الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبيعُ ما ليس عنده من قسم القمار والميسر؛ لأنَّه قصد أن يربح على هذا لمَّا باعه ما ليس عنده، والمشتري لا يعلم أنَّه يبيعه ثمَّ يشتري من غيره، وأكثر النَّاس لو علموا ذلك لم يشتروا منه، بل يذهبون يشترون من حيث اشترى هو، وليست هذه المخاطرة مخاطرة التُّجَّار، بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم، فإذا اشترى التَّاجر السِّلعة، وصارت عنده ملكًا وقبضًا، فحينئذٍ دخل في خطر التِّجارة، وباع بيع التِّجارة كما أحلَّه الله تعالى بقوله:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. والله أعلم.
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة
في «صحيح مسلم»
(1)
عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر.
وفي «الصَّحيحين»
(2)
عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة. زاد مسلم
(3)
وفي «الصَّحيحين»
(4)
عن أبي سعيد قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين
(1)
برقم (1513).
(2)
البخاري (584) ومسلم (1511).
(3)
برقم (1511/ 2).
(4)
البخاري (5820) ومسلم (1512).
ولبستين، نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع. والملامسة: لمسُ الرَّجل ثوبَ الآخر بيده باللَّيل أو بالنَّهار، ولا يَقْلِبه
(1)
إلا بذلك. والمنابذة: أن يَنبِذ الرَّجل إلى الرَّجل ثوبه، وينبذ الآخر ثوبه، ويكون ذلك بيعَهما من غير نظرٍ ولا تراضٍ.
أمَّا بيع الحصاة، فهو من إضافة المصدر إلى نوعه، كبيع الخيار وبيع النَّسيئة ونحوهما، وليس من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، كبيع الميتة والدَّم. والبيوع المنهيُّ عنها ترجع إلى هذين القسمين؛ ولهذا فُسِّر بيع الحصاة بأن يقول: ارمِ هذه الحصاة، فعلى أيِّ ثوبٍ وقعت فهو لك بدرهمٍ. وفُسِّر بأنَّ يبيعه من أرضه قدرَ ما انتهت إليه رميةُ الحصاة. وفُسِّر بأن يقبض على كفٍّ من حصًا، ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشَّيء المبيع
(2)
، أو يبيعه سلعةً ويقبض على كفٍّ من حصًا، ويقول: لي بكلِّ حصاةٍ درهمٌ. وفُسِّر بأن يمسك أحدهما حصاةً في يده، ويقول: أيَّ وقتٍ سقطت الحصاة وجب البيع. وفُسِّر بأن يتبايعا، ويقول أحدهما: إذا نبذتُ إليك الحصاة فقد وجب البيع. وفُسِّر بأن يعترض القطيع من الغنم، فيأخذ حصاةً، ويقول: أيَّ شاةٍ أصبتُها فهي لك بكذا. وهذه الصُّور كلُّها فاسدةٌ لما تتضمَّنه من أكل المال بالباطل، ومن الغرر والخطر الذي هو شبيهٌ بالقمار.
فصل
وأمَّا بيع الغرر، فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملاقيح
(1)
م، د، ح:«ولا يقبله» ، تحريف.
(2)
ص، د، م:«الممتنع» .
والمضامين. والغرر: هو المبيع نفسه، وهو فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ، أي مغرور به، كالقَبَض والسَّلَب بمعنى
(1)
المقبوض والمسلوب، وهذا كبيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه، والفرس الشَّارد، والطَّير في الهواء، وكبيع ضربة الغائص
(2)
، وما تحمل شجرته أو ناقته، وما يرضى له به زيدٌ أو يَهَبُه له أو يُورِثه إيَّاه، ونحو ذلك ممَّا لا يُعلَم حصوله أو لا يُقدَر على تسليمه، أو لا يُعرَف حقيقته ومقداره.
ومنه بيع حبل الحبلة، كما ثبت في «الصَّحيحين»
(3)
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وهو نِتاج النِّتاج في أحد الأقوال، والثَّاني: أنَّه أجلٌ، فكانوا يتبايعون إليه، هكذا رواه مسلم
(4)
، وكلاهما غررٌ، والثَّالث: أنَّه بيع حَمْل الكَرْم قبل أن يبلغ، قاله المبرِّد
(5)
، قال: والحَبْلَة: الكرم بسكون الباء وفتحها. وأمَّا ابن عمر ففسَّره بأنَّه أجلٌ كانوا يتبايعون إليه، وإليه ذهب مالك والشَّافعيُّ، وأمَّا أبو عبيدة ففسَّره ببيع نتاج النِّتاج
(6)
، وإليه ذهب أحمد.
(1)
د، ص، ح، ز:«يعني» .
(2)
في بعض النسخ: «القابض» ، تحريف. وضربة الغائص: أن يقول الغائص في البحر للتاجر: أغوص غوصةً، فما أخرجتُه فهو لك بكذا.
(3)
البخاري (2143) ومسلم (1514) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
برقم (1514/ 5).
(5)
كما في «إكمال المعلم» (5/ 133) و «المفهم» للقرطبي (4/ 363). ونُقِل أيضًا عن أبي الحسن ابن كيسان. وردّ عليه السهيلي في «الروض الأنف» (4/ 47) وقال: هو قول غريب لم يذهب إليه أحد في تأويل الحديث.
(6)
انظر: «غريب الحديث» لأبي عبيد (1/ 208) و «تهذيب الأسماء واللغات» (3/ 62).
ومنه بيع الملاقيح والمضامين، كما ثبت من حديث سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المضامين والملاقيح
(1)
. قال أبو عبيد
(2)
: الملاقيح: ما في البطون، وهي
(3)
الأجنَّة، والمضامين: ما في أصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنينَ في بطن النَّاقة، وما يضرِبُه الفحلُ في عامٍ أو أعوامٍ. وأُنشِد
(4)
:
إنَّ المضامينَ الَّتي في الصُّلْبِ
…
ماءُ الفحولِ في الظُّهورِ الحُدْب
ومنه بيع المَجْر، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه
(5)
. قال ابن الأعرابيِّ
(6)
: المَجْر ما في بطن النَّاقة، والمجر: الرِّبا، والمجر: القمار، والمجر: المحاقلة والمزابنة.
(1)
تقدم تخريجه (ص 507).
