المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعةوما يحرم بها وما لا يحرم وحكمه في القدر المحرم منها،وحكمه في رضاع الكبير هل له تأثير أم لا - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ذكْرُ حكمه صلى الله عليه وسلم في الولد مَن أحقُّ به في الحضانة

- ‌ذِكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات

- ‌ذِكر ما رُوي من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتمكين المرأة من فراقِ زوجها إذا أعسَرَ بنفقتها

- ‌فصلفي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب الله أنهلا نفقة للمبتوتة ولا سكنى

- ‌ذِكر المطاعن التي طُعِن بها على حديث فاطمة بنت قيسقديمًا وحديثًا

- ‌ا طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب

- ‌ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب اللهمن وجوب النفقة للأقارب

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعةوما يَحرُم بها وما لا يَحرُم وحكمه في القدر المحرِّم منها،وحكمه في رضاع الكبير هل له تأثير أم لا

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العِدَد

- ‌فصلفي الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتداد المتوفى عنها في منزلهاالذي توفي زوجها وهي فيه

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحداد المعتدَّة نفيًا وإثباتًا

- ‌ذِكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء

- ‌ذِكْر أحكامه صلى الله عليه وسلم في البيوع

- ‌ حكمه فيما يحرم بيعه

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن الكلب والسِّنَّور

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في بيع عَسْبِ الفحل وضِرابه

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة

الفصل: ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعةوما يحرم بها وما لا يحرم وحكمه في القدر المحرم منها،وحكمه في رضاع الكبير هل له تأثير أم لا

‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعة

وما يَحرُم بها وما لا يَحرُم وحكمه في القدر المحرِّم منها،

وحكمه في رضاع الكبير هل له تأثير أم لا

؟

ثبت في «الصَّحيحين»

(1)

من حديث عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إنَّ الرَّضاعة تُحرِّم ما تُحرِّم الولادة» .

وثبت فيهما

(2)

: من حديث ابن عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة، فقال: «إنَّها لا تَحِلُّ لي، إنَّها ابنة أخي من الرَّضاعة، ويَحْرُم من الرَّضاعة ما يَحْرُم من النسب

(3)

».

وثبت فيهما

(4)

أنَّه قال لعائشة: «ائْذَني لأفلحَ أخي أبي القُعَيْس، فإنَّه عمُّك» . وكانت امرأته

(5)

أرضعت عائشةَ.

وبهذا أجاب ابن عبَّاسٍ لمَّا سئل عن: رجلٍ له جاريتان أرضعتْ إحداهما جاريةً والأخرى غلامًا، أيحلُّ للغلام أن يتزوَّج الجارية؟ فقال: لا، اللِّقاح واحدٌ

(6)

.

وثبت في «صحيح مسلم»

(7)

عن عائشة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تُحرِّم المَصَّةُ

(1)

أخرجه البخاري (5099)، ومسلم (1444/ 1).

(2)

أخرجه البخاري (2645)، ومسلم (1446).

(3)

في المطبوع: «الرحم» خلاف النسخ.

(4)

أخرجه البخاري (4796)، ومسلم (1445).

(5)

في النسخ: «أمه» وهو خطأ. والمثبت من البخاري.

(6)

أخرجه مالك (1766) ــ ومن طريقه الشافعي في «الأم» (5/ 26) ــ، وسعيد بن منصور (1/ 276)، والترمذي (1149).

(7)

برقم (1450/ 18).

ص: 157

والمَصَّتان».

وفي روايةٍ

(1)

: «لا تُحرِّم الإمْلاجة والإمْلاجتان» . وفي لفظٍ له

(2)

: أنَّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه، هل تحرِّم الرَّضعة الواحدة؟ قال:«لا» .

وثبت في «صحيحه»

(3)

أيضًا عن عائشة قالت: كان فيما نزلَ من القرآن: عشْرُ رَضَعاتٍ معلوماتٍ يُحرِّمن، ثمَّ نُسِخْن بخمسٍ معلوماتٍ، فتوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي

(4)

فيما يُقرأ من القرآن.

وثبت في «الصَّحيحين»

(5)

من حديث عائشة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّما الرَّضاعة من المجاعة» .

وثبت في «جامع الترمذي»

(6)

من حديث أم سلمة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُحرِّم من الرَّضاعة إلا ما فَتَقَ الأمعاء في الثَّدي، وكان قبلَ الفِطام» . قال الترمذي: حديثٌ صحيحٌ.

(1)

برقم (1451/ 18) من حديث أم الفضل.

(2)

برقم (1451/ 19).

(3)

برقم (1452/ 19).

(4)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «وهن» .

(5)

البخاري (2647)، ومسلم (1455).

(6)

برقم (1152). وأخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (5441)، والطبراني في «الأوسط» (7/ 288)، وابن حبان في «صحيحه» (4224) من طرق عن أبي عوانة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة به مرفوعًا، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» ، وخالفه وهيب عند إسحاق بن راهويه في «مسنده» (1887، 1962)، ويحيى بن سعيد كما ذكر الدارقطني في «العلل» (4003)، فروياه عن هشام بن عروة به موقوفًا، وهو الأشبه بالصواب كما ذكر الدارقطني.

ص: 158

وفي «سنن الدَّارقطنيِّ»

(1)

بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاسٍ يرفعه: «لا رَضاعَ

(2)

إلا ما كان في الحولين».

وفي «سنن أبي داود»

(3)

من حديث ابن مسعودٍ يرفعه: «لا يُحرِّم من الرَّضاع إلا ما أنبتَ اللَّحمَ وأنْشَرَ

(4)

العظمَ».

وثبت في «صحيح مسلم»

(5)

عن عائشة قالت: جاءت سَهْلة بنت سُهيل

(1)

برقم (4364). وأخرجه ابن عدي في الكامل (8/ 399)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 761)، وتفرد برفعه عن ابن عيينة الهيثم بن جميل. وروي موقوفًا على ابن عباس، أخرجه سعيد بن منصور (1/ 280)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 462)، وقال البيهقي:«هذا هو الصحيح موقوف» ، وأخرجه عبد الرزاق (13900 - 13902) وابن أبي شيبة (17334) من طرق وألفاظ متقاربة موقوفًا على ابن عباس، وصحح وقفه ابن عدي وابن عبد الهادي. وينظر:«التلخيص الحبير» (4/ 9) و «تنقيح التحقيق» (4/ 454).

(2)

د، ص، ز:«رضاعة» .

(3)

برقم (2060). وأخرجه أحمد (4114)، والدارقطني (4361) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 460) ــ، كلهم من طريق أبي موسى الهلالي عن أبيه، وأبو موسى وأبوه مجهولان. وقد روي موقفًا على ابن مسعود، أخرجه عبد الرزاق (13895)، وأبو داود (2059) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 461) ــ وسعيد بن منصور (1/ 281) من طرق عن ابن مسعود موقوفًا، وهو الصحيح. وينظر:«صحيح أبي داود- الأم» للألباني (6/ 299).

(4)

ص: «أنشز» . وكذا في «السنن» . ويُروى بالوجهين كما في «المجموع المغيث» (3/ 300) و «النهاية» (5/ 54) و «اللسان» (نشر). وأنشرَ اللحم: شَدَّه وقوَّاه، من الإنشار: الإحياء. وأنشز اللحم: رفعه وأعلاه، وأكبر حجمه، وهو من النَّشَز: المرتفع من الأرض.

(5)

برقم (1453/ 27).

ص: 159

إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، إنِّي أرى في وجه [أبي] حذيفة

(1)

من دخول سالم وهو حَليفُه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أرضِعِيه تَحْرُمِينَ

(2)

عليه».

وفي روايةٍ له

(3)

عنها قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، إنِّي أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَرضِعيه» ، قالت: وكيف أُرضِعه وهو رجلٌ كبيرٌ؟ فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد علمتُ أنَّه كبيرٌ» .

وفي لفظٍ لمسلم

(4)

: أنَّ أم سلمة قالت لعائشة: إنَّه يدخل عليكِ الغلام الأيفع الذي ما أُحِبُّ أن يدخل عليَّ، فقالت عائشة: أما لكِ في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ؟ إنَّ امرأة [أبي] حذيفة قالت: يا رسول اللَّه، إنَّ سالمًا يدخل عليَّ وهو رجلٌ، وفي نفس أبي حذيفة منه شيءٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَرضِعيه حتَّى يدخلَ عليك» .

وساقه أبو داود في «سننه»

(5)

سياقةً تامَّةً مطوَّلةً، فرواه من حديث الزُّهريِّ عن عروة عن عائشة وأم سلمة: أنَّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمسٍ كان تبنَّى سالمًا، وأنكحَه ابنةَ أخيه هند بنت الوليد بن عتبة وهو مولًى لامرأةٍ من الأنصار، كما تبنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا

(6)

، وكان من تبنَّى رجلًا في الجاهليَّة دعاه

(1)

ما بين المعكوفتين من «صحيح مسلم» . وأبو حذيفة زوجها.

(2)

كذا في النسخ. وفي مسلم: «تَحرُمي» مجزومة لكونها جواب الأمر.

(3)

برقم (1453/ 26). و «له» ليست في د، ص.

(4)

برقم (1453/ 29).

(5)

برقم (2061).

(6)

د، ص، ز:«زيد بن حارثة» .

ص: 160

النَّاس إليه ووُرِّثَ ميراثَه، حتَّى أنزل الله عز وجل في ذلك:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، فرُدُّوا إلى آبائهم، فمن لم يُعلَم له أبٌ كان مولًى وأخًا في الدِّين. فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري، وهي امرأة أبي حذيفة، فقالت: يا رسول اللَّه، إنَّا كنَّا نرى سالمًا ولدًا، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيتٍ واحدٍ، ويراني فُضْلًا

(1)

، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَرضِعيه» ، فأرضعتْه خمسَ رضعاتٍ، فكان بمنزلة ولدها من الرَّضاعة. فبذلك كانت عائشة تأمرُ بناتِ إخوتها وبناتِ أخواتها أن يُرضِعن من أحبَّت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرًا خمسَ رضعاتٍ، ثمَّ يدخل عليها، وأبتْ ذلك أم سلمة وسائر أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُدخِلن عليهنَّ أحدًا بتلك الرَّضاعة من النَّاس حتَّى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: والله ما نَدري لعلَّها كانت رخصةً من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لسالم دون النَّاس.

فتضمَّنت هذه السُّنن الثَّابتة أحكامًا عديدةً، بعضها متَّفقٌ عليه بين الأمَّة، وفي بعضها نزاعٌ.

الحكم الأوَّل: قوله صلى الله عليه وسلم: «الرَّضاعة تُحرِّم ما تُحرِّم الولادة» ، وهذا الحكم متَّفقٌ عليه بين الأمَّة، حتَّى عند من قال: إنَّ الزِّيادة على النَّصِّ نسخٌ، والقرآن لا يُنسخ بالسُّنَّة، فإنَّه اضطُرَّ إلى قبول هذا الحكم وإن كان زائدًا على ما في القرآن، سواءٌ سمَّاه نسخًا أو لم يُسمِّه، كما اضطُرَّ إلى تحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها وبينها وبين خالتها مع أنَّه زيادةٌ على نصِّ القرآن، وذكر هذا مع حديث أبي القُعَيس في تحريم لبن الفحل على أنَّ المرضعة والزَّوج

(1)

أي مبتذلة في ثياب المهنة.

ص: 161

صاحب اللَّبن قد صارا أبوين للطِّفل، وصار الطِّفل ولدًا لهما، فانتشرت الحرمة من هذه الجهات الثَّلاث، فأولاد الطِّفل وإن نزلوا

(1)

أولاد ولدهما، وأولاد كلِّ واحدٍ من المرضعة والزَّوج من الآخر أو من غيره إخوتُه وأخواتُه من الجهات الثَّلاث

(2)

، فأولاد أحدهما من الآخر إخوته وأخواته لأبيه وأمِّه، وأولاد الزَّوج من غيرهما

(3)

إخوته وأخواته من أبيه، وأولاد المرضعة من غيره إخوته وأخواته لأمِّه، وصار آباؤهما

(4)

أجداده وجدَّاته، وصار إخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته، وإخوة صاحب اللَّبن وأخواته أعمامه وعمَّاته، فحرمة الرَّضاع تنتشر من هذه الجهات الثَّلاث فقط.

ولا يتعدَّى التَّحريم إلى غير المرتضع ممَّن هو في درجته من إخوته وأخواته، فيباح لأخيه نكاحُ من أرضعت أخاه وبناتها وأمَّهاتها، ويباح لأخته نكاح

(5)

صاحب اللَّبن وأباه

(6)

وبنيه. وكذلك لا ينتشر إلى من فوقه من آبائه وأمَّهاته، ومن في درجتهم من أعمامه وعمَّاته وأخواله وخالاته، فلأبي

(7)

المرتضع من النَّسب وأجداده أن ينكحوا أمَّ الطِّفل من الرَّضاع وأمَّهاتِها وأخواتها وبناتها، وأن ينكحوا أمَّهاتِ صاحب اللَّبن وأخواتِه وبناتِه، إذ نظير هذا من النَّسب حلالٌ، فللأخ من الأب أن يتزوَّج أخت أخيه من الأمِّ، وللأخ

(1)

«وإن نزلوا» ليست في د، ص.

(2)

«فأولاد الطفل

الجهات الثلاث» ساقطة من م.

(3)

في المطبوع: «غيرها» خلاف النسخ.

(4)

في المطبوع: «آباؤها» خلاف النسخ.

(5)

«من أرضعت

نكاح» ساقطة من د.

(6)

كذا في النسخ منصوبًا. والجادة كونه مجرورًا «وأبيه» .

(7)

ص، د، ز:«فلأب» .

ص: 162

من الأمِّ أن ينكح أخت أخيه من الأب، وكذلك ينكح الرَّجل أمَّ ابنه من النَّسب وأختها، وأمَّا أمُّها وبنتها فإنَّما حَرُمَتا بالمصاهرة.

وهل يَحرُم نظير المصاهرة

(1)

بالرَّضاع فتَحْرُم عليه أمُّ امرأته من الرَّضاعة وبنتها من الرَّضاعة وامرأة ابنه من الرَّضاعة، أو يحرم الجمع بين الأختين من الرَّضاعة، أو بين المرأة وعمَّتها وبينها وبين خالتها من الرَّضاعة؟ فحرَّمه الأئمَّة الأربعة وأتباعهم، وتوقَّف فيه شيخنا وقال: إن كان قد قال أحدٌ بعدم التَّحريم فهو أقوى.

