والدةٍ وولدِها فرَّق الله بينه وبين أحبَّتِه يومَ القيامة»
(3)
. وقد قالوا: لا يجوز التَّفريق في البيع بين الأمِّ
(1)
بعدها في المطبوع: «خمرًا» وليست في النسخ.
(2)
روي عن عدد من الصحابة من وجوه لا تثبت، فقد أخرجه حرب الكرماني في «مسائله» (ص 241) والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 8) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وابن عدي في «الكامل» (8/ 163) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وبنحوه البخاري في «التاريخ الكبير» (6/ 477) من حديث نُقادة رضي الله عنه. وهو حديث ضعيف جدًّا، وينظر:«البدر المنير» لابن الملقن (6/ 518) و «السلسلة الضعيفة» للألباني (4797).
(3)
أخرجه أحمد (23499)، والترمذي (1566)، والحاكم (2/ 63) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي:«حديث حسن غريب» . وحسَّنه الألباني في التعليق على «مشكاة المصابيح» (2/ 1003).
وولدها الصَّغير فكيف يفرِّقون بينهما في الحضانة؟ وعموم الأحاديث يمنع من التَّفريق مطلقًا في الحضانة والبيع. واستدلالُهم بكون منافعها مملوكةً للسَّيِّد، فهي مستغرقةٌ في خدمته، فلا تفرغ لحضانة الولد= ممنوعٌ، بل حقُّ الحضانة لها، تُقدَّم به
(1)
في أوقات حاجة الولد على حقِّ السَّيِّد، كما في البيع سواء.
وأمَّا اشتراط خلوِّها من النِّكاح فقد تقدَّم. وهاهنا مسألةٌ ينبغي التَّنبيه عليها، وهي أنَّا إذا أسقطنا حقَّها من الحضانة بالنِّكاح ونقلناها إلى غيرها فاتَّفق أنَّه لم يكن له سواها= لم يسقط حقُّها من الحضانة، وهي أحقُّ به من الأجنبيِّ الذي يدفعه القاضي إليه، وتربيته في حجْرِ أمِّه ورَابِّه
(2)
أصلح له من تربيته في بيت أجنبيٍّ محضٍ لا قرابةَ بينهما تُوجِب شفقته ورحمته وحُنوَّه، ومن المحال أن تأتي الشَّريعة بدفع مفسدةٍ بمفسدةٍ أعظمَ منها بكثيرٍ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم حكمًا عامًّا كلِّيًّا: أنَّ كلَّ امرأةٍ تزوَّجت سقطت حضانتها في جميع الأحوال، حتَّى يكون إثبات الحضانة للأمِّ في هذه الحال مخالفةً للنَّصِّ.
وأمَّا اتِّحاد الدَّار، فإن كان سفر أحدهما لحاجةٍ ثمَّ يعود والآخر مقيمٌ فهو أحقُّ؛ لأنَّ السَّفر بالولد الطِّفل ولا سيَّما إن كان رضيعًا إضرارٌ به، وتضييعٌ له. هكذا أطلقوه، ولم يستثنوا سفر الحجِّ من غيره.
وإن كان أحدهما منتقلًا عن بلد الآخر للإقامة، والبلد وطريقه مَخُوفان،
(1)
«به» ليست في د، ص.
(2)
في المطبوع: «ورأيه» ، تحريف.
أو أحدهما، فالمقيم أحقُّ. وإن كان هو وطريقُه آمنين ففيه قولان
(1)
، وهما روايتان عن أحمد، إحداهما: أنَّ الحضانة للأب ليتمكَّن من تربية الولد وتأديبه وتعليمه، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ، وقضى به شُريحٌ. والثَّانية: أنَّ الأمَّ أحقُّ. وفيها قولٌ ثالثٌ: إنَّ المنتقل إن كان هو الأب فالأمُّ أحقُّ به، وإن كان
(2)
الأمُّ فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصل النِّكاح فهي أحقُّ به، وإن انتقلت إلى غيره
(3)
فالأب أحقُّ، وهذا قول الحنفيَّة. وحكوا عن أبي حنيفة روايةً أخرى: أنَّ نَقْلَها إن كان من بلدٍ إلى قريةٍ فالأب أحقُّ، وإن كان من بلدٍ إلى بلدٍ فهي أحقُّ.
وهذه كلُّها أقوالٌ كما ترى لا يقوم عليها دليلٌ يسكن القلب إليه، فالصَّواب النَّظر والاحتياط للطِّفل في الأصلح له والأنفع من الإقامة والنّقلة، فأيُّهما كان أنفعَ له وأصونَ وأحفظَ رُوعِي، ولا تأثيرَ لإقامةٍ ولا نقلةٍ. هذا كلُّه ما لم يُرِد أحدهما بالنّقلة مُضارَّةَ الآخر وانتزاعَ الولد منه، فإن أراد ذلك لم يُجَبْ إليه، والله الموفِّق.
فصل
وقوله: «أنت أحقُّ به ما لم تنكحي» ، قيل: فيه إضمارٌ تقديره: ما لم تنكحِي، ويدخلْ بك الزَّوج، ويحكمِ الحاكم بسقوط الحضانة. وهذا تعسُّفٌ بعيدٌ لا يُشعِر به اللَّفظ ولا يدلُّ عليه بوجهٍ، ولا هو من دلالة الاقتضاء الَّتي تتوقَّف صحَّة المعنى عليها. والدُّخول داخلٌ في قوله «تنكحي» عند من
(1)
«ففيه قولان» ليست في د، ص.
(2)
ز: «كانت» .
(3)
«إلى غيره» ليست في د.
اعتبره، فهو كقوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، ومن لم يعتبره فالمراد بالنِّكاح عنده العقد.
وأمَّا حكم الحاكم بسقوط الحضانة، فذاك إنَّما يُحتاج إليه عند التَّنازع والخصومة بين المتنازعين، فيكون منفِّذًا لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف سقوط الحضانة على حكمه، بل قد حكم هو بسقوطها، حكمَ به الحكَّام
(1)
بعده أو لم يحكموا. والَّذي دلَّ عليه هذا الحكم النَّبويُّ أنَّ الأمَّ أحقُّ بالطِّفل ما لم يوجد منها النِّكاح، فإذا نكحت زال ذلك الاستحقاق، وانتقل الحقُّ إلى غيرها. فأمَّا إذا طلبه من له الحقُّ وجبَ على خصمه أن يبذله له، فإن امتنع أجبره الحاكم عليه، وإن أسقط حقَّه أو لم يطالب به بقي على ما كان عليه أوَّلًا. فهذه
(2)
قاعدةٌ عامَّةٌ مستفادةٌ من غير هذا الحديث.
فصل
وقد احتجَّ
(3)
من لا يرى التَّخيير بين الأبوين بظاهر هذا الحديث، ووجه الاستدلال أنَّه قال:«أنتِ أحقُّ به» ، ولو خُيِّر الطِّفل لم تكن هي أحقَّ به إلّا إذا اختارها، كما أنَّ الأب لا يكون أحقَّ به إلا إذا اختاره، فإن قُدِّر: أنتِ أحقُّ به إن اختارك، قُدِّر ذلك في جانب الأب، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جعلها أحقَّ به مطلقًا عند المنازعة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك. ونحن نذكر هذه المسألة ومذاهبَ النَّاس فيها، والاحتجاج لأقوالهم، ونُرجِّح ما وافق حكمَ
(1)
ح: «الحاكم» .
(2)
م، ز:«فهذا» .
(3)
«احتج» ليست في د.
رسول الله صلى الله عليه وسلم منها.
ذِكر قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ذكر عبد الرزاق
(1)
عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابن عبَّاسٍ قال: طلَّق عمر بن الخطَّاب امرأته، فذكر الأثر المتقدِّم، وقال فيه: ريحُها وفراشُها خيرٌ له منك حتَّى يَشِبَّ ويختار لنفسه، فحكم به لأمِّه حين لم يكن له تمييزٌ إلى أن يشبَّ ويميِّز ويخيَّر حينئذٍ.
ذِكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال الشَّافعيُّ
(2)
: أنا ابن عيينة، عن يزيد بن يزيد
(3)
بن جابرٍ، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، عن عبد الرَّحمن بن غَنْمٍ أنَّ عمر بن الخطَّاب خَيَّر غلامًا بين أبيه وأمِّه.
وقال عبد الرزاق
(4)
: أبنا ابن جريجٍ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: خيَّر عمر غلامًا بين أبيه وأمِّه، فاختار أمَّه فانطلقت به.
وذكر عبد الرزاق
(5)
أيضًا: عن معمر، عن أيوب، عن إسماعيل بن
(1)
تقدم تخريجه (ص 10).