(2)
في «غريب الحديث» (1/ 208).
(3)
في المطبوع: «من» خلاف الأصول و «غريب الحديث» .
(4)
الرجز في «تهذيب اللغة» و «اللسان» و «التاج» (ضمن، لقح) بلا نسبة، وفيها أنه من إنشاد عبد الملك بن هشام.
(5)
أخرجه ابن أبي عمر في «مسنده» ــ كما في «المطالب العالية» (7/ 301) ــ والبزار في «مسنده» (6132) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 341) والبغوي في «شرح السنة» (8/ 137) من طريق موسى بن عبيدة، وعبد الرزاق (14440) من طريق إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، كلاهما (موسى وإبراهيم) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر به. وموسى ضعيف، وإبراهيم متروك. وذكر البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 341) أن ابن إسحاق رواه عن نافع عن ابن عمر، وابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، وفي روايته عن نافع كلام.
(6)
كما في «تهذيب اللغة» (مجر) وغيره.
ومنه بيع الملامسة والمنابذة، وقد جاء تفسيرها في نفس الحديث، ففي «صحيح مسلم»
(1)
عن أبي هريرة نهى عن بيعتين
(2)
: الملامسة والمنابذة، أمَّا الملامسة: فأن يَلمِسَ كلُّ واحدٍ منهما ثوبَ صاحبه بغير تأمُّلٍ، والمنابذة: أن يَنبِذ كلُّ واحدٍ منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحدٌ منهما إلى ثوب صاحبه. هذا لفظ مسلم.
وفي «الصَّحيحين»
(3)
عن أبي سعيد قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين ولبستين، نهى عن الملامسة والمنابذة
(4)
في البيع، والملامسة: لمسُ الرَّجل ثوبَ الآخر بيده باللَّيل أو بالنَّهار، ولا يَقْلِبه إلا بذلك. والمنابذة: أن ينبذ الرَّجل إلى الرَّجل ثوبَه، وينبذ الآخر إليه ثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظرٍ ولا تراضٍ.
وفُسِّرت الملامسة بأن يقول: بعتُك ثوبي هذا على أنَّك متى لمستَه فهو عليك بكذا، والمنابذة بأن يقول: أيُّ ثوبٍ نبذتَه إليَّ فهو عليَّ بكذا، وهذا أيضًا نوعٌ من الملامسة والمنابذة، وهو ظاهر كلام أحمد، والغرر في ذلك ظاهرٌ، وليس العلَّة تعليق البيع على
(5)
شرطٍ، بل ما تضمَّنه من الخطر والغرر.
(1)
برقم (1511/ 2).
(2)
ص، د:«بيعين» .
(3)
البخاري (5820) ومسلم (1512)، وقد تقدم (ص 508).
(4)
«نهى عن الملامسة والمنابذة» ساقطة من المطبوع.
(5)
«على» ساقطة من المطبوع.
فصل
وليس من بيع الغرر بيع المغيَّبات في الأرض، كاللِّفت والجَزَر والفُجْل والقلقاس والبصل ونحوها، فإنَّها معلومةٌ بالعادة يعرفها أهل الخبرة بها، وظاهرها عنوان باطنها، فهو كظاهر الصُّبرة
(1)
مع باطنها. ولو قُدِّر أنَّ في ذلك غررًا، فهو غررٌ يسيرٌ يُغتَفر في جنب المصلحة العامَّة الَّتي لا بدَّ للنَّاس منها، فإنَّ ذلك غررٌ لا يكون موجبًا للمنع، فإنَّ إجارة الحيوان والدَّار والحانوت مُساناةً
(2)
لا تخلو عن غررٍ؛ لأنَّه يعرض
(3)
موت الحيوان، وانهدامُ الدَّار. وكذا دخول الحمَّام. وكذا الشُّرب من إناء
(4)
السِّقاء، فإنَّه غير مقدَّرٍ مع اختلاف النَّاس في قدره. وكذا بيوع السَّلم، وكذا بيع الصُّبرة العظيمة الَّتي لا يُعلم مكيلُها، وكذا بيع البيض والرُّمَّان والبطِّيخ والجوز واللَّوز والفُسْتق، وأمثال ذلك ممَّا لا يخلو من الغرر، فليس كلُّ غررٍ سببًا للتَّحريم.
والغرر إذا كان يسيرًا أو لا يمكن الاحتراز منه، لم يكن مانعًا من صحَّة العقد، فإنَّ الغرر الحاصل في أساسات الجدران، وداخل بطون الحيوان، وأجزاء
(5)
الثِّمار الَّتي بدا صلاح بعضها دون بعضٍ= لا يمكن الاحتراز منه، والغرر الذي في دخول الحمَّام والشُّربِ من السِّقاء ونحوه غررٌ يسيرٌ، فهذان النَّوعان لا يمنعان البيع، بخلاف الغرر الكثير الذي يمكن الاحتراز منه، وهو
(1)
الصُّبرة: الكومة من الطعام.
(2)
يقال: استأجره مساناةً ومسانهةً، أي لمدة سنة.
(3)
بعدها زيادة «فيه» في المطبوع، وليست في النسخ.
(4)
في المطبوع: «فم» خلاف النسخ.
(5)
في المطبوع: «أو آخر» خلاف النسخ.
المذكور في الأنواع الَّتي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان مساويًا لها لا فرق بينها وبينه، فهذا هو المانع من صحَّة العقد.
فإذا عُرِف هذا، فبيعُ المغيَّبات في الأرض انتفى عنه الأمران، فإنَّ غرره يسيرٌ، ولا يمكن الاحتراز منه، فإنَّ الحقول الكبار لا يمكن بيعُ ما فيها من ذلك إلا وهو في الأرض، فلو شُرِطَ لبيعه إخراجه دفعةً واحدةً كان في ذلك من المشقَّة وفساد الأموال ما لا يأتي به شرعٌ، وإن مُنِع بيعُه
(1)
إلا شيئًا فشيئًا كلَّما أخرج شيئًا باعه، ففي ذلك من الحرج والمشقَّة وتعطُّلِ مصالح أرباب تلك الأموال ومصالح المشتري ما لا يخفى، وذلك ممَّا لا يوجبه الشَّارع، ولا تقوم مصالح النَّاس بذلك البتَّةَ، حتَّى إنَّ الذين يمنعون من بيعها في الأرض إذا كان لأحدهم فِراخٌ
(2)
كذلك، أو كان ناظرًا عليه، لم يجد بُدًّا من بيعه في الأرض اضطرارًا إلى ذلك. وبالجملة، فليس هذا من الغرر الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نظيرًا لما نهى عنه من البيوع. والله أعلم.
