المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب اللهمن وجوب النفقة للأقارب - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ذكْرُ حكمه صلى الله عليه وسلم في الولد مَن أحقُّ به في الحضانة

- ‌ذِكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات

- ‌ذِكر ما رُوي من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتمكين المرأة من فراقِ زوجها إذا أعسَرَ بنفقتها

- ‌فصلفي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب الله أنهلا نفقة للمبتوتة ولا سكنى

- ‌ذِكر المطاعن التي طُعِن بها على حديث فاطمة بنت قيسقديمًا وحديثًا

- ‌ا طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب

- ‌ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب اللهمن وجوب النفقة للأقارب

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعةوما يَحرُم بها وما لا يَحرُم وحكمه في القدر المحرِّم منها،وحكمه في رضاع الكبير هل له تأثير أم لا

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العِدَد

- ‌فصلفي الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتداد المتوفى عنها في منزلهاالذي توفي زوجها وهي فيه

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحداد المعتدَّة نفيًا وإثباتًا

- ‌ذِكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء

- ‌ذِكْر أحكامه صلى الله عليه وسلم في البيوع

- ‌ حكمه فيما يحرم بيعه

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن الكلب والسِّنَّور

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في بيع عَسْبِ الفحل وضِرابه

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة

الفصل: ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب اللهمن وجوب النفقة للأقارب

حال حَمْلِها جزءٌ من أجزائها، فإذا انفصل كان له حكمٌ آخر، وانتقلت النَّفقة من حكمٍ إلى حكمٍ، فظهرت فائدة التَّقييد وسرُّ الاشتراط، والله أعلم بما أراد من كلامه.

‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب الله

من وجوب النفقة للأقارب

روى أبو داود في «سننه»

(1)

عن كُلَيب بن مَنْفَعة

(2)

عن جدِّه أنَّه أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَنْ أبرُّ؟ قال:«أمَّك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حقٌّ واجبٌ ورَحِمٌ موصولةٌ» .

وروى النَّسائيُّ

(3)

عن طارق المحاربي قال: قدمتُ المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر يخطب النَّاس وهو يقول: «يد المعطي العليا، وابدأْ بمن تَعُول: أمَّك وأباك، وأختك وأخاك، ثمَّ أدناك أدناك» .

وفي «الصَّحيحين»

(4)

عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، مَن أحقُّ النَّاس بحسنِ صَحابتي؟ قال:«أمُّك» ، قال: ثمَّ

(1)

برقم (5140)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 300). وأخرجه أيضًا البخاري في «الأدب المفرد» (47)، والطبراني في «الكبير» (22/ 310)، وأُعلَّ الحديث بجهالة كليب بن منفعة والانقطاع، والحديث يتقوَّى بشواهده، وينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (2124) و «إرواء الغليل» (837).

(2)

م، ص، د:«ميفعة» ، تصحيف. وانظر:«الإكمال» (7/ 300).

(3)

برقم (2532)، ومن طريقه الضياء المقدسي في «المختارة» (141). وأخرجه ابن أبي شيبة (822) وابن حبان في «صحيحه» (3341).

(4)

البخاري (5971)، ومسلم (2548).

ص: 145

من؟ قال: «ثمّ أمُّك» ، قال: ثمَّ من؟ قال: «ثمّ أمُّك» ، قال: ثمَّ من؟ قال: «ثمَّ أبوك»

(1)

.

وفي الترمذي

(2)

عن معاوية القُشيري قال

(3)

: قلت: يا رسول الله، مَن أبرُّ؟ قال:«أمَّك» ، قلت: ثمَّ من؟ قال: «أمَّك» ، قلت: ثمَّ من؟ قال: «أمَّك» ، قلت: ثمَّ من؟ قال: «أباك، ثمَّ الأقرب فالأقرب» .

وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لهند: «خُذِي ما يكفيكِ وولدَكِ بالمعروف»

(4)

.

وفي «سنن أبي داود»

(5)

من حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إنَّ أطيبَ ما أكلتم من كَسْبِكم، وإنَّ أولادكم من كَسْبِكم، فكلوه هَنِيئًا» . ورواه أيضًا من حديث عائشة مرفوعًا

(6)

.

