الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أين دخلَتْ؟ فكتب إليه بذلك وصنَّفه، وكان فيما كتب إليه من عُشْر الخمر أربعة آلاف درهمٍ. قال: فلَبِثنا ما شاء الله، ثمَّ جاءه جواب كتابه: إنَّك كتبتَ إليَّ تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف، وإنَّ الخمر لا يَعْشِرها مسلمٌ ولا يشتريها ولا يبيعها، فإذا أتاك كتابي هذا فاطلُبِ الرَّجل فاردُدْها عليه، فهو أولى بما كان فيها. فطلب الرَّجل، فرُدَّت عليه
(1)
.
قال أبو عبيد: فهذا عندي الذي عليه العمل، وإن كان إبراهيم النَّخعيُّ قد قال غير ذلك. ثمَّ ذكر عنه في الذِّمِّيِّ
(2)
يمرُّ بالخمر على العاشر، قال: يُضاعَف عليه العُشُور
(3)
.
قال أبو عبيد
(4)
: وكان أبو حنيفة يقول: إذا مرَّ على العاشر بالخمر والخنازير، عَشَر الخمرَ، ولم يَعْشِر الخنازير. سمعتُ محمد بن الحسن يحدِّث بذلك عنه. قال أبو عبيد: وقول الخليفتين عمر بن الخطَّاب وعمر بن عبد العزيز أولى بالاتِّباع، والله أعلم.
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن الكلب والسِّنَّور
في «الصَّحيحين»
(5)
عن ابن مسعود
(6)
: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمنِ الكلب، ومَهْر البَغِيِّ، وحُلوان الكاهن.
(1)
«الأموال» (132).
(2)
ص، د:«الذي» ، تحريف.
(3)
«الأموال» (133).
(4)
تعليقًا على الأثر السابق.
(5)
البخاري (2237) ومسلم (1567).
(6)
ص، د، ز:«ابن مسعود» ، خطأ.
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن أبي الزبير قال: سألتُ جابرًا عن ثمن الكلب والسِّنَّور، فقال: زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وفي «سنن أبي داود»
(2)
عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسِّنَّور.
وفي «صحيح مسلم»
(3)
من حديث رافع بن خَدِيجٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «شرُّ الكسب مَهْر البغيِّ، وثمن الكلب، وكَسْب الحجَّام» .
فتضمَّنت هذه السُّنن أربعة أمورٍ:
أحدها: تحريم بيع الكلب، وذلك يتناول كلَّ كلبٍ صغيرًا كان أو كبيرًا، للصَّيد أو للماشية
(4)
أو للحرث. وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث قاطبةً، والنِّزاع في ذلك معروفٌ عن أصحاب مالك وأبي حنيفة، فجوَّز أصحاب أبي حنيفة بيعَ الكلاب وأكْلَ أثمانها. وقال القاضي عبد الوهَّاب
(5)
: اختلف أصحابنا في بيع ما أُذِن في اتِّخاذه من الكلاب، فمنهم من قال: يكره، ومنهم من قال: يحرم. انتهى.
وعقد بعضهم
(6)
عقدًا لما يصحُّ بيعه، وبنى عليه اختلافهم في بيع الكلب، فقال: ما كانت منافعه كلُّها محرَّمةً لم يجز بيعه، إذ لا فرق بين المعدوم حسًّا
(1)
برقم (1569).
(2)
برقم (3479). وأخرجه أيضًا أحمد (14652) والترمذي (1279) والنسائي (4668) وابن ماجه (2161)، وسيأتي الكلام على الحديث.
(3)
برقم (1568).
(4)
ص، د:«للمشية» .
(5)
في «المعونة» (ص 1040).
(6)
هو ابن شاس في «عقد الجواهر الثمينة» (2/ 336).
والممنوع شرعًا، وما تنوَّعت منافعه إلى محلَّلةٍ ومحرَّمةٍ، فإن كان المقصود من العين خاصَّةً كان الاعتبار بها، والحكم تابعٌ لها، فاعتُبِر نوعها، وصار الآخر كالمعدوم. وإن توزَّعتْ في النَّوعين لم يصحَّ البيع؛ لأنَّ ما يقابل ما حرم منها أكْلُ مالٍ بالباطل، وما سواه من بقيَّة الثَّمن يصير مجهولًا.
قال
(1)
: وعلى هذا الأصل مسألة بيع كلب الصَّيد، فإذا بُنِي الخلاف فيها على هذا الأصل قيل: في الكلب من المنافع كذا وكذا، وعُدِّدت جملة منافعه، ثمَّ نُظِر فيها، فمن رأى أنَّ جملتها محرَّمةٌ مَنَع، ومن رأى جميعها محلَّلةً أجاز، ومن رآها متنوِّعةً نَظَر: هل المقصود المحلَّل أو المحرَّم، فجعل الحكم للمقصود، ومن رأى منفعةً واحدةً منها محرَّمةً وهي مقصودةٌ مَنَع أيضًا، ومن التبسَ عليه كونُها مقصودةً وَقَفَ أو كره.
فتأمَّلْ هذا التَّأصيل والتَّفصيل، وطابِقْ بينهما يظهَرْ لك ما فيهما من التَّناقض والخلل، وأنَّ بناء بيع كلب الصَّيد على هذا الأصل من أفسد البناء، فإنَّ قوله: «من رأى أنَّ جملة منافع كلب الصَّيد محرَّمةٌ بعد تعديدها
(2)
لم يُجِز بيعه»، فإنَّ هذا لم يقلْه أحدٌ من النَّاس قطُّ، وقد اتَّفقت الأمَّة على إباحة منافع كلب الصَّيد من الاصطياد والحراسة، وهما جُلُّ منافعه، ولا يُقتنى إلا لذلك، فمن الذي رأى منافعه كلَّها محرَّمةٌ؟ ولا يصحُّ أن تُراد منافعه الشَّرعيَّة، فإنَّ إعارته جائزةٌ.
وقوله: «من رأى جميعها محلَّلةً أجاز» ، كلامٌ فاسدٌ أيضًا، فإنَّ منافعه
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «فصلًا» . والكلام لابن شاس في المصدر السابق (3/ 337).
(2)
د: «تعديد هذا» .
المذكورة محلَّلةٌ اتِّفاقًا، والجمهور على عدم جواز بيعه.
وقوله: «ومن رآها متنوِّعةً نَظر: هل المقصود المحلَّل أو
(1)
المحرَّم؟» كلامٌ لا فائدة تحته البتَّة، فإنَّ منفعة كلب الصَّيد هي الاصطياد دون الحراسة، فأين التَّنوُّع؟ وما يُقدَّر في المنافع من التَّحريم يُقدَّر مثله في الحمار والبغل.
وقوله: «ومن رأى منفعةً واحدةً محرَّمةً وهي مقصودةٌ مَنَع» ، أظهرُ فسادًا ممَّا قبله، فإنَّ هذه المنفعة المحرَّمة ليست هي المقصودة من كلب الصَّيد، وإن قُدِّر أنَّ مشتريه قصدَها، فهو كما لو قصد منفعةً محرَّمةً من سائر ما يجوز بيعه. وتبيَّنَ فسادُ هذا التَّأصيل، وأنَّ الأصل الصَّحيح هو الذي دلَّ عليه النَّصُّ الصَّريح الذي لا معارِضَ له البتَّة من تحريم بيعه.
فإن قيل: كلب الصَّيد مستثنًى من النَّوع الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدليل ما رواه الترمذي
(2)
من حديث جابر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، إلّا كلبَ الصَّيد.
(1)
ص، د، م:«و» .
(2)
برقم (1281). لكنه من حديث أبي هريرة لا جابر، وفي إسناده أبو المهزم، وهو ضعيف، وقال الترمذي عقبه:«هذا حديث لا يصح من هذا الوجه» .
وقال النَّسائيُّ
(1)
: أخبرني إبراهيم بن الحسن المِصِّيصي، ثنا حجَّاج بن محمَّدٍ، عن حمَّاد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السِّنَّور والكلب، إلا كلبَ صَيْدٍ.
وقال قاسم بن أصبغ
(2)
: حدَّثنا محمَّد بن إسماعيل، ثنا ابن أبي مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني المثنَّى بن الصباح، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ثمن الكلب سُحْتٌ إلا كلبَ صيدٍ» .
وقال ابن وهب
(3)
: عمَّن أخبره، عن ابن شهابٍ، عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاثٌ هنَّ سُحْتٌ: حُلوان الكاهن، ومَهْر الزَّانية، وثمن الكلب العَقُور» .
وقال ابن وهب
(4)
: حدَّثني الهيثم
(5)
بن نُمير، عن حسين
(6)
بن عبد الله بن ضمرة
(7)
، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب العَقُور.
ويدلُّ على صحَّة هذا الاستثناء أيضًا أنَّ جابرًا أحد من روى عن النَّبيِّ
(1)
برقم (4295، 4668). والحجاج خالف الثقات في رفعه كما سيأتي تخريجه قريبًا، وقال النسائي عقب تخريجه:«حديث حجاج عن حماد بن سلمة ليس هو بصحيح» ، وقال في «السنن الكبرى» (6219):«هذا الحديث منكر» .
(2)
ذكره من طريقه ابن حزم في «المحلى» (9/ 10، 11)، ويحيى متكلم في حفظه، والمثنى ضعيف.