فصل
وليس منه بيع المسك في فَأْرته
(3)
، بل هو نظير ما
(4)
مأكولُه في جوفه، كالجوز واللَّوز والفُستق وجوز الهند، فإنَّ فأرته وعاءٌ له تَصُونه من الآفات، وتحفظ عليه رطوبته ورائحته، وبقاؤه فيها أقرب إلى صيانته من الغشِّ
(1)
ص، ح:«بتغيير» . د، ز:«بتعيين» ، تحريف.
(2)
في المطبوع: «خراج» ، والمثبت من النسخ. وفِراخ الشجرة: ما ينمو عليها بعد أن تُقطع فروعها، ويطلق أيضًا على كل صغير من النبات والشجر وغيرها.
(3)
فأرة المسك: وعاؤه الذي يجتمع فيه.
(4)
«ما» ساقطة من ص، د، ح.
والتَّغيُّر، والمسك الذي في الفأْر عند النَّاس خيرٌ من المنفوض، وجرت عادة التُّجَّار ببيعه وشرائه فيها، ويعرفون قدره وجنسه معرفةً لا تكاد تختلف، فليس من الغرر في شيءٍ. فإنَّ الغرر
(1)
هو ما تردَّد بين الحصول والفوات، وعلى العادة
(2)
الأخرى: هو ما طُوِيتْ معرفته وجُهِلت معيّنه
(3)
، وأمَّا هذا ونحوه فلا يسمَّى غررًا لا لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا. ومَن حرَّم بيع شيءٍ، وادَّعى أنَّه غررٌ، طولب بدخوله في مسمَّى الغرر لغةً أو شرعًا. وجواز بيع المسك في الفأر أحد الوجهين لأصحاب الشَّافعيِّ، وهو الرَّاجح دليلًا، والَّذين منعوه جعلوه مثل بيع النَّوى في التَّمر، والبيض في الدَّجاج، واللَّبن في الضَّرع، والسَّمْن في الوعاء، والفرق بين النَّوعين ظاهرٌ.
ومنازعوهم يجعلونه مثل بيع قلب الجوز واللَّوز والفستق في صِوَانِه
(4)
؛ لأنَّه من مصلحته، ولا ريبَ أنَّه أشبهُ بهذا منه بالأوَّل، فلا هو ممَّا نهى عنه الشَّارع، ولا من معناه، فلم يشمَلْه نهيه لفظًا ولا معنًى.
وأمَّا بيع السَّمْن في الوعاء ففيه تفصيلٌ، فإنَّه إن فتحَه ورأى رأسه بحيث يدلُّه على جنسه ووصفه جاز بيعه في السِّقاء، لكنَّه يصير كبيع الصُّبرة الَّتي شاهد ظاهرها، وإن لم يَرَه ولم يُوصَف له لم يجزْ بيعه؛ لأنَّه غررٌ، فإنَّه يختلف جنسًا ونوعًا ووصفًا، وليس مخلوقًا في وعائه كالبيض والجوز
(1)
«فإن الغرر» ساقطة من د.
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «القاعدة» .
(3)
كذا في النسخ. وفي هامش ص: لعله «عينه» .
(4)
الصِّوان: ما يُصَان به أو فيه الكتب والملابس ونحوها، والمقصود به هنا غلاف هذه الأشياء.
واللَّوز والمِسك
(1)
في أوعيتها، فلا يصحُّ إلحاقه بها.
وأمَّا بيع اللَّبن في الضَّرْع، فمنعه أصحاب أحمد والشَّافعيِّ وأبي حنيفة، والَّذي يجب فيه التَّفصيل، فإن باع الموجود المشاهَدَ في الضَّرع، فهذا لا يجوز مفردًا ويجوز تبعًا للحيوان؛ لأنَّه إذا بِيع مفردًا تعذَّر تسليم المبيع بعينه؛ لأنَّه لا يُعرف مقدار ما وقع عليه البيع، فإنَّه وإن كان مشاهدًا كاللَّبن في الظَّرف، لكنَّه إذا حلبه خلَفَه مثلُه ممَّا لم يكن في الضَّرع، فاختلط المبيع بغيره على وجهٍ لا يتميَّز. وإن صحَّ الحديث الذي رواه ابن ماجه في «سننه»
(2)
من حديث ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُباع صوفٌ على ظهرٍ، أو لبنٌ في ضَرْعٍ= فهذا إن شاء الله محملُه. وأمَّا إن باعه آصُعًا معلومةً من اللَّبن يأخذه من هذه الشَّاة، أو باعه لبنَها أيَّامًا معلومةً، فهذا بمنزلة بيع الثِّمار قبل بدوِّ صلاحها لا يجوز، وأمَّا إن باعه لبنًا مطلقًا موصوفًا في الذِّمَّة، واشترط كونه من هذه الشَّاة أو البقرة، فقال شيخنا
(3)
: هذا جائزٌ، واحتجَّ بما في «المسند»
(4)
من أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يُسلم في حائطٍ بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه. قال: فإذا بدا صلاحه وقال: أسلمتُ إليك في عشرة أوسُقٍ من تمر
(1)
ص، د، م:«السمك» ، تحريف.
(2)
لم أقف عليه في «سنن ابن ماجه» ، وغيَّره في المطبوع إلى:«رواه الطبراني في معجمه» . وهو في «المعجم الكبير» (11/ 338) و «المعجم الأوسط» (4/ 101)، وأخرجه أيضًا الدارقطني (3/ 400)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 555)، وقال البيهقي: «تفرد برفعه عمر بن فروخ وليس بالقوي
…
المحفوظ موقوف». وتُعقِّبَ بأنه قد وُثِّقَ. وينظر: «التلخيص الحبير» (3/ 15).
(3)
انظر: «الفروع» (6/ 147 - 148) و «الاختيارات» للبعلي (ص 179).
(4)
تقدم تخريجه (ص 504).