وروى النَّسائيُّ

(7)

من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابدأْ بنفسك فتصدَّقْ عليها، فإن فَضَلَ شيءٌ فلأهلك، فإن فَضَلَ عن أهلك شيءٌ فلذِي قرابتك، فإن فَضَلَ عن ذي قرابتك فهكذا وهكذا» .

(1)

في المطبوع بعدها: «ثم أدناك أدناك» ، وليست في النسخ.

(2)

برقم (1897). وأخرجه أحمد (20028) وأبو داود (5139)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن» .

(3)

«وفي الترمذي

قلت» ليست في د، ص. ومكانه فيهما:«زاد مسلم» . وليس عند مسلم هذا اللفظ.

(4)

تقدم تخريجه (ص 79).

(5)

برقم (3530). وأخرجه أحمد (6678) وابن ماجه (2291). وإسناده حسن.

(6)

برقم (3528). وأخرجه أحمد (25269)، وابن أبي شيبة (36213)، والترمذي (1358)، وابن ماجه (2290)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن» .

(7)

برقم (2546، 4652). وأخرجه مسلم (997) وابن حبان (3339).

ص: 146

وهذا كلُّه تفسيرٌ لقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36]، وقوله تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]، فجعل سبحانه حقَّ ذي القربى يلي حقَّ الوالدين كما جعله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سواءً بسواء، وأخبر سبحانه أنَّ لذي القربى حقًّا على قرابته، وأمر بإيتائِه

(1)

إيَّاه، فإن لم يكن ذلك حقَّ النَّفقة فلا ندري أيُّ حقٍّ هو. وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القربى، ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعًا وعُرْيًا وهو قادرٌ على سَدِّ خَلَّته وستْرِ عورته، ولا يُطعِمه لقمةً ولا يستر له عورةً إلا بأن يُقرِضه ذلك في ذمَّته.

وهذا الحكم من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مطابقٌ لكتاب الله تعالى حيث يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]. فأوجب سبحانه على الوارث مثلَ ما أوجب على المولود له، وبمثل هذا الحكم حكَمَ أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب. فروى سفيان بن عيينة عن ابن جريجٍ عن عمرو بن شعيبٍ عن سعيد بن المسيَّب أنَّ عمر حَبَسَ

(2)

عَصَبَةَ صبيٍّ على أن ينفقوا عليه، الرِّجال دون النِّساء

(3)

.

(1)

في المطبوع: «بإتيانه» ، تصحيف.

(2)

كذا في النسخ و «الأموال» و «المحلى» . وفي المصادر الأخرى: «جَبَرَ» .

(3)

أخرجه سعيد بن منصور (2/ 144) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 786) ــ وابن زنجويه في «الأموال» (868) وابن حزم في «المحلى» (9/ 269).

ص: 147

وقال عبد الرزاق

(1)

: أنا ابن جريجٍ، أخبرني عمرو بن شعيبٍ، أنَّ ابن المسيَّب أخبره، أنَّ عمر بن الخطَّاب وقفَ بني عمِّ منفوسٍ ــ بني عمٍّ كلالةً

(2)

ــ بالنَّفقة عليه مثل العاقلة، فقالوا: لا مالَ له، فقال: ولو، وقوفُهم بالنَّفقة عليه كهيئة العقل. قال ابن المدينيِّ: قوله: ولو، أي ولو لم يكن لهم مالٌ.

وذكر ابن أبي شيبة

(3)

عن أبي خالدٍ الأحمر، عن حجّاج، عن عمرو، عن سعيد بن المسيَّب قال: جاء وليُّ يتيمٍ إلى عمر بن الخطَّاب فقال: أَنفِقْ عليه، ثمَّ قال: لو لم أجد إلا أقصَى

(4)

عشيرتِه لفرضتُ عليهم.

وحكَمَ بمثل ذلك أيضًا زيد بن ثابتٍ.

قال ابن أبي شيبة

(5)

: ثنا حُميد بن عبد الرَّحمن، عن حسن، عن مُطَرِّف، عن إسماعيل، عن الحسن، عن زيد بن ثابتٍ قال: إذا كان أمٌّ وعمٌّ فعلى الأمِّ بقدر ميراثها، وعلى العمِّ بقدر ميراثه.

ولا يُعرَف لعمر وزيد مخالفٌ في الصَّحابة البتَّةَ.

وقال ابن جريجٍ: قلت لعطاء: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، قال:

(1)

في «المصنف» (12181). وأخرجه ابن أبي شيبة (19502).