(2)
أخرجه من طريق الشافعي البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 4) و «معرفة السنن والآثار» (11/ 302)، وأخرجه سعيد بن منصور (2/ 141)، وابن أبي شيبة (19115) وحرب الكرماني في «مسائله» (ص 240) من طريق ابن عيينة به.
(3)
د، ص، ز:«بن أبي يزيد» ، خطأ.
(4)
«المصنف» (12604، 12605)، وعبد الله بن عُبيد لم يدرك عمر.
(5)
«المصنف» (12606).
عبيد الله، عن عبد الرَّحمن بن غنمٍ، قال: اختُصِم إلى
(1)
عمر بن الخطَّاب في غلامٍ، فقال: هو مع أمِّه حتَّى يُعرِب عنه لسانه ليختار.
وذكر سعيد بن منصورٍ
(2)
عن هشيم، عن خالد، عن الوليد بن مسلمٍ قال: اختصموا إلى عمر بن الخطَّاب في يتيمٍ فخيَّره، فاختار أمَّه على عمِّه، فقال عمر: إنَّ لطْفَ أمِّك خيرٌ من خِصْبِ عمِّك.
ذكر قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال
(3)
الشَّافعيُّ
(4)
: أنا ابن عيينة، عن يونس بن عبد الله الجَرْمي، عن عُمارة الجَرْمي قال: خيَّرني علي بين أمِّي وعمِّي، ثمَّ قال لأخٍ لي أصغرَ منِّي: وهذا أيضًا لو بلغ مبلغَ هذا لخيَّرتُه.
قال الشَّافعيُّ
(5)
: قال إبراهيم، عن يونس، عن عمارة، عن علي مثله،
(1)
م، ح:«آل» ، تصحيف.
(2)
في «سننه» (2/ 141) ومن طريقه حرب الكرماني في «مسائله» (ص 240). وأخرجه عبد الرزاق (12608) من طريق الثوري عن خالد الحذاء عن أبي الوليد به مختصرًا، وهو مرسل صحيح.
(3)
من هنا سقطت ورقة في ص.
(4)
في «الأم» (5/ 99)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 6)، وأخرجه عبد الرزاق (12608)، وسعيد بن منصور (2/ 141)، وابن أبي شيبة (19127)، من طرق عن يونس به، وقد رواه شعبة عن يونس عن علي بن ربيعة قال: «شهدت عليًّا
…
»، وأعله أبو حاتم في «العلل» (1197)، والصحيح ما رواه الجماعة عن يونس عن عمارة.
(5)
في «الأم» (5/ 99)، وإبراهيم هو ابن أبي يحيى، ضعيف.
وقال في الحديث: وكنتُ ابنَ سبعِ سنين أو ثمانِ سنين.
وقال يحيى القطَّان: ثنا يونس بن عبد الله الجَرْمي، حدَّثني عُمارة بن ربيعة
(1)
أنَّه خاصم فيه أمُّه وعمُّه إلى عليِّ بن أبي طالبٍ قال: فخيَّرني عليٌّ ثلاثًا، كلَّهنَّ أختار أمِّي، ومعي أخٌ لي صغيرٌ، فقال علي: هذا إذا بلغَ مبلغَ هذا خُيِّر
(2)
.
ذكر قول أبي هريرة رضي الله عنه
قال أبو خيثمة زهير بن حربٍ: ثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعدٍ، عن هلال بن أبي ميمونة [عن أبي ميمونة]، قال: شهدتُ أبا هريرة خَيَّر غلامًا بين أبيه وأمِّه، وقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيَّر غلامًا بين أبيه وأمِّه
(3)
.
فهذا ما ظَفِرتُ به عن الصَّحابة.
وأمَّا الأئمَّة، فقال حرب بن إسماعيل
(4)
: سألت إسحاق بن راهويه: إلى
(1)
كذا في النسخ ومصادر التخريج. وفي «التقريب» (4880): «عمارة بن رويبة، روى عن علي أنه خيَّره بين أمه وأبيه، مستور» .
(2)
أخرجه حرب الكرماني في «مسائله» (ص 240) وابن حزم في «المحلى» (10/ 328).
(3)
أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 326) من طريق أبي خيثمة، والزيادة منه ومن المصادر الأخرى. وأخرجه حرب الكرماني في «مسائله» (ص 240) وأبو يعلى (6131) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 4) ــ، والبزار في «مسنده» (9449) من طرق عن ابن عيينة به. والحديث روي مرفوعًا مختصرًا دون ذكر قصة تخيير أبي هريرة، وقد تقدم تخريجه.
(4)
في «مسائله» (ص 240).
متى يكون الصَّبيُّ والصَّبيَّة مع الأمِّ إذا طُلِّقت؟ قال: أحبُّ إليَّ أن يكون مع الأمِّ إلى سبع سنين، ثمَّ يُخيَّر. قلت له: أترى التَّخيير؟ قال: شديدًا. قلت: فأقلَّ من سبع سنين لا يُخيَّر؟ قال: قد قال بعضهم: خمسٌ، وأنا أحبُّ إليَّ سبعٌ.
وأمَّا مذهب الإمام أحمد
(1)
، فإمَّا أن يكون الطِّفل ذكرًا أو أنثى، فإن كان ذكرًا فإمَّا أن يكونَ ابنَ سبعٍ أو دونها، فإن كان له دونَ السَّبع فأمُّه أحقُّ بحضانته من غير تخييرٍ، وإن كان له سبعٌ ففيه ثلاث رواياتٍ:
إحداها ــ وهي الصَّحيحة المشهورة من مذهبه ــ أنَّه يُخيَّر، وهي اختيار أصحابه، فإن لم يختر واحدًا منهما أُقرِع بينهما، وكان لمن قُرِع، وإذا اختار أحدهما ثمَّ عاد فاختار الآخر نُقِل إليه، وهكذا أبدًا.
والثَّانية: أنَّ الأب أحقُّ به من غير تخييرٍ.
والثَّالثة: الأمُّ أحقُّ به
(2)
كما قبل السَّبع.
وأمَّا إذا كان أنثى فإن كان لها دونَ سبع سنين فأمُّها أحقُّ بها بغير تخييرٍ، وإن بلغتْ سبعًا فالمشهور من مذهبه أنَّ الأب
(3)
أحقُّ بها إلى تسع سنين، فإذا بلغت تسعًا فالأب أحقُّ بها بغير تخييرٍ.
وعنه روايةٌ ثالثة: أنَّ الأمَّ أحقُّ بها حتَّى تبلغ، ولو تزوَّجت الأمُّ.
(1)
انظر: «المغني» (11/ 415 وما بعدها)، و «جامع المسائل» (3/ 400 وما بعدها)، و «التمام» (2/ 186)، ورسالة في هذا الموضوع للزريراني الحنبلي مطبوعة ضمن «المجموع البهي» (2/ 618 - 632).
(2)
بعدها في د: «من غير تخيير» .
(3)
في المطبوع: «الأم» خلاف النسخ. وانظر: «المغني» (11/ 418).
وعنه روايةٌ رابعة: أنَّها تُخيَّر بعد السَّبع كالغلام، نصَّ عليها، وأكثرُ أصحابه إنَّما حكوا ذلك وجهًا في المذهب. هذا تلخيص مذهبه وتحريره.
وقال الشَّافعيُّ: الأمُّ أحقُّ بالطِّفل ذكرًا كان أو أنثى إلى أن يبلغا سبع سنين، فإذا بلغا سبعًا وهما يعقلانِ عقْلَ مثلهما خُيِّر كلٌّ منهما بين أبيه وأمِّه، وكان مع من اختار.
وقال مالك وأبو حنيفة: لا تخييرَ بحالٍ. ثمَّ اختلفا.
فقال أبو حنيفة: الأمُّ أحقُّ بالجارية حتَّى تبلغ، وبالغلامِ حتَّى يأكلَ وحده، ويشرب وحده، ويلبس وحده، ثمَّ يكونان عند الأب، ومَن سِوى الأبوين أحقُّ بهما حتَّى يستغنيا، ولا يعتبر البلوغ.
وقال مالك: الأمُّ أحقُّ بالولد ذكرًا كان أو أنثى حثى يُثْغِر
(1)
، هذه رواية ابن وهب، وروى ابن القاسم: حتَّى يبلغ، ولا يُخيَّر بحالٍ.
وقال اللَّيث بن سعدٍ: الأمُّ
(2)
أحقُّ بالابن حتَّى يبلغ ثمان سنين، وبالبنت حتَّى تبلغ، ثمَّ الأب أحقُّ بهما
(3)
بعد ذلك.
وقال الحسن بن حيٍّ: الأمُّ أولى بالبنت حتَّى تكْعُبَ ثدياها، وبالغلام حتَّى يَيْفَعَ، فيُخيَّران بعد ذلك بين أبويهما، الذَّكر والأنثى سواءٌ.