هذا الحائط جاز، كما يجوز أن
(1)
يقول: ابتعتُ منك عشرةَ أوسُقٍ من هذه الصُّبرة، ولكنَّ الثَّمن
(2)
يتأخَّر قبضه إلى كمال صلاحه، هذا لفظه.
فصل
وأمَّا إن آجرَه الشَّاةَ أو البقرةَ أو النَّاقةَ مدَّةً معلومةً لأخْذِ لبنها في تلك المدَّة، فهذا لا يُجوِّزه الجمهور؛ واختار شيخنا جوازَه، وحكاه قولًا لبعض أهل العلم، وله فيها مصنَّفٌ مفردٌ، قال
(3)
: إذا استأجر بقرًا أو نُوقًا أو غنمًا أيَّام اللَّبن بأجرةٍ مسمَّاةٍ وعَلَفُها على المالك، أو بأجرةٍ مسمَّاةٍ مع علفها على أن يأخذ اللَّبن= جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظِّئر.
قال: وهذا يُشبِه البيع، ويشبه الإجارة؛ ولهذا يذكره بعض الفقهاء في البيع، وبعضهم في الإجارة. لكن إذا كان اللَّبن يحصل بعَلَف المستأجر وقيامِه على الغنم، فإنَّه يُشبِه استئجار الشَّجر. وإن كان المالك هو الذي يَعْلِفها، وإنَّما يأخذ المشتري لبنًا مقدَّرًا، فهذا بيعٌ محضٌ. وإن كان يأخذ اللَّبن مطلقًا فهو بيعٌ أيضًا، فإنَّ صاحب اللَّبن يوفِّيه اللَّبن بخلاف الظِّئر، فإنَّما
(4)
هي تَسقي الطِّفلَ، وليس هذا داخلًا فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من بيع الغرر؛ لأنَّ الغرر تردُّدٌ بين الوجود والعدم، فنهى عن بيعه؛ لأنَّه من جنس القمار الذي هو الميسر، والله حرَّم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل، وذلك من
(1)
«يجوز أن» ليست في ص، د ..
(2)
كذا في النسخ. وفي «الفروع» : «التمر» .
(3)
لم يصلنا كتابه المفرد، وتكلم على هذه المسألة في «مجموع الفتاوى» (30/ 197 - 201، 230).
(4)
م، د، ز:«فإنها» .
الظُّلم الذي حرَّمه الله. وهذا إنَّما يكون قِمارًا إذا كان أحد المتعاوضين يحصل له مالٌ، والآخر قد يحصل له وقد لا يحصل، فهذا الذي لا يجوز، كما في بيع العبد الآبق، والبعير الشَّارد، وبيع حبل الحبلة، فإنَّ البائع يأخذ مال المشتري، والمشتري قد يحصل له شيءٌ وقد لا يحصل، ولا يعرف قدر الحاصل. فأمَّا إذا كان شيئًا معروفًا بالعادة كمنافع الأعيان بالإجارة، مثل منفعة الأرض والدَّابَّة، ومثل لبن الظِّئر المعتاد، ولبن البهائم المعتاد، ومثل الثَّمر والزَّرع المعتاد= فهذا كلُّه من بابٍ واحدٍ، وهو جائزٌ. ثمَّ إن حصل على الوجه المعتاد، وإلَّا حُطَّ عن المستأجر بقدر ما فات من المنفعة المقصودة، وهو مثل وضع الجائحة في البيع، ومثل ما إذا تلِفَ بعض المبيع قبل التَّمكُّن من القبض في سائر البيوع.
فإن قيل: مَورد عقد الإجارة إنَّما هو المنافع لا الأعيان؛ ولهذا لا يصحُّ استئجار الطَّعام ليأكله، والماءَ ليشربه. وأمَّا إجارة الظِّئر فعلى المنفعة، وهي: وضع الطِّفل في حجْرها، وإلقامُه ثديَها، واللَّبن يدخل ضمنًا وتبعًا، فهو كنقع البئر
(1)
في إجارة الدَّار، ويُغتفَر فيما دخل ضمنًا وتبعًا ما لا يُغتفَر في الأصول والمتبوعات.
قيل: الجواب عن هذا من وجوهٍ:
أحدها: منع كون عقد الإجارة لا يَرِدُ إلا على منفعةٍ، فإنَّ هذا ليس ثابتًا بالكتاب ولا بالسُّنَّة ولا بالإجماع، بل الثَّابت عن الصَّحابة خلافه، كما صحَّ عن عمر أنَّه قَبَّلَ
(2)
حديقةَ أُسيد بن حُضَيرٍ ثلاث سنين، وأخذ الأجرة فقضى
(1)
نَقْع البئر: الماء المجتمع فيها قبل السَّقي، أو فضل مائها.
(2)
أي دفعَها للعاملين عليها بعقد.
بها دينه
(1)
. والحديقة هي النَّخل. فهذه إجارة الشَّجر لأخْذِ ثمرها، وهو مذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، ولا يُعلَم له في الصَّحابة مخالفٌ، واختيار أبي الوفاء بن عقيلٍ من أصحاب أحمد، واختيار شيخنا قدَّس الله روحَه. فقولكم: إنَّ مَوردَ عقد الإجارة لا يكون إلا منفعةً غيرُ مسلَّمٍ، ولا ثابتٍ بالدَّليل، وغاية ما معكم قياس محلِّ النِّزاع على إجارة الخبز للأكل، والماء للشُّرب، وهذا من أفسد القياس، فإنَّ الخبز تذهب عينُه ولا يستخلف مثله، بخلاف اللَّبن ونقع البئر، فإنَّه لمَّا كان يستخلف ويحدث شيئًا فشيئًا، كان بمنزلة المنافع.
يوضِّحه الوجه الثَّاني: وهو أنَّ الثّمرة تجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوهما، فيجوز أن يقفَ الشَّجرةَ لينتفع أهل الوقف بثمرها، كما يقِفُ الأرضَ لينتفع أهل الوقف بغلَّتها، ويجوز إعراء
(2)
الشَّجرة كما يجوز إفقارُ
(3)
الظَّهر، وعاريَة الدَّار، ومنيحة اللَّبن، وهذا كلُّه تبرُّعٌ بنماء المال وفائدته، فإنَّ من دفعَ عقاره إلى من يسكنه فهو بمنزلة من دفع دابَّته إلى من يركبها، وبمنزلة من دفع شجره إلى من يستثمرها، وبمنزلة من دفع أرضَه إلى من يزرعها، وبمنزلة من دفع شاته إلى من يشرب لبنها. فهذه الفوائد تدخل في عقود التَّبرُّع، سواءٌ كان الأصل محبَّسًا بالوقف أو غيرَ
(1)
سيأتي لفظه (ص 522) وهناك تخريجه، وهناك:«سنتين» بدل «ثلاث سنين» .