(2)

في المطبوع: «وقف بني عم على منفوس كلالة» خلاف النسخ.

(3)

برقم (19497). وفي إسناده حجاج بن أرطاة، وهو كثير الخطأ والتدليس.

(4)

في المطبوع: «أقضى» ، تصحيف.

(5)

برقم (19505)، وإسماعيل هو ابن مسلم المكي، وهو ضعيف.

ص: 148

على ورثة اليتيم أن ينفقوا عليه كما يرثونه. قلت له: أيُحْبَس وارث المولود إن لم يكن للمولود مالٌ؟ قال: أفيَدَعُه

(1)

يموت؟

(2)

.

وقال الحسن: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، قال: على الرَّجل الذي يَرِث أن ينفق عليه حتَّى يستغني

(3)

.

وبهذا فسَّر الآيةَ جمهور السَّلف، منهم: قتادة

(4)

، ومجاهد

(5)

، والضحاك

(6)

، وزيد بن أسلم

(7)

، وشريحٌ القاضي

(8)

، وقَبيصة بن ذُؤيبٍ

(9)

، وعبد الله بن عتبة بن مسعودٍ

(10)

، وإبراهيم النَّخعيُّ

(11)

،

(1)

م، ح، د، ص:«أفتدعه» .

(2)

أخرجه عبد بن حميد في «تفسيره» كما في «الدر المنثور» (3/ 11)، وأخرجه مختصرًا عبد الرزاق (12179)، وابن جرير في «تفسيره» (4/ 233).

(3)

أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 222).

(4)

أخرجه عبد الرزاق (12183)، وابن جرير في «تفسيره» (4/ 221).

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (19490)، وابن جرير في «تفسيره» (4/ 224).

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة (19496)، وابن جرير في «تفسيره» (4/ 227)، وهو من رواية جويبر عنه، وروايته عنه حسنة في التفسير كما قال بعض الحفاظ.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 432).

(8)

أخرجه ابن أبي شيبة (19487)، وفي إسناده حجاج بن أرطاة، وهو كثير الخطأ والتدليس.

(9)

نقله عنه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (4/ 226).

(10)

أخرجه عبد الرزاق (12185)، وابن أبي شيبة (19485، 19498)، وابن جرير في «تفسيره» (4/ 225).

(11)

أخرجه ابن أبي شيبة (19491)، وابن جرير في «تفسيره» (4/ 224).

ص: 149

والشَّعبيُّ

(1)

، وأصحاب ابن مسعودٍ، وممن بعدهم: سفيان الثَّوريُّ، وعبد الرزاق، وأبو حنيفة وأصحابه، وممن بعدهم: أحمد، وإسحاق، وداود وأصحابهم.

وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدَّة أقوالٍ.

أحدها: أنَّه لا يُجْبَر أحدٌ على نفقة أحدٍ من أقاربه، وإنَّما ذلك برٌّ وصلةٌ، وهذا مذهبٌ يُعزى إلى الشَّعبيِّ. قال عبد بن حميدٍ الكشِّيُّ

(2)

: ثنا قَبيصة، عن سفيان الثَّوريِّ، عن أشعث، عن الشَّعبيِّ قال: ما رأيت أحدًا أجبر أحدًا على أحدٍ. يعني على نفقته.

وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلام نظرٌ، والشَّعبيُّ أفقهُ من هذا، والظَّاهر أنَّه أراد أنَّ النَّاس كانوا أتقى لله من أن يحتاج الغيرُ

(3)

أن يُجبِره الحاكم على الإنفاق على قريبه المحتاج، وكان النَّاس يكتفون بإيجاب الشَّرع عن إيجاب الحاكم وإجباره.

المذهب الثَّاني: أنَّه يجب عليه النَّفقة على أبيه

(4)

الأدنى وأمِّه الَّتي ولدته خاصَّةً، فهذان الأبوان يُجبَر الذَّكر والأنثى من الولد على النَّفقة عليهما إذا كانا فقيرين. فأمَّا نفقة الأولاد فإن الرجل يُجبَر على نفقة ابنه الأدنى حتَّى

(1)

أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 229).

(2)

أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 101) من طريقه، وفي إسناده أشعث بن سوار، وقد ضعفه أكثر النقاد.

(3)

في المطبوع: «الغني» خلاف النسخ.