(3)
في «الجامع» (12) و «الموطأ» (11). وفي إسناده عبد الرحمن بن سليمان المصري، وهو مضطرب الحديث.
(4)
«الجامع» (13) و «الموطأ» (12) ــ ومن طريقه ابن عدي في «الكامل» (5/ 68) ــ من طريق شمر بن نمير عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي به، وشمر منكر الحديث، وحسين كذاب.
(5)
كذا في النسخ، وهو الشَّمِر بن نمير لا الهيثم بن نمير، كما في المصادر السابقة.
(6)
«بن نمير عن حسين» ساقطة من المطبوع.
(7)
كذا في النسخ، والصواب «ضُمَيرة» كما في المصادر، وانظر:«لسان الميزان» (3/ 173).
- صلى الله عليه وسلم النَّهيَ عن ثمن الكلب، وقد رخَّص جابر نفسُه في ثمن كلب الصَّيد
(1)
، وقول الصَّحابيِّ صالحٌ لتخصيص عموم الحديث عند من جعله حجَّةً، فكيف إذا كان معه النَّصُّ باستثنائه والقياس أيضًا؟ لأنَّه يُباح الانتفاع به، ويصحُّ نقل اليد فيه بالميراث والوصيَّة والهبة، وتجوز إعارته وإجارته في أحد قولي العلماء، وهما وجهان للشَّافعيَّة، فجاز بيعه كالبغل والحمار.
فالجواب
(2)
: أنَّه لا يصحُّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم استثناء كلب الصَّيد بوجهٍ:
أمَّا حديث جابر، فقال الإمام أحمد وقد سئل عنه: هذا من الحسن بن أبي جعفر، وهو ضعيفٌ
(3)
. وقال الدَّارقطنيُّ
(4)
: الصَّواب أنَّه موقوفٌ على جابر. وقال الترمذي
(5)
: لا يصحُّ إسناد هذا الحديث.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (21305)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 58)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 10) من طرق عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر به. وقد اختلف فيه على حماد، فأخرجه ابن أبي شيبة (20910) عن وكيع، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 58) عن أبي نعيم، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 10) عن عبد الواحد بن غياث، والدارقطني (4/ 44) عن سويد بن عمرو؛ أربعتهم (وكيع وأبو نعيم وعبد الواحد وسويد) عن أبي الزبير عن جابر به موقوفًا. ورواه الدارقطني (4/ 43) عن عبيد الله بن موسى والهيثم بن جميل عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد. والصحيح وقفه، إلا أن أبا الزبير مدلس، ولم يصرح بالتحديث.
(2)
جواب «فإن قيل» قبل صفحتين.
(3)
انظر: «المغني» (4/ 190).
(4)
«السنن» (4/ 44).
(5)
«الجامع» (1279). قال: هذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح في ثمن السنَّور.
وقال في حديث أبي هريرة
(1)
: هذا لا يصحُّ، أبو المُهزِّم ضعيفٌ. يريد راويَه عنه.
وقال البيهقي
(2)
: روى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهيَ عن ثمن الكلب جماعةٌ، منهم: ابن عبَّاسٍ
(3)
، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو هريرة، ورافع بن خَدِيجٍ
(4)
، وأبو جُحَيفة
(5)
، اللَّفظ مختلفٌ والمعنى واحدٌ. والحديث الذي رُوِي في استثناء كلب الصَّيد لا يصحُّ، وكأنَّ من رواه أراد حديث النَّهي عن اقتنائه فشُبِّه عليه، والله أعلم.
وأمَّا حديث حمَّاد بن سلمة عن أبي الزبير، فهو الذي ضعَّفه الإمام أحمد بالحسن بن أبي جعفر، وكأنَّه لم يقع له طريق حجَّاج بن محمَّدٍ، وهو الذي قال فيه الدَّارقطنيُّ: الصَّواب أنَّه موقوفٌ، وقد أعلَّه ابن حزمٍ
(6)
بأنَّ أبا الزبير
(7)
لم يصرِّح فيه بالسَّماع من جابر، وهو مدلِّسٌ، وليس من رواية الليث عنه. وأعلَّه البيهقي
(8)
بأنَّ أحد رواته وهم من استثناء كلب الصَّيد ممَّا نهي عن اقتنائه من الكلاب فنقله إلى البيع.
(1)
«الجامع» (1281).
(2)
في «السنن الصغير» (2/ 276).
(3)
أخرجه أحمد (2094) وأبو داود (3482) والنسائي (4667) والضياء في «المختارة» (13/ 40).
(4)
تقدم تخريج أحاديث هؤلاء الثلاثة (ص 445، 447، 448).
(5)
أخرجه أحمد (18756) وأبو داود (3483) وابن حبان (4939).
(6)
في «المحلى» (9/ 11).
(7)
ص، د، ز:«ابن الزبير» ، خطأ.
(8)
في «السنن الكبرى» (6/ 6).
قلت: وممَّا يدلُّ على بطلان حديث جابر هذا وأنَّه خُلِّط عليه: أنَّه صحَّ عنه أنَّه قال: أربعٌ من السُّحْت: ضِراب الفَحْل، وثمن الكلب، ومَهْر البغيِّ، وكَسْب الحجَّام
(1)
. وهذا علَّةٌ أيضًا للموقوف عليه من استثناء كلب الصَّيد، فهو علَّةٌ للموقوف والمرفوع.
وأمَّا حديث المثنَّى بن الصباح عن عطاء عن أبي هريرة فباطلٌ؛ لأنَّ فيه يحيى بن أيوب، وقد شهد مالك عليه بالكذب، وجرَّحه الإمام أحمد. وفيه المثنى بن الصباح، وضعفُه عندهم مشهورٌ. ويدلُّ على بطلان الحديث ما رواه النَّسائيُّ
(2)
: ثنا الحسن بن أحمد بن شبيب
(3)
، حدَّثنا محمَّد بن عبد الله بن بهز
(4)
، ثنا أسباط، ثنا الأعمش، عن عطاء بن أبي رباحٍ، قال: قال أبو هريرة: أربعٌ من السُّحْت: ضِراب الفحل، وثمن الكلب، ومَهْر البغيِّ، وكَسْب الحجَّام.
(1)
لم أقف عليه، وإنما هو عن أبي هريرة كما سيأتي تخريجه، ولعل المصنف تبع فيه ابن حزم في «المحلى» (9/ 10)، فإنه خرج الأثر من طريق النسائي عن أبي هريرة ثم قال:«ورويناه عن جابر أيضًا» ، ولم يسنده.
(2)
في «السنن الكبرى» (4677). واختلف عن عطاء في رفعه ووقفه، فأخرجه ابن أبي شيبة (23091) وابن المنذر في «الأوسط» (11/ 204) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة موقوفًا، وأخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (4678) عن ابن جريج، وابن حبان (4941) عن قيس بن سعد، كلاهما (ابن جريج وقيس) عن عطاء به مرفوعًا، والأشبه رفعه، لأن قيسًا وابن جريج من أثبت الناس في عطاء.
(3)
كذا في النسخ، والصواب:«حبيب» كما في مصدر التخريج.
(4)
كذا في جميع النسخ، والصواب:«نمير» .
وأمَّا الأثر عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، فلا ندري من أخبر ابن وهب عن ابن شهابٍ، ولا من أخبر ابنَ شهابٍ عن الصِّدِّيق، ومثل هذا لا يُحتجُّ به.
وأمَّا الأثر عن علي، ففيه ابن ضمرة
(1)
في غاية الضَّعف.
ومثلُ هذه الآثار السَّاقطة المعلولة لا تُقدَّم على الآثار الَّتي رواها الأئمَّة الثِّقات الأثبات، حتَّى قال بعض الحفَّاظ: إنَّ نقْلها نقلُ تواترٍ، وقد ظهر أنَّه لم يصحَّ عن صحابيٍّ خلافُها البتَّة، بل هذا جابر وأبو هريرة وابن عبَّاسٍ يقولون: ثمن الكلب خبيثٌ.
قال وكيعٌ
(2)
: ثنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن قيس بن حَبْتَر
(3)
، عن ابن عبَّاسٍ رفعَه:«ثمنُ الكلب، ومَهْر البغيِّ، وثمنُ الخمر حرامٌ» .
وهذا أقلُّ ما فيه أن يكون قول ابن عبَّاسٍ.
وأمَّا قياس الكلب على البغل والحمار فمن أفسدِ القياس، بل قياسه على الخنزير أصحُّ من قياسه عليهما؛ لأنَّ الشَّبّه الذي بينه وبين الخنزير أقربُ من الشَّبَه الذي بينه وبين البغل والحمار، ولو تعارض القياسان لكان القياس المؤيَّد بالنَّصِّ الموافق له أصحَّ وأولى من القياس المخالف له.
فإن قيل: كان النَّهي عن ثمنها حين كان الأمر بقتلها، فلمَّا حُرِّم قتلُها
(1)
كذا في النسخ، والصواب:«ضميرة» كما سبق التنبيه عليه.
(2)
أخرجه من طريقه ابن أبي شيبة (21307، 37387) وأحمد (2094) والضياء المقدسي في «المختارة» (13/ 40)، وقد تقدم تخريجه عن ابن عباس.
(3)
ص، د، ز:«جبير» ، تصحيف.