قال المخيِّرون في الغلام دون الجارية: قد ثبت التَّخيير عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في
(1)
أي يلقي ثغره وينبت ثغر جديد.
(2)
ز: «الأب» .
(3)
د، ز:«بها» .
الغلام من حديث أبي هريرة، وثبت عن الخلفاء
(1)
الرَّاشدين وأبي هريرة، ولا يُعرَف لهم مخالفٌ في الصَّحابة البتَّةَ، ولا أنكره منكرٌ.
قالوا: وهذا غايةُ العدلِ الممكن، فإنَّ الأمَّ إنَّما قُدِّمت في حال الصِّغر لحاجة الولد إلى التَّربية والحمل والرَّضاع والمداراة الَّتي لا تتهيَّأ لغير النِّساء، وإلَّا فالأمُّ أحد الأبوين، فكيف تُقدَّم عليه؟ فإذا بلغ الغلام حدًّا يُعرِب
(2)
عن نفسه، ويستغني عن الحمل والوضع وما يُعانيه النِّساء= تساوى الأبوان، وزال السَّبب الموجِب لتقديم الأمِّ، والأبوان متساويان فيه، فلا يُقدَّم
(3)
أحدهما إلا بمرجِّحٍ، والمرجِّح إمَّا من خارجٍ وهو القرعة، وإمَّا من جهة الولد وهو اختياره، وقد جاءت السُّنَّة بهذا وهذا، وقد جمعهما حديث أبي هريرة، فاعتبرناهما جميعًا، ولم ندفع أحدهما بالآخر. وقدَّمنا ما قدَّمه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأخَّرنا ما أخَّره، فقُدِّم التَّخيير لأنَّ القرعة إنَّما يُصار إليها إذا تساوت الحقوق من كلِّ وجهٍ ولم يبقَ مرجِّحٌ سواها، وهكذا فعلنا هاهنا، قدَّمنا أحدهما بالاختيار، فإن لم يَخْتَرْ أو اختارهما جميعًا عَدَلْنا إلى القرعة، فهذا لو لم يكن فيه موافقة السُّنَّة لكان من أحسن الأحكام وأعدلِها وأقطعِها للنِّزاع بتراضي المتنازعين.
وفيه وجهٌ آخر في مذهب أحمد والشَّافعيِّ، أنَّه إذا لم يختَرْ واحدًا منهما كان عند الأمِّ بلا قرعةٍ
(4)
؛ لأنَّ الحضانة كانت لها، وإنَّما ينقله عنها باختياره،
(1)
م، ح:«خلفائه» .
(2)
بعدها في المطبوع زيادة: «فيه» ، وليست في النسخ.
(3)
ص، ز:«يتقدم» .
(4)
«بلا قرعة» ليست في د، ص.
فإذا لم يختَرْ بقي عندها على ما كان.
فإن قيل: فقد قدَّمتم التَّخيير على القرعة، والحديث فيه تقديم القرعة أوَّلًا ثمَّ التَّخيير، وهذا أولى؛ لأنَّ القرعة طريقٌ شرعيٌّ للتَّقديم عند تساوي المستحقِّين، وقد تساوى الأبوان، فالقياس تقديم أحدهما بالقرعة، فإن أَبَيَا القرعة لم يبقَ إلا اختيارُ الصَّبيِّ، فيُرجَّح به، فما بالُ أصحاب أحمد والشَّافعيِّ قدَّموا التَّخيير على القرعة؟
قيل: إنَّما قُدِّم التَّخيير لاتِّفاق ألفاظ الحديث عليه، وعملِ الخلفاء الرَّاشدين به، وأمَّا القرعة فبعض الرُّواة ذكرها في الحديث
(1)
، وبعضهم لم يذكرها، وإنَّما كانت في بعض طرق حديث أبي هريرة وحده، فقدِّم التَّخيير عليها، فإذا تعذَّر القضاء بالتَّخيير تعيَّنت القرعةُ طريقًا للتَّرجيح؛ إذ لم يبقَ سواها.
ثمَّ قال المخيِّرون للغلام والجارية: روى النَّسائيُّ في «سننه» والإمام أحمد في «مسنده»
(2)
من حديث رافع بن سِنان: أنَّه تنازع هو وأمٌّ
(3)
في ابنتها، وأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقعدَه ناحيةً، وأقعدَ المرأة ناحيةً، وأقعد الصَّبيَّة بينهما، وقال: ادْعُواها، فمالت إلى أمِّها، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهمَّ اهْدِها» ، فمالت إلى أبيها فأخذَها.
قالوا: ولو لم يَرِد هذا الحديث لكان حديث أبي هريرة والآثار المتقدِّمة
(1)
د، ص:«حديث» .
(2)
تقدم تخريجه (ص 6).
(3)
في النسخ: «وأمّ أمّ» . والمثبت موافق للرواية.
حجَّةً في تخيير الأنثى؛ لأنَّ كون الطِّفل ذَكَرًا لا تأثيرَ له في الحكم، بل هي كالذَّكر في قوله صلى الله عليه وسلم:«من وَجدَ متاعَه عند رجلٍ قد أفلسَ»
(1)
، وفي قوله:«من أعتق شِرْكًا له في عبدٍ»
(2)
. بل حديث الحضانة أولى بعدم اشتراط الذُّكوريَّة فيه؛ لأنَّ لفظ الصَّبيِّ ليس من كلام الشَّارع، إنَّما الصَّحابيُّ حكى القصَّة، وأنَّها كانت في صبيٍّ، فإذا نُقِّحَ المناط تبيَّن أنَّه لا تأثير لكونه ذكرًا.
قالت الحنابلة: الكلام معكم في مقامين، أحدهما: استدلالكم بحديث رافع، والثَّاني: إلغاؤكم وصف الذُّكوريَّة في أحاديث التَّخيير.
فأمَّا الأوَّل، فالحديث قد ضعَّفه ابن المنذر وغيره، وضعَّف يحيى بن سعيدٍ والثَّوريُّ عبدَ الحميد بن جعفر. وأيضًا فقد اختُلف فيه على قولين، أحدهما: أنَّ المخيَّر كان بنتًا، وروي أنَّه كان ابنًا. فقال عبد الرزاق
(3)
: أنا سفيان، عن عثمان البتَّيِّ، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، عن جدِّه أنَّ أبويه اختصما إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أحدهما مسلمٌ والآخر كافرٌ، فتوجَّه إلى الكافر، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهمَّ اهدِه» ، فتوجَّه إلى المسلم فقضى له
(4)
به.
(1)
أخرجه أحمد (8566)، وأبو داود (3520)، وابن ماجه (2358) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند البخاري (2402) ومسلم (1559) بلفظ: «من أدرك ماله بعينه عند رجل
…
».
(2)
أخرجه البخاري (2522)، ومسلم (1501) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3)
برقم (12616)، ومن طريقه النسائي (3495)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (2352)، وتقدم كلام المؤلف عليه (ص 40).
(4)
«له» ليست في ح.
قال أبو الفرج بن الجوزيِّ
(1)
: ورواية من روى أنَّه كان غلامًا أصحُّ.
قالوا: ولو
(2)
سُلِّم لكم أنَّه كان أنثى فأنتم لا تقولون به، فإنَّ فيه أنَّ أحدهما كان مسلمًا والآخر كافرًا، فكيف تحتجُّون بما لا تقولون به؟
قالوا: وأيضًا فلو كانا مسلمين ففي الحديث أنَّ الطِّفل كان
(3)
فطيمًا، وهذا قطعًا دون السَّبع، والظَّاهر أنَّه دون الخمس، وأنتم لا تُخيِّرون من له دون السَّبع، فظهر أنَّه لا يمكنكم الاستدلالُ بحديث رافع هذا على كلِّ تقديرٍ.
بقي المقام الثَّاني، وهو إلغاء وصف الذُّكورية
(4)
في أحاديث التَّخيير وغيره
(5)
، فنقول: لا ريبَ أنَّ من الأحكام ما يكفي فيها وصف الذُّكورية أو وصف الأنوثية قطعًا، ومنها ما لا يكفي فيه، بل يُعتبر فيه إمَّا هذا وإمَّا هذا، فيُلغى الوصف في كلِّ حكمٍ تعلَّق بالنَّوع الإنسانيِّ المشترك بين الأفراد، ويعتبر وصف الذُّكورية في كلِّ موضعٍ كان له تأثيرٌ فيه، كالشَّهادة والميراث والولاية في النِّكاح، ويعتبر وصف الأنوثية في كلِّ موضعٍ يختصُّ بالإناث أو يقدَّمن فيه على الذُّكور، كالحضانة، إذا استوى في الدَّرجة
(6)
الذَّكر والأنثى قدِّمت الأنثى.
(1)
في «جامع المسانيد» (2/ 434). وعزاه إليه ابن الملقن في «البدر المنير» (8/ 318).
(2)
ح: «ولم» ، تحريف.