قال المحرِّمون: تحريم هذا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «يَحْرُم من الرَّضاع ما يَحْرُم من النَّسب» ، فأجرى الرَّضاعة مجرى النَّسب وشبَّهها به، فثبت تنزيلُ ولد الرَّضاعة وأبي الرَّضاعة منزلةَ ولد النَّسب وأبيه، فما ثبت للنَّسب من التَّحريم ثبت للرَّضاعة، فإذا حرمت امرأة الأب والابن وأمُّ المرأة وابنتها من النَّسب حرمن بالرَّضاع، وإذا حرم الجمع بين أختي النَّسب حرم بين أختي الرَّضاع. هذا تقدير احتجاجهم على التَّحريم.

قال شيخ الإسلام

(2)

: الله سبحانه حرَّم سبعًا بالنَّسب وسبعًا بالصِّهر، كذا قال ابن عبَّاسٍ

(3)

. قال: ومعلومٌ أنَّ تحريم الرَّضاعة لا يسمَّى صِهرًا، وإنَّما يحرم منه ما يحرم من النَّسب، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قال:«يَحْرُم من الرَّضاعة ما يَحْرُم من الولادة»

(4)

، وفي روايةٍ:«ما يَحْرُم من النَّسب»

(5)

. ولم يقل: وما

(1)

«وهل يحرم نظير المصاهرة» ساقطة من د، ص.

(2)

انظر: «الفروع» (8/ 236، 237).

(3)

أخرجه البخاري (5101).

(4)

أخرجه البخاري (2646)، ومسلم (1444/ 2).

(5)

أخرجه البخاري (2645)، ومسلم (1445/ 9).

ص: 163

يحرم بالمصاهرة، ولا ذكره الله سبحانه في كتابه كما ذكر تحريم الصِّهر، ولا ذكر تحريم الجمع في الرَّضاع كما ذكره في النَّسب، والصِّهر قسيم النَّسب وشقيقه، قال تعالى:{(53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]، فالعلاقة بين النَّاس بالنَّسب والصِّهر، وهما سببا التَّحريم، والرَّضاع فرعٌ على النَّسب، ولا تُعقَل المصاهرة إلا بين الأنساب. والله تعالى إنَّما حرَّم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمَّتها، وبينها وبين خالتها لئلَّا يُفضِي إلى قطيعة الرَّحم المحرَّمة.

ومعلومٌ أنَّ الأختين من الرَّضاع ليس بينهما رَحِمٌ محرَّمةٌ في غير النِّكاح، ولا رُتِّب على ما بينهما من أخوَّة الرَّضاع حكمٌ واحدٌ قطُّ غير تحريم أحدهما على الآخر، فلا يَعتِق عليه بالملك، ولا يَرِثُه، ولا يستحقُّ النَّفقة عليه، ولا يثبت له عليه ولاية النِّكاح ولا الموت، ولا يَعْقِل عنه، ولا يدخل في الوصيَّة والوقف على أقاربه وذوي رَحِمه، ولا يحرم التَّفريق بين الأمِّ وولدها الصَّغير من الرَّضاعة، ويحرم من النَّسب، والتَّفريق بينهما في الملك كالجمع بينهما في النِّكاح سواءٌ، ولو ملك شيئًا من المحرَّمات بالرَّضاع لم يعتق عليه بالملك، وإذا حرمتْ على الرَّجل أمُّه وبنته وأخته وعمَّته وخالته من الرَّضاعة لم يلزم أن يحرم عليه أمُّ امرأته الَّتي أرضعت امرأته، فإنَّه لا نسبَ بينه وبينها ولا مصاهرةَ ولا رضاعَ.

والرَّضاعة إذا جُعِلت كالنَّسب في حكمٍ لم يلزم أن تكون مثلَه في كلِّ حكمٍ، بل ما افترقا فيه من الأحكام أضعافُ ما اجتمعا فيه منها. وقد ثبت جواز الجمع بين اللَّتين بينهما مصاهرةٌ محرَّمةٌ، كما جمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنتِه من غيرها

(1)

، وإن كان بينهما تحريمٌ يمنع جواز نكاح أحدها

(1)

أخرجه سعيد بن منصور (1/ 286)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 167) عن قثم مولى آل العباس.

ص: 164

للآخر لو كان ذكرًا، فهذا نظير الأختين من الرَّضاعة سواءٌ؛ لأنَّ سبب تحريم النِّكاح بينهما في أنفسهما، ليس بينهما وبين الأجنبيِّ منهما الذي لا رضاعَ بينه وبينهما ولا صِهْر، وهذا مذهب الأئمَّة الأربعة وغيرهم. واحتجَّ أحمد بأنَّ عبد الله بن جعفر جمع بين امرأة علي وابنته، ولم يُنكِر ذلك أحدٌ

(1)

.

قال البخاريُّ

(2)

: وجمع الحسن بن الحسن بن عليٍّ بين بنتي عمٍّ في ليلةٍ

(3)

، وجمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته

(4)

، وقال ابن شبرمة

(5)

: لا بأس به، وكرهه الحسن مرَّةً

(6)

، ثمَّ قال: لا بأس به

(7)

. وكرهه جابر بن زيدٍ للقطيعة

(8)

. وليس فيه تحريمٌ لقوله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. هذا كلام البخاريِّ.

(1)

«مسائل الإمام أحمد» برواية ابنه عبد الله (1/ 349)، و «مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه» للكوسج (4/ 1844).

(2)

ينظر: «صحيح البخاري» (9/ 153 - مع «الفتح»).

(3)

أخرجه الشافعي في «الأم» (6/ 10) ــ ومن طريقه البيهقي (7/ 167) ــ وعبد الرزاق (10770)، من طريقين عن عمرو بن دينار عن حسن بن محمد عنه به.

(4)

تقدم تخريجه آنفًا.

(5)

كذا في جميع النسخ. والذي عند البخاري: «ابن سيرين» . وقد أخرجه عنه سعيد بن منصور (1/ 285).

(6)

أخرجه سعيد بن منصور (1/ 285).

(7)

لم أقف عليه.

(8)

أخرجه ابن أبي شيبة (17043)، وفي إسناده حبيب بن أبي حبيب الجرمي، وفيه كلام.

ص: 165

وبالجملة، فثبوت أحكام النَّسب من وجهٍ لا يستلزم ثبوتَها من كلِّ وجهٍ أو من وجهٍ آخر، فهؤلاء نساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هنَّ أمَّهات المؤمنين في التَّحريم والحرمة فقط، لا في المَحْرميَّة، فليس لأحدٍ أن يخلو بهنَّ ولا ينظر إليهنَّ، بل قد أمرهنَّ الله بالاحتجاب عمَّن حَرُم عليه نكاحهنَّ من غير أقاربهنَّ ومَن بينهنَّ وبينه رضاعٌ، فقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53].

ثمَّ هذا الحكم لا يتعدَّى إلى أقاربهنَّ البتَّةَ، فليس بناتُهنَّ أخواتِ المؤمنين يَحرُمن على رجالهم، ولا بنوهنَّ إخوةً لهم يحرم عليهنَّ بناتهنَّ، ولا أخواتهنَّ وإخوتهنَّ خالاتٍ وأخوالًا، بل هنَّ حلالٌ للمسلمين باتِّفاق المسلمين. وقد كانت أم الفضل أختُ ميمونة زوجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت العباس، وكانت أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة تحت الزبير، وكانت أم عائشة تحت أبي بكر، وأم حفصة تحت عمر، وليس للرجلِ أن يتزوَّج أمَّ أمِّه

(1)

، وقد تزوَّج عبد الله

(2)

بن عمر وإخوته وأولاد أبي بكر وأولاد أبي سفيان من المؤمنات، ولو كانوا أخوالًا لهنَّ لم يجز أن ينكحوهنَّ، فلم تنتشر الحرمة من أمَّهات المؤمنين إلى أقاربهنَّ، ولا

(3)

لزِمَ من ثبوت حكمٍ من أحكام النَّسب بين الأمَّة وبينهنَّ ثبوتُ غيره من الأحكام.

وممَّا يدلُّ على ذلك أيضًا قوله تعالى في المحرَّمات: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]. ومعلومٌ أنَّ لفظ «الابن» إذا

(1)

في المطبوع: «يتزوج أمه» خلاف النسخ.

(2)

«عبد الله» ليست في د.

(3)

في المطبوع: «وإلا» خلاف النسخ.

ص: 166

أُطلق لم يدخل فيه ابن الرَّضاع، فكيف إذا قُيِّد بكونه ابنَ صلبٍ؟ وقَصْدُ إخراجِ ابن التَّبنِّي بهذا لا يمنع إخراجَ ابن الرَّضاع ويوجب دخوله، وقد ثبت في «الصَّحيح»

(1)

أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل أن تُرضِع سالمًا مولى أبي حذيفة؛ ليصير مَحْرمًا لها، فأرضعتْه بلبن أبي حذيفة زوجِها، وصار ابنَها ومَحْرمَها بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ كان هذا الحكم

(2)

مختصًّا بسالم أو عامًّا كما قالته أمُّ المؤمنين عائشة، فبقي سالم مَحْرَمًا لها لكونها أرضعتْه وصارت أمَّه، ولم يَصِرْ محرمًا لها لكونها امرأةَ أبيه من الرَّضاعة، فإنَّ هذا لا تأثيرَ فيه لرضاعة سهلة له، بل لو أرضعتْه جاريةٌ له أو امرأةٌ أخرى صارت سهلةُ امرأةَ أبيه، وإنَّما التَّأثير لكونه ولدها نفسها. وقد عُلِّل بهذا في الحديث نفسه، ولفظه: فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضِعيه» ، فأرضعتْه خمسَ رضعاتٍ، وكان بمنزلة ولدها من الرَّضاعة.

ولا يمكن دعوى الإجماع في هذه المسألة، ومن ادَّعاه فهو كاذبٌ، فإنَّ سعيد بن المسيَّب وأبا سلمة بن عبد الرَّحمن وسليمان بن يسارٍ وعطاء بن يسارٍ وأبا قلابة

(3)

لم يكونوا يُثبتون التَّحريمَ بلبن الفحل، وهو مرويٌّ عن الزبير

(4)

وجماعةٍ من الصَّحابة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وكانوا يرون أنَّ التَّحريم إنَّما هو من قِبَل الأمَّهات فقط، فهؤلاء إذا لم يجعلوا المرتضع من

(1)

تقدم تخريجه (ص 159 - 160).

(2)

«هذا الحكم» ليست في ز.

(3)

أخرجه عن الأربعة ابن أبي شيبة (17648). وعن أبي قلابة (17651).

(4)

أخرجه الشافعي في «الأم» (7/ 280) ــ ومن طريقه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (11/ 251) ــ، وابن أبي شيبة (17647)، والدارقطني (5/ 317).

ص: 167

لبن الفحل ولدًا له، فأَنْ لا يُحرِّموا عليه امرأته ولا على الرِّضيع امرأةَ الفحل بطريق الأولى، فعلى قول هؤلاء فلا يحرم على المرأة أبو زوجها من الرَّضاعة، ولا ابنه من الرَّضاعة

(1)

.

فإن قيل: هؤلاء لم يُثبتوا البنوَّة بين المرتضع وبين الفحل فلم تثبت المصاهرة؛ لأنَّها فرع ثبوت بنوَّة الرَّضاع، فإذا لم تَثبتْ لم تثبت فروعها

(2)

، وأمَّا من أثبت بنوَّة الرَّضاع من جهة الفحل كما دلَّت عليه السُّنَّة الصَّحيحة الصَّريحة وقال به جمهور أهل الإسلام، فإنَّه يُثبِت المصاهرةَ بهذه البنوَّة، فهل قال أحدٌ ممَّن ذهب إلى التَّحريم بلبن الفحل: إنَّ زوجة أبيه وابنه من الرَّضاعة لا تحرم؟

قيل: المقصود أنَّ في تحريم هذه نزاعًا، وأنَّه ليس مجمعًا عليه، وبقي النَّظر في مأخذه، هل هو إلغاء لبن الفحل وأنَّه لا تأثير له، أو إلغاء المصاهرة من جهة الرَّضاع وأنها لا تأثير لها، وإنَّما التَّأثير لمصاهرة النَّسب؟

ولا شكَّ أنَّ المأخذ الأوَّل باطلٌ؛ لثبوت السُّنَّة الصَّريحة بالتَّحريم بلبن الفحل، وقد بيَّنَّا أنَّه لا يلزم من القول بالتَّحريم به إثباتُ المصاهرة به إلا بالقياس، وقد تقدَّم أنَّ الفارق بين الأصل والفرع أضعافُ أضعافِ الجامع، وأنَّه لا يلزم من ثبوت حكمٍ من أحكام النَّسب ثبوتُ حكمٍ آخر.

ويدلُّ على هذا أيضًا أنَّه سبحانه لم يجعل أمَّ الرَّضاع وأخت الرَّضاعة داخلةً تحت أمَّهاتنا وأخواتنا، فإنَّه سبحانه قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ

(1)

«ولا ابنه من الرضاعة» ساقطة من د.

(2)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «فرعها» .

ص: 168

وَبَنَاتُكُمْ

(1)

وَأَخَوَاتُكُمْ} ثمَّ قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، فدلَّ على أنَّ لفظ «أمَّهاتنا» عند الإطلاق إنَّما يراد به الأمُّ من النَّسب. وإذا ثبت هذا فقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] مثل قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ} إنَّما هنَّ أمَّهات نسائنا من النَّسب، فلا يتناول أمَّهاتهنَّ من الرَّضاعة، ولو أريد تحريمهنَّ لقال:«وأمَّهاتهنَّ اللَّاتي أرضعنهنَّ» كما ذكر ذلك في أمَّهاتنا. وقد بيَّنَّا أنَّ قوله: «يحرم من الرَّضاع ما يحرم من النَّسب» إنَّما يدلُّ على أنَّ من حَرُم على الرَّجل من النَّسب حَرُم عليه نظيره من الرَّضاعة، ولا يدلُّ على أنَّ من حرم عليه بالصِّهر أو بالجمع حرم عليه نظيره من الرَّضاعة، بل يدلُّ مفهومه على خلاف ذلك مع عموم قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24].