وأُبيح اتِّخاذ بعضها نُسِخ النَّهي، فنُسِخ تحريم البيع.
قيل: هذه دعوى باطلةٌ، ليس مع مدَّعيها بصحَّتها دليلٌ ولا شبهةٌ، وليس في الأثر ما يدلُّ على صحَّة هذه الدَّعوى البتَّةَ بوجهٍ من الوجوه. ويدلُّ على بطلانها: أنَّ أحاديث تحريم بيعها وأكلِ ثمنها مطلقةٌ عامَّةٌ كلُّها، وأحاديث الأمر بقتلها والنَّهي عن اقتنائها نوعان: نوعٌ كذلك وهو المتقدِّم، ونوعٌ مقيَّدٌ مخصَّصٌ وهو المتأخِّر، فلو كان النَّهي عن بيعها مقيَّدًا مخصوصًا لجاءت به الآثار كذلك، فلمَّا جاءت عامَّةً مطلقةً عُلِم أنَّ عمومها وإطلاقها مرادٌ، فلا يجوز إبطاله. والله أعلم.
فصل
الحكم الثَّاني: تحريم بيع السِّنَّور، كما دلَّ عليه الحديث الصَّحيح الصَّريح الذي رواه جابر، وأفتى بموجبه، كما رواه قاسم بن أصبغ
(1)
: ثنا محمَّد بن وضَّاحٍ، ثنا محمد بن آدم، ثنا عبد الله بن المبارك، ثنا حمَّاد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه أنَّه كره ثمنَ الكلب والسِّنَّور.
قال أبو محمد
(2)
: فهذه فتيا جابر بن عبد اللَّه بما رواه
(3)
، ولا يُعرف له مخالفٌ من الصَّحابة. وكذلك أفتى أبو هريرة
(4)
، وهو مذهب طاوسٍ
(1)
ذكره ابن حزم في «المحلى» (9/ 13)، وإسناده صحيح، وقد تقدم تخريجه.
(2)
في «المحلى» (9/ 13).
(3)
في المطبوع: «أنه كره بما رواه» خلاف النسخ و «المحلى» .
(4)
تقدم تخريجه (ص 451).
ومجاهد
(1)
وجابر بن زيدٍ
(2)
، وجميع أهل الظَّاهر، وإحدى الرِّوايتين عن أحمد، وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز. وهو الصَّواب لصحَّة الحديث بذلك، وعدمِ ما يعارضه، فوجب القول به.
قال البيهقي
(3)
: ومن العلماء من حمل الحديث على أنَّ ذلك حين كان محكومًا بنجاستها، فلمَّا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«الهرَّة ليستْ بنجسٍ»
(4)
صار ذلك منسوخًا في البيع. ومنهم من حملَه على السِّنَّور إذا توحَّش، ومتابعةُ ظاهر السُّنَّة أولى. ولو سمع الشَّافعيُّ الخبر الوارد
(5)
فيه لقال به إن شاء اللَّه، وإنَّما لا يقول به من توقَّف في تثبيت روايات أبي الزبير، وقد تابعه أبو سفيان عن جابر على هذه الرِّواية، من جهة عيسى بن يونس وحفص بن غياثٍ عن الأعمش عن أبي سفيان، والله أعلم. انتهى كلامه.
ومنهم من حمله على الهرِّ الذي ليس بمملوكٍ، ولا يخفى ما في هذه المحامل من الوهن.
فصل
والحكم الثَّالث: مهر البَغِيِّ، وهو ما تأخذه الزَّانية في مقابلة الزِّنا بها،
(1)
أخرجه عنهما ابن أبي شيبة (21922)، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، وفي روايته عن مجاهد وطاوس كلام.
(2)
لم أقف عليه.
(3)
في «السنن الصغير» (2/ 278).
(4)
أخرجه أحمد (22528) والترمذي (92) وأبو داود (75، 76) والنسائي (68، 340)، وابن ماجه (367) وابن خزيمة (104) وابن حبان (1299) والحاكم (1/ 263) من حديث أبي قتادة. وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .
(5)
في المطبوع: «الواقع» خلاف النسخ و «السنن الصغير» .
فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ذلك خبيثٌ على أيِّ وجهٍ كان، حرَّةً كانت أو أمةً، ولا سيَّما فإنَّ البِغاء إنَّما كان على عهدهم في الإماء دون الحرائر، ولهذا قالت هند وقتَ البيعة: أَوَ تَزني الحرَّة؟!
(1)
.
ولا نزاعَ بين الفقهاء في أنَّ الحرَّة البالغة العاقلة إذا مَكَّنت رجلًا من نفسها فزنى بها أنَّه لا مهْرَ لها، واختُلِف في مسألتين، إحداهما: الحرَّة المُكْرَهة. والثَّانية: الأمة المطاوعة.
فأمَّا الحرَّة المُكْرَهة على الزِّنا، ففيها أربعة أقوالٍ، وهي رواياتٌ منصوصاتٌ عن أحمد
(2)
:
أحدها: أنَّ لها المهرَ بكرًا كانت أو ثيِّبًا، سواءٌ وُطِئتْ في قُبُلِها أو دُبُرِها.
والثَّاني: أنَّها إن كانت ثيِّبًا فلا مهرَ لها، وإن كانت بكرًا فلها المهر. وهل يجب معه أَرْشُ البكارة؟ على روايتين منصوصتين. وهذا القول اختيار أبي بكر.
والثَّالث: أنَّها إن كانت ذاتَ محرمٍ فلا مهرَ لها، وإن كانت أجنبيَّةً فلها المهر.
والرَّابع: أنَّ من تحرم ابنتُها كالأمِّ والبنت والأخت فلا مهرَ لها، ومن تحلُّ ابنتها كالعمَّة والخالة فلها المهر.
وقال أبو حنيفة: لا مهرَ للمكرهة على الزِّنا بحالٍ، بكرًا كانت أو ثيِّبًا.
(1)
أخرجه أبو يعلى (4754) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (10/ 3351) من حديث عائشة، وفي إسناده مجاهيل. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (8/ 9، 237) مرسلًا عن عمرو بن مهران والشعبي، وصححه عنهما الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (8/ 346).
(2)
انظر: «المغني» (10/ 186).
فمن أوجب المهر قال: إنَّ استيفاء هذه المنفعة جُعِل مُقوَّمًا في الشَّرع بالمهر، وإنَّما لم يجب للمختارة؛ لأنَّها باذلةٌ للمنفعة الَّتي عوضها لها، فلم يجب لها شيءٌ، كما لو أذنت في إتلاف عضوٍ من أعضائها لمن أتلفه.
ومن لم يوجبه قال: الشَّارع إنَّما جعل هذه المنفعة متقوِّمًا
(1)
بالمهر في عقدٍ أو شبهة عقدٍ، ولم يُقوِّمها بالمهر في الزِّنا البتَّة، وقياس السِّفاح على النِّكاح من أفسد القياس.
قالوا: وإنَّما جَعلَ الشَّارع في مقابلة هذا الاستمتاع الحدَّ والعقوبةَ، فلا يجمع بينه وبين ضمان المهر.
قالوا: والوجوب إنَّما يُتلقَّى من الشَّارع من نصِّ خطابه، أو عمومه، أو فَحْواه، أو تنبيهه، أو معنى نصِّه، وليس شيءٌ من ذلك ثابتًا متحقِّقًا عنه. وغاية ما يُدَّعى قياسُ السِّفاح على النِّكاح، ويا بُعْدَ ما بينهما!
قالوا: والمهر إنَّما هو من خصائص النِّكاح لفظًا ومعنًى، ولهذا إنَّما يضاف إليه فيقال: مهر النِّكاح، ولا يضاف إلى الزِّنا، فلا يقال: مهر الزِّنا، وإنَّما أطلق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المهر بالعقد
(2)
، كما قال:«إنَّ الله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام»
(3)
. وكما قال: «من باع حرًّا وأكلَ ثمنَه»
(4)
. ونظائره كثيرةٌ.
(1)
ص، د، ح:«متقدمًا» . والتصحيح من هامش م.
(2)
في النسخ: «بالنقد» . والمثبت يقتضيه السياق.
(3)
أخرجه البخاري (2236) ومسلم (1581) من حديث جابر رضي الله عنه وقد تقدم (ص 419).
(4)
أخرجه البخاري (2270) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والأوَّلون يقولون: الأصل في هذه المنفعة أن تُقوَّم بالمهر، وإنَّما أسقطه الشَّارع في حقِّ البغيِّ، وهي الَّتي تزني باختيارها، وأمَّا المُكرَهة على الزِّنا فليست بغيًّا، فلا يجوز إسقاطُ بدلِ منفعتها الَّتي أُكرِهت على استيفائها، كما لو أكره الحرُّ على استيفاء منافعه، فإنَّه يلزمه عِوضُها، وعِوضُ هذه المنفعة شرعًا هو المهر.
فهذا مأخذ القولين.
ومن فرَّق بين البكر والثَّيِّب رأى أنَّ الواطئ لم يُذهِب على الثَّيِّب شيئًا، وحَسْبُه العقوبة الَّتي رُتَّبتْ على فعله، وهذه المعصية لا يقابلها شرعًا مالٌ يلزم من أقدر
(1)
عليها، بخلاف البكر فإنَّه أزال بكارتها، فلا بدَّ من ضمان ما أزالَه، فكانت هذه الجناية مضمونةً عليه في الجملة، فضَمِن ما أتلفه من جزء منفعةٍ، وكانت المنفعة تابعةً للجزء في الضَّمان، كما كانت تابعةً له في عدمه في البِكر المطاوعة.
