الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحجَّام يُعطى، وإن كان منهيًّا عنه؟ فقال: لم يبلغنا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أعطى في مثل هذا شيئًا كما بلغنا في الحجَّام.
واختلف أصحابنا في حمْلِ كلام أحمد على ظاهره أو تأويلِه، فحمله القاضي على ظاهره، وقال
(1)
: هذا مقتضى النَّظر، لكن تُرِكَ مقتضاه في الحجَّام، فبقي فيما عداه على مقتضى القياس. وقال أبو محمد في «المغني»
(2)
: كلام أحمد يُحمل على الورع لا على التَّحريم، والجواز أرفقُ بالنَّاس، وأوفقُ للقياس. والله أعلم.
ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس
ثبت في «صحيح مسلم»
(3)
من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فَضْل الماء.
وفيه
(4)
عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضِراب الفحل، وعن بيع الماء والأرض لتُحْرَث، فعن ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي «الصَّحيحين»
(5)
عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَمْنَع فضلَ الماء لتَمنعَ به الكلأ» ، وفي لفظٍ آخر
(6)
: «لا تمنعوا فضلَ الماء لتمنعوا
(1)
كما في المصدر السابق.
(2)
(6/ 304).
(3)
برقم (1565/ 34).
(4)
برقم (1565/ 35).
(5)
البخاري (2353) ومسلم (1566/ 36).
(6)
«صحيح مسلم» (1566/ 37).
به الكَلَأ»، وفي لفظ آخر
(1)
: «لا يُباع فضلُ الماء لِيُباع به الكلأ»
(2)
، وقال البخاريُّ
(3)
في بعض طرقه: «لا تمنعوا فضْلَ الماء لتمنعوا به فضْلَ الكَلأ» .
وفي «المسند»
(4)
من حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «من منع فضْلَ مائه أو فضْلَ كَلَئِه منعه الله فضلَه يوم القيامة» .
وفي «سنن ابن ماجه»
(5)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ لا يُمْنَعن: الماء والكلأ والنَّار» .
وفي «سننه»
(6)
أيضًا عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون
(1)
«صحيح مسلم» (1566/ 38).
(2)
«وفي لفظ آخر: لا يباع
…
الكلأ» ساقطة من المطبوع.
(3)
برقم (2354).
(4)
برقم (6673). وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. وأخرجه أحمد (6722) أيضًا من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عبد الله بن عمرو، وفي إسناده انقطاع لأن سليمان لم يسمع من عبد الله. وأخرجه الطبراني في «الصغير» (93) من طريق محمد بن الحسن القردوسي عن جرير عن الأعمش عن عمرو بن شعيب به، والقردوسي ضعيف. وللحديث شواهد يتقوى بها، وله شاهد من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري (2369)، والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1422).
(5)
برقم (2473)، وإسناده صحيح.
(6)
برقم (2472)، وفي إسناده عبد الله بن خراش، وهو ضعيف. وقد أخرجه أحمد (23082) وأبو داود (3477) ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 248) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دون زيادة:«وثمنه حرام» . وينظر: «إرواء الغليل» (1552).
شركاء في ثلاثٍ: الماء والكلأ والنَّار، وثمنه حرامٌ».
وفي «صحيح البخاريِّ»
(1)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يومَ القيامة، ولا يزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: رجلٌ كان على فَضْلِ ماءٍ بالطَّريق فمنَعَه ابنَ السَّبيل، ورجلٌ بايع إمامه لا يبايعه إلا للدُّنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يُعطِه منها سَخِط، ورجلٌ أقام سِلْعةً بعد العصر فقال: والذي لا إله غيره لقد أُعطِيتُ بها كذا وكذا، فصدَّقه رجلٌ» ، ثمَّ قرأ هذه الآية {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ} الآية [آل عمران: 77].