وممَّا يدلُّ على أنَّ تحريم امرأة أبيه وابنه من الرَّضاع ليس مسألة إجماعٍ: أنَّه قد ثبت عن جماعةٍ من السَّلف جوازُ نكاح بنت امرأته إذا لم تكن في حجره، كما صحَّ عن مالك بن أوس بن الحَدَثان النَّصْريِّ قال: كانت عندي امرأةٌ قد ولدتْ لي فتوفِّيتْ فوجدتُ عليها، فلقيتُ عليَّ بن أبي طالبٍ فقال لي: ما لك؟ قلت: توفِّيت المرأة، قال: لها ابنةٌ؟ قلت: نعم، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي في الطَّائف. قال: فانكِحْها، قلت: فأين قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]؟ قال: إنَّها لم تكن في حجرك، وإنَّما ذلك إذا كانت في حجرك

(2)

.

(1)

«وبناتكم» ليست في النسخ.

(2)

أخرجه عبد الرزاق (10834)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 912)، وقوَّى ابنُ كثير إسناده في «التفسير» (2/ 252)، وصححه ابن حجر في «الفتح» (9/ 158)، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 474).

ص: 169

وصحَّ عن إبراهيم بن مَيْسَرة أنَّ رجلًا من بني سُوَاءة يقال له: عبيد الله بن معبد، أثنى عليه خيرًا، أخبره أنَّ أباه أو جدَّه كان نكح امرأةً ذاتَ ولدٍ من غيره، فاصطحبا ما شاء اللَّه، ثمَّ نكح امرأةً شابَّةً، فقال أحد بني الأولى: قد نكحتَ على أمِّنا وكبرتَ واستغنيتَ عنها بامرأةٍ شابَّةٍ، فطلِّقْها، قال: لا والله إلا أن تُنكِحني ابنتَك، قال: فطلَّقها ونكحَ ابنتَه، ولم تكن في حجْرِه هي ولا أبوها. قال: فجئتُ سفيان بن عبد الله، فقلت: استفتِ لي عمر بن الخطَّاب، قال: لتحجَّنَّ معي، قال: فأدخلني على عمر بمنًى، فقصصتُ عليه الخبر، فقال عمر: لا بأسَ بذلك، واذهبْ فسَلْ فلانًا ثمَّ تعالَ فأخبِرْني. قال: ولا أُراه إلا عليًّا، قال: فسألتُه، فقال: لا بأس بذلك

(1)

.

وهذا مذهب أهل الظَّاهر. فإذا كان عمر وعلي ومَن قال بقولهما قد أباحا الرَّبيبةَ إذا لم تكن في حجر الزَّوج، مع أنَّها ابنةُ امرأته من النَّسب، فكيف يُحرِّمان عليه ابنتَها من الرَّضاع؟ وهذه ثلاثة قيودٍ ذكرها الله سبحانه في تحريمها: أن تكون في حجره، وأن تكون من امرأته، وأن يكون قد دخل بأمِّها. فكيف يحرم عليه مجرَّد ابنتها من الرَّضاعة؟ وليست في حجْرِه، ولا هي رَبيبتُه لغةً، فإنَّ الرَّبيبة بنت الزَّوجة والرَّبيبُ ابنُها باتِّفاق النَّاس، وسُمِّيا ربيبًا وربيبةً لأنَّ زوج أمَّهما يَرُبُّهما في العادة، فأمَّا من أرضعتْهما امرأته بغير لبنه، ولم يَرُبَّها

(2)

قطُّ، ولا كانت في حجْرِه، فدخولها في هذا النَّصِّ في غاية البعد لفظًا ومعنًى.

وقد أشار النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أن تحريم الرَّبيبة بكونها في الحجر، ففي

(1)

أخرجه عبد الرزاق (10835) وابن حزم في «المحلى» (9/ 530).

(2)

د: «يربهما» .

ص: 170

«صحيح البخاريِّ»

(1)

من حديث الزُّهريِّ عن عروة أنَّ زينب بنت أم سلمة أخبرته أنَّ أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: يا رسول اللَّه، أُخبِرتُ أنَّك تخطب بنتَ أبي سلمة، فقال: بنت أم سلمة؟ قالت: نعم، فقال:«إنَّها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلَّت لي» . وهذا يدلُّ على اعتباره صلى الله عليه وسلم القيدَ الذي قيَّده الله في التَّحريم، وهو أن تكون في حجر الزَّوج. ونظير هذا سواءٌ أن يقال في زوجة ابن الصُّلب إذا كانت محرَّمةً برضاع: لو لم تكن حليلةَ ابني الذي لصلبي لما حلَّتْ لي، سواءٌ ولا فرقَ بينهما، وباللَّه التَّوفيق.

فصل

الحكم الثَّاني المستفاد من هذه السنن: أنَّ لبن الفحل يُحرِّم، وأنَّ التَّحريم ينتشر منه كما ينتشر من المرأة، وهذا هو الحقُّ الذي لا يجوز أن يقال بغيره، وإن خالف فيه من خالف من الصَّحابة ومن بعدهم، فسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقُّ أن تُتَّبع ويُترَك كلُّ ما خالفها لأجلها، ولا تُترك هي لأجل قول أحدٍ كائنًا من كان. ولو تُرِكت السُّنن بخلاف

(2)

من خالفها لعدم بلوغها له، أو لتأويله، أو لغير ذلك= لتُرِكتْ سننٌ كثيرةٌ جدًّا، وتُرِكت الحجَّة إلى غيرها، وقولُ من يجب اتِّباعه إلى قول من لا يجب اتِّباعه، وقول المعصوم إلى قول غير المعصوم، وهذه بليَّةٌ نسأل الله العافية منها، وأن لا نلقاه بها يوم القيامة.

قال الأعمش: كان عُمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسًا حتَّى أتاهم الحكم بن عُتَيبة بخبر أبي القُعَيس

(3)

. يعني: فتركوا قولهم

(1)

برقم (5101). وأخرجه مسلم (1449).

(2)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «لخلاف» .

(3)

ذكره ابن حزم في «المحلى» (10/ 4) من طريق أبي عبيد.

ص: 171

ورجعوا عنه، وهكذا يصنع أهل العلم إذا أتتهم السُّنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا إليها وتركوا قولهم بغيرها.

قال الذين لا يحرِّمون بلبن الفحل: إنَّما ذكر الله سبحانه في كتابه التَّحريم بالرَّضاعة من جهة الأمِّ، فقال:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، واللَّام للعهد ترجع إلى الرَّضاعة المذكورة وهي رضاعة الأمِّ، وقد قال تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. فلو أثبتنا التَّحريم بالحديث لكنَّا قد نسخنا القرآن بالسُّنَّة. وهذا على أصل مَن يقول: الزِّيادة على النَّصِّ نسخٌ ألزمُ.

قالوا: وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أعلم الأمَّة بسنَّته وكانوا لا يرون التَّحريم به

(1)

، فصحَّ عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زَمْعة أنَّ أمَّه زينب بنت أم سلمة أمِّ المؤمنين أرضعتْها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأةُ الزُّبير بن العوَّام، قالت زينب: وكان الزبير يدخل عليَّ وأنا أمتشط فيأخذ بقرنٍ من قرون رأسي ويقول: أَقبلي عليَّ فحدِّثيني، أرى أنَّه أبي وما ولد فهم إخوتي. ثمَّ إنَّ عبد الله بن الزبير أرسل إليَّ يخطب أمَّ كلثوم ابنتي على حمزة بن الزبير، وكان حمزة للكلبيَّة، فقلتُ

(2)

لرسوله: وهل تحلُّ له؟ وإنَّما هي ابنة أخته، فقال عبد الله: إنَّما أردت بهذا المنع لما قبلك

(3)

، أمَّا ما ولدت أسماء فهم إخوتكِ، وما كان من غير أسماء فليسوا لكِ بإخوةٍ، فأَرسِلي

(1)

«به» ليست في ص.

(2)

في المطبوع: «فقالت» خلاف النسخ.

(3)

في المطبوع: «من قبلك» خلاف النسخ.

ص: 172

فسَلِيْ عن هذا. فأرسلتْ فسألتْ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فقالوا لها: إنَّ الرَّضاعة من قِبَل الرَّجل لا تُحرِّم شيئًا. فأنكَحَها

(1)

إيَّاه، فلم تزلْ عنده حتَّى هلك عنها

(2)

.

قالوا: ولم ينكر ذلك الصَّحابة رضي الله عنهم. قالوا: ومن المعلوم أنَّ الرَّضاعة من جهة المرأة لا من الرَّجل.

قال الجمهور: ليس فيما ذكرتم ما يعارض السُّنَّة الصَّحيحة الصَّريحة، فلا يجوز العدول عنها. أمَّا القرآن فإنَّه بين أمرين: إمَّا أن يتناول الأختَ من الأب من الرَّضاعة فيكون دالًّا على تحريمها، وإمَّا أن لا يتناولها فيكون ساكتًا عنها، فيكون تحريم السُّنَّة لها تحريمًا مبتدأً أو مخصِّصًا لعموم قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. والظَّاهر تناولُ لفظ الأخت لها، فإنَّه سبحانه عمَّم لفظ الأخوات من الرَّضاعة، فدخل فيه كلُّ من أطلق عليها أخته، ولا يجوز أن يقال: إنَّ أخته من أبيه من الرَّضاعة ليست أختًا له، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة:«ائْذَني لأفلحَ؛ فإنَّه عمُّك»

(3)

، فأثبتَ العمومة بينها وبينه بلبن الفحل وحده، فإذا ثبتت العمومة بين المرتضعة وبين أخي صاحب اللَّبن، فثبوت الأخوَّة بينها وبين ابنه بطريق الأَولى أو مثله. فالسُّنَّة بيَّنت مراد الكتاب لا أنَّها خالفتْه، وغايتها أن تكون أثبتتْ تحريمَ ما سكت عنه، أو تخصيصَ ما لم يُرَدْ عمومه.

(1)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «فأنكحيها» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه (ص 157).

ص: 173

وأمَّا قولكم: إنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون التَّحريم بذلك، فدعوى باطلةٌ على جميع الصَّحابة، فقد صحَّ عن علي إثبات التَّحريم به، وذكر البخاريُّ في «صحيحه»

(1)

أنَّ ابن عبَّاسٍ سئل عن رجلٍ كانت له امرأتان أرضعتْ إحداهما جاريةً والأخرى غلامًا أيحلُّ أن ينكحها؟ فقال ابن عبَّاسٍ: لا، اللِّقاح واحدٌ.

وهذا الأثر الذي استدللتم به صريحٌ عن الزبير أنَّه كان يعتقد زينبَ ابنتَه بتلك الرَّضاعة، وهذه عائشة أم المؤمنين كانت تفتي بأنَّ لبن الفحل ينشر الحرمة

(2)

، فلم يبقَ بأيديكم إلا عبد الله بن الزبير، وأين يقع من هؤلاء؟

وأمَّا الذين سألتْهم فأفتوها بالحلِّ فمجهولون غير مسمَّينَ، ولم يقل الرَّاوي: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون، بل لعلَّها أرسلتْ فسألتْ من لم يبلغه السُّنَّة الصَّحيحة منهم، فأفتاها بما أفتاها به عبد الله بن الزبير، ولم تكن الصَّحابة إذ ذاك متوافرون

(3)

بالمدينة، بل كان معظمهم وأكابرهم بالشَّام والعراق ومصر.

وأمَّا قولكم: إنَّ الرَّضاعة إنَّما هي من جهة الأمِّ، فالجواب أن يقال: إنَّما

(1)

لم يخرجه البخاري، بل أخرجه مالك (1766) ومن طريقه الترمذي (1149)، وإسناده صحيح. وقد تقدم في أول الباب (ص 157).

(2)

فقد كانت رضي الله عنها تأمر أخواتها وبنات إخواتها أن يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها، كما أخرجه أحمد (26330)، وأصله عند البخاري (5088)، ومسلم (1453). وينظر:«سنن سعيد بن منصور» (1/ 275).

(3)

كذا في جميع النسخ بالواو والنون. وأُصلحت في المطبوع فكُتبت: «متوافرين» .

ص: 174

اللَّبن للأب الذي ثار

(1)

بوطئه، والأمُّ وِعاءٌ له، وباللَّه التَّوفيق.

فإن قيل: فهل تثبت أبوَّة صاحب اللَّبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة، أو ثبوتُ أبوَّته فرعٌ على ثبوت أمومة المرضعة؟

قيل: هذا الأصل فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان في مذهب أحمد والشَّافعيِّ، وعليه مسألة: من له أربع زوجاتٍ فأرضعن طفلةً كلُّ واحدةٍ منهنَّ رضعتين، فإنَّهنَّ لا يصرن أمًّا لها؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ لم تُرضعها خمسَ رضعاتٍ. وهل يصير الزَّوج أبًا للطِّفلة؟ فيه وجهان، أحدهما: لا يصير أبًا كما لم تصر المرضعات أمَّهاتٍ، والثَّاني وهو الأصحُّ: يصير أبًا لكون الولد ارتضع من لبنه خمس رضعاتٍ. ولبن الفحل أصلٌ بنفسه غير متفرِّعٍ على أمومة المرضعة، فإنَّ الأبوَّة إنَّما تثبت بحصول الارتضاع من لبنه، لا لكون المرضعة أمَّه. ولا يجيء هذا على أصل أبي حنيفة ومالك، فإنَّ عندهما قليل الرَّضاع وكثيره محرَّمٌ، فالزَّوجات الأربع أمَّهاتٌ للمرتضع، فإذا قلنا بثبوت الأبوَّة ــ وهو الصَّحيح ــ حرمت المرضعات على الطِّفل؛ لأنَّه ربيبُهنَّ وهنَّ موطوآتُ أبيه، فهو ابنُ بعلهنَّ. وإن قلنا: لا تثبت الأبوَّة، لم يَحرُمن عليه بهذا الرَّضاع.

وعلى هذا مسألة: ما لو كان لرجلٍ خمسُ بناتٍ فأرضعن طفلًا كلُّ واحدةٍ رضعةً لم يصرن أمَّهاتٍ له. وهل يصير الرَّجل جدًّا له، وأولاده الذين هم إخوة المرضعات أخوالًا له وخالاتٍ؟ على وجهين، أحدهما: يصير جدًّا وأخوهنَّ خالًا؛ لأنَّه قد كمُلَ للمرتضع خمسُ رضعاتٍ من لبن بناته فصار

(1)

ز: «ثاب» ، تحريف. والضمير في الفعل للَّبن.