ومن فرَّق بين ذوات المحارم وغيرهنَّ، رأى أنَّ تحريمهنَّ لمَّا كان تحريمًا مستقرًّا، وأنَّهنَّ غير محلِّ الوطء شرعًا، كان استيفاء هذه المنفعة منهنَّ بمنزلة التَّلوُّط، فلا يوجب مهرًا. وهذا قول الشَّعبيِّ، وهذا بخلاف تحريم المصاهرة، فإنَّه عارضٌ يمكن زواله.
قال صاحب «المغني»
(2)
: وهكذا ينبغي أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرَّضاع؛ لأنَّه طارٍ
(3)
أيضًا.
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «أقدم» .
(2)
(10/ 187).
(3)
كذا في النسخ، والمقصود:«طارئ» ، وهو مهموز وليس معتلًّا.
ومن فرَّق في ذوات المحارم بين من تحرم ابنتها ومن لا تحرم، فكأنَّه رأى أنَّ من لا تحرم ابنتها تحريمها
(1)
أخفُّ من تحريم الأخرى، فأشبَه العارضَ.
فإن قيل: فما حكم المُكْرَهة على الوطء في دُبرها، أو الأمة المطاوعة على ذلك؟
قيل: هو أولى بعدم الوجوب، فهذا كاللِّواط لا يجب به
(2)
المهر اتِّفاقًا.
وقد اختلف في هذه المسألة الشَّيخان: أبو البركات ابن تيميَّة، وأبو محمد ابن قدامة:
فقال أبو البركات في «محرَّره»
(3)
: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهةٍ، والمكرهة على الزِّنا في قُبُلٍ أو دُبُرٍ.
وقال أبو محمد في «المغني»
(4)
: ولا يجب المهر بالوطء في الدُّبر ولا اللِّواط؛ لأنَّ الشَّرع لم يَرِد ببدله، ولا هو إتلافٌ لشيءٍ، فأشبهَ القبلةَ والوطء دون الفرج.
وهذا القول هو الصَّواب قطعًا، فإنَّ هذا الفعل لم يجعل له الشَّارع قيمةً أصلًا، ولا قدَّر له مهرًا بوجهٍ من الوجوه، وقياسه على وطء الفرج من أفسد القياس، ولازم من قاله إيجاب المهر لمن فعلت به اللُّوطيَّة من الذُّكور،
(1)
ص، د، ز:«تحريمًا» ، خطأ.
(2)
في المطبوع: «فيه» خلاف النسخ.
(3)
(2/ 39).
(4)
(10/ 187).
وهذا لم يقل به أحدٌ البتَّة.
فصل
وأمَّا المسألة الثَّانية: وهي الأمة المطاوعة، فهل يجب لها المهر؟ فيه قولان، أحدهما: يجب، وهذا قول الشَّافعيِّ وأكثر أصحاب أحمد. قالوا: لأنَّ هذه المنفعة لغيرها، فلا يسقط بدلها مجَّانًا، كما لو أذنت في قطع طرفها.
والصَّواب المقطوع به: أنَّه لا مهرَ لها، وهذه هي البغيُّ الَّتي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهرها، وأخبر أنَّه خبيثٌ، وحكم عليه وعلى ثمنِ الكلب وأجرِ الكاهن بحكمٍ واحدٍ، والأمة داخلةٌ في هذا الحكم دخولًا أوَّليًّا، فلا يجوز تخصيصها من عمومه؛ لأنَّ الإماء هنَّ اللَّاتي كنَّ
(1)
يُعرَفن بالبغاء، وفيهنَّ وفي ساداتهنَّ أنزل الله عز وجل:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، فكيف يجوز أن تخرج الإماء من نصٍّ أُرِدْنَ به قطعًا، ويُحمَل على غيرهنَّ؟
وأمَّا قولكم: «إنَّ منفعتها لسيِّدها، ولم يأذن في استيفائها» ، فيقال: هذه المنفعة يملك السَّيِّد استيفاءها بنفسه، ويملك المعاوضةَ عليها بعقد النِّكاح أو شبهته
(2)
، ولا يملك المعاوضةَ عليها إذا أذنت
(3)
، ولم يجعل الله ورسوله للزِّنا عوضًا قطُّ غير العقوبة، فيفوت على السَّيِّد حتَّى يُقضى له، بل
(1)
«كن» ليست في ص، د.
(2)
ص، د، ز:«شبهه» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «إلا إذا أذنت» . و «إلا» ليست في النسخ الخطية، وإثباتها يقلب المعنى.
هذا تقويمُ مالٍ هَدَرَه
(1)
الله ورسوله، وإثباتُ عوضٍ حكَمَ الشَّارع بخبثه، وجعله بمنزلة ثمنِ الكلب وأجرِ الكاهن، وإذا كان عوضًا خبيثًا شرعًا لم يجز أن يُقضَى به.
ولا يقال: فأجر الحجَّام خبيثٌ، ويُقضى له به؛ لأنَّ منفعة الحجامة منفعةٌ مباحةٌ وتجوز، بل يجب على مستأجره أن يُوفِّيه أجرَه، فأين هذا من المنفعة الخبيثة المحرَّمة الَّتي عِوضُها من جنسها، وحكمُه حكمها، وإيجابُ عوضٍ في مقابلة هذه القصة
(2)
كإيجاب عوضٍ في مقابلة اللِّواط، إذ الشَّارع لم يجعل في مقابلة هذا الفعل عوضًا.
فإن قيل: فقد جعل في مقابلة الوطء في الفرج عوضًا، وهو المهر من حيث الجملة، بخلاف اللِّواط.
قلنا: إنَّما جعل في مقابلته عوضًا إذا استُوفي بعقدٍ أو بشبهة عقدٍ، ولم يجعل له عوضًا إذا استُوفي بزنًا محضٍ لا شبهةَ فيه، وباللَّه التَّوفيق.
ولم يُعرَف في الإسلام قطُّ أنَّ زانيًا قُضِي عليه بالمهر للمَزْنيِّ بها، ولا ريبَ أنَّ المسلمين يرون هذا قبيحًا، فهو عند الله عز وجل قبيحٌ.
فصل
فإن قيل: فما تقولون في كسب الزَّانية إذا قبضَتْه ثمَّ تابت، هل يجب عليها ردُّ ما قبضتْه إلى أربابه، أم يطيب لها، أم تَصَّدَّقُ به؟
(1)
في المطبوع: «أهدره» خلاف النسخ. وهَدَرَ فعل لازم ومتعدٍّ، يقال: هَدَرَ الشيءَ: أبطَلَه.
(2)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:«القضية» . وفي المطبوع: «المعصية» .
قيل: هذا ينبني على قاعدةٍ عظيمةٍ من قواعد الإسلام، وهي أنَّ من قبضَ ما ليس له قبضه شرعًا، ثمَّ أراد التَّخلُّص منه، فإن كان المقبوض قد أُخِذ بغير رضى صاحبه ولا استُوفي عوضُه، ردَّه عليه. فإن تعذَّر ردُّه عليه قضى به دينًا يعلمه عليه، فإن تعذَّر ذلك ردَّه إلى ورثته، فإن تعذَّر ذلك تصدَّقَ به عنه. فإن اختار صاحب الحقِّ ثوابه يوم القيامة كان له، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظيرَ ماله، وكان ثواب الصَّدقة للمتصدِّق، كما ثبت عن الصَّحابة رضي الله عنهم.
وإن كان المقبوض برضى الدَّافع وقد استوفى عوضَه المحرَّم ــ كمن عاوض على خمرٍ أو خنزيرٍ أو على زنًا أو فاحشةٍ ــ فهذا لا يجب ردُّ العوض على الدَّافع؛ لأنَّه أخرجه باختياره، واستوفى عوضَه المحرَّم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوَّض، فإنَّ في ذلك إعانةً له على الإثم والعدوان، وتيسيرَ أصحابِ المعاصي عليه. وماذا يريد الزَّاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنَّه يَنال غرضَه ويستردُّ مالَه، فهذا ممَّا تُصان الشَّريعة عن الإتيان به، ولا يَسُوغ القول به، وهو يتضمَّن الجمع بين الظُّلم والفاحشة والغدر.
ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضَه من المزنيِّ بها، ثمَّ يرجع فيما أعطاها قهرًا، وقبْحُ هذا مستقرٌّ في فطر جميع العقلاء، فلا تأتي به شريعةٌ، ولكن لا يطيب للقابض أكلُه، بل هو خبيثٌ كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه. فطريق التَّخلُّص منه وتمامُ التَّوبة بالصَّدقة به، فإن كان محتاجًا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته، ويتصدَّق بالباقي. فهذا حكم كلِّ كسبٍ خبيثٍ لخبث عوضه، عينًا كان أو منفعةً، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوبُ ردِّه على الدَّافع، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كَسْب
الحجَّام، ولا يجب ردُّه على دافعه.