وفي «سنن أبي داود»
(2)
عن بُهَيْسة قالت: استأذن أبي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يدنو منه ويلتزمه، ثمَّ قال: يا نبيَّ اللَّه، ما الشَّيء الذي لا يحلُّ منعه؟ قال:«الماء» ، قال: يا نبيَّ اللَّه، ما الشَّيء الذي لا يحلُّ منعه؟ قال:«الملح» ، قال: يا نبيَّ اللَّه، ما الشَّيء الذي لا يحلُّ منعه؟ قال:«أن تفعل الخيرَ خيرٌ لك» .
الماء خلقه الله سبحانه في الأصل مشتركًا بين العباد والبهائم، وجعله سقيًا لهم، فلا يكون أحدٌ أخصَّ به من أحدٍ، ولو أقام عليه وتَنَأ
(3)
عليه. قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: ابنُ السَّبيل أحقُّ بالماء من التَّانئ
(4)
عليه، ذكره
(1)
برقم (2358).
(2)
برقم (1669)، وأخرجه أحمد (15945) والطبراني في «الكبير» (24/ 206) والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 247) عن سيار بن منظور عن أبيه عن امرأة يقال لها بُهيسة به. وكلهم مجاهيل.
(3)
في بعض النسخ: «وبنى» ، تصحيف. وتَنَأَ بالمكان: أقام به.
(4)
ص، د، ز، م:«الباني» تصحيف.
أبو عبيد عنه
(1)
. وقال أبو هريرة: ابن السَّبيل أوَّلُ شاربٍ
(2)
.
فأمَّا ما حازه في إنائه أو قِربته فذاك غير المذكور في الحديث، وهو بمنزلة سائر المباحات إذا حازها إلى مِلْكه ثمَّ أراد بيعها، كالحطب والكلأ والملح، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لأن يأخذ أحدكم حبلًا، فيأخذ حُزْمةً من حَطَبٍ فيبيع، فيكفَّ الله بها وجهَه، خيرٌ له من أن يسأل النَّاسَ أُعطِي أو مُنِع» . رواه البخاريُّ
(3)
.
وفي «الصَّحيحين»
(4)
عن علي أنه قال: أصبتُ شَارِفًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغنمٍ يوم بدرٍ، وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفًا آخر، فأنختُهما يومًا عند باب رجلٍ من الأنصار، وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخرًا لأبيعه. وذكر الحديث.
فهذا في الكلأ والحطب المباح بعد أخذه وإحرازه، وكذلك السَّمك وسائر المباحات، وليس هذا محلَّ النَّهي بالضَّرورة، ولا محلُّ النَّهي أيضًا بيع مياه الأنهار الكبار المشتركة بين النَّاس؛ فإنَّ هذا لا يمكن منعُها والحَجْرُ عليها، وإنَّما محلُّ النَّهي صورٌ، أحدها: المياه المنتقعة من الأمطار إذا
(1)
في «الأموال» (738)، وأخرجه أيضًا ابن زنجويه في «الأموال» (1099)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 4).
(2)
أخرجه أحمد (10411)، وابن زنجويه في «الأموال» (1075، 1101)، والطبراني في «الصغير» (252)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 155) من طرق عن هشيم عن عوف عن رجل عن أبي هريرة مرفوعًا. ورواه ابن المبارك عن عوف، قال: بلغني عن أبي هريرة، فذكره من قوله كما في «السنن الكبرى» للبيهقي (6/ 155).
(3)
برقم (1471).
(4)
البخاري (2375) ومسلم (1797).
اجتمعت في أرضٍ مباحةٍ، فهي مشتركةٌ بين النَّاس، وليس أحدٌ أحقَّ بها من أحدٍ إلا بالتَّقديم لقرب أرضه، كما سيأتي إن شاء الله. فهذا النَّوع لا يحلُّ بيعه ولا منعه، ومانعه عاصٍ مستوجبٌ لوعيدِ الله ومنْعِ فضْلِه، إذ منَعَ فضْلَ ما لم تعمل يداه.