(2)
كذا في النسخ، وهو من العرايا، أي: بيع الثمر على الشجر خرصًا بثمر على الأرض كيلًا. وفي المطبوع: «إعارة» .
(3)
في المطبوع: «إعارة» . والمثبت من النسخ. وأفقَرَ فلانًا دابتَه: أعاره إياها. والظَّهر: الدابة التي يُركب عليها.
محبَّسٍ. وتدخل أيضًا في عقود المشاركات، فإنَّه إذا دفع شاةً أو بقرةً أو ناقةً إلى من يعمل عليها بجزءٍ من دَرِّها ونَسْلها صحَّ على أصحِّ الرِّوايتين عن أحمد، فكذلك تدخل في عقود الإجارات.
يوضِّحه الوجه الثَّالث: وهو أنَّ الأعيان نوعان: نوعٌ لا يستخلف شيئًا فشيئًا، بل إذا ذهب ذهب جملةً، ونوعٌ يستخلف شيئًا فشيئًا، كلَّما ذهب منه شيءٌ خَلَفَه مثلُه، فهذا رتبةٌ وسطى بين المنافع وبين الأعيان الَّتي لا تستخلف، فينبغي أن يُنظر في شَبَهِه بأيِّ النَّوعين، فيُلْحَق به، ومعلومٌ أنَّ شبَهَه بالمنافع أقوى، فإلحاقه بها أولى.
يوضِّحه الوجه الرَّابع: وهو أنَّ الله سبحانه نصَّ في كتابه على إجارة الظِّئر، وسمَّى ما تأخذه أجرًا، وليس في القرآن إجارةٌ منصوصٌ عليها في شريعتنا إلا إجارة الظِّئر بقوله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ}
(1)
[الطلاق: 6].
قال شيخنا: وإنَّما ظنَّ الظَّانُّ أنَّها خلاف القياس حيث توهَّم أنَّ الإجارة لا تكون إلا على منفعةٍ، وليس الأمر كذلك، بل الإجارة تكون على كلِّ ما يستوفى مع بقاء أصله، سواءٌ كان عينًا أو منفعةً، كما أنَّ هذه العين هي الَّتي تُوقَف وتُعَار فيما استوفاه الموقوف عليه والمستعير بلا عوضٍ، يستوفيه المستأجر بالعوض، فلمَّا كان لبن الظِّئر يُستوفَى مع بقاء الأصل جازت الإجارة عليه، كما جازت على المنفعة، وهذا محض القياس، فإنَّ هذه الأعيان يُحدِثها الله شيئًا بعد شيءٍ وأصلها باقٍ، كما يُحدِث الله المنافعَ شيئًا بعد شيءٍ وأصلُها باقٍ.
(1)
في النسخ: «فآتوهن أجورهم بالمعروف» ، خطأ.
يوضِّحه الوجه الخامس: أنَّ الأصل في العقود وجوب الوفاء إلا ما حرَّمه الله ورسوله، فإنَّ المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، فلا يحرم من الشُّروط والعقود إلا ما حرَّمه الله ورسوله، وليس مع المانعين نصٌّ بالتَّحريم البتَّةَ، وإنَّما معهم قياسٌ قد عُلِم أنَّ بين الأصل والفرع فيه من الفرق ما يمنع الإلحاق، وأنَّ القياس الذي مع من أجاز ذلك أقربُ إلى مساواة الفرع لأصله، وهذا ما لا حيلةَ فيه، وباللَّه التَّوفيق.
يوضِّحه الوجه السَّادس: وهو أنَّ الذين منعوا هذه الإجارة لمَّا رأوا إجارة الظِّئر ثابتةً بالنَّصِّ والإجماع، والمقصود بالعقد إنَّما هو اللَّبن، وهو عينٌ= تمحَّلوا
(1)
لجوازها أمرًا يعلمون هم والمرضعة والمستأجر بطلانَه، فقالوا: العقد إنَّما وقع على وضعِها الطِّفلَ في حجْرها وإلقامِه ثدْيَها فقط، واللَّبن يدخل تبعًا. والله يعلم والعقلاء قاطبةً أنَّ الأمر ليس كذلك، وأنَّ وضع الطِّفل في حجْرها ليس مقصودًا أصلًا، ولا وردَ عليه عقد الإجارة لا عرفًا ولا حقيقةً ولا شرعًا، ولو أرضعت الطِّفلَ وهو في حجْر غيرها أو في مَهْده لاستحقَّت الأجرة، ولو كان المقصود إلقام الثَّدي المجرَّد لاستُؤجِر له كلُّ امرأةٍ لها ثديٌ، ولو لم يكن لها لبنٌ، فهذا هو القياس الفاسد حقًّا والفقه البارد، فكيف يقال: إنَّ إجارة الظِّئر على خلاف القياس، ويُدَّعى أنَّ هذا هو القياس الصَّحيح؟
الوجه السَّابع: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ندبَ إلى منيحة العَنْز
(2)
والشَّاة للبنها،
(1)
ص، د، م:«فمحلوا» .
(2)
د، ز:«البعير» . والعنز: الأنثى من المعز.
وحضَّ على ذلك، وذكر ثواب فاعله
(1)
. ومعلومٌ أنَّ هذا ليس ببيعٍ ولا هبةٍ، فإنَّ هبة المعدوم المجهول لا تصحُّ، وإنَّما هو عاريَة الشَّاة
(2)
للانتفاع بلبنها، كما يُعيره الدَّابَّةَ لركوبها، فهذا إباحةٌ للانتفاع بِدَرِّها، وكلاهما في الشَّرع واحدٌ، وما جاز أن يُستوفى بالعارية جاز أن يُستوفى بالإجارة، فإنَّ موردهما واحدٌ، وإنَّما يختلفان في التَّبرُّع بهذا والمعاوضة على الآخر.