ص: 175

جدًّا، كما لو كان المرتضع بنتًا واحدةً. وإذا صار جدًّا كان أولاده الذين هم إخوة البنات أخوالًا وخالاتٍ، لأنَّهنَّ إخوةُ من كمُلَ له منهنَّ خمسُ رضعاتٍ، فنُزِّلوا بالنِّسبة إليه منزلةَ أمٍّ واحدةٍ، والآخر لا يصير جدًّا ولا أخواتهنَّ خالاتٍ؛ لأنَّ كونه جدًّا فرعٌ على كون ابنته أمًّا، وكون أخيها خالًا فرعٌ على كون أخته أمًّا، ولم يثبت الأصل فلا يثبت فرعه.

وهذا الوجه أصحُّ في هذه المسألة بخلاف الَّتي قبلها؛ فإنَّ ثبوت الأبوَّة فيها لا يستلزم ثبوتَ الأمومة على الصَّحيح. والفرق بينهما: أنَّ الفرعيَّة متحقِّقةٌ في هذه المسألة بين المرضعات وأبيهنَّ فإنَّهنَّ

(1)

بناته، واللَّبن ليس له، فالتَّحريم هنا بين المرضعة وابنها، فإذا لم تكن أمًّا لم يكن أبوها

(2)

جدًّا. بخلاف تلك، فإنَّ التَّحريم بين المرتضع وبين صاحب اللَّبن، فسواءٌ ثبتت أمومةُ المرضعة أو لا. فعلى هذا إذا قلنا: يصير أخوهنَّ خالًا، فهل تكون كلُّ واحدةٍ منهنَّ خالةً له؟ فيه وجهان، أحدهما: لا تكون خالةً؛ لأنَّه لم يرتضع من لبن أخواتها خمسَ رضعاتٍ فلا تثبت الخُؤولة. والثَّاني: تثبت؛ لأنَّه قد اجتمع من اللَّبن المحرَّم خمسُ رضعاتٍ، فكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتًا للخؤولة، ولا تَثبتُ أمومةُ واحدةٍ منهنَّ إذ لم يرتضع منها خمس رضعاتٍ. ولا يُستبعد ثبوتُ خؤولةٍ بلا أمومةٍ، كما ثبت في لبن الفحل أبوَّةٌ بلا أمومةٍ.

وهذا ضعيفٌ، والفرق بينهما: أنَّ الخؤولة فرعٌ محضٌ على الأمومة،

(1)

د: «فإنه» ، خطأ.

(2)

ص، ز، م:«أباها» .

ص: 176

فإذا لم يثبت الأصل فكيف يثبت فرعه؟ بخلاف الأبوَّة والأمومة فإنَّهما أصلان لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر.

وعلى هذا مسألة: ما لو كان لرجلٍ أمٌّ وأختٌ وابنةٌ وزوجةُ ابنٍ، فأرضعن طفلةً كلُّ واحدةٍ منهنَّ رضعةً، لم تَصِرْ واحدةٌ منهنَّ أمَّها. وهل تَحرُم على الرَّجل؟ على وجهين، وجههما

(1)

: ما تقدَّم. والتَّحريم هاهنا بعيدٌ؛ فإنَّ هذا اللَّبن الذي كمل للطِّفل لا يجعل الرَّجلَ أبًا له ولا جدًّا ولا أخًا ولا خالًا، والله أعلم.

فصل

وقد دلَّ التَّحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة من ماء الزَّاني دلالةَ الأولى والأحرى؛ لأنَّه إذا حرم عليه أن ينكح من قد تغذَّت بلبنٍ ثارَ بوطئه، فكيف يحلُّ له أن ينكح من قد خُلِق من نفس مائه بوطئه؟ وكيف يُحرِّم الشَّارع بنته من الرَّضاع لما فيها من لبنٍ كان وطءُ الرَّجل سببًا فيه، ثمَّ يُبيح له نكاحَ من خُلِقت بنفس وطئه ومائه؟ هذا من المستحيل؛ فإنَّ البعضيَّة الَّتي بينه وبين المخلوقة من مائه أكملُ وأتمُّ من البعضيَّة الَّتي بينه وبين مَن تغذَّتْ بلبنه، فإنَّ بنت الرَّضاع فيها جزءٌ ما من البعضيَّة، والمخلوقة من مائه كاسمها مخلوقةٌ من مائه، فنصفُها أو أكثرُها بعضه قطعًا، والشَّطر الآخر للأمِّ. وهذا قول جمهور المسلمين، ولا يُعرف في الصَّحابة من أباحها، ونصَّ الإمام أحمد على أنَّ من تزوَّجها قُتِل بالسَّيف، مُحصَنًا كان أو غيرَه.

(1)

في المطبوع: «أوجههما» خلاف النسخ.

ص: 177

وإذا كانت بنته من الرَّضاعة بنتًا في حكمينِ فقط: الحرمة، والمحرميَّة، وتخلُّف سائرِ أحكام البنت عنها لم يُخرِجْها عن التَّحريم ويُوجِبْ حلَّها، فهكذا بنتُه من الزنا تكون بنتًا في التَّحريم، وتخلُّفُ أحكامِ البنت عنها لا يُوجِب حلَّها. والله سبحانه خاطب العرب بما تَعقِله في لغاتها، ولفظ «البنت» لفظٌ

(1)

لغويٌّ لم ينقله الشَّارع عن موضوعه

(2)

الأصليِّ، كلفظ الصَّلاة والإيمان ونحوهما، فيُحمَل على موضوعه اللُّغويِّ حتَّى يثبت نقلُ الشَّارع له عنه إلى غيره، فلفظ البنت كلفظ الأخ والعمِّ والخال ألفاظٌ باقيةٌ على موضوعاتها اللُّغويَّة. وقد ثبت في «الصَّحيح»

(3)

أنَّ الله سبحانه أنطقَ ابنَ الرَّاعي الزَّاني بقوله: «أبي فلانٌ الرَّاعي» ، وهذا الإنطاق لا يحتمل الكذب. وأجمعت الأمَّة على تحريم أمِّه عليه. وخلقُه من مائها وماء الزَّاني خلقٌ واحدٌ، وإثمهما فيه سواءٌ، وكونه بعضًا لها مثل كونه بعضًا له، وانقطاع الإرث بين الزَّاني والبنت لا يوجب جوازَ نكاحها.

ثمَّ من العجب كيف يُحرِّم صاحب هذا القول أن يستمني الإنسان بيده، ويقول: هو نكاحٌ لِيَدِه، ويُجوِّز للإنسان أن ينكح بعضَه، ثمَّ يُجوِّز له أن يستفرش بعضَه الذي خلقه الله من مائه وأخرجه من صلبه، كما يستفرش الأجنبيَّة!

فصل

والحكم الثَّالث: أنَّه لا تُحرِّم المصَّة والمصَّتان، كما نصَّ عليه رسول الله

(1)

«لفظ» ليست في د.

(2)

في المطبوع: «موضعه» خلاف النسخ.

(3)

أخرجه البخاري (3436)، ومسلم (2550) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 178

- صلى الله عليه وسلم، ولا يُحرِّم إلا خمسُ رضعاتٍ. وهذا موضعٌ اختلف فيه العلماء:

فأثبتت طائفةٌ من السَّلف والخلف التَّحريمَ بقليل الرَّضاع وكثيره، وهذا يُروى عن علي

(1)

وابن عبَّاسٍ

(2)

، وهو قول سعيد بن المسيِّب

(3)

، والحسن، والزُّهريِّ، وقتادة

(4)

، والحكم، وحماد

(5)

، والأوزاعيِّ، والثَّوريِّ

(6)

، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وزعم اللَّيث بن سعدٍ

(7)

أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ قليل الرَّضاع وكثيره يُحرِّم في المهد ما يفطر به الصَّائم، وهذا روايةٌ عن الإمام أحمد.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (13924)، وابن أبي شيبة (17311)، وأبو يعلى (4710)، والنسائي (3311)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (11/ 492)، والدارقطني (5/ 302).

(2)

أخرجه مالك (1765)، وابن أبي شيبة (17313، 17316).

(3)

أخرجه مالك (1771) ــ ومن طريقه الطحاوي في «مشكل الآثار» (11/ 485) ــ وعبد الرزاق (13921)، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى في «سننه» (5/ 305).

(4)

أخرجها عبد الرزاق (13923) عنهم. وفيه: (عن معمر عن الزهري وقتادة عمن سمع الحسن قالوا في الرضاع

).

(5)

أخرجه عن الحكم وحماد ابنُ أبي شيبة (17315).

(6)

كما في «سنن الترمذي» عقب حديث (1150)، و «المحلى» لابن حزم (10/ 12) عنهما.

(7)

كما في «المغني» (11/ 310).

ص: 179

وقالت طائفةٌ أخرى: لا يثبت التَّحريم بأقلَّ من ثلاث رضعاتٍ، وهذا قول أبي ثورٍ وأبي عبيد وابن المنذر وداود بن علي

(1)

، وهو روايةٌ ثانيةٌ عن أحمد.

وقالت طائفةٌ أخرى: لا يثبت بأقلَّ من خمس رضعاتٍ، وهذا قول عبد الله بن مسعودٍ

(2)

، وعبد الله بن الزُّبير

(3)

، وعطاء وطاوسٍ

(4)

، وهو إحدى الرِّوايات الثَّلاث عن عائشة

(5)

، والرِّواية الثَّانية عنها: أنَّه لا يُحرِّم أقلُّ من سبعٍ

(6)

، والثَّالثة: لا يُحرِّم أقلُّ من عشرٍ

(7)

. والقول بالخمس مذهب الشَّافعيِّ، وأحمد في ظاهر مذهبه، وهو قول ابن حزمٍ، وخالف داودَ في هذه المسألة.

فحجَّة الأوَّلين أنَّه سبحانه علَّق التَّحريم باسم الرَّضاعة، فحيث وُجِد اسمها وُجِد حكمها، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قال:«يَحْرُم من الرَّضاعة ما يَحْرُم من النَّسب»

(8)

، وهذا موافقٌ لإطلاق القرآن.

(1)

كما في «المغني» (11/ 310، 311).

(2)

لم أقف عليه مسندًا، ونقله عنه ابن قدامة في «المغني» (11/ 310).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (13920، 13922).

(4)

لم أقف عليهما مسندًا، ونقله عنهما العمراني في «البيان» (11/ 144)، وابن قدامة في «المغني» (11/ 310) وغيرهما.

(5)

أخرجه عبد الرزاق (13912، 13913).

(6)

أخرجه عبد الرزاق (13921)، وله طريق أخرى أخرجها النسائي في «السنن الكبرى» (5429)، وابن حزم في «المحلى» (10/ 10) عن هشام الدستوائي عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن الزبير عن عائشة، وتكلم عليه النسائي عقب الحديث.

(7)

أخرجه مالك (1768) ــ ومن طريقه الشافعي في «الأم» (5/ 28) ــ وعبد الرزاق (13928)، وسعيد بن منصور (968)، وابن أبي شيبة (17310).

(8)

تقدم تخريجه (ص 157).

ص: 180

وثبت في «الصَّحيحين»

(1)

عن عقبة بن الحارث: أنَّه تزوَّج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمةٌ سوداء، فقالت: قد أرضعتُكما، فذُكِر ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(2)

، فقال:«كيف وقد زعمتْ أن قد أرضعتْكما؟»

(3)

ولم يسأل عن عدد الرَّضاع.

قالوا: ولأنَّه فعلٌ يتعلَّق به التَّحريم، فاستوى قليله وكثيره، كالوطء الموجب له. قالوا: ولأنَّ إنشار

(4)

العظم وإنبات اللَّحم يحصل بقليله وكثيره. قالوا: ولأنَّ أصحاب العدد قد اختلفت أقوالهم في الرَّضعة وحقيقتها، واضطربت أشدَّ الاضطراب، وما كان هكذا لم يجعله الشَّارع نصابًا، لعدم ضبطه والعلم به.

قال أصحاب الثَّلاث: قد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لا تُحرِّم المصَّة والمصَّتان» ، وعن أم الفضل بنت الحارث قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُحرِّم الإملاجة والإملاجتان» . وفي حديثٍ آخر أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله هل تُحرِّم الرَّضعة الواحدة؟ قال: «لا» . وهذه أحاديث صحيحةٌ صريحةٌ، رواها مسلم في «صحيحه»

(5)

، فلا يجوز العدول عنها، فأثبتنا التَّحريم بالثَّلاث

(1)

البخاري (5318)، ولم يخرجه مسلم.

(2)

في المطبوع بعدها: «فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له» ، وليست في النسخ.

(3)

بعدها في المطبوع: «فنهاه عنها» وليست في النسخ.

(4)

كذا في النسخ بالراء. وفي المطبوع: «إنشاز» . والرواية التي فيها هذا اللفظ بالوجهين، تقدم تخريجها (ص 159).

(5)

تقدم تخريجها (ص 157 - 160).

ص: 181

بعموم الآية، ونفينا التَّحريم بما دونها بصريح السُّنَّة. قالوا: ولأنَّ ما يُعتبر فيه العدد والتَّكرار يُعتبر فيه الثَّلاث. قالوا: ولأنَّها أوَّل مراتب الجمع، وقد اعتبرها الشَّارع في مواضع كثيرةٍ جدًّا.

قال أصحاب الخمس: الحجَّة لنا ما تقدَّم في أوَّل الفصل من الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة، وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفِّي والأمر على ذلك. قالوا: ويكفي في هذا قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل: «أَرضِعي سالمًا خمسَ رضعاتٍ تَحرُمي عليه»

(1)

. قالوا: وعائشة أعلم الأمَّة بحكم هذه المسألة هي ونساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة إذا أرادت أن يدخل عليها أحدٌ أمرت إحدى بنات إخوانها أو أخواتها فأرضعتْه خمس رضعاتٍ

(2)

. قالوا: ونفي التَّحريم بالرَّضعة والرَّضعتين صريحٌ في عدم تعليق التَّحريم بقليل الرَّضاع وكثيره، وهي ثلاث

(3)

أحاديث صحيحة صريحة، بعضها خرج جوابًا للسَّائل، وبعضها تأسيس حكمٍ مبتدأٍ. قالوا: وإذا علَّقنا التَّحريم بالخمس لم نكن قد خالفنا شيئًا من النَّصوص الَّتي استدللتم بها، وإنَّما نكون قد قيَّدنا مطلقَها بالخمس، وتقييد المطلق بيانٌ لا نسخٌ ولا تخصيصٌ. وأمَّا من علَّق التَّحريم بالقليل والكثير فإنَّه يخالف أحاديث نفي التَّحريم بالرَّضعة والرَّضعتين، وأمَّا صاحب الثَّلاث فإنَّه وإن لم يخالفها فهو مخالفٌ لأحاديث الخمس.