(3)
بعدها في ز: «دون السبع» . وليست في بقية النسخ. وستأتي.
(4)
كذا في النسخ: «الذكورية» و «الأنوثية» هنا وفيما يأتي. وفي المطبوع: «الذكورة» و «الأنوثة» .
(5)
في المطبوع: «وغيرها» خلاف النسخ.
(6)
د، ص، ز:«درجة» .
بقي النَّظر فيما نحن فيه من شأن التَّخيير، هل لوصف الذُّكورية تأثيرٌ في ذلك فيُلْحَق بالقسم الذي يُعتبر فيه، أو لا تأثير له فيُلْحَق بالقسم الذي يُلغى فيه؟ فلا سبيلَ إلى جعلها من القسم المُلغى فيه وصف الذُّكورية؛ لأنَّ التَّخيير هاهنا تخيير شهوةٍ، لا تخيير رأيٍ ومصلحةٍ؛ ولهذا إذا اختار غير من اختاره أوَّلًا نُقل إليه، فلو خُيِّرت البنت أفضى ذلك إلى أن تكون عند الأب تارةً، وعند الأمِّ أخرى، فإنَّها كلَّما شاءت الانتقال أُجِيبتْ إليه، وذلك عكس ما شُرِع للإناث من لزوم البيوت، وعدم البروز، ولزوم الخدور وراء الأستار، فلا يليق بها أن تُمكَّن من
(1)
خلاف ذلك. وإذا كان هذا الوصف معتبرًا قد شهد له الشَّرع بالاعتبار لم يمكن إلغاؤه.
قالوا: وأيضًا فإنَّ ذلك يفضي إلى أن لا يبقى الأب مُوكَّلًا بحفظها، ولا الأمُّ لتنقُّلِها بينهما، وقد عُرِف بالعادة أنَّ ما يتناوب النَّاسُ على حفظه ويتواكلون فيه فهو
(2)
إلى ضياعٍ، ومن الأمثال السَّائرة:«لا تَصلُح القِدْر بين طبَّاخَينِ»
(3)
.
قالوا: وأيضًا فالعادة شاهدةٌ بأنَّ اختيار أحدهما يُضعِف رغبة الآخر فيه بالإحسان إليه وصيانته، فإذا اختار أحدهما ثمَّ انتقل إلى الآخر لم يبقَ أحدهما تامَّ الرّغبة في حفظه والإحسان إليه.
فإن قلتم: فهذا بعينه موجودٌ في الصَّبيِّ، ولم يَمنع ذلك تخييرَه.
(1)
ح: «يمكن بين» ، تحريف.
(2)
بعدها في المطبوع: «آيل» . وليست في النسخ. والمعنى مفهوم بدونها.
(3)
ذكره شيخ الإسلام في «جامع المسائل» (3/ 417). وقد اعتمد المؤلف عليه في هذه الفقرة وما بعدها.
قلنا: صدقتم، لكن عارضه كونُ القلوب مجبولةً على حبِّ البنين واختيارِهم على البنات، فإذا اجتمع نقصُ الرَّغبة ونقصُ الأنوثية وكراهةُ البنات في الغالب= ضاعت الطِّفلة، وصارت إلى فسادٍ يَعسُر تلافيه، والواقع شاهدٌ بهذا، والفقه
(1)
تنزيل المشروع على الواقع.
وسرُّ الفرق أنَّ البنت تحتاج من الحفظ والصِّيانة فوقَ ما يحتاج إليه الصَّبيُّ؛ ولهذا شُرع في حقِّ الإناث من السِّتر والخَفر ما لم يُشرع مثله للذُّكور في اللِّباس وإرخاء الذَّيل شِبْرًا أو أكثر، وجَمْعِ نفسها في الرُّكوع والسُّجود دون التَّجافي، ولا تُرجِّع
(2)
صوتَها بقراءةٍ، ولا تَرمُل في الطَّواف، ولا تتجرَّد في الإحرام عن المَخِيط، ولا تَكشِف رأسها، ولا تسافر وحدها. هذا كلُّه مع كبرها ومعرفتها، فكيف إذا كانت في سنِّ الصِّغر وضعف العقل الذي يقبل فيه الانخداع
(3)
؟ ولا ريبَ أنَّ تردُّدها بين الأبوين ممَّا يعود على المقصود بالإبطال، أو يُخِلُّ به، أو يَنقُصه؛ لأنَّها لا تستقرُّ في مكانٍ معيَّنٍ، فكان الأصلح لها أن تُجعَل عند أحد الأبوين من غير تخييرٍ، كما قاله الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق، فتخييرها ليس منصوصًا عليه، ولا هو في معناه فيُلْحَق به.
ثمَّ هاهنا حصل الاجتهاد في تعيين أحد الأبوين لمقامها عنده وأيُّهما أصلح لها، فمالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الرِّوايتين عنه عيَّنوا الأمَّ،
(1)
ح: «والقصة» ، تحريف.
(2)
في المطبوع: «ولا ترفع» خلاف النسخ.
(3)
النسخ: «الانخلاع» ، ولا معنى له هنا. وسيأتي بعد صفحتين مثل ما أثبتناه.
وهو الصَّحيح دليلًا، وأحمد في المشهور عنه وعامَّة
(1)
أصحابه عيَّنوا الأب.
قال من رجَّح الأمَّ: قد جرت العادة بأنَّ الأب يتصرَّف في المعاش والخروج ولقاء النَّاس، والأمُّ في خِدْرها مقصورةٌ في بيتها، فالبنت عندها أصْونُ وأحفظُ بلا شكٍّ، وعينُها عليها دائمًا بخلاف الأب، فإنَّه في غالب الأوقات غائبٌ عن البيت
(2)
أو في مظنَّة ذلك، فجعلُها عند أمِّها أصْوَنُ لها وأحفظ.
قالوا: وكلُّ مفسدةٍ يَعرِض وجودُها عند الأمِّ فإنَّها تَعرِض أو أكثر منها عند الأب، فإنَّه إن تركها في البيت وحدها لم يأمن عليها، وإن تركها عند امرأته أو غيرها فالأمُّ أشفقُ عليها وأصونُ لها من الأجنبيَّة.
قالوا: وأيضًا فهي محتاجةٌ إلى تعلُّم ما يصلح للنِّساء من الغَزْل والقيام بمصالح البيت، وهذا إنَّما تقوم به النِّساء لا الرِّجال، فهي أحوجُ إلى أمِّها لتعلِّمها ما يصلُح للمرأة، وفي دفعها إلى أبيها تعطيلُ هذه المصلحة، أو إسلامُها إلى امرأةٍ أجنبيَّةٍ تُعلِّمها ذلك، أو ترديدُها بين الأمِّ وبينه، وفي ذلك تمرينٌ لها على البروز والخروج، فمصلحة البنت والأمِّ والأب أن تكون عند أمِّها. وهذا القول هو الذي لا نختار سواه.
قال من رجَّح الأب: الرِّجال أغْيرُ على البنات من النِّساء، فلا تستوي غيرة الرَّجل على ابنته وغيرة الأمِّ أبدًا، وكم من أمٍّ تُساعد ابنتَها على ما تهواه، ويَحمِلُها على ذلك ضعفُ عقلها، وسرعةُ انخداعها، وضعفُ داعي الغيرة
(1)
م: «واختيار عامة» .
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «البنت» .
في طبعها، بخلاف الأب؛ ولهذا المعنى وغيره جعل الشَّارع تزويجَها إلى أبيها دون أمِّها، ولم يجعل لأمِّها ولايةً على بُضْعها البتَّةَ، ولا على مالها، فكان من محاسن الشَّريعة أن تكون عند أمِّها ما دامت محتاجةً إلى الحضانة والتَّربية، فإذا بلغت حدًّا تُشتهى فيه وتَصلُح للرِّجال فمن محاسن الشَّريعة أن تكون عند من هو أغيرُ عليها، وأحرصُ على مصلحتها، وأصونُ لها من الأمِّ.
قالوا: ونحن نرى في طبيعة الأب وغيره من الرِّجال من الغيرة ــ ولو مع فسقه وفجوره ــ ما يحمله على قتل ابنته وأخته ومَولِيَّتِه إذا رأى منها ما يَرِيْبُه لشدَّة الغيرة، ونرى في طبيعة النِّساء من الانحلال والانخداع ضدَّ ذلك. قالوا: فهذا هو الغالب على النَّوعين، ولا عبرةَ بما خرج عن الغالب.