والوجه الثَّامن: ما رواه حربٌ الكرمانيُّ في «مسائله»
(3)
: حدَّثنا سعيد بن منصورٍ، ثنا عبَّاد بن عبَّادٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أُسَيد بن حُضَيرٍ توفِّي وعليه ستَّة آلاف درهمٍ دينٌ، فدعا عمر بن الخطَّاب غُرَماءه، فقبَّلَهم أرضَه
(4)
سنتين.
وفيها الشَّجر والنَّخل، وحدائق المدينة الغالب عليها النَّخل، والأرضُ البيضاء فيها قليلٌ. فهذا إجارة الشَّجر لأخْذِ ثمرها، ومن ادَّعى أنَّ ذلك خلاف الإجماع فمِن عدمِ علمِه، بل ادَّعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب، فإنَّ عمر فعلَ ذلك بالمدينة النَّبويَّة بمشهد المهاجرين والأنصار، وهي قصَّةٌ في مظنَّة الاشتهار، ولم يقابلها أحدٌ بالإنكار، بل تلقَّاها الصَّحابة بالتَّسليم
(1)
أخرجه البخاري (2631) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2)
م، ز:«للشاة» .
(3)
لم أقف عليه في القدر المطبوع من «مسائل حرب الكرماني» ، وقد روي من طرق أخرى بألفاظ مختلفة، فأخرجه ابن أبي شيبة (23723)، والبخاري في «الأوسط» (1/ 71)، وابن سعد في «الطبقات» (3/ 455)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (9/ 94)، وصحح إسناد حرب شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (29/ 479، 30/ 225).
(4)
ص، د:«أرضهم» ، خطأ.
والإقرار، وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله عمر رضي الله عنه، كما أنكر عليه عمران بن حُصينٍ وغيره شأن متعة الحجِّ
(1)
، ولم ينكر أحدٌ هذه الواقعة. وسنبيِّن إن شاء الله أنَّها محض القياس، وأنَّ المانعين منها لا بدَّ لهم منها، وأنَّهم يتحيَّلون عليها بحيلٍ لا تجوز.
الوجه التَّاسع: أنَّ المستوفى بعقد الإجارة على زرع الأرض هو
(2)
عينٌ من الأعيان، وهو المُغَلُّ الذي يَستغِلُّه
(3)
المستأجر، وليس له مقصودٌ في منفعة الأرض غير ذلك، وإن كان له قصدٌ جرى في الانتفاع بغير الزَّرع فذلك تبعٌ.
فإن قيل: المعقود عليه هو منفعة شَقِّ الأرض وبَذْرها وفلاحتها، والعين تتولَّد من هذه المنفعة، كما لو استأجره لحفر بئرٍ، فخرج منها الماء، فالمعقود عليه هو نفس العمل لا الماء.
قيل: مستأجر الأرض ليس له مقصودٌ في غير المُغَلِّ، والعمل وسيلةٌ مقصودةٌ لغيرها، ليس له فيه منفعةٌ، بل هو تَعَبٌ ومشقَّةٌ، وإنَّما مقصوده ما يُحدِثه الله سبحانه من الحَبِّ بسَقْيه وعمله. وهكذا مستأجر الشَّاة للبنها سواءٌ، مقصوده ما يُحدِثه الله سبحانه من لبنها بعَلَفِه لها وحفظها والقيام عليها، فلا فرقَ بينهما البتَّةَ إلّا ما لا يُناط به الأحكامُ من الفروق المُلْغاة. وتنظيركم بالاستئجار لحفر البئر تنظيرٌ فاسدٌ، بل نظير حفر البئر أن يستأجر أكَّارًا لحرْثِ أرضه ويَبذُرها ويَسقيها، ولا ريبَ أنَّ تنظير إجارة الحيوان للبنه
(1)
أخرجه البخاري (1571) ومسلم (1226) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2)
ص، د:«وهو» .
(3)
د: «يستأجره» ، خطأ.
بإجارة الأرض لِمُغَلِّها هو محض القياس، وهو كما تقدَّم أصحُّ من التَّنظير بإجارة الخبز للأكل.
يوضِّحه الوجه العاشر: أنَّ الغرر والخطر الذي في إجارة الأرض لحصول مُغَلِّها أعظم بكثيرٍ من الغرر الذي في إجارة الحيوان للبنه، فإنَّ الآفات والموانع الَّتي تَعرِض للزَّرع أكثرُ من آفات اللَّبن، فإذا اغتُفِر ذلك في إجارة الأرض؛ فلَأَن يُغتفَر في إجارة الحيوان للبنه أولى وأحرى. وبالله التوفيق.
فصل
فالأقوال في العقد على اللَّبن في الضَّرع ثلاثةٌ:
أحدها: منعه بيعًا وإجارةً، وهذا مذهب أحمد والشَّافعيِّ وأبي حنيفة.
والثَّاني: جوازه بيعًا وإجارةً
(1)
.
والثَّالث: جوازه إجارةً لا بيعًا، وهو اختيار شيخنا رحمه الله.
وفي المنع من بيع اللَّبن في الضَّرع حديثان:
أحدهما: حديث عمر
(2)
بن فَرُّوخ ــ وهو ضعيفٌ ــ عن حبيب بن الزبير، عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: نهى أن يباع صوفٌ على ظهرٍ، أو سَمْنٌ في لبنٍ، أو لبنٌ في ضَرْعٍ
(3)
. وقد رواه أبو إسحاق
(4)
عن عكرمة عن
(1)
في د، م بعدها:«وهذا» .
(2)
م، ز، ح:«عثمان» . ص، د:«عمرو» . وكلاهما خطأ.
(3)
تقدم تخريجه (ص 516).
(4)
ص، د، ز:«ابن إسحاق» ، خطأ.
ابن عبَّاسٍ من قوله، دون ذكر السَّمْن. رواه البيهقي
(1)
وغيره.
والثَّاني: حديثٌ رواه ابن ماجه
(2)
عن هشام بن عمَّارٍ، حدَّثنا حاتم بن إسماعيل، ثنا جَهْضَم بن عبد الله
(3)
اليمامي، عن محمد بن إبراهيم الباهلي، عن محمد بن يزيد
(4)
العبدي، عن شهر بن حَوْشبٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتَّى تضع، وعمَّا في ضروعها إلا بكيلٍ أو وزنٍ، وعن شراء العبد وهو آبقٌ، وعن شراء المغانم حتَّى تُقسم، وعن شراء الصَّدقات حتَّى تُقبض، وعن ضربة الغائص
(5)
.