فإن قيل: فالدَّافع مالَه في مقابلة العوض المحرَّم دفعَ ما لا يجوز دفعه، بل حَجَرَ عليه فيه الشَّارع، فلم يقع قبضُه موقعَه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب ردُّه على مالكه، كما لو تبرَّع المريض لوارثه بشيءٍ، أو لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثُّلث، أو تبرَّعَ المحجورُ عليه لفَلَسٍ
(1)
أو سَفَهٍ، أو تبرَّع المضطرُّ إلى قُوتِه بذلك، ونحو ذلك. وحَرْف المسألة
(2)
أنَّه محجورٌ عليه شرعًا في هذا الدَّفع، فيجب ردُّه.
قيل: هذا قياسٌ فاسدٌ؛ لأنَّ الدَّفع في هذه الصُّور تبرُّعٌ محضٌ لم يعاوض عليه، والشَّارع قد منعه منه لتعلُّق حقِّ غيره به، أو حقِّ نفسه المقدَّمة على غيره، وأمَّا فيما نحن فيه فهو قد عاوَضَ بماله على استيفاء منفعةٍ، أو استهلاك عينٍ محرَّمةٍ، فقد قبض عوضًا محرَّمًا، وأقبضَ مالًا محرَّمًا، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذَلَ فيه ما لا يجوز بذلُه، فالقابض قبضَ مالًا محرَّمًا، والدَّافع استوفى عوضًا محرَّمًا، وقضيَّةُ العدل تَرَادُّ العوضينِ، لكن قد تعذَّر ردُّ أحدهما، فلا يُوجِب ردَّ الآخر من غير رجوع عوضه. نعم، لو كان الخمر قائمًا بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يَفْجُرها
(3)
= وجبَ ردُّ المال في الصُّورتين قطعًا، كما في سائر العقود الباطلة إذا لم يتَّصل بها القبض.
فإن قيل: وأيُّ تأثيرٍ لهذا القبض المحرَّم حتَّى جُعِل له حرمةٌ؟ ومعلومٌ أنَّ قبض ما لا يجوز قبضه بمنزلة عدمه، إذ الممنوع شرعًا كالممنوع حسًّا،
(1)
أي كونه مفلسًا.
(2)
حرف المسألة: وجهها. وفي المطبوع: «وسرّ المسألة» خلاف النسخ.
(3)
كذا في النسخ، والمعنى: لم يزنِ بها. وفي المطبوع: «ولم يفجر بها» .
فقابضُ المالِ قبضَه بغير حقٍّ، فعليه أن يؤدِّيَه
(1)
إلى دافعه.
قيل: والدَّافع قبضَ العينَ واستوفى المنفعةَ بغير حقٍّ، فكلاهما قد اشتركا في دفْعِ ما ليس لهما دفعُه، وقبْضِ ما ليس لهما قبضُه، وكلاهما عاصٍ للَّه، فكيف يُخَصُّ أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوَّض، ويُفَوَّت على الآخر العوض والمعوَّض؟
فإن قيل: هو فوَّت المنفعة على نفسه باختياره.
قيل: والآخر فوَّت العوضَ على نفسه باختياره، فلا فرق بينهما، وهذا واضحٌ بحمد اللَّه.
وقد توقَّف شيخنا رحمه الله في وجوب ردِّ عوضِ هذه المنفعة المحرَّمة على باذلِه أو الصَّدقةِ به، في كتاب «اقتضاء الصِّراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم» وقال
(2)
: الزَّاني ومستمعُ الغناء والنَّوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، واستوفَوا العوضَ المحرَّم. والتَّحريمُ الذي فيه ليس لحقِّهم، وإنَّما هو لحقِّ الله، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصولُ تقتضي أنَّه إذا ردَّ أحدَ العوضين ردَّ الآخر، فإذا تعذَّر على المستأجر ردُّ المنفعة لم يردَّ عليه المال. وهذا الذي استُوفِيتْ منفعته عليه ضررٌ في أخذ منفعتِه وعوضِها جميعًا منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمرًا أو ميتةً، فإنَّ تلك لا ضررَ عليه في فَواتها، فإنَّها لو كانت باقيةً أتلَفْناها عليه، ومنفعة الغناء والنَّوح لو لم تَفُتْ لتوفَّرتْ عليه، بحيث كان يتمكَّن من صَرْف تلك المنفعة في أمرٍ آخر، أعني من صرف القوَّة الَّتي عمل بها.
(1)
في المطبوع: «يرده» خلاف النسخ.
(2)
(2/ 47، 48).
ثمَّ أورد على نفسه سؤالًا، فقال
(1)
: فيقال على هذا: فينبغي أن تَقضُوا بها إذا طالب بقبضها.
وأجاب عنه بأن قال: قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا رَدِّها، كعقود الكفَّار المحرَّمة، فإنَّهم إذا أسلموا قبل القبض لم يُحكَم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يُحكم بالرَّدِّ، ولكنَّ المسلم تَحرُم عليه هذه الأجرة؛ لأنَّه كان معتقدًا لتحريمها، بخلاف الكافر. وذلك لأنَّه إذا طلب الأجرة قلنا له: أنت فرَّطتَ حيث صرفتَ قوَّتك في عملٍ يحرم، فلا يُقضى لك بأجرة. فإذا قبضَها وقال الدَّافع: هذا المال اقْضُوا لي بردِّه، فإنَّه
(2)
أقبضتُه إيَّاه عوضًا عن منفعةٍ محرَّمةٍ= قلنا له: دفعتَه معاوضةً رضيتَ بها، فإذا طلبتَ استرجاعَ ما أُخِذ، فاردُدْ إليه ما أخذتَ إذا كان له في بقائه معه منفعةٌ، فهذا محتملٌ.
قال
(3)
: وإن كان ظاهر القياس ردّها، لأنَّها مقبوضةٌ بعقدٍ فاسدٍ. انتهى.
وقد نصَّ أحمد ــ في رواية أبي النضر
(4)
ــ فيمن حمل خمرًا أو خنزيرًا أو ميتةً لنصرانيٍّ
(5)
: أكره أكْلَ كرائِه، ولكن يُقضى للحمَّال بالكراء. وإذا كان لمسلمٍ فهو أشدُّ كراهةً. فاختلف أصحابه في هذا النَّصِّ على ثلاث طرقٍ
(6)
:
(1)
المصدر السابق. والكلام متصل بما قبله.
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «فإني» . وفي «الاقتضاء» : «فإنما» .
(3)
المصدر نفسه (2/ 47) قبل هذا النصّ المقتبس.
(4)
كما في المصدر السابق (2/ 26، 42).
(5)
«لنصراني» ليست في ص، د.
(6)
اعتمد المؤلف في بيانها على «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 42 وما بعدها). وكذا ذكر ذلك في «أحكام أهل الذمة» (1/ 278 - 284).
إحداها: إجراؤه على ظاهره، وأنَّ المسألة روايةٌ واحدةٌ. قال ابن أبي موسى
(1)
: وكره أحمد أن يُؤجِر المسلم نفسَه لحمل ميتةٍ أو خنزيرٍ لنصرانيٍّ. فإن فعلَ قُضِي له بالكراء، وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين، أوجههما: أنَّه لا يطيب له، ويتصدَّق به.
وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي
(2)
، قال: إذا آجر نفسَه من رجلٍ في حمل خمرٍ أو خنزيرٍ أو ميتةٍ كُرِه، نصَّ عليه، وهذه كراهة تحريمٍ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لعن حاملها
(3)
. إذا ثبت ذلك فيُقضى له بالكراء، وغير ممتنعٍ أن يُقضى له بالكراء وإن كان محرَّمًا كإجارة الحجَّام. انتهى.
فقد صرَّح هؤلاء بأنَّه يستحقُّ الأجرة مع كونها محرَّمةً عليه على الصَّحيح.
الطَّريقة
(4)
الثَّانية: تأويل هذه الرِّواية بما يخالف ظاهرها، وجَعْل المسألة روايةً واحدةً، وهي أنَّ هذه الإجارة لا تصحُّ. وهذه طريقة القاضي في «المجرَّد» ، وهي طريقةٌ ضعيفةٌ، وقد رجع عنها في كتبه المتأخِّرة، فإنَّه صنَّف «المجرَّد» قديمًا.
الطَّريقة الثَّالثة: تخريج هذه المسألة على روايتين، إحداهما: أنَّ هذه
(1)
في «الإرشاد» (ص 214).
(2)
الحنبلي المتوفي سنة 467. له كتاب «عمدة الحاضر وكفاية المسافر» في نحو أربع مجلدات. قال ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 9): هو كتاب جليل يشتمل على فوائد كثيرة نفيسة.
(3)
روي عن عدد من الصحابة: أخرجه أحمد (2897)، والترمذي (1295)، وأبو داود (3674)، وابن ماجه (3380)، وابن حبان (5356)، والحاكم (2/ 37).
(4)
ص، د، ز:«الطريق» .
الإجارة صحيحةٌ يستحقُّ بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة. والثَّانية: لا تصحُّ الإجارة، ولا يستحقُّ بها أجرةً وإن حمل. وهذا على قياس قوله في الخمر: لا يجوز إمساكها، وتجب إراقتها.
قال في رواية أبي طالب: إذا أسلم وله خمرٌ أو خنازير، تُصَبُّ الخمر وتُسَرَّح الخنازير، قد حرما عليه، وإن قتلها فلا بأس. فقد نصَّ أنَّه لا يجوز إمساكها. ولأنَّه قد نصَّ في رواية ابن منصور
(1)
: أنَّه يكره أن يُؤاجِر نفسَه لنظارة كَرْمٍ من
(2)
النصراني؛ لأنَّ أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنَّه يباع لغير الخمر.
فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضي في «تعليقه» ، وعليها أكثر أصحابه. والمنصور عندهم: الرِّواية المخرَّجة، وهي عدم الصِّحَّة، وأنَّه لا يستحقُّ أجرةً، ولا يُقضى له بها، وهي مذهب مالك والشَّافعيِّ وأبي يوسف ومحمد.
هذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشُّرب أو لأكلِ الخنزير أو مطلقًا. فأمَّا إذا استأجره لحملها لِيُرِيقها، أو لينقل الميتة إلى الصَّحراء لئلَّا يتأذَّى بها، فإنَّ الإجارة تجوز حينئذٍ؛ لأنَّه عملٌ مباحٌ، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصحَّ، واستحقَّ أجرة المثل، وإن كان قد سلخَ الجلدَ وأخذَه ردَّه على صاحبه، هذا قول شيخنا
(3)
، وهو مذهب مالك. والظَّاهر أنَّه مذهب الشَّافعيِّ.
(1)
هو الكوسج، انظر:«مسائله» (2/ 533).
(2)
كذا في النسخ «من» . وليست في «المسائل» و «اقتضاء الصراط» .
(3)
في «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 45).
وأمَّا أبو حنيفة
(1)
: فمذهبه كالرِّواية الأولى، أنَّه تصحُّ الإجارة، ويُقضى له بالأجرة. ومأخذُه في ذلك أنَّ الحمل إذا كان مطلقًا لم يكن المستحقُّ نفسَ حملِ الخمر، فذِكْره وعدم ذكره سواءٌ، وله أن يحمله شيئًا آخر غيره كخلٍّ وزيتٍ. وهكذا قال فيما لو آجرَه دارَه أو حانوتَه ليتَّخذها كنيسةً، أو ليبيع فيها الخمر.
قال أبو بكر الرازي: لا فرقَ عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيه الخمر أو لا يشترط، وهو يعلم أنَّه يبيع فيه الخمر: أنَّ الإجارة تصحُّ؛ لأنَّه لا يستحقُّ عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء وإن شرطَ ذلك؛ لأنَّ له أن لا يبيع فيه الخمر، ولا يتَّخذ الدَّار كنيسةً، ويستحقُّ عليه الأجرة بالتَّسليم في المدَّة. فإذا لم يستحقَّ عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وتركها سواءً، كما لو اكترى دارًا لينام فيها أو يسكنها، فإنَّ الأجرة تستحقُّ عليه، وإن لم يفعل ذلك. وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلًا لحملِ خمرٍ أو ميتةٍ أو خنزيرٍ: إنَّه يصحُّ؛ لأنَّه لا يتعيَّن حمل الخمر، بل لو حمَّله بدله عصيرًا استحقَّ الأجرة، فهذا التَّقييد عنده
(2)
لغوٌ، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزةٌ وإن غلبَ على ظنِّه أنَّ المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتَّخذه خمرًا. ثمَّ إنَّه كره بيع السِّلاح في الفتنة، قال: لأنَّ السِّلاح معمولٌ للقتال لا يصلح لغيره.
وعامَّة الفقهاء خالفوه في المقدِّمة الأولى، وقالوا: ليس المقيَّد كالمطلق،
بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقَّة، فتكون هي المقابلة بالعوض، وهي منفعةٌ محرَّمةٌ، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها. وألزموه ما لو اكترى دارًا ليتَّخذها مسجدًا، فإنَّه لا يستحقُّ عليه فعلَ المعقود عليه، ومع هذا فإنَّه أبطل هذه الإجارة بناءً على أنَّها اقتضت فعْلَ الصَّلاة، وهي لا تستحقُّ بعقد إجارةٍ.
ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدِّمة الثَّانية، وقالوا: إذا غلب على ظنِّه أنَّ المستأجر ينتفع بها في محرَّمٍ حَرُمت الإجارة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها
(1)
، والعاصر إنَّما يعصر عصيرًا، لكن لمَّا علم أنَّ المعتصر يريد أن يتَّخذه خمرًا، فيعصره
(2)
له، استحقَّ اللَّعنة.
قالوا: وأيضًا فإنَّ هذا معاونةٌ
(3)
على نفس ما يسخطه الله ويُبغِضه، ويلعن فاعله، فأصول الشَّرع وقواعده تقضي بتحريمه وبطلان العقد عليه. وسيأتي مزيدُ تقريرِ هذا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم بتحريم العِينة
(4)
، وما يترتَّب عليها من العقوبة.
قال شيخنا رضي الله عنه
(5)
: والأشبه طريقة ابن أبي موسى
(6)
، يعني أنَّه يُقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرَّمةً، ولكن لا يَطيب له أكلُها. قال:
(1)
هو حديث لعن حامل الخمر نفسه، وقد تقدم تخريجه (ص 465).
(2)
م: «فعصره» .
(3)
د، ص، ز:«معاوضة» .
(4)
تقدم تخريجه. وفي د، م:«الغيبة» ، تصحيف.
(5)
«اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 45).
(6)
في المطبوع: «ابن موسى» ، خطأ.
فإنَّها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس؛ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لعن عاصرَ الخمر ومعتصَرها وحاملَها والمحمولةَ إليه
(1)
، فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعةٍ تستحقُّ عوضًا، وهي ليست محرَّمةً في نفسها، وإنَّما حُرِّمت بقصد المعتصر والمحتمل
(2)
، فهو كما لو باع عنبًا وعصيرًا لمن يتَّخذه خمرًا، وفات العصير والخمر في يد المشتري، فإنَّ مال البائع لا يذهب مجَّانًا، بل يُقضى له بعوضه. كذلك هنا، المنفعة الَّتي وفَّاها المُؤجِر، لا تذهب مجَّانًا، بل يُعطى بدلها، فإنَّ تحريم الانتفاع بها
(3)
إنَّما كان من جهة المستأجر، لا من جهة المُؤجِر، فإنَّه لو حملها للإراقة، أو لإخراجها إلى الصَّحراء خشيةَ التَّأذِّي بها= جاز. ثمَّ نحن نحرِّم الأجرة عليه لحقِّ الله سبحانه لا لحقِّ المستأجر والمشتري، بخلاف من
(4)
استُؤجِر للزِّنا أو التَّلوُّط أو القتل أو السَّرقة، فإنَّ نفس هذا العمل محرَّمٌ [لا]
(5)
لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باعه ميتةً أو خمرًا، فإنَّه لا يُقضى له بثمنها؛ لأنَّ نفس هذه العين محرَّمةٌ، وكذلك لا يُقضى له بعوض هذه المنفعة المحرَّمة.
قال شيخنا
(6)
: ومثل هذه الإجارة والجِعالة ــ يعني الإجارة على حمل الخمر والميتة ــ لا تُوصف بالصِّحَّة مطلقًا، ولا بالفساد مطلقًا، بل يقال: هي صحيحةٌ بالنِّسبة إلى المستأجر، بمعنى أنَّه يجب عليه العوض، وفاسدةٌ بالنِّسبة
(1)
هو حديث لعن حامل الخمر نفسه، وقد تقدم تخريجه (ص 465).
(2)
م: «والمحتمل» . وفي «اقتضاء الصراط» : «المستحمل» .
(3)
«بها» ليست في ص، د.
(4)
ص، د، ز:«ما» .
(5)
زيادة من «اقتضاء الصراط المستقيم» ، ليست في النسخ. وبها يستقيم المعنى.
(6)
في المصدر السابق. والكلام متصل بما قبله.
إلى الأجير، بمعنى أنَّه يحرم عليه الانتفاع بالأجر، ولهذا في الشَّريعة نظائر.
قال: ولا ينافي هذا نصُّ أحمد على كراهة نظارة كَرْم النَّصرانيِّ، فإنَّا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثمَّ نقضي له بكرائه.
قال: ولو لم نفعل هذا لكان في هذا منفعةٌ عظيمةٌ للعصاة، فإنَّ كلَّ من استأجروه على عملٍ يستعينون به على المعصية قد حصَّلوا غرضَهم منه، فإذا لم يعطوه شيئًا، ووجب أن يُردَّ عليهم ما أُخِذ منهم= كان ذلك أعظم العون لهم، وليسوا بأهلٍ أن يُعانوا على ذلك. بخلاف من سلَّم إليهم عملًا لا قيمةَ له بحالٍ، يعني كالزَّانية والمغنِّي والنَّائحة، فإنَّ هؤلاء لا يُقضى لهم بأجرة. ولو قبضوا منهم المال، فهل يلزمهم ردُّه عليهم، أم يتصدَّقون به؟ فقد تقدَّم الكلام مستوفًى في ذلك، وبيَّنَّا أنَّ الصَّواب أنَّه لا يلزمهم ردُّه، ولا يَطيبُ لهم أكلُه، والله الموفِّق للصَّواب.
فصل
الحكم الخامس: حُلوان الكاهن. قال أبو عمر بن عبد البرِّ
(1)
: لا خلافَ في حُلوان الكاهن أنَّه ما يُعطاه على كهانته، وهو من أكل المال بالباطل. والحُلوان في أصل اللُّغة: العطيَّة، قال علقمة
(2)
:
فمَنْ رَجُلٌ
(3)
أحلُوه رَحْلي وناقتي
…
يُبلِّغ عنِّي الشِّعرَ إذْ ماتَ قائلُه
انتهى.