فإن قيل: فلو اتَّخذ في أرضه المملوكة له حُفرةً يجمع فيها الماء، أو حفَرَ بئرًا، فهل يملكه بذلك، ويحلُّ له بيعه؟
قيل: لا ريب أنَّه أحقُّ به من غيره، ومتى كان الماء النَّابع في ملكه والكلأ والمعدن وَفْقَ
(1)
كفايته لشربه وشرب ماشيته ودوابِّه لم يجب عليه بذلُه، نصَّ عليه أحمد
(2)
. وهذا لا يدخل تحت وعيد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّه إنَّما توعَّد مَن منع فَضْلَ الماء، ولا فضْلَ في هذا.
فصل
وما فضَلَ منه عن حاجته وحاجة بهائمه وزرعه، واحتاج إليه آدميٌّ مثلُه أو بهائمه، بذلَه بغير عوضٍ، ولكلِّ واحدٍ أن يتقدَّم إلى الماء ويشرب ويسقي ماشيته، وليس لصاحب الماء منعه من ذلك، ولا يلزم الشَّاربَ وساقيَ البهائم عوضٌ. وهل يلزمه أن يبذل له الدَّلو والبَكَرة والحبل مجَّانًا، أو له أن يأخذ أجرته؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب أحمد في وجوب إعارة المتاع عند الحاجة إليه، أظهرهما دليلًا وجوبُه، وهو من الماعون.
(1)
كذا في النسخ، وهو الصواب. وفي المطبوع:«فوق» ، تحريف.
(2)
كما في «المغني» (6/ 377).
قال أحمد
(1)
: إنَّما هذا في الصَّحاري والبريَّة دون البنيان. يعني: أنَّ البنيان إذا كان فيه الماء فليس لأحدٍ الدُّخولُ إليه إلا بإذن صاحبه.
وهل يلزمه بذلُ فضلِ مائه لزرع غيره؟ فيه قولان، وهما روايتان عن الإمام أحمد
(2)
:
أحدهما: لا يلزمه، وهو مذهب الشَّافعيِّ؛ لأنَّ الزَّرع لا حرمة له في نفسه، ولهذا لا يجب على صاحبه سَقْيُه، بخلاف الماشية.
والثَّاني: يلزمه بذلُه، واحتجَّ لهذا القول بالأحاديث المتقدِّمة وعمومها، وبمَّا رُوِي عن عبد الله بن عمرٍو أنَّ قيِّم أرضه بالوَهْط
(3)
كتب إليه يخبره أنَّه
(4)
سقى أرضه، وفضَلَ له من الماء فضْلٌ يُطلَب بثلاثين ألفًا، فكتب إليه عبد الله بن عمرٍو: أَقِمْ قِلْدَك
(5)
، ثمَّ اسْقِ الأدنى فالأدنى، فإنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع فضلِ الماء
(6)
.
(1)
كما في المصدر السابق (6/ 378).
(2)
كما في المصدر السابق.
(3)
الوهط: المكان المطمئن المستوي يُنبت العضاه والسمر والطلح، وقد كان بستانًا لعمرو بن العاص بالطائف على ثلاثة أميال من وج، وهو كَرْم كان على ألف ألف خشبة اشترى كلّ خشبة بدرهم. انظر:«معجم البلدان» (5/ 386).
(4)
ص، د، ز:«أن» .
(5)
القِلْد: النصيب من الماء، قال أبو عبيد في «الأموال»: القِلْد يوم الشِّرب.
(6)
أخرجه يحيى بن آدم في «الخراج» (340) ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 16)، وعلقه القاسم بن سلام في «الأموال» (748) وابن زنجويه في «الأموال» (1118)، وأصله في «مسند أحمد» (6722) والنسائي (4662) مختصرًا.