(4)

د، ص، ز:«ابنه» ، تصحيف.

ص: 150

يبلغ فقط، وعلى نفقة بنته الدُّنيا حتَّى تُزوَّج، ولا يُجبَر على نفقة ابن ابنه ولا بنتِ ابنه وإن سفلا، ولا تُجبر الأمُّ على الإنفاق على ابنها ولا ابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأمُّ في غاية الغنى، ولا يجب على أحدٍ النَّفقةُ على ابنِ ابنٍ

(1)

ولا جدٍّ ولا أخٍ ولا أختٍ ولا عمٍّ ولا عمَّةٍ ولا خالٍ ولا خالةٍ ولا أحدٍ من الأقارب البتَّةَ سوى ما ذكرنا. وتجب النَّفقة مع اتِّحاد الدِّين واختلافه حيث وجبت. وهذا مذهب مالك، وهو أضيق المذاهب في النَّفقات.

المذهب الثَّالث: أنَّه تجب نفقة عَمودَيِ النَّسب خاصَّةً دون من عداهم، مع اتِّفاق الدِّين ويَسار المنفِق وقدرته، وحاجة المنفَقِ عليه، وعجزِه عن الكسب بصغرٍ أو جنونٍ أو زَمانةٍ إن كان من العمود الأسفل. وإن كان من العمود الأعلى: فهل يُشترط عجزه عن الكسب؟ على قولين. ومنهم من طَردَ القولين أيضًا في العمود الأسفل. فإذا بلغ الولد صحيحًا سقطت نفقته ذكرًا كان أو أنثى. وهذا مذهب الشَّافعيِّ، وهو أوسع من مذهب مالك.

المذهب الرَّابع: أنَّ النَّفقة تجب على كلِّ ذي رحمٍ مَحرمٍ لذي رحمه، فإن كان من الأولاد وأولادهم والآباء والأجداد وجبت نفقتهم مع اتِّحاد الدِّين واختلافه، وإن كان من غيرهم لم تجب إلا مع اتِّحاد الدِّين، فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رَحِمه الكافر. ثمَّ إنَّما تجب النَّفقة بشرط قدرة المنفِق وحاجة المنفَق عليه، فإن كان صغيرًا اعتُبِر فقره فقط، وإن كان كبيرًا: فإن كان أنثى فكذلك، وإن كان ذكرًا فلا بدَّ مع فقره مِن عماه أو زَمانته، فإن كان صحيحًا بصيرًا لم تجب نفقته. وهي مرتَّبةٌ عنده على الميراث إلا في نفقة

(1)

د، ص:«أبي ابن» .

ص: 151

الولد، فإنَّها على أبيه خاصَّةً على المشهور من مذهبه. وروى عنه

(1)

الحسن بن زيادٍ اللُّؤلؤي: أنَّها على أبويه خاصَّةً بقدر ميراثهما طردًا للقياس. وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو أوسع من مذهب الشَّافعيِّ.

المذهب الخامس: أنَّ القريب إن كان من عمودَيِ النَّسب وجبت نفقته مطلقًا، سواءٌ كان وارثًا أو غير وارثٍ. وهل يُشترط اتِّحاد الدِّين بينهم؟ على روايتين، وعنه روايةٌ أخرى: أنَّه لا تجب نفقتهم إلا بشرط أن يرِثهم بفرضٍ أو تعصيبٍ كسائر الأقارب.

وإن كان من غير عمودي النَّسب وجبت نفقتهم بشرط أن يكون بينه وبينهم توارثٌ. ثمَّ هل يُشترط أن يكون التَّوارث من الجانبين أو يكفي أن يكون من أحدهما؟ على روايتين. وهل يُشترط ثبوت التَّوارث في الحال أو أن يكون من أهل الميراث في الجملة؟ على روايتين.

وإن كان الأقارب من ذوي الأرحام الذين لا يرِثون فلا نفقة لهم على المنصوص عنه، وخرَّج بعض أصحابه وجوبَها عليهم من مذهبه من توريثهم، ولا بدَّ عنده من اتِّحاد الدِّين بين المنفِق والمنفَق عليه حيث وجبت النَّفقة إلا

(2)

في عمودي النَّسب في إحدى الرِّوايتين. فإن كان الميراث بغير القرابة كالولاء وجبت النَّفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث دون الموروث.