(1)

أخرجه مسلم (1453/ 26)، وقد تقدم (ص 160).

(2)

أخرجه مالك (1775)، وسيأتي.

(3)

كذا في النسخ بتذكير العدد.

ص: 182

قال من لم يقيِّده بالخمس: حديث الخمس لم تنقله عائشة نقْلَ الأخبار فيُحتجُّ به، وإنَّما نقلته نقْلَ القرآن، والقرآن إنَّما يثبت بالتَّواتر، والأمَّة لم تنقل ذلك قرآنًا، فلا يكون قرآنًا، وإذا لم يكن قرآنًا ولا خبرًا امتنع إثباتُ الحكم به.

قال أصحاب الخمس: الكلام فيما نُقِل من القرآن آحادًا في فصلين، أحدهما: كونه من القرآن، والثَّاني: وجوب العمل به. ولا ريبَ أنَّهما حكمان متغايران، فإنَّ الأوَّل يوجب انعقادَ الصَّلاة به، وتحريمَ مسِّه على المُحْدِث وقراءتِه على الجنب، وغير ذلك من أحكام القرآن، فإذا انتفت هذه الأحكام لعدم التَّواتر لم يلزم انتفاء العمل به، فإنَّه يكفي فيه الظَّنُّ. وقد احتجَّ كلُّ واحدٍ من الأئمَّة الأربعة به في موضعٍ، فاحتجَّ به الشَّافعيُّ وأحمد في هذا الموضع، واحتجَّ به أبو حنيفة في وجوب التَّتابع في صيام الكفَّارة بقراءة ابن مسعودٍ:«فصيام ثلاثة أيَّامٍ متتابعاتٍ»

(1)

. واحتجَّ به مالك والصَّحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأمِّ أنَّه السُّدس بقراءة أبيٍّ: «وإن كان رجلٌ يُورَث كلالةً أو امرأةٌ وله أخٌ أو أختٌ من أمٍّ، فلكلِّ واحدٍ منهما السُّدس»

(2)

،

(1)

رويت عن ابن مسعود من طرق، أصحها ما أخرجه سعيد بن منصور (804 - التفسير) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 60) ــ، وابن أبي شيبة (12504)، وابن جرير في «تفسيره» (8/ 652)، وروي من طرق أخرى. وينظر:«مصنف عبد الرزاق» (16102 - 16104).

(2)

هي قراءة سعد بن أبي وقاص، وليست من قراءة أبي، أخرجها سعيد بن منصور (592 - التفسير)، وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 297)، وابن جرير في «تفسيره» (6/ 483)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 231) من طرق عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة بن قانف عن سعد بن أبي وقاص.

ص: 183

فالنَّاس كلُّهم احتجُّوا بهذه القراءة، ولا مستندَ للإجماع سواها.

قالوا: وأمَّا قولكم: إمَّا أن يكون نقله قرآنًا أو خبرًا، قلنا: بل قرآنًا صريحًا.

قولكم: فكان يجب نقله متواترًا، قلنا: متى

(1)

؟ إذا نُسخ لفظه أو بقي؟ أمَّا الأوَّل فممنوعٌ، والثَّاني مسلَّمٌ، وغاية ما في الأمر أنَّه قرآنٌ نُسِخ لفظه وبقي حكمه، فيكون له حكم قوله:«الشَّيخ والشَّيخة إذا زنيا فارجموهما»

(2)

ممَّا اكتُفِي بنقله آحادًا وحكمُه ثابتٌ، وهذا ممَّا لا جوابَ عنه.

وفي المسألة مذهبان آخران ضعيفان:

أحدهما: أنَّ التَّحريم لا يثبت بأقلَّ من سبعٍ، كما سئل طاوسٌ عن قول من يقول: لا يُحرِّم من الرَّضاع دون سبع رضعاتٍ، فقال: قد كان ذلك، ثمَّ حدث بعد ذلك أمرٌ جاء بالتَّحريم، المرَّة الواحدة تُحرِّم

(3)

.

وهذا المذهب لا دليلَ عليه.

الثَّاني: أنَّ التَّحريم إنَّما يثبت بعشر رضعاتٍ، وهذا يُروى عن حفصة

(4)

(1)

في المطبوع: «حتى» خلاف النسخ.

(2)

أخرجه بهذا اللفظ: مالك (2383)، وابن ماجه (2553)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 211) من حديث عمر رضي الله عنه، وأحمد (21207)، وابن حبان (4428)، والحاكم (2/ 416) من حديث أبي بن كعب، وأصله في البخاري (7323)، ومسلم (1691). وينظر:«الحجة للقراء السبعة» للفارسي (2/ 181).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (13916).

(4)

أخرجه مالك (1742)، ومن طريقه الشافعي في «الأم» (7/ 236)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 457).

ص: 184

وعائشة

(1)

.

وفيها مذهبٌ آخر، وهو الفرق بين أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وغيرهنَّ، قال طاوسٌ: كان لأزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رضعاتٌ محرِّماتٌ، ولسائر النَّاس رضعاتٌ معلوماتٌ، ثمَّ تُرِك ذلك بعدُ

(2)

.

وقد تبيَّن الصَّحيح من هذه الأقوال، وباللَّه التَّوفيق.

فصل

فإن قيل

(3)

: فما هي الرَّضعة الَّتي تنفصل من أختها، وما حدُّها؟

قيل: الرَّضعة فَعْلةٌ من الرَّضاع، فهي مرَّةٌ منه بلا شكٍّ، كضربةٍ وجلسةٍ وأكلةٍ، فمتى الْتقمَ الثَّديَ فامتصَّ منه، ثمَّ تركه باختياره من غير عارضٍ، كان ذلك رضعةً؛ لأنَّ الشَّرع ورد بذلك مطلقًا، فحُمِل على العرف، والعرف هذا، والقطع العارض لتنفُّسٍ أو استراحةٍ يسيرةٍ، أو لشيءٍ يُلهِيه، ثمَّ يعود عن قربٍ= لا يُخرِجه عن كونه رضعةً واحدةً، كما أنَّ الآكل إذا قطع أكلته بذلك، ثمَّ عاد عن قربٍ، لم يكن ذلك أكلتين بل واحدةً. هذا مذهب الشَّافعيِّ، ولهم فيما إذا قطعت المرضعة عليه ثمَّ أعادته وجهان

(4)

:

(1)

أخرجه مالك (1786)، وقد تقدم (ص 180).

(2)

ذكره ابن حزم في «المحلى» (10/ 16)، وقال:«لم يسنده إلى صاحبٍ فضلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا تقوم به حجة» .

(3)

«فإن قيل» ليست في م، ح.

(4)

انظر: «المجموع» (18/ 218).

ص: 185

أحدهما: أنَّها رضعةٌ واحدةٌ ولو قطعته مرارًا، حتَّى يقطع باختياره. قالوا: لأنَّ الاعتبار بفعله لا بفعل المرضعة، ولهذا لو ارتضع منها وهي نائمةٌ حسب رضعةً، فإذا قطعت عليه لم يعتدَّ به، كما لو شرع في أكلةٍ واحدةٍ أمره بها الطَّبيب، فجاء شخصٌ فقطعها عليه، ثمَّ عاد، فإنَّها أكلةٌ واحدةٌ.

والوجه الثَّاني: أنَّها رضعةٌ أخرى، لأنَّ الرَّضاع يصحُّ من المرتضع ومن المرضعة، ولهذا لو أوجَرتْه وهو نائمٌ احتسب رضعةً.

ولهم فيما إذا انتقل من ثدي امرأةٍ إلى ثدي غيرها وجهان:

أحدهما: لا يعتدُّ بواحدٍ منهما، لأنَّه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرَّضعة، فلم تتمَّ الرَّضعة من إحداهما. ولهذا لو انتقل من ثدي المرأة إلى ثديها الآخر كانا رضعةً واحدةً.

والثَّاني: أنَّه يحتسب من كلِّ واحدةٍ منهما رضعةٌ، لأنَّه ارتضع وقطعَه باختياره من شخصين.

وأمَّا مذهب الإمام أحمد، فقال صاحب «المغني»

(1)

: إذا قطع قطعًا بيِّنًا باختياره كان ذلك رضعةً، فإن عاد كانت رضعةً أخرى. فأمَّا إن قطع لضيق نفسٍ، أو للانتقال من ثديٍ إلى ثديٍ، أو لشيءٍ يُلهِيه، أو قطعت عليه المرضعة= نظرنا، فإن لم يعد قريبًا فهي رضعةٌ، وإن عاد في الحال ففيه وجهان:

أحدهما: أنَّ الأولى رضعةٌ، فإذا عاد، فهي رضعةٌ أخرى. قال: وهذا

(1)

(11/ 312).

ص: 186

اختيار أبي بكر، وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل، فإنَّه قال: أما ترى الصَّبيَّ يرتضع من الثَّدي، فإذا أدركه النَّفس أمسك عن الثَّدي ليتنفَّس أو يستريح، فإذا فعل ذلك فهي رضعةٌ. قال الشَّيخ: وذلك أنَّ الأولى رضعةٌ لو لم يعد، فكانت رضعةً وإن عاد، كما لو قطع باختياره.

والوجه الآخر: أنَّ جميع ذلك رضعةٌ، وهو مذهب الشَّافعيِّ، إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة، ففيه وجهان؛ لأنَّه لو حلف: لا أكلتُ اليوم إلا أكلةً واحدةً، فاستدام الأكل زمنًا، أو قطع لشرب ماءٍ، أو انتقالٍ من لونٍ إلى لونٍ، أو انتظارٍ لما يُحمل إليه من الطَّعام= لم يعدَّ إلا أكلةً. قال

(1)

: والوَجُور رضعةٌ، فكذا هذا.

قلت: وكلام أحمد يحتمل أمرين، أحدهما: ما ذكره الشَّيخ، ويكون قوله:«فهي رضعةٌ» عائد

(2)

إلى الرَّضعة الثَّانية. الثَّاني: أن يكون المجموع رضعةً، ويكون قوله:«فهي رضعةٌ» عائد إلى الأوَّل أو الثَّاني، وهذا أظهر محتمليه؛ لأنَّه استدلَّ بقطعه للتَّنفُّس

(3)

، أو الاستراحة على كونها رضعةً واحدةً. ومعلومٌ أنَّ هذا الاستدلال أليقُ بكون الثَّانية مع الأولى واحدةً من كون الثَّانية رضعةً مستقلَّةً، فتأمَّلْه.

وأمَّا قياس الشَّيخ له على يسير السَّعوط والوَجُور، فالفرق بينهما أنَّ

(1)

وفي المطبوع بدل «قال» : «واحدة، فكذا هاهنا، والأول أصح، لأن اليسير من السعوط» كما في «المغني» ، وليست في النسخ. والظاهر أن المؤلف اختصر العبارة.

(2)

كذا في النسخ مرفوعًا هنا وفيما يأتي، والوجه النصب.

(3)

د، ح:«للنفس» .

ص: 187

ذلك مستقلٌّ، ليس تابعًا لرضعةٍ قبله، ولا هو من تمامها فيقال: رضعةٌ، بخلاف مسألتنا، فإنَّ الثَّانية تابعةٌ للأولى، وهي من تمامها، فافترقا.

فصل

الحكم الرَّابع: أنَّ الرَّضاع الذي يتعلَّق به التَّحريم ما كان قبل الفِطام في زمن الارتضاع المعتاد. وقد اختلف الفقهاء في ذلك:

فقال الشَّافعيُّ وأحمد وأبو يوسف ومحمد: هو ما كان في الحولين، ولا يُحرِّم ما كان بعدهما. وصحَّ ذلك عن عمر، وابن مسعودٍ، وأبي هريرة، وابن عبَّاسٍ، وابن عمر

(1)

، وروي عن سعيد بن المسيَّب

(2)

، والشَّعبيِّ

(3)

، وابن شُبرمة

(4)

. وهو قول سفيان، وإسحاق، وأبي عبيد، وابن حزمٍ، وابن المنذر، وداود، وجمهور أصحابه.

وقالت طائفةٌ

(5)

: الرَّضاع المحرِّم ما كان قبل الفطام، ولم يَحُدُّوه بزمنٍ، صحَّ ذلك عن أم سلمة

(6)

وابن عبَّاسٍ

(7)

، وروي عن علي

(8)

ولم يصحَّ

(1)

تقدم تخريج آثارهم، عدا أثر أبي هريرة فأخرجه ابن أبي شيبة (17340 - 17342).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

أخرجه عبد الرزاق (13894)، وسعيد بن منصور (1/ 278)، وابن جرير (4/ 204).

(4)

ذكره عنه ابن حزم في «المحلى» (10/ 19)، والبغوي في «شرح السنة» (9/ 84).

(5)

«طائفة» ليست في ز.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة (17339).

(7)

أخرجه عبد الرزاق (13902)، وفي إسناده جهالة.

(8)

أخرجه عبد الرزاق (11451)، والطبراني في «الأوسط» (7/ 222)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 461) من طريق جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي، وجويبر ضعيف جدًا، ويروي عن الضحاك أشياء مناكير كما قال ابن المديني وغيره، وهذا الحديث منها كما في ترجمته. وأخرجه ابن أبي شيبة (17338) من طريق أبي جناب عن إسماعيل بن رجاء عن النزال به، وأبو جناب ضعفه أكثر النقاد، وهو كثير التدليس. وروي مرفوعًا، أخرجه عبد الرزاق (1450، 13897)، ومن طريقه ابن عدي في «الكامل» (2/ 340)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 461) عن معمر عن جويبر به مرفوعًا، وخالفه الثوري فرواه عن جويبر ووقفه، قال العقيلي:«وهو الصواب» . وينظر: «الضعفاء الكبير» للعقيلي (4/ 428).

ص: 188

عنه، وهو قول الحسن، والزُّهريِّ، وقتادة

(1)

، وعكرمة

(2)

، والأوزاعيِّ. قال الأوزاعيُّ

(3)

: إن فُطِم وله عامٌ واحدٌ واستمرَّ

(4)

فطامه، ثمَّ رضع في الحولين، لم يُحرِّم هذا الرَّضاع شيئًا، فإن تمادى رضاعه ولم يُفطَم، فإنه ما كان في الحولين يُحرِّم، وما كان بعدهما فإنَّه لا يُحرِّم وإن تمادى الرَّضاع.