قالوا: وفي منعه من سقي الزَّرع إهلاكُه وإفساده، فحُرِّم
(1)
كالماشية. وقولكم: «لا حرمةَ له» فلصاحبه حرمةٌ فلا يجوز التَّسبُّب إلى إهلاك ماله، ومن سلَّم لكم أنَّه لا حرمةَ للزَّرع؟ قال أبو محمَّدٍ المقدسيُّ
(2)
: ويحتمل أن يُمنَع نفيُ الحرمة عنه، فإنَّ إضاعة المال منهيٌّ عنها، وإتلافه محرَّمٌ، وذلك دليلٌ على حرمته.
فإن قيل: فإذا كان في أرضه أو داره بئرٌ نابعةٌ، أو عينٌ مستنبطةٌ، فهل تكون مِلْكًا له تبعًا لملك الأرض والدَّار؟
قيل: أمَّا نفس البئر وأرض العين فمملوكةٌ لمالك الأرض، وأمَّا الماء ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد، ووجهان لأصحاب الشَّافعيِّ
(3)
:
أحدهما: أنَّه غير مملوكٍ؛ لأنَّه يجري من تحت الأرض إلى ملكه، فأشبه الجاري في النَّهر إلى ملكه.
والثَّاني: أنَّه مملوكٌ له، قال أحمد
(4)
في رجلٍ له أرضٌ ولآخر ماءٌ، فاشترك صاحب الأرض وصاحب الماء في الزَّرع، ويكون بينهما، فقال: لا بأس. وهذا القول اختيار أبي بكر.
وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك، كالقَار والنِّفْط والمُومِيا
(5)
(1)
أي صار للزرع حرمة كالماشية.
(2)
في «المغني» (6/ 379).
(3)
انظر: «المغني» (6/ 145).
(4)
كما في المصدر السابق.
(5)
الموميا: قار معدني. وقال بعضهم: هي رطوبة أرضية تسيل من سموت الغيران. انظر: «تكملة المعاجم العربية» (10/ 134).
والملح، وكذلك الكلأ النَّابت في أرضه، كلُّ ذلك يُخرَّج على الرِّوايتين في الماء. وظاهر المذهب أنَّ هذا الماء لا يُمْلَك، فكذلك هذه الأشياء. قال أحمد
(1)
: لا يُعجِبني بيع الماء البتَّةَ. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن قومٍ بينهم نهرٌ تَشرَب منه أَرَضُوهم
(2)
، لهذا يومٌ، ولهذا يومان، يتَّفقون عليه بالحصص، فجاء يومي ولا أحتاج إليه، أُكرِيه بدراهم؟ قال: ما أدري، أمَّا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فنهى عن بيع الماء. قيل: إنَّه ليس يبيعه، إنَّما يُكرِيه، قال: إنَّما احتالوا بهذا لِيُحسِّنوه، فأيُّ شيءٍ هذا إلا البيع! انتهى.
وأحاديث اشتراك النَّاس في الماء دليلٌ ظاهرٌ على المنع من بيعه. وهذه المسألة الَّتي سُئل عنها أحمد رحمه الله هي الَّتي قد ابتُلِي بها النَّاس في أرض الشَّام وبساتينه وغيرها، فإنَّ الأرض والبستان يكون له حقٌّ من الشُّرب من نهرٍ، فيفضل
(3)
عنه، أو يبنيه دورًا وحوانيت، ويُؤجِر ماءه، فقد توقَّف أحمد أوَّلًا، ثمَّ أجاب بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء، فلمَّا قيل له: إنَّ هذا إجارةٌ، قال: هذه التَّسمية حيلةٌ، وهي تحسين اللَّفظ، وحقيقة العقد البيع، وقواعد الشَّريعة تقتضي المنع من بيع هذا الماء، فإنَّه إنَّما كان له حقُّ التَّقديم في سَقْي أرضه من هذا الماء المشترك بينه وبين غيره، فإذا استغنى عنه لم يجز له المعاوضة عنه، وكان المحتاج إليه أولى به بعده.
وهذا كمن أقام على معدنٍ، فأخذ منه صاحبه
(4)
، لم يجز له أن يبيع
(1)
انظر هذا القول وما بعده في «المغني» (6/ 146).