على أنَّا إذا قدَّمنا أحد الأبوين فلا بدَّ أن نراعي صيانتَه وحفظَه للطِّفل؛ ولهذا قال مالك والليث: إذا لم تكن الأمُّ في موضع حرزٍ وتحصينٍ، أو كانت غيرَ مرضيَّةٍ، فللأب أخذ البنت منها. وكذلك الإمام أحمد في الرِّواية المشهورة عنه، فإنَّه يعتبر قدرته على الحفظ والصِّيانة. فإن كان مُهْمِلًا لذلك، أو عاجزًا عنه، أو غيرَ مرضيٍّ، أو ذا دِياثةٍ، والأمُّ بخلافه= فهي أحقُّ بالبنت بلا ريبٍ، فمن قدَّمناه بتخييرٍ أو قرعةٍ أو بنفسه فإنَّما نقدِّمه إذا حصلت به مصلحة الولد، ولو كانت الأمُّ أصْوَنَ من الأب وأغْيَرَ
(1)
منه قُدِّمت عليه، ولا التفاتَ إلى قرعةٍ ولا اختيار الصَّبيِّ في هذه الحال، فإنَّه ضعيف العقل يُؤثِر البطالة واللَّعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك لم يُلتفَت إلى اختياره،
(1)
د، ص، ز:«أو أغير» .
وكان عند من هو أنفع له وخير، ولا تحتمل الشَّريعة غير هذا. والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد قال:«مُرُوهم بالصَّلاة لسبعٍ، واضرِبوهم على تَرْكِها لعشرٍ، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع»
(1)
. والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، قال الحسن
(2)
: علِّموهم وأدِّبوهم وفقِّهوهم. فإذا كانت الأمُّ تتركه في المكتب، وتُعلِّمه القرآن، والصَّبيُّ يُؤثِر اللَّعب ومعاشرةَ أقرانه، وأبوه يُمكِّنه من ذلك، فأمُّه
(3)
أحقُّ به، فلا تخييرَ ولا قرعةَ، وكذلك العكس، ومتى أخلَّ أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصَّبيِّ وعطَّله، والآخر مُراعٍ له، فهو أحقُّ وأولى به.
وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول: تنازع أبوان صبيًّا عند بعض الحكَّام، فخيَّره بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمُّه: سَلْه لأيِّ شيءٍ يختار أباه، فسأله فقال: أمِّي تبعثني كلَّ يومٍ إلى الكُتَّاب، ويضربني الفقيه، وأبي يتركني ألعبُ مع الصِّبيان، فقضى به للأمِّ، وقال: أنتِ أحقُّ به.
قال شيخنا
(4)
: وإذا ترك أحد الأبوين تعليمَ الصَّبيِّ وأَمْرَه الذي أوجبه الله عليه، فهو عاصٍ، ولا ولايةَ له عليه، بل كلُّ من لم يقُمْ بالواجب في ولايته فلا ولاية له، بل إمَّا أن يُرفَع يده عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب، وإمَّا أن
(1)
أخرجه أحمد (6689) وأبو داود (495، 496) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وإسناده حسن.
(2)
لم أجده. وروى الطبري في «تفسيره» (23/ 103) والحاكم في «المستدرك» (2/ 494) عن علي بنحوه.
(3)
في المطبوع: «فإنه» ، تحريف يفسد المعنى.
(4)
«جامع المسائل» (3/ 421).
يُضمَّ إليه من يقوم معه بالواجب؛ إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان.
قال شيخنا
(1)
: وليس هذا الحقُّ من جنس الميراث الذي يحصل بالرَّحم والنِّكاح والولاء، سواءٌ كان الوارث فاسقًا أو صالحًا، بل هذا من جنس الولاية الَّتي لا بدَّ فيها من القدرة على الواجب، والعلم به، وفعله بحسب الإمكان.
قال: فلو قُدِّر أنَّ الأب تزوَّج امرأةً لا تُراعي مصلحةَ ابنته ولا تقوم بها، وأمُّها أقومُ بمصلحتها من تلك الضَّرَّة، فالحضانة هنا للأمِّ قطعًا.
قال: وممَّا ينبغي أن يُعلم أنَّ الشَّارع ليس عنه نصٌّ عامٌّ في تقديم أحدِ الأبوين مطلقًا، ولا تخييرِ الولد بين الأبوين مطلقًا، والعلماء متَّفقون على أنَّه لا يتعيَّن أحدهما مطلقًا، بل لا يُقدَّم ذو العدوان والتَّفريط على البرِّ العادل المحسن، والله أعلم.
قالت الحنفيَّة والمالكيَّة: الكلام معكم في مقامين، أحدهما: بيان الدَّليل الدَّالِّ على بطلان التَّخيير، والثَّاني: بيان عدم الدَّلالة في الأحاديث الَّتي استدللتم بها على التَّخيير.
فأمَّا الأوَّل: فيدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «أنتِ أحقُّ به» ، ولم يخيِّره.
وأمَّا المقام الثَّاني: فما رويتم من أحاديث
(2)
التَّخيير مطلقةٌ لا تقييدَ فيها، وأنتم لا تقولون بها على إطلاقها، بل قيَّدتم التَّخيير بالسَّبع فما فوقها،
(1)
المصدر نفسه. والكلام متصل.
(2)
«من أحاديث» ساقطة من م.
وليس في شيءٍ من الأحاديث ما يدلُّ على ذلك. ونحن نقول
(1)
: إذا صار للغلام اختيارٌ معتبرٌ خيِّر بين أبويه، وإنَّما يُعتبر اختياره إذا اعتُبِر قوله، وذلك بعد البلوغ، وليس تقييدكم وقتَ التَّخيير بالسَّبع أولى من تقييدنا بالبلوغ، بل التَّرجيح من جانبنا؛ لأنَّه حينئذٍ يُعتَبر قوله. ويدلُّ عليه قولها:«وقد سَقاني من بئر أبي عِنَبة» ، وهي على أميالٍ من المدينة
(2)
، وغير البالغ لا يتأتَّى منه عادةً أن يحمل الماء من هذه المسافة ويستقي من البئر. سلَّمنا أنَّه ليس في الحديث ما يدلُّ على البلوغ، فليس فيه ما ينفيه، والواقعة واقعةُ عينٍ، وليس عن الشَّارع نصٌّ عامٌّ في تخيير من هو دون البلوغ حتَّى يجب المصير إليه. سلَّمنا أنَّ فيه ما ينفي البلوغ، فمن أين فيه ما يقتضي التَّقييدَ بسبعٍ كما قلتم؟
قالت الشَّافعيَّة والحنابلة ومن قال بالتَّخيير: لا يتأتَّى لكم الاحتجاجُ بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي» بوجهٍ من الوجوه، فإنَّ منكم من يقول: إذا استغنى بنفسه، وأكل بنفسه، وشرب بنفسه، فالأب أحقُّ به بغير تخييرٍ، ومنكم من يقول: إذا أَثْغَر
(3)
فالأب أحقُّ به.
فنقول: فالنَّبي صلى الله عليه وسلم قد حكم لها به ما لم تنكح، ولم يُفرِّق بين أن تنكح قبل بلوغ الصَّبيِّ السِّنَّ الذي يكون عنده أو بعدها
(4)
، وحينئذٍ فالجواب يكون مشتركًا بيننا وبينكم، ونحن فيه على سواءٍ، فما أجبتم به أجاب به منازعوكم سواء، فإن أضمرتم أضمروا، وإن قيَّدتم قيَّدوا، وإن خصَّصتم خصَّصوا.
(1)
«نقول» ليست في د.
(2)
في «معجم البلدان» (1/ 301): «بينها وبين المدينة مقدار ميل» .
(3)
م، ح:«إذا تغير» ، تصحيف.
(4)
د: «أو عندها» .
وإذا تبيَّن هذا فنقول: الحديث اقتضى أمرين:
أحدهما: أنَّها لا حقَّ لها في الولد بعد النِّكاح.
والثَّاني: أنَّها أحقُّ به ما لم تنكح، وكونها أحقَّ به له حالتان، إحداهما: أن يكون الولد صغيرًا لم يميِّز، فهي أحقُّ به مطلقًا من غير تخييرٍ. الثَّاني: أن يبلغ سنَّ التَّمييز، فهي أحقُّ به أيضًا، ولكنَّ هذه الأولويَّة مشروطةٌ بشرطٍ، والحكم إذا عُلِّق بشرطٍ صدق إطلاقه اعتمادًا على تقرير الشَّرط، وحينئذٍ فهي أحقُّ به بشرط اختياره لها، وغاية هذا أنَّه تقييدٌ للمطلق بالأدلَّة الدَّالَّة على التخيير. ولو حُمِل على إطلاقه ــ وليس بممكنٍ البتَّةَ ــ لاستلزمَ
(1)
ذلك إبطالَ أحاديث التَّخيير.
وأيضًا فإذا كنتم قد قيَّدتموه بأنَّها أحقُّ به إذا كانت مقيمةً وكانت حرَّةً ورشيدةً وغير ذلك من القيود الَّتي لا ذِكْرَ لشيءٍ منها في الأحاديث البتَّةَ= فتقييده بالاختيار الذي دلَّت عليه السُّنَّة واتَّفق عليه الصَّحابة أولى.