(1)
في «الاستذكار» (6/ 429). وانظر: «التمهيد» (8/ 399).
(2)
«ديوانه» (ص 131).
(3)
كذا في كتابي ابن عبد البر. ورواية الديوان وغيره من المصادر: «فمن راكبٌ» .
وتحريم حلوان الكاهن تنبيهٌ على تحريم حُلوان المنجِّم، والزَّاجر، وصاحب القرعة الَّتي هي شقيقة الأزلام، وضاربة الحصا، والعرَّاف، والرَّمَّال، ونحوهم ممَّن يُطلب منهم
(1)
الإخبار عن المغيَّبات، وقد نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن إتيان الكهَّان، وأخبر أنَّ من أتى عرَّافًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزِل عليه صلى الله عليه وسلم
(2)
. ولا ريب أنَّ الإيمان بما جاء به محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وبما يجيء به هؤلاء لا يجتمعانِ في قلبٍ واحدٍ، وإن كان أحدهم قد يَصدُق أحيانًا، فصدقه بالنِّسبة إلى كذبه قليلٌ من كثيرٍ، وشيطانه الذي يأتيه بالأخبار لا بدَّ له أن يَصْدُقه أحيانًا ليُغوِي به النَّاسَ ويَفتِنهم به.
وأكثر النَّاس مستجيبون لهؤلاء مؤمنون بهم، ولا سيَّما ضعفاء العقول كالسُّفهاء والجهَّال والنِّساء، وأهل البوادي، ومن لا علمَ لهم بحقائق الإيمان، فهؤلاء هم المفتونون بهم، وكثيرٌ منهم يُحسِن الظَّنَّ بأحدهم ولو كان مشركًا كافرًا بالله مجاهرًا بذلك، ويزوره، وينذر له، ويلتمس دعاءه. فقد رأينا وسمعنا من ذلك كثيرًا. وسبب هذا كلِّه خفاءُ ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحقِّ على هؤلاء وأمثالهم، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ} [النور: 40]. وقد قال الصَّحابة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ هؤلاء يحدِّثوننا أحيانًا بالأمر، فيكون كما قالوا، فأخبرهم أنَّ ذلك من جهة الشَّياطين، يُلْقُون إليهم الكلمة تكون حقًّا، فيزيدون هم معها مئة كذبةٍ، فيصدَّقون من أجل تلك
(1)
م، ح:«منه» .
(2)
أخرجه أحمد (9536) والحاكم (1/ 8) ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 135) من حديث أبي هريرة. وأصله في مسلم (2230) دون زيادة «فصدقه» ، وبلفظ:«لم تقبل له صلاة أربعين يومًا» بدل «فقد كفر
…
».
الكلمة
(1)
.
وأصحاب
(2)
الملاحم فركَّبوا ملاحمهم من أشياء:
أحدها: أخبار
(3)
الكهَّان.
والثَّاني: أخبار منقولة عن الكتب السَّالفة متوارثة بين أهل الكتاب.
والثَّالث: من أمورٍ أخبر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بها جملةً وتفصيلًا.
والرَّابع: من أمورٍ أخبر بها من له كشفٌ من الصَّحابة ومن بعدهم.
والخامس: من مناماتٍ متواطئةٍ على أمرٍ كلِّيٍّ أو جزئيٍّ. فالجزئيُّ يذكرونه بعينه، والكلِّيُّ يفصِّلونه بحَدْسٍ وقرائنَ تكون حقًّا أو تُقارِب.
والسَّادس: من استدلالٍ بآثار عُلويَّةٍ جعلها الله سبحانه علاماتٍ وأدلَّةً وأسبابًا لحوادثَ أرضيَّةٍ لا يعلمها أكثر النَّاس، فإنَّ الله سبحانه لم يخلق شيئًا سُدًى ولا عبثًا
(4)
، وربط سبحانه العالم العُلويَّ بالسُّفليِّ، وجعل عُلويَّه مؤثِّرًا في سُفليِّه دون العكس، فالشَّمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، وإن كان كسوفهما سببًا لشرٍّ
(5)
يحدث في الأرض؛ ولهذا شرع سبحانه تغيير الشَّرِّ عند كسوفهما مما
(6)
يدفع ذلك الشَّرَّ المتوقَّع من الصَّلاة
(1)
أخرجه البخاري (3210) ومسلم (2228) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
في المطبوع: «وأما أصحاب» . والمثبت من النسخ.
(3)
في المطبوع: «من أخبار» وكذا فيما يلي. والمثبت من النسخ.
(4)
ص، د:«سرا ولا غيبًا» ، تحريف.
(5)
في المطبوع: «لسبب شر» خلاف النسخ.
(6)
م، ح:«ما» . وفي المطبوع: «بما» . والمثبت من ص، د.
والذِّكر والدُّعاء والتَّوبة والاستغفار والعتق، فإنَّ هذه الأسباب تُعارِض أسباب الشَّرِّ وتُقاوِمها، وتدفع موجبها إن قويت عليها.
وقد جعل الله سبحانه حركة الشَّمس والقمر واختلافَ مطالعهما سببًا للفصول الَّتي هي سبب الحرِّ والبرد والشِّتاء والصَّيف، وما يحدث فيهما ممَّا يليق بكلِّ فصلٍ منها. فمن له اعتناءٌ بحركاتهما واختلافِ مطالعهما، يستدلُّ بذلك على ما يحدث في النَّبات والحيوان وغيرهما، وهذا أمرٌ يعرفه كثيرٌ من أهل الفِلاحة والزِّراعة. ورُبَّانِيُّ
(1)
السُّفُن لهم استدلالاتٌ بأحوالهما وأحوال الكواكب على أسباب السَّلامة والعَطَب
(2)
من اختلاف الرِّياح وقوَّتها وعُصوفها، لا تكاد تَختلُّ. والأطبَّاء لهم استدلالاتٌ بأحوال القمر والشَّمس على اختلاف طبيعة الإنسان، وتَهيُّئها لقبول التَّغيُّر، واستعدادِها لأمورٍ غريبةٍ ونحو ذلك.
وواضعو الملاحم لهم عنايةٌ شديدةٌ بهذا، وأمورٌ متوارثةٌ عن قدماء المنجِّمين، ثمَّ يستنتجون
(3)
من هذا كلِّه قياساتٍ وأحكامًا تُشبِه ما تقدَّم نظيره. وسنَّة الله في خلقه جاريةٌ على سَنَنٍ اقتضتْه حكمتُه، فحكمُ النَّظير حكمُ نظيرِه، وحكمُ الشَّيء حكمُ مثلِه، وهؤلاء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام القضاء والتقدير، واعتبار بعضه ببعضٍ، والاستدلال ببعضه على بعضٍ، كما صرف أئمَّة الشَّرع قوى أذهانهم إلى أحكام الأمر والشَّرع،
(1)
الرُّبَّان والرُّبَّاني: رئيس الملاحين. والمؤلف قصد بها الجمع، فينبغي أن تكون:«رُبَّانِيُّو» أو «رَبَابينُ» . وفي المطبوع: «نواتي» ، تحريف.
(2)
ص، د:«الغضب» ، تحريف.
(3)
د: «يستفتحون» .
واعتبار بعضه ببعضٍ، والاستدلال ببعضه على بعضٍ. والله سبحانه له الخلق والأمر، ومصدُر خلقه وأمره عن حكمةٍ لا تختلُّ ولا تعطَّل
(1)
ولا تنتقض، ومن صَرفَ قوى ذهنه وفكره، واستنفدَ
(2)
ساعاتِ عمره في شيءٍ من أحكام هذا العالم وعلمه، كان له فيه من النُّفوذ والمعرفة والاطِّلاع ما ليس لغيره.
ويكفي الاعتبارُ بفرعٍ واحدٍ من فروعه، وهو عبارة الرُّؤيا، فإنَّ العبد إذا نفَذَ فيها وكملَ اطِّلاعُه جاء بالعجائب. وقد شاهدنا نحن وغيرنا من ذلك أمورًا عجيبةً، يحكم فيها المعبِّر بأحكامٍ متلازمةٍ صادقةٍ سريعةٍ وبطيئةٍ، يقول سامعها: هذه علم غيبٍ. وإنَّما هي معرفة ما غاب عن غيره بأسبابٍ انفرد هو بعلمها، وخفيت على غيره.
والشَّارع صلوات الله وسلامه عليه حرَّم مِن تَعاطِي ذلك ما مضرَّته راجحةٌ على منفعته، أو ما لا منفعة فيه، أو ما يُخشى على صاحبه أن يَجُرَّه إلى الشِّرك، وحرَّم بذل المال في ذلك، وحرَّم أخذَه به؛ صيانةً للأمَّة عمَّا يُفسد عليها الإيمان أو يَخْدِشه، بخلاف علم عبارة الرُّؤيا، فإنَّه حقٌّ لا باطلٌ؛ لأنَّ الرُّؤيا مستندةٌ إلى الوحي المناميِّ، وهي جزءٌ من أجزاء النُّبوَّة؛ ولهذا كلَّما كان الرَّائي أصدقَ كانت رؤياه أصدقَ، وكلَّما كان المعبِّر أصدقَ وأبرَّ وأعلمَ كان تعبيره أصحَّ، بخلاف الكاهن والمنجِّم وأضرابهما ممَّن لهم مددٌ من إخوانهم من الشَّياطين؛ فإنَّ صناعتهم لا تصحُّ من صادقٍ ولا بارٍّ ولا متقيِّدٍ بالشَّريعة، بل هم أشبهُ بالسَّحرة الذين كلَّما كان أحدهم أكذبَ وأفجرَ وأبعدَ عن الله ورسوله ودينه، كان السِّحر معه أقوى وأشدَّ تأثيرًا، بخلاف كلِّ ما كان
(1)
كذا في النسخ بتاء واحدة. وفي المطبوع: «تتعطل» .