(2)
في المطبوع: «أرضهم» . والمثبت من النسخ موافق لما في «المغني» .
(3)
في المطبوع: «فيفصل» ، تصحيف.
(4)
كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «حاجته» .
باقيه بعد نزوعه
(1)
عنه. وكذلك من سبق إلى الجلوس في رَحْبةٍ أو طريقٍ واسعةٍ، فهو أحقُّ بها ما دام جالسًا، فإذا استغنى عنها وآجَر مقعدَه لم يجز. وكذلك الأرض المباحة إذا كان فيها كلأٌ أو عُشْبٌ، فسبق بدوابِّه إليه، فهو أحقُّ برِعْيتِه
(2)
ما دامت دوابُّه فيه، فإذا طلب الخروجَ منها وبيعَ ما فضَلَ عنه لم يكن له ذلك. وهكذا هذا الماء سواءٌ، فإنَّه إذا فارق أرضه لم يبقَ له فيه حقٌّ، وصار بمنزلة الكلأ الذي لا اختصاصَ له به، ولا هو في أرضه.
فإن قيل: الفرق بينهما أنَّ هذا الماء في نفس أرضه، فهو منفعةٌ من منافعها، فملكه بملكها كسائر منافعها، بخلاف ما ذكرتم من الصُّور، فإنَّ تلك الأعيان ليست من مِلْكه، وإنَّما له حقُّ الانتفاع والتَّقديم إذا سبق خاصَّةً.
قيل: هذه هي النُّكتة الَّتي لأجلها جوَّز من جوَّز بيعه، وجعل ذلك حقًّا من حقوق أرضه، فمَلَكَ المعاوضة عليه وحده كما يملك المعاوضة عليه مع الأرض، فيقال: حقُّ أرضه في الانتفاع لا في ملك العين الَّتي أودعها الله فيها بوصف الاشتراك، وجعل حقَّه في تقديم الانتفاع على غيره في التَّحجُّر والمعاوضة. فهذا القول هو الذي تقتضيه قواعد الشَّرع وحكمته واشتماله على مصالح العالم، وعلى هذا فإذا دخل غيره بغير إذنه، فأخذ منه شيئًا، مَلَكَه، لأنَّه مباحٌ في الأصل، فأشبهَ ما لو عشَّش في أرضه طائرٌ، أو حصل فيها ظبيٌ، أو نَضَبَ ماؤها عن سمكٍ، فدخل إليه فأخذه.
فإن قيل: فهل له منعه من دخول مِلكه، وهل يجوز دخوله في مِلكه بغير إذنه؟
(1)
في المطبوع: «نزعه» .
(2)
في المطبوع: «برعيه» .
قيل: قد قال بعض أصحابنا: لا يجوز له دخول ملكه لأخْذِ ذلك بغير إذنه. وهذا لا أصل له في كلام الشَّارع، ولا في كلام الإمام أحمد، بل قد نصَّ أحمد على جواز الرَّعي في أرضٍ [مغصوبة]
(1)
مع كون الأرض ليست مملوكةً له ولا مستأجرةً، ودخولها لغير الرَّعي ممنوعٌ منه. فالصَّواب أنَّه يجوز له دخولها لأخْذِ ما له أخْذُه، وقد يتعذَّر عليه غالبًا استئذان مالكها، ويكون قد احتاج إلى الشُّرب وسَقْيِ بهائمه ورعْيِ الكلأ، ومالك الأرض غائبٌ، فلو منعناه من دخولها إلا بإذنه كان في ذلك إضرارًا
(2)
بيِّنًا به
(3)
.
وأيضًا فإنَّه لا فائدة لهذا الإذن؛ لأنَّه ليس لصاحب الأرض منعُه من الدُّخول، بل يجب عليه تمكينُه، فغاية ما يقدَّر أنَّه لم يأذن له، وهذا حرامٌ عليه شرعًا لا يحلُّ له منعه من الدُّخول، فلا فائدةَ في توقُّف دخوله على الإذن.