وقالت طائفةٌ: الرَّضاع المحرِّم ما كان في الصِّغر، ولم يُوقِّته هؤلاء بوقت، وروي هذا عن ابن عمر

(5)

، وابن المسيَّب

(6)

، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خلا عائشة.

(1)

أخرجه عن الثلاثة عبد الرزاق (13908).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (13909)، وإسناده منقطع.

(3)

ذكره عنه ابن حزم في «المحلى» (10/ 18).

(4)

في النسخ بدون الواو. والمثبت كما في «المحلى» .

(5)

أخرجه مالك (1767).

(6)

أخرجه مالك (1772)، وعبد الرزاق (13907)، وابن أبي شيبة (17346) من طريق يحيى بن سعيد، وأخرجه سعيد بن منصور (1/ 279) من طريق سفيان كلاهما (يحيى وسفيان) عن ابن المسيب به.

ص: 189

وقال أبو حنيفة وزفر: ثلاثون شهرًا، وعن أبي حنيفة روايةٌ أخرى كقول أبي يوسف ومحمد.

وقال مالك في المشهور من مذهبه: يُحرِّم في الحولين وما قاربَهما، ولا حرمةَ له بعد ذلك. ثمَّ رُوي عنه اعتبار أيَّامٍ يسيرةٍ، وروي عنه شهران. وروي عنه شهرٌ ونحوه. وروى عنه الوليد بن مسلمٍ وغيره: أنَّ ما كان بعد الحولين من رضاعٍ بشهر أو شهرين أو ثلاثة فإنَّه عندي من الحولين، وهذا هو المشهور عند كثيرٍ من أصحابه.

والَّذي رواه عنه أصحاب «الموطَّأ» وكان يُقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه

(1)

: وما كان من الرَّضاع بعد الحولين فإنَّ قليله وكثيره لا يحرِّم شيئًا، إنَّما هو بمنزلة الماء

(2)

. هذا لفظه.

وقال: إذا فُصِل الصَّبيُّ قبل الحولين، واستغنى بالطَّعام عن الرَّضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن لرضاعه حرمةٌ

(3)

.

وقال الحسن بن صالحٍ، وابن أبي ذئبٍ، وجماعةٌ من أهل الكوفة: مدَّة الرَّضاع المحرِّم ثلاث سنين، فما زاد عليها لم يحرِّم.

وقال عمر بن عبد العزيز: مدَّته إلى سبع سنين، وكان يزيد بن هارون يحكيه عنه كالمتعجِّب من قوله

(4)

. وروي عنه خلاف هذا، وحكى عنه

(1)

برقم (1772).

(2)

كذا في النسخ. وفي الموطأ: «الطعام» .

(3)

ينظر: «التمهيد» (8/ 262) و «الاستذكار» (6/ 248).

(4)

لم أقف عليه.

ص: 190

ربيعة أنَّ مدَّته حولان واثنا عشر يومًا

(1)

.

وقالت طائفةٌ من السَّلف والخلف: يُحرِّم رضاع الكبير ولو أنَّه شيخٌ، فروى مالك

(2)

عن ابن شهابٍ أنَّه سئل عن رضاع الكبير، فقال: أخبرني عروة بن الزُّبير بحديث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم، ففعلتْ، وكانت تراه ابنًا لها. قال عروة: فأخذتْ بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحبُّ أن يدخل عليها من الرِّجال

(3)

، فكانت تأمر أختها أمَّ كلثوم وبناتِ أخيها يُرضِعن من أحبَّت أن يدخل عليها من الرِّجال.

وقال عبد الرزاق

(4)

: ثنا ابن جريجٍ، قال: سمعت عطاء بن أبي رباحٍ وسأله رجلٌ فقال: سقتني امرأةٌ

(5)

من لبنها بعد ما كنتُ رجلًا كبيرًا، أفأنكحها؟ قال عطاء: لا تنكِحْها، فقلت له: وذلك رأيك؟ قال: نعم، كانت عائشة تأمر بذلك بناتِ أخيها.

وهذا قولٌ ثابتٌ عن عائشة رضي الله عنها. ويروى عن علي

(6)

وعروة بن

(1)

لم أقف عليه.

(2)

في «الموطأ» (1775). وأخرجه أحمد (26330)، وأبو داود (2061)، وأصله عند البخاري (5088)، ومسلم (1453).

(3)

بعدها في ز: «والنساء» .

(4)

في «المصنف» (13883).

(5)

م، ص:«امرأتي» .

(6)

أخرجه عبد الرزاق (13888).

ص: 191

الزُّبير

(1)

وعطاء بن أبي رباحٍ

(2)

، وهو قول اللَّيث بن سعدٍ

(3)

، وأبي محمد بن حزم، قال

(4)

: ورضاع الكبير ولو أنَّه شيخٌ يُحرِّم كما يُحرِّم رضاع الصَّغير، ولا فرقَ.

فهذه مذاهب النَّاس في هذه المسألة.

ولنذكر مناظرة أصحاب الحولين، والقائلين برضاع الكبير، فإنَّهما طرفان، وسائر الأقوال متقاربةٌ.

قال أصحاب الحولين: قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، قالوا: فجعل تمام الرَّضاعة حولين، فدلَّ على أنَّه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلَّق به التَّحريم.

قالوا: وهذه المدَّة هي مدَّة المجاعة الَّتي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَصَرَ الرَّضاعة المحرِّمة عليها.

قالوا: وهي مدَّة الثَّدي التي قال فيها: «لا رضاعَ إلا ما كان في الثَّدي»

(5)

أي في زمن الثَّدي، وهذه لغةٌ معروفةٌ، العرب يقولون: فلانٌ مات في الثَّدي، أي في زمن الرَّضاع قبل الفطام، ومنه الحديث المشهور: «إنَّ إبراهيم مات في

(1)

تقدم تخريجه قريبًا.

(2)

تقدم تخريجه قريبًا.

(3)

كما في «المحلى» (10/ 20).

(4)

في «المحلى» (10/ 17).

(5)

تقدم تخريجه من حديث أم سلمة عند الترمذي (1152)، وابن حبان (4224).

ص: 192

الثَّدي، وإنَّ له مُرضِعًا في الجنَّة تُتِمُّ رضاعَه»

(1)

، يعني إبراهيم ابنَه صلوات الله وسلامه عليه.

قالوا: وأكَّد ذلك بقوله: «لا رضاعَ إلا ما فَتَقَ الأمعاءَ، وكان في الثَّدي قبل الفِطام»

(2)

، فهذه ثلاثة أوصافٍ للرَّضاع المحرِّم، ومعلومٌ أنَّ رضاع الشَّيخ الكبير عارٍ من الثَّلاثة.

قالوا: وأصرحُ من هذا حديث ابن عبَّاسٍ: «لا رضاعَ إلا ما كان في الحولين»

(3)

.

قالوا: وأكَّده أيضًا حديث ابن مسعودٍ: «لا يُحرِّم من الرَّضاع إلا ما أنبتَ اللَّحم وأنشَرَ العظمَ»

(4)

، ورضاع الكبير لا يُنبِت لحمًا، ولا يُنشِر عظمًا.

قالوا: ولو كان رضاع الكبير محرِّمًا لما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعائشة وتغيَّر وجهه، وكره دخولَ أخيها من الرَّضاعة عليها لمَّا رآه كبيرًا، وقال:«انظُرْنَ مَنْ إخوانُكنُّ» ، فلو حرَّم رضاع الكبير لم يكن فرقٌ بينه وبين الصَّغير، ولما كره ذلك وقال:«انظُرن مَن إخوانُكنَّ» ثمَّ قال: «فإنَّما الرَّضاعة من المجاعة» ، وتحت هذا من المعنى خشيةُ أن يكون قد ارتضع في غير زمن الرَّضاع وهو زمن المجاعة، فلا ينشُر الحرمة، فلا يكون أخًا.

(1)

أخرجه بنحوه مسلم (2316).

(2)

تقدم تخريجه (ص 158).

(3)

تقدم تخريجه (ص 159).

(4)

تقدم تخريجه (ص 159).

ص: 193

قالوا: وأمَّا حديث سهلة في رضاع سالم فهذا كان في أوَّل الهجرة؛ لأنَّ قصَّته نزلت

(1)

عقيب نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، وهي نزلت في أوَّل الهجرة. وأمَّا أحاديث اشتراط الصِّغر وأن يكون في الثَّدي قبل الفِطام، فهي من رواية ابن عبَّاسٍ وأبي هريرة، وابن عبَّاسٍ إنَّما قدِمَ المدينة قبل الفتح، وأبو هريرة إنَّما أسلم عام فتح خيبر بلا شكٍّ، كلاهما قدِمَ المدينة بعد قصَّة سالم في رضاعه من امرأة أبي حذيفة.

قال المثبتون للتَّحريم برضاع الشُّيوخ: قد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم صحَّةً لا يمتري فيها أحدٌ أنَّه أمر سهلة بنت سهيل أن تُرضِع سالمًا مولى أبي حذيفة، وكان كبيرًا ذا لحيةٍ، وقال:«أَرضِعيه تَحْرُمي عليه» ، ثمَّ ساقوا الحديث وطرقه وألفاظه، وهي صحيحةٌ صريحةٌ بلا شكٍّ.

ثمَّ قالوا: فهذه الأخبار ترفع الإشكال، وتُبيِّن مراد الله عز وجل في الآيات المذكورات: أنَّ الرَّضاعة الَّتي تَتِمُّ بتمام الحولين أو بتراضي الأبوين قبل الحولين إذا رأيا في ذلك صلاحًا للرَّضيع، إنَّما هي الموجبة للنَّفقة على المرأة المرضعة، والَّتي يُجبَر عليها الأبوان أحبَّا أم كَرِها. ولقد كان في الآية كفايةٌ من هذا؛ لأنَّه تعالى قال:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، فأمر تعالى الوالداتِ بإرضاع المولود عامين، وليس في هذا تحريمٌ للرَّضاعة بعد ذلك، ولا أنَّ التَّحريم ينقطع بتمام الحولين، وكان قول الله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]،

(1)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «كانت» .

ص: 194

ولم يقل في حولين، ولا في وقتٍ دون وقتٍ زائدًا على الآيات الأخر، وعمومها

(1)

لا يجوز تخصيصه إلا بنصٍّ يبيِّن أنَّه تخصيصٌ له، لا بظنٍّ ولا محتملٍ لا بيانَ فيه.

وكانت هذه الآثار ــ يعني الَّتي فيها التَّحريم برضاع الكبير ــ قد جاءت مجيء التَّواتر، رواها نساء النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

، وسهلة بنت سهيل

(3)

وهي من المهاجرات، وزينب بنت أم سلمة

(4)

وهي ربيبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ورواها من التَّابعين: القاسم بن محمَّدٍ

(5)

، وعروة بن الزُّبير

(6)

، وحُميد بن نافع

(7)

، ورواها عن هؤلاء: الزُّهريُّ

(8)

، وابن أبي مُليكة

(9)

، وعبد الرحمن بن القاسم

(10)

، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاريُّ

(11)

، وربيعة

(12)

، ثمَّ رواها عن

(1)

م، ح:«عمومًا» .

(2)

«صحيح مسلم» (1453، 1454).

(3)

«صحيح مسلم» (1453/ 26).

(4)

«صحيح مسلم» (1453/ 29).

(5)

«صحيح مسلم» (1453/ 27، 28).

(6)

«صحيح البخاري» (4000).

(7)

«صحيح مسلم» (1453/ 29).

(8)

«صحيح مسلم» (1454).

(9)

«صحيح مسلم» (1453/ 27، 28).

(10)

«صحيح مسلم» (1453/ 26).

(11)

«سنن النسائي» (3224، 3321)، و «صحيح ابن حبان» (4213)، و «مستدرك الحاكم» (3/ 251).

(12)

«سنن النسائي» (3321)، و «صحيح ابن حبان» (4213)، والحاكم (4/ 68).

ص: 195

هؤلاء: أيُّوب السِّختيانيُّ

(1)

، وسفيان الثَّوريُّ

(2)

، وسفيان بن عيينة

(3)

، وشعبة

(4)

، ومالك

(5)

، وابن جريجٍ

(6)

، وشعيب

(7)

، ويونس

(8)

، وجعفر بن ربيعة

(9)

، ومعمر

(10)

، وسليمان بن بلالٍ

(11)

،

وغيرهم، ثمَّ رواها عن هؤلاء الجمُّ الغفير والعدد الكثير، فهي نقلُ كافَّةٍ لا يختلف مؤالفٌ ولا مخالفٌ في صحَّتها.

فلم يبقَ من الاعتراض إلا قولُ القائل: كان ذلك خاصًّا بسالم، كما قال بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهنَّ في ذلك، فليعلمْ من تعلَّق بهذا أنَّه ظنٌّ ممَّن ظنَّ ذلك منهنَّ رضي الله عنهن، هكذا في الحديث أنَّهنُّ قلن: ما نرى هذا إلا خاصًّا بسالم، وما ندري لعله رخصةٌ لسالم. فإذْ هو ظنٌّ بلا شكٍّ فإنَّ

(1)

«صحيح مسلم» (1453/ 27).

(2)

«السنن الكبرى» للنسائي (5451).

(3)

«مسند أحمد» (24108)، و «سنن النسائي» (3220)، و «ابن ماجه» (1943).

(4)

«صحيح مسلم» (1453/ 29).

(5)

«الموطأ» (1775).

(6)

«صحيح مسلم» (1453/ 28).

(7)

«البخاري» (5088)، و «مسلم» (1454).

(8)

«سنن أبي داود» (2061).

(9)

«السنن الكبرى» للنسائي (5426).

(10)

«مصنف عبد الرزاق» (13885)، و «مسند أحمد» (25913)، و «صحيح ابن حبان» (4214).

(11)

«سنن النسائي» (3221، 3224)، و «صحيح ابن حبان» (4213)، و «مستدرك الحاكم» (4/ 68) ، وفي د، ز:«وسلمان» ..

ص: 196

الظَّنَّ لا تُعارَض به السُّننُ الثَّابتة، قال الله تعالى:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. وشتَّانَ بين احتجاج أم سلمة رضي الله عنها بظنِّها وبين احتجاج عائشة رضي الله عنها بالسُّنَّة الثَّابتة، ولهذا لمَّا قالت لها عائشة: أما لكِ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ، سكتت أم سلمة، ولم تَنطِقْ بحرفٍ، وهذا إمَّا رجوعٌ منها

(1)

إلى مذهب عائشة، وإمَّا انقطاعٌ في يدها.