(2)
ص، د، ز، م:«واستنفذ» .
من الحقِّ، فإنَّ صاحبه كلَّما كان أبرَّ وأصدقَ وأدينَ كان علمه به ونفوذه فيه أقوى، وباللَّه التَّوفيق.
فصل
الحكم السَّادس: خُبث كسب الحجَّام، ويدخل فيه الفاصد والشَّارِط وكلُّ من يكون كسبه من إخراج الدَّم، ولا يدخل فيه الطَّبيب ولا الكحَّال ولا البيطار، لا في لفظه ولا في معناه. وصحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه حكم بخبثه
(1)
، وأمر صاحبه أن يَعْلِفَه ناضِحَه أو رَقيقَه
(2)
، وصحَّ عنه أنَّه احتجم وأعطى الحجَّام أجره
(3)
.
فأشكل الجمعُ بين هذين على كثيرٍ من الفقهاء، وظنُّوا أنَّ النَّهي عن كسبِه منسوخٌ بإعطائه أجره، وممَّن سلك هذا المسلك الطَّحاويُّ، فقال في احتجاجه للكوفيِّين في إباحة بيع الكلاب وأكْلِ أثمانها
(4)
: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثمَّ قال:«ما لي وللكلاب»
(5)
، ثمَّ رخَّص في كلب الصَّيد وكلب الغنم، وكان بيع الكلاب إذ ذاك والانتفاع به حرامًا، وكان قاتله مؤدِّيًا للفرض عليه في قتله، ثمَّ نسخ ذلك، وأباح الاصطياد به، فصار كسائر الجوارح في جواز بيعه. قال: ومثل ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجَّام، وقال:
(1)
سيأتي لفظه.
(2)
أخرجه أحمد (23689) والترمذي (1277) وأبو داود (3422) وابن حبان (5154) من حديث ابن محيصة عن أبيه. وقال الترمذي: «حدث حسن» .
(3)
أخرجه مسلم بعد رقم (1577/ 64) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
انظر: «مختصر اختلاف العلماء» (3/ 95).
(5)
أخرجه مسلم (1573) من حديث عبد الله بن المغفّل رضي الله عنه.
(1)
، ثمَّ أعطى الحجَّام أجره، وكان ذلك ناسخًا لمنعه وتحريمه ونهيه. انتهى كلامه.
وأسهلُ ما في هذه الطَّريقة أنَّها دعوى مجرَّدةٌ لا دليلَ عليها، فلا تُقبل، كيف وفي الحديث نفسه ما يُبطِلها؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثمَّ قال:«ما بالهم وبال الكلاب؟» ، ثمَّ رخَّص لهم في كلب الصَّيد.
وقال ابن عمر: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب إلا كلبَ صيدٍ، أو كلبَ غنمٍ أو ماشيةٍ
(2)
. وقال عبد الله بن مغفَّلٍ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثمَّ قال:«ما بالهم وبال الكلاب؟» ، ثمَّ رخَّص في كلب الصَّيد وكلب الغنم
(3)
.
والحديثان في «الصَّحيح» ، فدلَّ على أنَّ الرُّخصة في كلب الصَّيد والغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب، فالكلب الذي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتنائه هو الذي حرَّم ثمنه وأخبر أنَّه خبيثٌ، دونَ الكلب الذي أمر بقتله، فإنَّ المأمور بقتله غير مستبقًى حتَّى تحتاج الأمَّة إلى بيان حكم ثمنه، ولم تجْرِ العادة ببيعه وشرائه، بخلاف الكلب المأذون في اقتنائه، فإنَّ الحاجة داعيةٌ إلى بيان حكم ثمنه أولى من حاجتهم إلى بيان ما لم تجْرِ عادتهم ببيعه، بل قد أُمِروا بقتله.
(1)
أخرجه مسلم (1568) من حديث رافع بن خديج، وقد تقدم (ص 445).
(2)
أخرجه البخاري (3323) ومسلم (1571)، وهذا لفظ مسلم.
(3)
أخرجه مسلم (280).
وممَّا يبيِّن هذا أنَّه صلى الله عليه وسلم ذكر الأربعة الَّتي تُبذَل فيها الأموال عادةً لحرص النُّفوس عليها، وهي ما تأخذه الزَّانية والكاهن والحجَّام وبائع الكلب، فكيف يُحمل هذا على كلبٍ لم تجْرِ العادة ببيعه، وتخرج منه الكلاب الَّتي إنَّما جرت العادة ببيعها؟ هذا من الممتنع البيِّن امتناعه. وإذا تبيَّن هذا ظهر فساد ما شبِّه به من نسخ خبث أجرة الحجَّام، بل دعوى النَّسخ فيها أبعد.
وأمَّا إعطاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الحجَّام أجره فلا يعارض قوله: «كسب الحجَّام خبيثٌ» ؛ فإنَّه لم يقل: إنَّ إعطاءه خبيثٌ، بل إعطاؤه إمَّا واجبٌ، وإمَّا مستحبٌّ، وإمَّا جائزٌ، ولكن هو خبيثٌ بالنِّسبة إلى الآخذ، وخبثه بالنِّسبة إلى أكله، فهو خبيث الكسب، ولم يلزم من ذلك تحريمه؛ فقد سمَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الثُّوم والبصل خبيثينِ مع إباحة أكلهما، ولا يلزم من إعطاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الحجَّام أجرَه حِلُّ أكله فضلًا عن كون أكله طيِّبًا؛ فإنَّه قال:«إنِّي لأُعطي الرَّجلَ العطيَّةَ يخرج بها يتأبَّطُها نارًا»
(1)
. والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد كان يُعطي المؤلَّفةَ قلوبُهم من مال الزَّكاة والفيء مع غناهم وعدمِ حاجتهم إليه؛ ليبذُلوا من الإسلام والطَّاعة ما يجب عليهم بذلُه بدون العطاء، ولا يحلُّ لهم توقُّف بذْلِه على الأخذ، بل يجب عليهم المبادرة إلى بذله بلا عوضٍ.
وهذا أصلٌ معروفٌ من أصول الشَّرع: أنَّ العقد والبذل قد يكون جائزًا أو مستحبًّا أو واجبًا من أحد الطَّرفين، مكروهًا أو محرَّمًا من الطَّرف الآخر، فيجب على الباذل أن يبذل، ويحرم على الآخذ أن يأخذه.
وبالجملة فخبث أجر الحجَّام من جنس خبث أكل الثُّوم والبصل، لكنَّ
(1)
أخرجه أحمد (11004) وابن حبان (3414) والحاكم (1/ 46) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
هذا خبيث لرائحتِه، وهذا خبيثٌ لمكسبِه
(1)
، وبالله التوفيق.
فإن قيل: فما أطيبُ المكاسبِ وأحلُّها؟
قيل: هذا فيه ثلاثة أقوالٍ للفقهاء:
أحدها: أنَّه كسب التِّجارة.
والثَّاني: أنَّه عمل اليد في غير الصَّنائع الدَّنيئة كالحجامة ونحوها.
والثَّالث: أنَّه
(2)
الزِّراعة.
ولكلِّ قولٍ من هذه وجهٌ من التَّرجيح أثرًا ونظرًا، والرَّاجح أنَّ أحلَّها الكسبُ الذي جُعِل منه رزقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كسبُ الغانمين ما
(3)
أُبِيح لهم على لسان الشَّارع، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحُه أكثر من غيره، وأُثنِي على أهله ما لم يُثْنَ على غيرهم؛ ولهذا اختاره الله لخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، حيث يقول:«بُعِثتُ بالسَّيف بين يدي السَّاعة حتَّى يُعبد الله وحدَه لا شريك له، وجُعِل رزقي تحتَ ظِلِّ رُمْحي، وجُعِل الذِّلَّة والصَّغار على من خالف أمري»
(4)
، وهو الرِّزق المأخوذ بعزَّةٍ وشرفٍ وقهرٍ لأعداء اللَّه، وجُعِل أحبَّ شيءٍ إلى اللَّه، فلا يقاومه كسبٌ غيره. والله أعلم.
(1)
م: «لكسبه» .
(2)
ص، د، ز:«أنها» .
(3)
في المطبوع: «وما» خلاف النسخ. و «ما أبيح» مفعول اسم الفاعل «الغانمين» .
(4)
أخرجه أحمد (5114) وعبد بن حميد في «مسنده» (848) والطبراني في «مسند الشاميين» (1/ 135) من طرق عن عبد الرحمن بن ثابت عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر به. وعبد الرحمن متكلم في حفظه، وللحديث شواهد، وأخرج أبو داود (4031) الشطر الأخير منه، وصحح الحديث الألباني في «الإرواء» (1269).