وإذا لزمتْه نفقةُ رجلٍ لزمتْه نفقةُ زوجته في ظاهر مذهبه. وعنه: لا تلزمه. وعنه: تلزمه في عمودي النَّسب خاصَّةً دون من عداهم. وعنه: تلزمه لزوجة الأب خاصَّةً. ويلزمه إعفافُ عمودي نسبه بتزويجٍ أو تَسَرٍّ إذا طلبوا ذلك.

(1)

في المطبوع: «ورُوي عن» خلاف النسخ.

(2)

«إلا» ليست في ز.

ص: 152

قال القاضي أبو يعلى

(1)

: وكذلك يجيء في كلِّ من لزمته نفقته من أخٍ أو عمٍّ أو غيرهما يلزمه إعفافه؛ لأنَّ أحمد قد نصَّ في العبد: يلزمه أن يُزوِّجه إذا طلب ذلك وإلَّا بِيعَ عليه. وإذا لزمه إعفافُ رجلٍ لزِمَه نفقةُ زوجته؛ لأنَّه لا يتمكّن

(2)

من الإعفاف إلا بذلك.

وهذه غير المسألة المتقدَّمة وهي وجوب الإنفاق على زوجة المنفَق عليه، ولهذه مأخذٌ ولتلك مأخذٌ.

وهذا مذهب الإمام أحمد، وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة، وإن كان مذهب أبي حنيفة أوسعَ منه من وجهٍ آخر، حيث يوجب النَّفقة على ذوي الأرحام، وهو الصَّحيح في الدَّليل، وهو الذي تقتضيه أصول أحمد ونصوصه وقواعد الشَّرع، وصلة الرَّحم الَّتي أمر الله أن تُوصل، وحرَّم الجنَّة على كلِّ قاطع رَحِمٍ. فالنَّفقة تُستَحقُّ بشيئين

(3)

: بالميراث بكتاب اللَّه، وبالرَّحم بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدَّم أنَّ عمر بن الخطَّاب حَبَس عصبةَ صبيٍّ أن ينفقوا عليه وكانوا بني عمِّه، وتقدَّم قول زيد بن ثابتٍ: إذا كان عمٌّ وأمٌّ فعلى العمِّ بقدر ميراثه، وعلى الأمِّ بقدر ميراثها

(4)

. فإنَّه لا مخالفَ لهما في الصَّحابة البتَّةَ، وهو قول جمهور السَّلف، وعليه يدلُّ قوله تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]، وقوله:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36]. وقد أوجب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العطيَّةَ للأقارب، وصرَّح بأنسابهم فقال: «أختَك

(1)

كما في «المغني» (11/ 380).

(2)

في المطبوع: «يمكن» خلاف النسخ و «المغني» .

(3)

ح: «بسببين» .

(4)

تقدم تخريجهما (ص 148).

ص: 153

وأخاك، ثمَّ أدناك فأدناك، حقٌّ واجبٌ ورَحِمٌ موصولةٌ»

(1)

.

فإن قيل: المراد بذلك البرُّ والصِّلة دون الوجوب.

قيل: يردُّ هذا أنَّه سبحانه أمر به وسمَّاه حقًّا، وأضافه إليه بقوله:(حقَّه)، وأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه حقٌّ، وأنَّه واجبٌ، وبعضُ هذا يُنادِي على الوجوب جهارًا.

فإن قيل: المراد بحقِّه تركُ قطيعته.

فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن يقال: فأيُّ قطيعةٍ أعظمُ من أن يراه يَتلظَّى جوعًا وعطشًا، ويتأذَّى غايةَ الأذى بالحرِّ والبرد، ولا يُطعِمه لقمةً، ولا يَسقِيه جرعةً، ولا يكسوه ما يَستُر عورته ويَقِيهِ الحرَّ والبرد، ويُسكِنه تحت سقفٍ يُظِلُّه؟ هذا وهو أخوه ابن أمِّه وأبيه، أو عمُّه صِنْوُ أبيه، أو خالته الَّتي هي أمُّه، وإنَّما يجب عليه من ذلك ما يجب بذلُه للأجنبيِّ البعيد، بأن يُعاوِضه على ذلك في الذِّمَّة إلى أن يُوسِر ثمَّ يسترجع به عليه، هذا مع كونه في غاية اليسار والجِدَة وسعةِ الأموال. فإن لم تكن هذه قطيعةً فإنَّا لا ندري ما هي

(2)

القطيعة المحرَّمة، والصِّلة الَّتي أمر الله بها وحرَّمَ الجنَّة على قاطعها؟

الوجه الثَّاني: أن يقال: فما هذه الصِّلة الواجبة الَّتي نادت عليها النُّصوص وبالغت في إيجابها وذمَّت قاطعها؟ فأيُّ قدرٍ زائدٍ فيها على حقِّ

(1)

هذا اللفظ ملفق من حديثين تقدم تخريجهما (ص 145).