وأيضًا فإنَّه إذا لم يتمكَّن من أخذ حقِّه الذي جعله له الشَّارع إلا بالدُّخول، فهو مأذونٌ فيه شرعًا، بلى لو كان دخوله بغير إذنه يُعثِره
(4)
على حريمه وأهلِه فإنه لا يجوز له الدُّخول بغير إذنٍ، فأمَّا إذا كان في الصَّحراء أو دارٍ فيها بئرٌ ولا أنيسَ بها، فله الدُّخول بإذنٍ وغيره، وقد قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29]. وهذا
(1)
هنا بياض في جميع الأصول بقدر كلمتين. وفي المطبوع مكانه: «غير مباحة» . والمثبت من «مسائل الكوسج» (3364) و «المغني» (7/ 380).
(2)
كذا في النسخ منصوبًا، والصواب الرفع لكونه اسمًا لكان، ونصبه بعد الظرف والجار والمجرور خطأ شائع.
(3)
في المطبوع: «إضرار ببهائمه» خلاف النسخ.
(4)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «لغيرة» .
الدُّخول الذي رفع عنه الجناح هو الدُّخول بلا إذنٍ، فإنَّه قد منعهم قبلُ من الدُّخول لغير بيوتهم حتَّى يستأنسوا ويسلِّموا على أهلها، والاستئناس هنا: الاستئذان، وهي في قراءة بعض السَّلف كذلك
(1)
، ثمَّ رفع عنهم الجناح في دخول البيوت غير المسكونة لأخْذِ متاعهم، فدلَّ ذلك على جواز الدُّخول إلى بيت غيره وأرضه غير المسكونة، لأخْذِ حقِّه من الماء والكلأ، فهذا ظاهر القرآن، وهو مقتضى نصِّ أحمد، وباللَّه التَّوفيق.
فإن قيل: فما تقولون في بيع البئر والعين نفسها، هل يجوز؟
قيل: نعم يجوز
(2)
، قال الإمام أحمد
(3)
: إنَّما نُهِي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره، ويجوز بيع البئر نفسها والعين، ومشتريها أحقُّ بمائها. وهذا الذي قاله الإمام أحمد هو الذي دلَّ عليه السُّنَّة، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «من يشتري بئر رُومةَ
(4)
يوسِّع بها على المسلمين وله الجنَّة» أو كما قال، فاشتراها عثمان بن عفَّان من يهوديٍّ بأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وسَبَّلها للمسلمين، وكان اليهوديُّ يبيع ماءها. وفي الحديث أنَّ عثمان اشترى منه نصفها باثني عشر ألفًا، ثمَّ قال لليهوديِّ: اختَرْ إمَّا أن تأخذها يومًا وآخذها أنا يومًا، وإمَّا أن تَنْصِب لك عليها دلوًا وأَنْصبِ عليها دلوًا، فاختار يومًا ويومًا، فكان النَّاس
(1)
رُوي ذلك عن ابن عباس وأبيّ بن كعب وابن مسعود وسعيد بن جبير، انظر:«تفسير الطبري» (17/ 239 - 241).
(2)
«قيل نعم يجوز» ساقطة من المطبوع.
(3)
كما في «المغني» (6/ 147).
(4)
رومة: أرض بالمدينة بين الجرف وزعابة، نزلها المشركون عام الخندق، وفيها بئر رومة. انظر:«معجم البلدان» (3/ 104).
يستقون منها في يوم عثمان لليومين، فقال اليهوديُّ: أفسدت عليَّ بئري فاشترِ باقيَها، فاشتراه بثمانية آلافٍ
(1)
. فكان في هذا حجَّةٌ على صحَّةِ بيع البئر، وجواز شرائها وتسبيلها، وصحَّةِ بيع ما يسقى منها، وجواز قسمة الماء بالمهايأة، وعلى كون المالك أحقَّ بمائها، وجواز قسمة ما فيه حقٌّ وليس بمملوكٍ.