قالوا: وقول سهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أُرضِعه وهو رجلٌ كبيرٌ؟ بيانٌ جليٌّ أنَّه بعد نزول الآيات المذكورات.

قالوا: ونعلم يقينًا أنَّه لو كان ذلك خاصًّا بسالم لقطعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الإلحاقَ، ونصَّ على أنَّه ليس لأحدٍ بعده، كما بيَّن لأبي بُردة بن نِيَارٍ أنَّ جَذَعَتَه تَجزي عنه، ولا تَجزِي عن أحدٍ بعده

(2)

. وأين يقع ذبح جَذَعةٍ أضحيَّةً من هذا الحكم العظيم المتعلِّق به حِلُّ الفرج وتحريمه، وثبوت المَحْرَميَّة، والخلوة بالمرأة والسَّفر بها؟ فمعلومٌ قطعًا أنَّ هذا أولى ببيان التَّخصيص لو كان خاصًّا.

قالوا: وقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الرَّضاعة من المَجَاعة»

(3)

حجَّةٌ لنا؛ لأنَّ شرب الكبير للَّبن يُؤثِّر في دفع مجاعته قطعًا، كما يُؤثِّر في الصَّغير أو قريبًا منه.

فإن قلتم: فما فائدة ذكره إذا كان الكبير والصَّغير فيه سواءً؟

(1)

«منها» ليست في المطبوع.

(2)

أخرجه البخاري (5557)، و مسلم (1916) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

(3)

تقدم تخريجه (ص 158).

ص: 197

قلنا: فائدته إبطال تعلُّق التَّحريم بالقطرة من اللَّبن، أو المصَّة الواحدة الَّتي لا تُغنِي من جوعٍ، ولا تُنبِت لحمًا، ولا تُنشِر عَظْمًا.

قالوا: وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا رضاعَ إلا ما كان في الحولين» ، و «كان في الثَّدي قبل الفطام»

(1)

ليس بأبلغَ من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ربا إلا في النَّسيئة»

(2)

و «إنَّما الرَّبا في النَّسيئة»

(3)

، ولم يمنع ذلك ثبوتَ ربا الفضل بالأدلَّة الدَّالَّة عليه، فكذا هذا. فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُننه الثَّابتة كلُّها حقٌّ يجب اتِّباعها، ولا يُضرَب بعضُها ببعضٍ، ولا يُعارَض بعضُها ببعضٍ

(4)

بل يُستعمل كلٌّ منها على وجهه.

قالوا: وممَّا يدلُّ على ذلك أنَّ عائشة أمَّ المؤمنين، وأفقه نساء الأمَّة هي الَّتي روتْ هذا وهذا. فهي الَّتي روتْ «إنَّما الرَّضاعة من المجاعة» ، وروت حديث سهلة وأخذتْ به، فلو كان عندها حديث «إنَّما الرَّضاعة من المجاعة» مخالفًا لحديث سهلة لما ذهبتْ إليه، وتركتْ حديثًا واجهها به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغيَّر وجهه، وكره الرَّجل الذي رآه عندها، وقالت: هو أخي.

قالوا: وقد صحَّ عنها أنَّها كانت تُدخِل عليها الكبيرَ إذا أرضعته ــ في حال كِبَرِه ــ أختٌ من أخواتها الرَّضاعَ المحرِّم، ونحن نشهد بشهادة اللَّه، ونقطع قطعًا نلقاه به يوم نَلقاه

(5)

، أنَّ أمَّ المؤمنين لم تكن لِتُبِيح سِتْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

تقدم تخريجهما (ص 159، 158) من حديثي ابن عباس وأم سلمة.

(2)

أخرجه البخاري (2178) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

(3)

هو الحديث السابق نفسه، وهذا لفظ مسلم (1596/ 102).

(4)

«ولا يعارض بعضها ببعض» ليست في المطبوع.

(5)

في المطبوع: «يوم القيامة» خلاف النسخ.

ص: 198

بحيث ينتهكه من لا يحلُّ له انتهاكُه، ولم يكن الله عز وجل لِيُبِيحَ ذلك على يد الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق المبرَّأة من فوق سبع سماواتٍ، وقد عصم الله سبحانه ذلك الجنابَ الكريم والحِمى المنيع والشَّرف الرَّفيع أتمَّ عصمةٍ، وصانه أعظمَ صيانةٍ، وتولَّى صيانته وحمايته والذَّبَّ عنه بنفسه ووحيه وكلامه.

قالوا: فنحن نُوقن ونقطع ونَبُتُّ

(1)

الشَّهادة لله بأنَّ فِعْلَ عائشة هو الحقُّ، وأنَّ رضاع الكبير يقع به من التَّحريم والمَحْرميَّة ما يقع برضاع الصَّغير، ويكفينا أمُّنا أفقهُ نساء الأمَّة على الإطلاق، وقد كانت تناظر في ذلك نساءه صلى الله عليه وسلم، ولا يُجِبْنَها بغير قولهنِّ: ما أحدٌ داخلًا علينا بتلك الرَّضاعة. ويكفينا في ذلك أنَّه مذهب ابنِ عمِّ نبيِّنا

(2)

وأعلمِ أهل الأرض على الإطلاق حين كان خليفةً، ومذهب اللَّيث بن سعدٍ الذي شهد له الشَّافعيُّ بأنَّه كان أفقه من مالك إلا أنَّه ضيَّعه أصحابه، ومذهب عطاء بن أبي رباحٍ ذكره عبد الرزاق عن ابن جريجٍ عنه

(3)

. وذكر مالك

(4)

عن الزُّهريِّ أنَّه سئل عن رضاع الكبير، فاحتجَّ بحديث سهلة بنت سهيل في قصَّة سالمٍ مولى أبي حذيفة. وقال عبد الرزاق

(5)

: وأخبرني ابن جريجٍ، قال: أخبرني عبد الكريم، أنَّ

(1)

ز: «نثبت» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه (ص 192).

(4)

في «الموطأ» (1775)، وقد تقدم (ص 191).

(5)

تقدم.

ص: 199

سالم بن أبي الجعد مولى

(1)

الأشجعي أخبره [أنَّ أباه أخبره]

(2)

، أنَّه سأل عليَّ بن أبي طالبٍ فقال: أردتُ أن أتزوَّج امرأةً قد سَقَتْني من لبنها وأنا كبيرٌ تداويتُ به، فقال له علي: لا تنكِحْها، ونهاه عنها.

فهؤلاء سلفنا في هذه المسألة، وتلك نصوصنا كالشَّمس صحَّةً وصراحةً.

قالوا: وأصرحُ أحاديثكم حديث أم سلمة ترفعه: «لا يُحرِّم من الرَّضاع إلا ما فَتَقَ الأمعاءَ في الثَّدي وكان قبل الفطام»

(3)

، فما أصْرَحَه لو كان سليمًا من العلَّة! لكن هذا حديثٌ منقطعٌ؛ لأنَّه من رواية فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئًا؛ لأنَّها كانت أسنَّ من زوجها هشام باثني عشر عامًا، فكان مولده

(4)

في سنة ستِّين

(5)

، ومولد فاطمة سنة ثمانٍ وأربعين، وماتت أم سلمة سنة تسعٍ وخمسين، وفاطمة صغيرةٌ لم تَبلُغها، فكيف أن تحفظ عنها؟ ولم تسمع من خالة أبيها شيئًا وهي في حجرها، كما حصل

(6)

سماعها من جدَّتها أسماء بنت أبي بكر.

قالوا: وإذا نظر العالم المنصف في هذا القول، ووازنَ بينه وبين قول من

(1)

في المطبوع: «أبي جعد المولى» .

(2)

ما بين المعكوفتين ليس في النسخ. وهو في «المصنّف» (13888).

(3)

تقدم (ص 158).

(4)

م، ح، ز، د:«مولدها» ، خطأ.

(5)

في «تهذيب التهذيب» (11/ 51): «سنة إحدى وستين» . وفي (12/ 444): «قال هشام بن عروة: كانت أكبر مني بثلاث عشرة سنة» .

(6)

مكانها بياض في م، د، ز.

ص: 200

يَحُدُّ مدَّة الرَّضاع المحرِّم بخمسةٍ وعشرين شهرًا، أو ستَّةٍ وعشرين أو سبعةٍ وعشرين أو ثلاثين شهرًا، من تلك الأقوال الَّتي لا دليلَ عليها من كتاب اللَّه ولا سنَّة رسوله ولا قولِ أحدٍ من الصَّحابة= تبيَّن له فَصْلُ

(1)

ما بين القولين.

فهذا منتهى أقدام الطَّائفتين في هذه المسألة، ولعلَّ الواقف عليها لم يكن يَخْطِر له أنَّ هذا القول تنتهي قوَّتُه إلى هذا الحدِّ، وأنَّه ليس بأيدي أصحابه قدرةٌ على تقريره وتصحيحه، فاجلِسْ أيُّها العالم المنصف مجلسَ الحكم بين هذين المتنازعينِ، وافصِلْ بينهما بالحجَّة والبيان، لا بالتَّقليد وقال فلان.

واختلف القائلون بالحولين في حديث سهلة هذا على ثلاث مسالك:

أحدها: أنَّه منسوخٌ، وهذا مسلك كثيرٍ منهم، ولم يأتوا على النَّسخ بحجَّةٍ سوى الدَّعوى، فإنَّهم لا يُمكِنهم إثباتُ التَّاريخ المعلوم التَّأخُّر بينه وبين تلك الأحاديث. ولو قَلَبَ أصحاب هذا القول عليهم الدَّعوى، وادَّعوا نسخَ تلك الأحاديث بحديث سهلة، لكانت نظيرَ دعواهم.

وأمَّا قولهم: إنَّها كانت في أوَّل الهجرة حينَ نزولِ قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، ورواية ابن عبَّاسٍ وأبي هريرة بعد ذلك، فجوابه من وجوهٍ:

أحدها: أنَّهما لم يُصرِّحا بسماعه من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل لم يسمع منه ابن عبَّاسٍ إلا دونَ العشرين حديثًا، وسائرها عن الصِّحابة.

الثَّاني: أنَّ نساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يحتجَّ أحدٌ منهنُّ، بل ولا غيرُهنَّ على عائشة بذلك، بل سلكن في الحديث تخصيصَه بسالم، وعدمَ إلحاق غيره به.

(1)

في المطبوع: «فضل» ، خطأ.

ص: 201

الثَّالث: أنَّ عائشة نفسها روت هذا وهذا، فلو كان حديث سهلة منسوخًا لكانت عائشة قد أخذتْ به وتركت النَّاسخ، أو خفي عليها تقدُّمُه مع كونها هي الرَّاوية له، وكلاهما ممتنعٌ أو في غاية البعد.

الرَّابع: أنَّ عائشة ابتُلِيَتْ بالمسألة، وكانت تعمل بها، وتناظر عليها، وتدعو إليها صواحباتها، فلها بها مزيدُ اعتناءٍ، فكيف يكون هذا حكمًا منسوخًا قد بطلَ كونُه من الدِّين جملةً، ويخفى عليها ذلك، ويخفى على نساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فلا تذكره لها واحدةٌ منهنَّ؟

المسلك الثَّاني: أنَّه مخصوصٌ بسالم دون من عداه، وهذا مسلك أم سلمة ومن معها من نساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومن تبعهنَّ. وهذا المسلك أقوى ممَّا قبله، فإنَّ أصحابه قالوا ممَّا يبيِّن اختصاصه بسالم أنَّ فيه: أنَّ سهلة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب، وهي تقتضي أنَّه لا يحلُّ للمرأة أن تُبدِيَ زينتها إلا لمن ذُكر في الآية وسُمِّي فيها، ولا يُخَصُّ من عموم من عداهم أحدٌ إلا بدليلٍ.

قالوا: والمرأة إذا أرضعتْ أجنبيًّا فقد أبدتْ زينتها له، فلا يجوز ذلك تمسُّكًا بعموم الآية، فعلمنا أنَّ إبداء سهلة زينتَها لسالم خاصٌّ به.

قالوا: وإذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا من الأمَّة بأمرٍ، أو أباح له شيئًا أو نهاه عن شيءٍ، وليس في الشَّريعة ما يعارضه= ثبت ذلك في حقِّ غيره من الأمَّة ما لم ينصَّ على تخصيصه. وأمَّا إذا أمر النَّاس بأمرٍ، أو نهاهم عن شيءٍ، ثمَّ أمر واحدًا من الأمَّة بخلاف ما أمر به النَّاس، أو أطلق له ما نهاهم عنه، فإنَّ ذلك يكون خاصًّا به وحده. ولا نقول في هذا الموضع: إنَّ أمره للواحد أمرٌ للجميع،

ص: 202

وإباحته للواحد إباحةٌ للجميع

(1)

؛ لأنَّ ذلك يُؤدِّي إلى إسقاط الأمر الأوَّل والنَّهي الأوَّل، بل نقول: إنَّه خاصٌّ بذلك الواحد لتتَّفق النُّصوص وتأتلف

(2)

، ولا يعارض بعضها بعضًا، فحرَّم الله في كتابه أن تُبدِي المرأة زينتها لغير مَحْرمٍ، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة أن تُبدي زينتها لسالم وهو غير محرمٍ عند إبداء الزِّينة قطعًا، فيكون ذلك رخصةً خاصَّةً بسالم

(3)

، مستثناةً من عموم التَّحريم، ولا نقول: إنَّ حكمها عامٌّ، فيبطل حكم الآية المحرِّمة.

قالوا: ويتعيَّن هذا المسلك، لأنَّا لو لم نسلكه لزِمَنا أحدُ مسلكين لا بدَّ منهما: إمَّا نسخ هذا الحديث بالأحاديث الدالَّة على اعتبار الصِّغر في التَّحريم، وإمَّا نسخها به، ولا سبيلَ إلى واحدٍ من الأمرين لعدم العلم بالتَّاريخ، ولعدم تحقُّق المعارضة، ولإمكان العمل بالأحاديث كلِّها، فإنَّا

(4)

إذا حملنا حديث سهلة على الرُّخصة الخاصَّة، والأحاديث الأُخَر على عمومها فيما عدا سالمًا، لم تتعارض، ولم يَنسخ بعضُها بعضًا، وعُمِل بجميعها.