(2)

«هي» ليست في د.

ص: 154

الأجنبيِّ حتَّى تَعقِله القلوب وتُخبِر به الألسنة وتعمل به الجوارح؟ أهو السَّلام عليه إذا لقيه، وعيادته إذا مرض، وتشميته إذا عطس، وإجابته إذا دعاه، فإنكم لا توجبون شيئًا من ذلك إلا ما يجب نظيره للأجنبيِّ على الأجنبيِّ؟ وإن كانت

(1)

هذه الصِّلة تركَ ضرْبِه وسبِّه وأذاه والإزراء

(2)

به ونحو ذلك، فهذا حقٌّ يجب لكلِّ مسلمٍ على كلِّ مسلمٍ، بل للذِّمِّيِّ البعيد على المسلم، فما خصوصيَّة صلة الرَّحم الواجبة؟

ولهذا كان بعض فضلاء المتأخِّرين يقول

(3)

: أعياني أن أعرف صلة الرَّحم الواجبة. ولمَّا أورد النَّاس هذا على أصحاب مالك وقالوا لهم: ما معنى صلة الرَّحم عندكم؟ صنَّف بعضهم في صلة الرَّحم كتابًا كبيرًا، وأوعب فيه من الآثار المرفوعة والموقوفة، وذكر جنس الصِّلة وأنواعها وأقسامها، ومع هذا فلم يتخلَّص من هذا الإلزام، فإنَّ الصِّلة معروفةٌ يعرفها الخاصُّ والعامُّ، والآثار فيها أشهر من العَلَم، ولكن ما الصِّلة الَّتي يختصُّ بها الرَّحِم وتجب له لرحِمِه

(4)

ولا يشاركه فيها الأجنبيُّ؟ فلا يُمكِنكم أن تُعيِّنوا وجوب شيءٍ إلا وكانت النَّفقة أوجبَ منه، ولا يُمكِنكم أن تذكروا مُسقِطًا لوجوب النَّفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسُّقوط منه، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد قَرنَ حقَّ الأخ والأخت بالأب والأمِّ فقال:«أمَّك وأباك، وأختَك وأخاك، ثمَّ أدناك فأدناك»

(5)

، فما

(1)

«كانت» ليست في د.

(2)

د: «الازدراء» .

(3)

لم أعرف مَن هو.

(4)

في المطبوع: «الرحمة» خلاف النسخ.

(5)

تقدم تخريجه (ص 145).

ص: 155

الذي نسخَ هذا؟ وما

(1)

الذي جعل أوَّله للوجوب وآخره للاستحباب؟

وإذا عُرِف هذا فليس من برِّ الوالدين أن يَدَعَ الرَّجل أباه يَكنِسُ الكُنُف، ويكاري على الحُمُر، ويُوقِد في أَتُون الحمَّام

(2)

، ويَحمل للنَّاس على رأسه ما يتقوَّت بأجرته، وهو في غاية الغنى واليسار وسعة ذات اليد.

وليس من برِّ أمِّه أن يدَعَها تخدم النَّاس، وتغسل ثيابهم، أو تسقي لهم الماء، ونحو ذلك، ولا يصونها بما يُنفِقه عليها، ويقول: الأبوان مكتسبان صحيحان وليسا بزَمِنَين ولا أعمَيَين. فياللَّه العجب! أين شرطَ الله ورسولُه في برِّ الوالدين وصلة الرَّحم أن يكون

(3)

أحدهم زَمِنًا أو أعمى؟ وليست صلة الرَّحم ولا برُّ الوالدين موقوفةً على ذلك شرعًا ولا لغةً ولا عرفًا، وباللَّه التَّوفيق.

(1)

م، ز:«أو ما» .

(2)

أي مَوقد النار في الحمام.

(3)

«يكون» ساقطة من د.

ص: 156