وأمَّا حَمْلُكم أحاديثَ التَّخيير على ما بعد البلوغ، فلا يصحُّ لخمسة أوجهٍ:
أحدها: أنَّ لفظ الحديث أنَّه خيَّر غلامًا بين أبويه، وحقيقة الغلام من لم يبلغ، فحملُه على البالغ إخراجٌ له عن حقيقته إلى مجازه بغير مُوجِبٍ ولا قرينةٍ صارفةٍ.
الثَّاني: أنَّ البالغ لا حضانةَ عليه، فكيف يصحُّ أن يُخيَّر ابنُ أربعين سنةً بين أبويه؟ هذا من الممتنع شرعًا وعادةً، فلا يجوز حملُ الحديث عليه.
(1)
د، ز:«يستلزم» .
الثَّالث: أنَّه لم يفهم أحدٌ من السَّامعين أنَّهم تنازعوا في رجلٍ كبيرٍ بالغٍ عاقلٍ، وأنَّه خُيِّر بين أبويه، ولا يَسبِق إلى هذا فهمُ أحدٍ البتَّةَ، ولو فُرِض تخييره لكان بين ثلاثة أشياء: الأبوين، والانفراد بنفسه.
الرَّابع: أنَّه لا يُعقَل في العادة ولا العرف ولا الشَّرع أن يتنازع الأبوان في رجلٍ كبيرٍ بالغٍ عاقلٍ، كما لا يُعقَل في الشَّرع تخييرُ من هذه حالُه بين أبويه.
الخامس: أنَّ في بعض ألفاظ الحديث أنَّ الولد كان صغيرًا لم يبلغ، ذكره النَّسائيُّ
(1)
، وهو حديث رافع بن سِنان، وفيه: فجاء ابنٌ لها صغيرٌ لم يبلغ، فأجلس النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الأبَ هاهنا والأمَّ هاهنا، ثمَّ خيَّره.
وأمَّا قولكم: إنَّ بئر أبي عِنَبةَ على أميالٍ من المدينة، فجوابه: بمطالبتِكم أوَّلًا بصحَّة هذا الحديث ومن ذكره، وثانيًا: بأنَّ مسكنَ هذه المرأة كان بعيدًا من البئر، وثالثًا: بأنَّ من له نحو العشر سنين لا يُمكِنُه أن يستقي من البئر المذكورة عادةً، وكلُّ هذا ممَّا لا سبيلَ إليه، فإنَّ العرب وأهل البوادي يستقي أولادهم الصِّغار من آبارٍ هي أبعدُ من ذلك.
وأمَّا تقييدنا له بالسَّبع، فلا ريب أنَّ الحديث لا يقتضي ذلك، ولا هو أمرٌ مجمعٌ عليه، فإنَّ للمخيِّرين قولين:
أحدهما: أنَّه يُخيَّر لخمسٍ، حكاه إسحاق بن راهويه، ذكره عنه حرب في «مسائله»
(2)
. ويُحتَجُّ لهؤلاء بأنَّ الخمس هي السِّنُّ الَّتي يصحُّ فيها سماع
(1)
برقم (3495).
(2)
(ص 240).
الصَّبيِّ، ويمكن أن يَعقِل فيها، وقد قال محمود بن لبيد
(1)
: عَقَلتُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّها في فيَّ وأنا ابنُ خمسِ سنين
(2)
.
والقول الثَّاني: إنَّه إنَّما يُخيَّر لسبعٍ، وهو قول الشَّافعيِّ وأحمد وإسحاق، ويُحتجَ لهذا القول بأنَّ التَّخيير يستدعي التَّمييز والفهم، ولا ضابطَ له في الأطفال، فضُبِط بمَظِنَّته وهي السَّبع، فإنَّها أوَّل سنِّ التَّمييز؛ ولهذا جعلها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حدًّا للوقت الذي يؤمر فيه
(3)
بالصِّلاة.
وقولكم: إنَّ الأحاديث وقائعُ أعيانٍ، فنعم هي كذلك، ولكن يمتنع حملُها على تخيير الرِّجال البالغين كما تقدَّم. وفي بعضها لفظ «غلام» ، وفي بعضها «صغيرٌ لم يبلغ» ، وباللَّه التَّوفيق.
فصل
وأمَّا قصَّة بنت حمزة، واختصام علي وزيد وجعفر فيها، وحُكْم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها لجعفر، فإنَّ هذه الحكومة كانت عقيبَ فراغهم من عمرة القضاء، فإنَّهم لمَّا خرجوا من مكَّة تبِعتْهم ابنةُ حمزة تنادي: يا عمّ يا عمّ، فأخذ عليٌّ
(1)
كذا في النسخ، والصواب:«محمود بن الربيع» كما في مصادر التخريج. وفي «الإصابة» (10/ 68): ذكر ابن خزيمة أن محمود بن الربيع هو محمود بن لبيد، وأنه محمود بن الربيع بن لبيد، نُسِب لجدّه. وفيه بُعدٌ، ولاسيما ومحمود بن لبيد أشهلي من الأوس، ومحمود بن الربيع خزرجي.
(2)
أخرجه البخاري (77)، ومسلم (1/ 456 رقم 33)، ولكنه عند مسلم دون زيادة:«وأنا ابن خمس سنين» .
(3)
بعدها في المطبوع: «الصبي» . وليست في النسخ.
بيدها، ثمَّ تنازع فيها هو وجعفر وزيد، وذكر كلُّ واحدٍ من الثَّلاثة ترجيحًا، فذكر زيد أنَّها ابنة أخيه للمؤاخاة الَّتي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة، وذكر عليٌّ كونَها ابنةَ عمِّه، وذكر جعفر مرجِّحين: القرابة، وكون خالتها عنده، فتكون عند خالتها، فاعتبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مرجِّحَ جعفر دون المرجِّحين الآخرين، فحكم له، وجَبَرَ كلَّ واحدٍ منهم وطيَّب قلبه بما هو أحبُّ إليه من أخذ البنت.
فأمَّا مرجِّح المؤاخاة فليس بمقتضٍ للحضانة، ولكن زيد كان وصيَّ حمزة، وكان الإخاء حينئذٍ يثبت به التَّوارث، فظنَّ زيد أنَّه أحقُّ بها لذلك.
وأمَّا مرجِّح القرابة هاهنا وهي بنوَّة العمِّ، فهل يستحقُّ بها الحضانة؟ على قولين:
أحدهما: يستحقُّ بها وهو منصوص الشَّافعيِّ، وقول مالك وأحمد وغيرهم لأنَّه عصبةٌ، وله ولايةٌ بالقرابة
(1)
، فقُدِّم على الأجانب كما يُقدَّم عليهم في الميراث وولاية النِّكاح وولاية الموت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على جعفر وعلي ادِّعاءهما حضانتَها
(2)
، ولو لم يكن لهما ذلك لأنكر عليهما الدَّعوى الباطلة، فإنَّها دعوى ما ليس لهما، وهو لا يُقِرُّ على باطلٍ.
والقول الثَّاني: أنَّه لا حضانةَ لأحدٍ من الرِّجال سوى الآباء والأجداد، وهذا قول بعض أصحاب الشَّافعيِّ، وهو مخالفٌ لنصِّه وللدَّليل.
فعلى قول الجمهور ــ وهو الصَّواب ــ إذا كان الطِّفل أنثى، وكان ابن
(1)
«بالقرابة» ليست في ح.
(2)
د، ص:«حضانتهما» .
العمِّ مَحْرمًا لها برضاعٍ أو نحوه= كان له حضانتها وإن جاوزتِ السَّبعَ، وإن لم يكن مَحْرمًا فله حضانتها صغيرةً حتَّى تبلغ سبعًا، فلا يبقى له حضانتُها، بل تُسلَّم إلى مَحْرمها أو امرأة ثقةٍ. وقال أبو البركات في «محرَّره»
(1)
: لا حضانة له ما لم يكن محرمًا برضاعٍ أو نحوه.
فإن قيل: فالحكم بالحضانة من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذه القصَّة هل وقع للخالة أو لجعفر؟
قيل: هذا ممَّا اختُلِف فيه على قولين، منشؤهما اختلاف ألفاظ الحديث في ذلك، ففي «صحيح البخاريِّ»
(2)
من حديث البراء: فقضى بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لخالتها.
وعند أبي داود
(3)
من حديث نافع
(4)
بن عُجَير، عن أبيه
(5)
، عن علي
(1)
(2/ 120).
(2)
برقم (2699) وتقدم (ص 5).