فإن قيل: فإذا كان الماء عندكم لا يُمْلَك، ولكلِّ واحدٍ أن يستقي منه حاجته، فكيف أمكن اليهوديَّ تحجُّرُه حتَّى اشترى عثمان البئر وسبَّلها؟ فإن قلتم: اشترى نفس البئر وكانت مملوكةً، ودخل الماء تبعًا، أشكل عليكم من وجهٍ آخر، وهو أنَّكم قرَّرتم أنَّه يجوز للرَّجل دخول أرض غيره لأخذ الكلأ والماء، وقضيَّة بئر اليهوديِّ تدلُّ على أحد الأمرين ولا بدَّ: إمَّا مِلْك الماء بمِلْك قراره، وإمَّا على أنَّه لا يجوز دخول الأرض لأخذ ما فيها من المباح إلا بإذن مالكها.
قيل: هذا سؤالٌ قويٌّ، وقد يتمسَّك به من ذهب إلى واحدٍ من هذين المذهبين، ومن منعَ الأمرينِ يجيب عنه بأنَّ هذا كان في أوَّل الإسلام، وحين قدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقبلَ تقرُّر الأحكام، وكان اليهود إذ ذاك لهم الشوكة بالمدينة، ولم تكن أحكام الإسلام جاريةً عليهم، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قدِم صالحَهم، وأقرَّهم على ما بأيديهم، لم يتعرَّض له. ثمَّ استقرَّت الأحكام،
(1)
أخرج القصة مختصرة ابن شبَّة في «تاريخ المدينة» (1/ 153)، وهي في «الاستيعاب» لابن عبد البر (3/ 1040). والحديث أخرجه الترمذي (3703) والنسائي (3608)، وأصله في «صحيح البخاري» معلقًا (5/ 29).
وزالت شوكة اليهود
(1)
، وجرت عليهم أحكام الشَّريعة، وسياق قصَّة هذه البئر ظاهرٌ في أنَّها كانت حين مَقدَمِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ في أوَّل الأمر.
فصل
فأما المياه الجارية، فما كان نابعًا من غير مِلْكٍ ــ كالأنهار الكبار وغير ذلك ــ لم يُمْلَك بحالٍ، ولو دخل إلى أرض رجلٍ لم يملكه بذلك، وهو كالطَّير يدخل إلى أرضه، فلا يُمْلك بذلك، ولكلِّ واحدٍ
(2)
أخْذُه وصَيدُه. فإن جعل له في أرضه مصنعًا أو بِرْكةً يجتمع فيها ثمَّ يخرج منها، فهو كنقع البئر سواءٌ، وفيه من النِّزاع ما فيه، وإن كان لا يخرج منها فهو أحقُّ به للشُّرب والسَّقي، وما فضَلَ عنه فحكمه حكم ما تقدَّم.
وقال الشَّيخ في «المغني»
(3)
: وإن كان ما يَستقِرُّ
(4)
في البِركة لا يخرج منها، فالأولى أنَّه يَمْلِكه بذلك على ما سنذكره في مياه الأمطار.
ثمَّ قال: فأمَّا المصانع المتَّخَذة لمياه الأمطار تجتمع فيها ونحوها من البِرَكِ وغيرها، فالأولى أن يُمْلك ماؤها، ويصحُّ بيعه إذا كان معلومًا؛ لأنَّه مباحٌ حصَّله في شيءٍ مُعَدٍّ له، فلا يجوز أخذ شيءٍ منه إلا بإذن مالكه.
وفي هذا نظرٌ مذهبًا ودليلًا:
أمَّا المذهب فإنَّ أحمد قال: إنَّما نُهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في
(1)
بعدها في المطبوع: «لعنهم الله» . وليست في النسخ.
(2)
م، ز:«أحد» .
(3)
(6/ 148).
(4)
في المطبوع: «ماء يسير» . وفي النسخ: «ما يستر» . والمثبت من «المغني» .