ولكنَّ هذا الإسناد لا تقوم به حجَّةٌ. والنَّهي عن شراء ما في بطون الأنعام ثابتٌ بالنَّهي عن الملاقيح والمضامين، والنَّهي عن شراء العبد الآبق وهو آبقٌ معلومٌ بالنَّهي عن بيع الغرر، والنَّهي عن شراء المغانم حتَّى تُقسم داخلٌ
(1)
(5/ 340). وأخرجه بنحوه عبد الرزاق في «مصنفه» (14374)، وابن أبي شيبة (20882)، وأبو داود في «المراسيل» (182)، والصحيح وقفه على ابن عباس كما تقدم في كلام البيهقي.
(2)
برقم (2196). وأخرجه أحمد (11377) والترمذي مختصرًا (1563) والدارقطني (3/ 402) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 338)، وهي في المصادر دون زيادة «أو وزن» . وفي إسناده شهر بن حوشب متكلم فيه، ومحمد بن إبراهيم قال فيه أبو حاتم: مجهول. والحديث ضعفه ابن حزم في «المحلى» (8/ 390)، وقال البيهقي:«إسناد غير قوي» .
(3)
ص، د، ز:«عبيد الله» ، خطأ.
(4)
كذا في جميع النسخ، والصواب:«زيد» كما في مصادر التخريج.
(5)
في بعض النسخ: «القابض» ، خطأ. وتقدم شرح ضربة الغائص.
في النَّهي عن بيع ما ليس عنده، فهو بيع غررٍ ومخاطرةٍ، وكذلك الصَّدقات قبل قبضها، وإذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطَّعام قبل قبضه
(1)
مع انتقاله إلى المشتري، وثبوتِ ملكه عليه، وتعيينه
(2)
له، وانقطاع تعلُّق حقِّ غيره به= فالمغانم والصَّدقات قبل قبضها أولى بالنَّهي. وأمَّا ضربة الغائص فغررٌ ظاهرٌ لا خفاء به.
وأمَّا بيع اللَّبن في الضَّرع، فإن كان معيَّنًا لم يُمكِن تسليم المبيع بعينه، وإن كان بيعَ لبنٍ موصوفٍ في الذِّمَّة فهو نظير بيع عشرة أقفزةٍ مطلقةٍ من هذه الصُّبرة. وهذا النَّوع له جهتان: جهة إطلاقٍ وجهة تعيينٍ، ولا تَنافِيَ بينهما، وقد دلَّ على جوازه نهيُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُسلم في حائطٍ بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه، رواه الإمام أحمد
(3)
. فإذا أسلم إليه في كيلٍ معلومٍ من لبن هذه الشَّاة وقد صارت لَبونًا جاز، ودخل تحت قوله:«ونهى عن بيع ما في ضروعها إلا بكيلٍ أو وزنٍ»
(4)
، فهذا إذنٌ لبيعه بالكيل والوزن معيَّنًا ومطلقًا؛ لأنَّه لم يفصل، ولم يشترط سوى الكيل والوزن، ولو كان التَّعيين شرطًا لذكره.
فإن قيل: فما تقولون لو باعه لبنَها أيَّامًا معلومةً من غير كيلٍ ولا وزنٍ؟
قيل: إن ثبت الحديث لم يجزْ بيعه إلا بكيلٍ أو وزنٍ، وإن لم يثبت وكان
(1)
أخرجه البخاري (2126) ومسلم (1525) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
ص، د، ز:«تعينه» .
(3)
تقدم تخريجه (ص 504).
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
لبنها معلومًا لا يختلف بالعادة جاز
(1)
بيعه أيَّامًا، وجرى حكمه بالعادة مجرى كيله ووزنه، وإن كان يختلف، فمرَّةً يزيد ومرَّةً ينقص أو ينقطع فهذا غررٌ لا يجوز، وهذا بخلاف الإجارة، فإنَّ اللَّبن يحدُث على مِلكه بعَلَفِه الدَّابَّةَ، كما يحدُث الحَبُّ على مِلكه بالسَّقي، فلا غرر
(2)
في ذلك، نعم إن نقصَ اللَّبن عن العادة أو انقطع، فهو بمنزلة نقصان المنفعة في الإجارة أو تعطيلها، يثبت للمستأجر حقُّ الفسخ، أو ينقص عنه من الأجرة بقدر ما نقصَ عليه من المنفعة. هذا قياس المذهب. وقال ابن عقيل وصاحب «المغني»
(3)
: إذا اختار الإمساك لزِمه جميع الأجرة؛ لأنَّه رضي بالمنفعة ناقصةً، فلزمه جميع العوض، كما لو رضي بالمبيع معيبًا.
والصَّحيح أنَّه يسقط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة؛ لأنَّه إنَّما بذل العوض الكامل في منفعةٍ كاملةٍ سليمةٍ، فإذا لم يسلم له لم يلزمه جميع العوض.
وقولهم: إنَّه رضي بالمنفعة مَعِيبةً، فهو كما لو رضي بالمبيع مَعِيبًا، جوابه من وجهين:
أحدهما: أنَّه لو رضي به معيبًا بأن يأخذ أَرْشَه، كان له ذلك على ظاهر المذهب، فرِضَاه بالعيب مع الأرش لا يُسقِط حقَّه.
(1)
ص، د، م:«كان» .
(2)
ص، د، ز:«فلا يجوز» ، تحريف.
(3)
(8/ 32).
الثَّاني: أنه و
(1)
إن قلنا: إنَّه لا أَرْشَ لممسكٍ له الرَّدُّ= لم يلزم سقوطُ الأَرْش في الإجارة؛ لأنَّه قد استوفى بعضَ المعقود عليه، فلم يمكنه ردُّ المنفعة كما قبضها؛ ولأنَّه قد يكون عليه ضررٌ في ردِّ باقي المنفعة، وقد لا يتمكَّن من ذلك، فلا يجد بدًّا من الإمساك، فإلزامه بجميع الأجرة مع العيب المنقص ظاهرًا
(2)
، ومنعُه من استدراك ظُلامته إلا بالفسخ ضررٌ عليه، ولا سيَّما لمستأجرِ الزَّرع والغرس والبناء، أو مستأجرِ دابَّةٍ للسَّفر فتتعيَّب في الطَّريق. فالصَّواب أنَّه لا أرْشَ في المبيع لممسكٍ له الرَّدُّ، وأنَّه في الإجارة له الأَرْشُ.