(3)
برقم (2278). وأخرجه البزار في «مسنده» (891)، ومن طريقه ابن حزم في «المحلى» (10/ 326) من طريق عبد الملك بن عمرو عن عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن نافع به، وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 249) من طريق الأويسي مختصرًا، والحاكم (3/ 232)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 10) من طريق إبراهيم بن حمزة عن عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد عن محمد بن نافع بن عجير به. وصحح البيهقي هذا الوجه عقب إخراجه، ومحمد بن نافع مجهول، وللحديث شواهد يتقوى بها، وقد صححه الألباني في «صحيح أبي داود- الأم» (7/ 47).
(4)
في المطبوع: «رافع» ، تحريف.
(5)
بعدها في ز: «عن جده» ، خطأ.
في هذه القصَّة: «وأمَّا الجارية فأَقْضِي
(1)
بها لجعفر تكون مع خالتها، وإنَّما الخالة أمٌّ». ثمَّ ساقه
(2)
من طريق عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، وقال:«قضى بها لجعفر؛ لأنَّ خالتها عنده» . ثمَّ ساقه
(3)
من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ وهُبَيرة بن يَرِيم
(4)
، وقال: فقضى بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال:«الخالةُ بمنزلة الأمِّ» .
واستشكل كثيرٌ من الفقهاء هذا وهذا، فإنَّ القضاء إن كان لجعفر فليس محرمًا لها، وهو وعلي سواءٌ في القرابة منها، وإن كان للخالة فهي مزوَّجةٌ، والحاضنة إذا تزوَّجت سقطت حضانتها. ولمَّا ضاق هذا على ابن حزمٍ طعن في القصَّة بجميع طرقها، وقال
(5)
: أمَّا حديث البخاريِّ فمن رواية إسرائيل، وهو ضعيفٌ. وأمَّا حديث هانئ وهُبيرة فمجهولان. وأمَّا حديث ابن أبي ليلى فمرسلٌ، وأبو فروة الرَّاوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف. وأمَّا حديث نافع بن عُجَير فهو وأبوه مجهولان، ولا حجَّة في مجهولٍ. قال
(6)
: إلا أنَّ هذا الخبر بكلِّ وجهٍ حجَّةٌ على الحنفيين والمالكيين والشافعيين؛ لأنَّ خالتها كانت مزوَّجةً بجعفر، وهو أجمل شابٍّ في قريشٍ،
(1)
د، ص، ز:«فقضى» . والمثبت من م موافق للرواية.
(2)
برقم (2279).
(3)
برقم (2280).
(4)
م: «مريم» ، تحريف.
(5)
في «المحلى» (10/ 326).
(6)
في المصدر نفسه، والكلام متصل بما قبله.
وليس هو ذا محرمٍ
(1)
من بنت حمزة. قال: ونحن لا ننكر قضاءه بها لجعفر من أجل خالتها؛ لأنَّ ذلك أحفظُ لها.
قلت: وهذا من تهوُّره رحمه الله وإقدامِه على تضعيف ما اتفق النَّاس على صحَّته، فخالفهم وحدَه، فإنَّ هذه القصَّة شهرتها في الصِّحاح والسُّنن والمساند والسِّير والتَّواريخ تُغنِي عن إسنادها، فكيف وقد اتَّفق عليها صاحبا الصَّحيح، ولم يُحفظ عن أحدٍ قبله الطَّعنُ فيها البتَّةَ.
وقوله: إسرائيل ضعيفٌ، فالَّذي غرَّه في ذلك تضعيفُ عليِّ بن المدينيِّ له، ولكن أبى ذلك سائر أهل الحديث، واحتجُّوا به، ووثَّقوه وثبَّتوه
(2)
. قال أحمد: ثقةٌ، وتعجَّب من حفظه، وقال أبو حاتم: هو من أتقن أصحاب أبي إسحاق، ولا سيَّما قد روى هذا الحديث عن أبي إسحاق، وكان يحفظ حديثه كما يحفظ السُّورة من القرآن، وروى له الجماعة كلُّهم محتجِّين به.
وأمَّا قوله: إنَّ هانئًا وهُبيرةَ مجهولان، فنعم مجهولان عنده، معروفان عند أهل السُّنن، ووثَّقهما الحفَّاظ، فقال النَّسائيُّ: هانئ بن هانئ ليس به بأسٌ، وهبيرة روى له أهل السُّنن الأربعة وقد وثِّق
(3)
.
وأمَّا قوله: حديث ابن أبي ليلى مرسل، وأبو فروة الرَّاوي عنه مسلم بن مسلم
(4)
الجهني ليس بالمعروف، فالتَّعليلان باطلان؛ فإنَّ عبد الرَّحمن بن
(1)
ح، د:«ذا رحم» .
(2)
انظر: «تهذيب التهذيب» (1/ 261) و «ميزان الاعتدال» (1/ 208).
(3)
انظر: «التهذيب» (11/ 22).
(4)
كذا في النسخ والمطبوع، والصواب «مسلم بن سالم» كما سبق، وسيأتي.
أبي ليلى روى عن علي غيرَ حديثٍ، وعن عمر ومعاذ. والَّذي غرَّ أبا محمد أنَّ أبا داود
(1)
قال: حدَّثنا محمد بن عيسى، ثنا سفيان، عن أبي فروة، عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر. وظنَّ أبو محمد أنَّ عبد الرحمن لم يذكر عليًّا في الرِّواية، فرماه بالإرسال، وذلك من وهمه، فإنَّ ابن أبي ليلى روى القصَّة عن علي، فاختصر أبو داود ذِكرَ مكان الاحتجاج، وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرَّحمن بن أبي ليلى عن علي. وهذه القصَّة قد رواها علي، وسمعها منه أصحابه: هانئ بن هانئ، وهُبيرة بن يَرِيم
(2)
، وعُجَير بن عبد يزيد
(3)
، وعبد الرَّحمن بن أبي ليلى
(4)
، فذكر أبو داود أحاديث الثَّلاثة الأوَّلين لسياقهم لها بتمامها، وأشار إلى حديث ابن أبي ليلى لأنَّه لم يُتِمَّه، وذكر السَّند منه إليه، فبطل الإرسال.
ثمَّ رأيت أبا بكرٍ الإسماعيليَّ قد روى هذا الحديث في مسند عليٍّ
(5)
مصرِّحًا فيه بالاتِّصال، فقال: أخبرنا الهيثم بن خلفٍ، ثنا عثمان بن سعيد المقرئ، ثنا يوسف بن عديٍّ، ثنا سفيان، عن أبي فروة، عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، عن علي أنَّه اختصم هو وجعفر وزيد، وذكر الحديث.
وأمَّا قوله: إنَّ أبا فروة ليس بالمعروف، فقد عرفه سفيان بن عيينة
(1)
برقم (2279).
(2)
عنهما في «سنن أبي داود» (2280)، و «مسند أحمد» (770).
(3)
«سنن أبي داود» (2278)، و «مسند البزار» (891).
(4)
«سنن أبي داود» (2279)، و «شرح مشكل الآثار» (8/ 92).
(5)
وأخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (8/ 92) من طريق شيخه يحيى بن عثمان قال: حدثنا يوسف بن عدي به.
وغيره، وخرَّجا له في الصَّحيحين
(1)
.
وأمَّا رميه نافع بن عُجَير وأباه بالجهالة، فنعم، ولا يُعرَف حالهما، وليسا من المشهورين بنقل العلم
(2)
، وإن كان نافعٌ أشهرَ من أبيه؛ لرواية ثقتين عنه: محمَّد بن إبراهيم التَّيمي
(3)
، وعبد الله بن علي، فليس الاعتماد على روايتهما، وباللَّه التَّوفيق. فثبتَ صحَّة الحديث.
وأمَّا الجواب عن استشكال من استشكله، فنقول وباللَّه التَّوفيق: لا إشكال، سواءٌ كان القضاء لجعفر أو للخالة، فإنَّ ابنة العمِّ إذا لم يكن لها قرابةٌ سوى ابنِ عمِّها جاز أن تُجعَل مع امرأته في بيته، بل يتعيَّن ذلك، وهو أولى من الأجنبيِّ، لا سيَّما إن كان ابنُ العمِّ مبرِّزًا في الدِّيانة والعفَّة والصِّيانة، فإنَّه في هذه الحال أولى من الأجانب بلا ريبٍ.
فإن قيل: فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كان ابن عمِّها، وكان مَحْرمًا لها؛ لأنَّ حمزة كان أخاه من الرَّضاعة، فهلَّا أخذها هو؟
قيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في شُغلٍ شاغلٍ بأعباء الرِّسالة، وتبليغ الوحي، والدَّعوة إلى اللَّه، وجهاد أعداء الله= عن فراغه للحضانة، فلو أخذها لدفعها إلى بعض
(4)
نسائه، فخالتها أمسُّ بها رَحِمًا وأقربُ.