قالوا: وإذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أنَّ الرَّضاع إنَّما يكون في الحولين، وأنَّه إنَّما يكون في الثَّدي، وإنَّما يكون قبل الفطام= كان في ذلك ما يدلُّ على أنَّ حديث سهلة على الخصوص، سواءٌ تقدَّم أو تأخَّر، فلا ينحصر بيان الخصوص في قوله:«هذا لك وحدك» حتَّى يتعيَّن طريقًا.

(1)

«وإباحته

للجميع» ساقطة من د.

(2)

بعدها في ص، د، ز:«النصوص» .

(3)

د: «لسالم» .

(4)

د: «فأما» ، خطأ.

ص: 203

قالوا: وأمَّا تفسير حديث «إنَّما الرَّضاعة من المجاعة» بما ذكرتموه، ففي غاية البعد من اللَّفظ، ولا يتبادر إليه أفهام المخاطبين، بل القول في معناه ما قاله أبو عبيد والنَّاس. قال أبو عبيد

(1)

: قوله: «إنَّما الرَّضاعة من المجاعة» ، يقول: إنَّ الذي إذا جاع كان طعامه الذي يُشْبِعه اللَّبن، إنَّما هو الصَّبيُّ الرَّضيع. فأمَّا الذي شِبَعُه

(2)

من جوعه الطَّعام فإنَّ رضاعه ليس برضاعٍ. ومعنى الحديث: إنَّما الرَّضاع في الحولين قبل الفطام.

هذا تفسير أبي عبيد والنَّاس، وهو الذي يتبادر فهمه من الحديث إلى الأذهان، حتَّى لو احتمل الحديث التَّفسيرين على السَّواء لكان هذا المعنى أولى به، لمساعدة سائر الأحاديث لهذا المعنى، وكَشْفِها له وإيضاحِها. وممَّا يُبيِّن أنَّ غير هذا التَّفسير خطأٌ، وأنَّه لا يصحُّ أن يُراد به رضاعة الكبير: أنَّ لفظة المجاعة إنَّما تدلُّ على رضاعة الصَّغير، فهي تُثبِت رضاعة المجاعة وتنفي غيرها، ومعلومٌ يقينًا أنَّه إنَّما أراد مجاعة اللَّبن، لا مجاعة الخبز واللَّحم، فهذا لا يخطر ببال المتكلِّم ولا السَّامع، فلو جعلنا حكم الرَّضاعة عامًّا لم يبقَ لنا ما ينفي ويثبت.

وسياق قوله: لمَّا رأى الرَّجل الكبير فقال: «إنَّما الرَّضاعة من المجاعة» يُبيِّن المراد، وأنَّه إنَّما يُحرِّم رضاعةَ من يجوع إلى لبن المرأة، والسِّياق يُنزِل اللَّفظ منزلةَ الصَّريح، فتغيُّر وجهه الكريم صلوات الله عليه وسلامه، وكراهته لذلك الرَّجل، وقوله:«انظُرن مَن إخوانكنَّ» = إنَّما هو للتَّحفُّظ في الرَّضاعة، وأنَّها لا تُحرِّم كلَّ وقتٍ، وإنَّما تُحرِّم وقتًا دون وقتٍ، ولا يفهم أحدٌ من هذا:

(1)

في «غريب الحديث» (2/ 149).

(2)

كذا في النسخ. وفي «غريب الحديث» : «يشبعه» .

ص: 204

إنما الرَّضاعة ما كان عددها خمسًا، فيُعبِّر عن هذا المعنى بقوله من المجاعة، وهذا ضدُّ البيان الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم.

وقولكم: إنَّ الرَّضاعة تَطْرُد الجوع عن الكبير، كما تطردُه عن الصَّغير= كلامٌ باطلٌ، فإنَّه لا يُعهَد ذو لحيةٍ قطُّ يُشبِعه رضاع المرأة ويطرد عنه الجوع، بخلاف الصَّغير فإنَّه ليس له ما يقوم مقام اللَّبن، فهو يطرد عنه الجوع، فالكبير ليس ذا مجاعةٍ إلى اللَّبن أصلًا. والَّذي يُوضِّح هذا أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يُرِد حقيقة المجاعة، وإنَّما أراد مظنَّتها وزمنَها، ولا شكَّ أنَّه الصِّغر

(1)

، فإن أبيتم إلا الظَّاهريَّة، وأنَّه أراد حقيقتها، لزِمكم أن لا يُحرِّم رضاع الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائعٌ، فلو ارتضع وهو شبعان لم يُؤثِّر شيئًا.

وأمَّا حديث السِّتر المصون والحرمة العظيمة والحِمى المنيع، فرضي الله عن أمِّ المؤمنين، فإنَّها وإن رأت أنَّ هذا الرَّضاع يثبت المَحْرميَّة، فسائر أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يخالفنها

(2)

في ذلك، ولا يَرَين دخول هذا السِّتر المصون والحمى الرَّفيع بهذه الرَّضاعة، فهي مسألة اجتهادٍ، وأحد الحزبين مأجورٌ أجرًا واحدًا، والآخر مأجورٌ أجرين، وأسعدهما بالأجرين من أصاب حكم الله ورسوله في هذه الواقعة، فكلٌّ من المُدخِل للسِّتر المصون بهذه الرَّضاعة والمانعِ من الدُّخول فائزٌ بالأجر، مجتهدٌ في مرضاة الله وطاعة رسوله وتنفيذِ حكمه، ولهما أسوةٌ بالنَّبيَّين الكريمين اللَّذين أثنى الله عليهما بالحكمة والحكم، وخَصَّ بفهم الحكومة أحدَهما.

(1)

ز: «الصغير» .

(2)

ص، د، ز، ح:«يخالفها» .

ص: 205

فصل

وأمَّا ردُّكم لحديث أم سلمة فتعسُّفٌ باردٌ، فلا يلزم انقطاع الحديث من أجل أنَّ فاطمة بنت المنذر لقيت أم سلمة صغيرةً، فقد يَعقل الصَّغير جدًّا أشياء ويحفظها، وقد عَقلَ محمود بن الرَّبيع المَجَّةَ وهو ابن سبع سنين

(1)

، ويعقل أصغر منه.

وقد قلتم: إنَّ فاطمة كانت وقتَ وفاة أم سلمة بنتَ إحدى عشرة سنةً، وهذا سنٌّ جيِّدٌ، لا سيَّما للمرأة، فإنه

(2)

يصلح فيه للزَّوج، فمن هي في حدِّ الزَّواج كيف يقال: إنَّها لا تَعقِل ما تسمع، ولا تدري ما تتحدَّثُ

(3)

به؟ هذا هو الباطل الذي لا تُرَدُّ به السُّنن، مع أنَّ أم سلمة كانت مصادقةً لجدَّتها أسماء، وكانت دارهما واحدةً، فنشأت فاطمة هذه في حجر جدَّتها أسماء مع خالة أبيها عائشة وأم سلمة، وماتت عائشة سنة سبعٍ وخمسين، وقيل: سنة ثمانٍ، وقد يمكن سماع فاطمة منها. وأمَّا جدَّتها أسماء فماتت سنة ثلاثٍ وسبعين، وفاطمة إذ ذاك بنت خمسٍ وعشرين سنةً، فلذلك كثر سماعها منها.

وقد أفتت أم سلمة بمثل الحديث الذي روته سواء

(4)

، فقال أبو عبيد: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب،

(1)

أخرجه البخاري (77) بلفظ: «وأنا ابن خمس سنين» ، وقد تقدم (ص 64) على الصواب، وهو عند مسلم (33) دون ذِكر السن.

(2)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «فإنها» .

(3)

ص، د، ز:«تحدّث» .

(4)

في المطبوع: «أسماء» خلاف النسخ.

ص: 206

عن أم سلمة، أنَّها سئلت ما يُحرِّم من الرَّضاع؟ فقالت: ما كان في الثَّدي قبل الفطام

(1)

. فروت الحديث، وأفتتْ بموجبه.

وأفتى به عمر بن الخطَّاب، كما رواه الدَّارقطنيُّ

(2)

من حديث سفيان عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عباس

(3)

قال: سمعت عمر يقول: لا رضاع إلا في الحولين في الصِّغر.

وأفتى به ابنه عبد الله، فقال مالك

(4)

: عن نافع، عن ابن عمر: أنَّه كان يقول: لا رضاعةَ إلا لمن أرضع في الصِّغر، لا رضاعةَ لكبيرٍ.

(1)

ذكره أبو عبيد في «غريب الحديث» (1/ 358) بدون إسناد. وتابع أبا معاوية حماد بن سلمة، كما أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 18) من طريقه عن هشام بن عروة به. ويحيى بن عبد الرحمن يروي عن أم سلمة بواسطة، وخالفهما عبدة بن سليمان، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (17339) من طريق عبدة عن هشام بن عروة عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن جده أنه سأل أم سلمة، ويحيى لم يسمع من جده، وله طريق أخرى، أخرجها إسحاق بن راهويه في «مسنده» (1887، 1962) من طريق وهيب عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة موقوفًا، وقد روي مرفوعًا، وتقدم تخريجه، والوقف أصح، وينظر:«العلل» للدارقطني (4003).

(2)

(5/ 308)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 462).

(3)

كذا في جميع النسخ. والذي في مصادر التخريج: «عن ابن عمر» . ورواه البيهقي أيضًا بهذا الإسناد عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا، وليس فيه «سمعت عمر». قال البيهقي: الموقوف هو الصحيح.

(4)

في «الموطأ» (1767) ومن طريقه عبد الرزاق (13905)، والشافعي في «الأم» (6/ 81) ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 461). وأخرجه عبد الرزاق (13904، 13906) وابن أبي شيبة (17345) من طرق عن نافع عن ابن عمر به.

ص: 207

وأفتى به ابن عبَّاسٍ، فقال أبو عبيد

(1)

: ثنا عبد الرحمن، عن سفيان الثَّوريِّ، عن عاصمٍ الأحول، عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، قال: لا رضاعَ بعد فطامٍ.

وتناظر في هذه المسألة عبد الله بن مسعودٍ وأبو موسى، فأفتى ابن مسعودٍ بأنَّه لا يُحرِّم إلا في الصِّغر، فرجع إليه أبو موسى، فذكر الدَّارقطنيُّ

(2)

أنَّ ابن مسعودٍ قال لأبي موسى: أنت تفتي بكذا وكذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا رضاعَ إلا ما شدَّ العظم وأنبتَ اللَّحم» ؟

وقد روى أبو داود

(3)

: ثنا محمد بن سليمان الأنباري

(4)

، ثنا وكيعٌ، ثنا سليمان بن المغيرة، عن أبي موسى الهلالي، عن أبيه، عن ابن مسعودٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُحرِّم من الرَّضاع إلا ما أنبتَ اللَّحم وأنشز

(5)

العظم».

(1)

لم أقف عليه في المطبوع من كتب أبي عبيد، وهذا إسناد صحيح، وقد أخرجه عبد الرزاق (13902) من طريق آخر عن ابن عباس.

(2)

في «السنن» (5/ 305). ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 460)، وفي إسناده أبو هشام الرفاعي، وهو متكلم فيه من قبل حفظه، وله طرق أخرى يتقوَّى بها، فقد أخرجه مالك (1777)، ومن طريقه الشافعي في «الأم» (6/ 81)، وأخرجه عبد الرزاق (13895)، وسعيد بن منصور (1/ 281)، وابن أبي شيبة (17308) مختصرًا كلهم من طرق عن ابن مسعود، وقد صححه الشيخ الألباني في «صحيح أبي داود» (6/ 299).

(3)

برقم (2060). وتقدم تخريجه (ص 159).

(4)

د: «الأنصاري» ، خطأ.

(5)

في م: «أو نشر» ، خطأ.

ص: 208

ثمَّ أفتى بذلك، كما ذكره عبد الرزاق

(1)

عن الثَّوريِّ، ثنا أبو بكر بن عيَّاشٍ، عن أبي حُصَين، عن أبي عطية الوادعي، قال: جاء رجلٌ إلى أبي موسى، فقال: إنَّ امرأتي وَرِمَ ثديُها فمَصَصْتُه، فدخل حلقي شيءٌ سبقني، فشدَّد عليه أبو موسى، فأتى عبد الله بن مسعودٍ، فقال: سألتَ أحدًا غيري؟ قال: نعم أبا موسى، فشدَّد عليَّ، فأتى أبا موسى، فقال: أرضيعٌ هذا؟ فقال أبو موسى: لا تسألوني ما دامَ هذا الحبرُ بين أظهركم. فهذه روايته وفتواه.

وأمَّا عليُّ بن أبي طالبٍ، فذكر عبد الرزاق

(2)

عن الثَّوريِّ، عن جُويبر، عن الضحّاك، عن النزَّال بن سَبْرة، عن علي: لا رضاعَ بعد الفِصال.

وهذا خلاف رواية عبد الكريم، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبيه عنه

(3)

. ولكن جُويبر لا يُحتجُّ بحديثه، وعبد الكريم أقوى منه.

فصل

المسلك الثَّالث: أنَّ حديث سهلة ليس بمنسوخٍ، ولا مخصوصٍ، ولا عامٍّ في حقِّ كلِّ أحدٍ، وإنَّما هو رخصةٌ للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة، ويَشُقُّ احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة

(4)

أثَّر رضاعُه، وأمَّا مَن عداه فلا يُؤثِّر إلا رضاع

(1)

برقم (13895). وأخرجه الدارقطني (5/ 306)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 461)، وتقدم تخريجه قريبًا.

(2)

روي مرفوعًا وموقوفًا، وقد تقدم تخريجه (ص 188).

(3)

وهي كذلك عند عبد الرزاق برقم (13888) وقد تقدم (199).

(4)

«لمن لا

للحاجة» ساقطة من د.

ص: 209

الصَّغير. وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله . والأحاديث النَّافية للرَّضاع في الكبر

(1)

إمَّا مطلقةٌ، فتُقيَّد بحديث سهلة، أو عامَّةٌ في الأحوال، فتُخصَّصُ

(2)

هذه الحالُ من عمومها، وهذا أولى من النَّسخ ودعوى التَّخصيص بشخصٍ بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعدُ الشَّرع تشهدُ له، وبالله التوفيق.

(1)

في المطبوع: «الكبير» خلاف النسخ.

(2)

في المطبوع: «فتخصيص» . والمثبت من النسخ.

ص: 210