والَّذي يُوضِّح هذا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حكم بوضع الجوائح
(3)
، وهي أن يسقط عن مشتري الثِّمار
(4)
من الثمن
(5)
بقدر ما أذهبت الجائحة من ثمرته، ويمسك الباقي بقسطه من الثَّمن؛ وهذا لأنَّ الثِّمار لم تستكمل صلاحها دفعةً واحدةً، ولم تجرِ العادة بأخذها جملةً واحدةً، وإنَّما تؤخذ شيئًا فشيئًا، فهي بمنزلة المنافع في الإجارة سواءٌ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المصرَّاة خيَّر المشتري بين الرَّدِّ وبين الإمساك بلا أَرْشٍ
(6)
، وفي الثِّمار جعل له الإمساك مع الأرش. والفرق ما ذكرناه، والإجارة أشبه ببيع الثِّمار، وقد ظهر اعتبار هذا الشَّبه في
(1)
«أنه و» ساقطة من المطبوع.
(2)
ص، د، م:«ظاهر» .
(3)
أخرجه مسلم (1554) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(4)
هنا تنتهي نسخة الظاهرية التي هي الجزء الرابع من نسخة المصلى (ص).
(5)
م، ح:«الثمر» ، خطأ.
(6)
أخرجه البخاري (2150) ومسلم (1515/ 11) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وضع الشَّارع الجائحةَ قبل قبض الثمرة
(1)
.
فإن قيل: فالمنافع لا توضع فيها الجائحة باتِّفاق العلماء.
قيل: ليس هذا من باب وضع الجوائح في المنافع، ومن ظنَّ ذلك فقد وهم. قال شيخنا
(2)
: وليس هذا من باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثَّمر المشترى، بل هو من باب تلفِ المنفعة المقصودة بالعقد أو فواتها.
وقد اتَّفق العلماء على أنَّ المنفعة في الإجارة إذا تلِفتْ قبل التَّمكُّن من استيفائها فإنَّه لا تجب الأجرة، مثل أن يستأجر حيوانًا فيموت قبل التَّمكُّن من قبضه، وهو بمنزلة أن يشتري قفيزًا من صُبرةٍ فتتلف الصُّبرة قبل القبض والتَّمييز، فإنَّه من ضمان البائع بلا نزاعٍ؛ ولهذا لو لم يتمكَّن المستأجر من ازدراع الأرض لآفةٍ حصلت لم يكن عليه الأجرة. وإن نبت الزَّرع ثمَّ حصلت آفةٌ سماويَّةٌ أتلفتْه قبل التَّمكُّن من حصاده ففيه نزاعٌ، فطائفةٌ ألحقتْه بالثَّمرة والمنفعة، وطائفةٌ فرَّقتْ. والَّذين فرَّقوا بينه وبين الثَّمرة والمنفعة قالوا: الثَّمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة، وهنا الزَّرع ليس معقودًا عليه، بل المعقود عليه هو المنفعة وقد استوفاها. والذين سوَّوا بينهما قالوا: المقصود بالإجارة هو الزَّرع، فإذا حالت الآفة السَّماويَّة بينه وبين المقصود بالإجارة، كان قد تَلِفَ المقصودُ بالعقد قبل التَّمكُّن من قبضه، وإن لم يعاوض على زرعٍ، فقد عاوض على المنفعة الَّتي يتمكَّن بها المستأجر من حصول الزَّرع، فإذا حصلت الآفة السَّماويَّة المُفسِدة للزَّرع قبل التَّمكُّن من
(1)
في المطبوع: «الثمن» . والمثبت من النسخ.
(2)
في «مجموع الفتاوى» (30/ 236).
حصاده لم تَسلَم المنفعة المعقود عليها، بل تلفتْ قبل التَّمكُّن من الانتفاع، ولا فرقَ بين تعطيل منفعة الأرض في أوَّل المدَّة أو في آخرها إذا لم يتمكَّن من استيفاء شيءٍ من المنفعة، ومعلومٌ أنَّ الآفة السَّماويَّة إذا كانت بعد الزَّرع مطلقًا بحيث لا يتمكَّن من الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة، فلا فرق بين تقدُّمها وتأخُّرها، والله أعلم.
فصل
وأمَّا بيع الصُّوف على الظَّهر، فلو صحَّ هذا الحديث بالنَّهي عنه لوجب القول به، ولم تَسَعْ مخالفته، وقد اختلفت الرِّواية فيه عن أحمد، فمرَّةً منعَه، ومرَّةً أجازه بشرط جَزِّه في الحال. ووجهُ هذا القول: أنَّه معلومٌ يمكن تسليمه، فجاز بيعه كالرطبة، وما يُقدَّر من اختلاط المبيع الموجود بالحادث على ملك البائع يزول بجزِّه في الحال، والحادث يسيرٌ جدًّا لا يمكن ضبطُه.
هذا، ولو قيل بعدم اشتراط جزِّه في الحال، ويكون كالرطبة الَّتي تؤخذ
(1)
شيئًا فشيئًا، وإن كانت تطول في زمن أخذها= كان له وجهٌ صحيحٌ، وغايته بيع معدومٍ لم يُخلق تبعًا للموجود، فهو كأجزاء الثِّمار الَّتي لم تُخلق، فإنَّها تتبع الموجود منها، فإذا جعلا للصُّوف وقتًا معيَّنًا يؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثَّمرة وقت كمالها.
يُوضِّح هذا أنَّ الذين منعوه قاسوه على أعضاء الحيوان، وقالوا: متَّصلٌ بحيوان، فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه. وهذا من أفسد القياس؛ لأنَّ الأعضاء لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان.
(1)
د، ز:«توجد» .
فإن قيل: فما الفرق بينه وبين اللَّبن في الضَّرع، وقد سوَّغتم هذا دونه؟
قيل: اللَّبن في الضَّرع يختلط مِلكُ المشتري فيه بملك البائع سريعًا، فإنَّ اللَّبن سريع الحدوث، كلَّما حَلَبه درَّ، بخلاف الصُّوف. والله أعلم.
* * * *