وأيضًا فإنَّ المرأة من نسائه لم تكن تَجيئُها النَّوبةُ إلا بعد تسع ليالٍ، فإن
(1)
انظر: «تهذيب التهذيب» (10/ 130، 131).
(2)
انظر: «تهذيب التهذيب» (10/ 408، 7/ 162).
(3)
في المطبوع: «التميمي» ، خطأ.
(4)
د، ص، ز:«لبعض» .
دارت الصَّبيَّة معه حيث دار كان مشقَّةً عليها، وكان فيه من بروزها وظهورها كلَّ وقتٍ ما لا يخفى، وإن جلست في بيت إحداهنَّ كانت لها الحضانة وهي أجنبيَّةٌ.
هذا إن كان القضاء لجعفر. وإن كان للخالة ــ وهو الصَّحيح، وعليه يدلُّ الحديث الصَّحيح الصَّريح ــ فلا إشكال؛ لوجوهٍ:
أحدها: أنَّ نكاح الحاضنة لا يُسقِط حضانة البنت، كما هو إحدى الرِّوايتين عن أحمد، وأحد قولي العلماء. وحجته هذا الحديث، وقد تقدَّم سرُّ الفرق بين الذَّكر والأنثى.
الثَّاني: أنَّ نكاحها قريبًا من الطِّفل لا يُسقِط حضانتها، وجعفر ابن عمِّها.
الثَّالث: أنَّ الزَّوج إذا رضي بالحضانة وآثرَ كونَ الطِّفل عنده في حجره لم تسقط الحضانة. هذا هو الصَّحيح، وهو مبنيٌّ على أصلٍ، وهو أنَّ سقوط الحضانة بالنِّكاح هو مراعاةٌ لحقِّ الزَّوج، فإنَّه ينتقص
(1)
عليه الاستمتاع المطلوب من المرأة لحضانتها ولدَ غيره، ويتنكَّد عليه عيشُه مع المرأة، ولا يُؤمَن أن يحصل بينهما خلافُ المودَّة والرَّحمة؛ ولهذا للزَّوج أن يمنعها من هذا مع اشتغالها هي بحقوق الزَّوج، فتضيع مصلحة الطِّفل. فإذا آثرَ الزَّوجُ ذلك، وطلبه وحَرَصَ عليه، زالت المفسدة الَّتي لأجلها سقطت الحضانة، والمقتضي قائمٌ، فتَرتَّب عليه أثره.
يُوضِّحه أنَّ سقوط الحضانة بالنِّكاح ليست حقًّا للَّه، وإنَّما هي حقٌّ للزَّوج وللطِّفل وأقاربِه، فإذا رضي من له الحقُّ جاز. فزال الإشكال على كلِّ
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «يتنغّص» .
تقديرٍ، وظهر أنَّ هذا الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الأحكام وأوضحها، وأشدِّها موافقةً للمصلحة والحكمة والرَّحمة والعدل، وباللَّه التَّوفيق.
فهذه ثلاثة
(1)
مدارِكَ في الحديث للفقهاء:
أحدها: أنَّ نكاح الحاضنة لا يُسقِط حضانتها، كما قاله الحسن البصريُّ، وقضى به يحيى بن حمزة، وهو مذهب أبي محمد ابن حزم
(2)
.
والثَّاني: أنَّ نكاحها لا يُسقِط حضانة البنت، ويُسقِط حضانة الابن، كما قاله أحمد في إحدى روايتيه.
والثَّالث: أنَّ نكاحها لقريب الطِّفل لا يُسقِط حضانتها، ونكاحها للأجنبيِّ يُسقِطها، كما هو المشهور من مذهب أحمد.
وفيه مدركٌ رابعٌ لمحمَّد بن جريرٍ الطَّبريِّ، وهو أنَّ الحاضنة إن كانت أمًّا والمنازع لها الأب سقطت حضانتها بالتَّزويج، وإن كانت خالةً أو غيرها من نساء الحضانة لم تسقط حضانتها بالتَّزويج، وكذلك إن كانت أمًّا والمنازع لها
(3)
غير الأب من أقارب الطِّفل لم تسقط حضانتها.
ونحن نذكر كلامه وما له وعليه فيه، قال في «تهذيب الآثار»
(4)
بعد ذكر حديث ابنة حمزة: فيه الدَّلالة الواضحة على أنَّ قيِّم الصَّبيَّة الصَّغيرة والطِّفل
(1)
ص، ز:«ثلاث» .
(2)
في «المحلى» (10/ 325).
(3)
«لها» ليست في د.
(4)
لم أجد هذا النص في الأجزاء المطبوعة منه.
الصَّغير من كان من قرابتهما من قِبَلِ أمَّهاتهما من النِّساء أحقُّ بحضانتهما من عصباتهما من قبل الأب، وإن كانت وكُنَّ ذواتِ أزواجٍ غير الأب الذي هما منه. وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها في الحضانة، وقد تنازع فيها ابنا عمِّها علي وجعفر ومولاها وأخو أبيها الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبينه، وخالتها يومئذٍ لها زوجٌ غير أبيها
(1)
، وذلك بعد مقتل حمزة، وكان معلومًا بذلك صحَّة قول من قال: لا حقَّ لعصبة الصَّغير والصَّغيرة من قِبَلِ الأب في حضانته ما لم يبلغ حدَّ الاختيار، بل قرابتهما من النِّساء من قِبَلِ أمِّهما أحقُّ، وإن كنَّ ذواتِ أزواجٍ.
فإن قال قائلٌ: فإن كان الأمر في ذلك عندك على ما وصفتَ من أنَّ أمَّ الصَّغير والصَّغيرة وقرابتهما من النِّساء من قبل أمَّهاتهما أحقُّ بحضانتهما، وإن كنَّ ذواتِ أزواجٍ من قرابتهما من قبل الأب من الرِّجال الذين هم عصبتهما، فهلَّا كانت الأمُّ ذات الزَّوج كذلك مع والدهما الأدنى والأبعد، كما كانت الخالة أحقَّ بهما وإن كان لها زوجٌ غير أبيهما؟ وإلَّا فما الفرق؟
قيل: الفرق بينهما واضحٌ، وذلك لقيام الحجَّة بالنَّقل المستفيض وراثةً
(2)
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ الأمَّ أحقُّ بحضانة الأطفال إذا كانت بانت من والدهما، ما لم تنكح زوجًا غيره، ولم يخالف في ذلك من يجوز الاعتراض به على الحجَّة فيما نعلمه. وقد رُوِي في ذلك خبرٌ، وإن كان في إسناده نظرٌ، فإنَّ النَّقل الذي وصفتُ أمرَه دالٌّ على صحَّته، وإن كان واهيَ السَّند.
(1)
في النسخ: «غير أمها» ، خطأ. وسيأتي على الصواب.
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «روايته» .
ثمَّ ساق حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه: «أنتِ أحقُّ به ما لم تَنْكِحي» من طريق المثنّى بن الصبَّاح عنه
(1)
.
ثمَّ قال: وأمَّا إذا نازعها فيه عصبةُ أبيه، فصحَّة الخبر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا أنَّه جعل الخالة ــ ذاتَ الزَّوج غيرِ أبي الصَّبيَّة ــ أحقَّ بها من بني عمِّها وهم عصبتها، فكانت الأمُّ أحقَّ بأن تكون أولى منهم وإن كان لها زوجٌ غيرُ أبيها؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما جعل الخالة أولى منهم لقرابتها من الأمِّ، وإذا كان ذلك كالَّذي وصفنا تبيَّن أنَّ القول الذي قلناه في المسألتين أصلُ إحداهما من جهة النَّقل المستفيض، والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول. وإذا كان كذلك فغير جائزٍ ردُّ حكم إحداهما إلى حكم الأخرى، إذ القياس إنَّما يجوز استعماله فيما لا نصَّ فيه من الأحكام، فأمَّا ما فيه نصٌّ من كتاب الله أو خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حظَّ
(2)
فيه للقياس.
فإن قال قائلٌ: زعمتَ أنَّك إنَّما أبطلتَ حقَّ الأمِّ من الحضانة إذا نكحتْ زوجًا غيرَ أبي الطِّفل، وجعلتَ الأب أولى بحضانتها منها بالنَّقل المستفيض، فكيف يكون ذلك كما قلت؟ وقد علمتَ أنَّ الحسن البصريَّ كان يقول: المرأة أحقُّ بولدها وإن تزوَّجت، وقضى بذلك يحيى بن حمزة.
قيل: إنَّ النَّقل المستفيض الذي تلزم به الحجَّة في الدِّين عندنا ليس صفته أن لا يكون له مخالفٌ، ولكنَّ صفته أن ينقله قولًا وعملًا من علماء
(1)
أخرجه من طريق المثنى بن الصباح عبد الرزاق (12596)، والدارقطني (4/ 468).
(2)
في جميع النسخ: «حض» .